الخميس 6 جمادى الأولى 1446 هـ :: 7 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

18- التعامل مع الفقراء 1


عناصر المادة
حقيقة الفقر
الرأفة بالفقراء
توزيع الفقراء على أصحاب القدرة
مقاسمة الفقراء الطعام
كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يأتيه الجائع فيرسله إلى شخص معين
مواساة الفقراء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد.

فقد ذكرنا في الحلقة الماضية كيف كان النبي ﷺ يتعامل مع ذوي الأموال.
فكيف كان ﷺ يتعامل مع الفقراء؟

حقيقة الفقر

00:00:27

والفقر هو: النقص في الحاجات الأساسية كالأكل والملبس، وكل من ليس له كفاية تكفيه وتكفي عياله فهو من الفقراء والمساكين.
وهذا الفقر خطير على الدين والأخلاق.
فهو من جهة يمكن أن يؤدي إلى الكفر، وإلى التسخط على القضاء والقدر، والاعتراض على الله -تعالى- في تصرفه في ملكه وعباده.
وكذلك يمكن أن يؤدي إلى القتل، والسرقة، والنهب، والرشوة، وانتشار الرذيلة، والانحراف.
ولذلك فقد كان النبي ﷺ يستعيذ بالله من الفقر، فيقول في دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر [رواه النسائي: 1270، وصحح أسناده الألباني صحيح وضعيف النسائي: 5465].
والفقر قد يجر إلى الكفر من جهة كما ذكرنا: عدم الرضا بالقضاء، والاعتراض على الله.
ولذلك كان الفقير العفيف بمكان عظيم عند الله، أهل الجنة ثلاثة، فذكر منهم: ورجل فقير عفيف متصدق [مسلم:2865].

الرأفة بالفقراء

00:01:49

كان النبي ﷺ يرأف بالفقراء، فيجعل لهم ما زاد عن حاجته وحاجة أهله.
فقد جاء عن عمر "أن رسول الله ﷺ كان ينفق من ماله على أهله ويتصدق بفضله". [رواه أبو داود: 2975، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2577].
"ولما فتحت خيبر جزأها رسول الله ﷺ ثلاثة أجزاء: جزأين بين المسلمين، وجزءً نفقة لأهله، قال: فما فَضُل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين". [رواه أبو داود: 2967، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 2571].
وكان ﷺ إذا رأى أحداً من أصحاب الفاقة والحاجة يظهر الأثر عليه.
فيقول جرير : "كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء".
والنمار: جمع نمرة، وهي ثياب من صوف فيها تنمير. ومجتابي النمار: يعني قطعوها ليستروا بها عوراتهم. الواحد ليس عليه إلا ثوب قطعه ليستر عورته وربطه على رقبته.
ومعنى مجتاب من الجوب وهو القطع، طيب قال تعالى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ  [الفجر: 9] ما معنى جابوا؟ قطعوا.
قال في الحديث: فتمعّر وجه رسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة. -يعني تلون تأثراً بحالهم- فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء: 1] الآية.


وكذلك الآية التي في الحشر، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، وهكذا تجمع كومان من الطعام والثياب حتى تهلل وجه رسول الله ﷺ، يعني: سروراً. [رواه مسلم: 1017].
إذن ماذا فعل لما رأى الفقراء؟ تأثر لحالهم حتى ظهر ذلك على وجهه، ثم وعظ الناس للتصدق، وهكذا جمع ما يسد حاجة هؤلاء.
وكان ﷺ يكرم الفقراء ويواسيهم.
أبو هريرة واحد من الفقراء، من أفقر الفقراء الموجودين في المدينة.
قال أبو هريرة: "والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع".
لماذا شد الحجر على البطن؟
ليساعد على الاعتدال والانتصاب من جهة أولاً.
ثانياً: ليمنع كثرة تحلل الغذاء في البطن فيكون الضعف أقل.
ثالثاً: لتقليل حرارة الجوع في برد الحجر؛ لأن الجوع له حرارة، والحجر بارد فيمتص الحرارة.
وقال في رواية: "لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشياً علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع".
يظنون أني مصروعاً، تلبسني جني، يريد الواحد منهم أن يسعفني ليعالجني من الصرع وأنا ما بي صرع، ما بي إلا الجوع.


"ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه -يعني لعلهم يتفطنون لي، واحد يشفق عليّ يقول تعال أطعمك، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني فمر فلم يفعل ودخل داره".
ما هو العذر لهما؟ ما فطنا له، أخذا السؤال على ظاهره، وإذا كانا فطنا فعذرهما أنه ليس عندهما ما يطعمانه.
"فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله ﷺ قائم على رأسي، فتبسم حين رآني، فأخذ بيدي فأقامني، وعرف ما نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: إلحق، ومضى فتبعته، فدخل منزله فاستأذنت فأذن لي، فوجد قدحاً من لبن، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي.

أهل الصفة، الصفة مكان في آخر المسجد النبوي، كان مظلل أعد لنزول الغرباء ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون ويقلون بحسب الأسفار، ومنهم من يموت أو يقتل شهيداً.
وهم قرابة، سرد أبو نعيم مائة منهم، قال بعضهم: يصلون أكثر من ذلك، فكانوا يقلون ويكثرون بحسب الأحوال.


فأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتتهم صدقة، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها.
فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وأنا رسوله إليهم، فسيأمرني أن أديره عليهم، فما عسى أن يصيبني منه؟ وقد كنت أرجوا أن أصيب منه ما يغنيني.
ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت.
قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليّ القدح، فيشرب حتى يروى ثم يرد عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي ﷺ وقد روي القوم كلهم.
وأبو هريرة جائع ويذهب رسولاً للإتيان بهم، ثم يديره عليهم، وهو أحوج منهم إليه- فأخذ القدح فوضعه على يده ﷺ، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وانت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.


فلقيت عمر وذكرت له الذي كان من أمري وقلت له: فولى الله ذلك من كان أحق به منك يا عمر. والله لقد استقرأتك الآية ولا أنا أقرأ لها منك.
قال عمر: والله لأن أكون أدخلتك أحب إليّ من أن يكون لي مثل حمر النعم، وهذا السياق مجموع من روايتي. [رواه البخاري: 6452، والترمذي: 2477].
فإذن النبي ﷺ كان يفطن للفقير، ينتبه لأمارات الجوع البادية عليه، ثم يدعوه، ثم يرى له حلاً.
وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه بين أنه أتت عليه ثلاثة أيام لم يطعم شيئاً، قال: جئت أريد الصفة فجعلت أسقط، فجعل الصبيان يقولون: جنّ أبو هريرة. حتى انتهيت إلى الصفة، فوافقت رسول الله ﷺ أتي بقصعة من ثريد، فدعا عليها أهل الصفة ليأكلوا منها، فأكلوا... ثم ذكر القصة. ورواها ابن حبان.
كان ﷺ يقسم الفقراء بين أصحابه ليطعموهم.

توزيع الفقراء على أصحاب القدرة

00:10:10

وهذا إجراء آخر: توزيع الفقراء على أصحاب القدرة.
فعن ابن سيرين: "كان رسول الله ﷺ إذا أمسى قسم ناساً من أهل الصفة بين أناس من أصحابه، فكان الرجل يذهب بالرجل، والرجل بالرجلين، والرجل بالثلاثة، حتى ذكر عشرة". [مصنف ابن أبي شيبة: 21/486].
قال الحسن: وما بقي منهم أدخلهم رسول الله ﷺ بيته فأطعمهم ما كان عنده.
كما جاء في حديث يعيش بن طخفة الغفاري ، قال: كان أبي طخفة بن قيس من أصحاب الصفة، فأمر رسول الله ﷺ بهم، فجعل ينقلب الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، حتى بقيت خامس خمسة، فقال رسول الله ﷺ: انطلقوا، فانطلقنا معه إلى بيت عائشة، فقال: يا عائشة أطعمينا، فجاءت بحشيشة- شوف الذي لا يعرف شروح الأحاديث مصيبة-.
طيب ما هو تعريف الحشيشة عندهم: الحشيشة طعام يصنع من حنطة، قد طحنت بعض الطحن، يعني ليس طحناً كاملاً، ما صارت دقيقاً، وطبخت، ويلقى فيها لحم أو تمر.
"فأكلنا، ثم جاءت بحيسة"، والحيسة: طعام معروف من التمر والسويق والأقط والسمن، "مثل القطاة" القطاة: طائر معروف، كأنه شبه هذا بالقلة.
فأكلنا، ثم قال: يا عائشة اسقينا، فجاءت بعس -قدح ضخم- فشربنا، ثم جاءت بقدح صغير فيه لبن، فشربنا، فقال رسول الله ﷺ: إن شئتم بتم، وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد، فقلنا: لا، بل ننطلق إلى المسجد". رواه أبو داود وأحمد وحسنه الألباني. [رواه أبو داود: 5042, وضعفه الألباني ضعيف سنن ابن ماجة: 165].


النبي ﷺ كان يرسل الواحد مع الواحد، والاثنين مع الواحد، كم بقي هنا في الحديث؟
لما وزع الذين عنده بقي خمسة، من الذي أخذهم؟ هو ﷺ.
هذه طريقة أيضاً في معالجة الفقر الجوع، وكان يحث أصحابه على ذلك.
فعن عبد الرحمن بن أبي بكر "أن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقراء، وإن رسول الله ﷺ قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، وانطلق نبي الله ﷺ بعشرة".
لماذا قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث؟
لأن طعام الاثنين يكفي الثالث، يعني لن يجوعا إذا ضما إليها ثالثاً، صحيح سيقل الطعام الذي يتناوله كل واحد، لو قسمت طعام الاثنين على ثلاثة سيقل حظ كل واحد من الاثنين، ولكنهما لن يعجزهما حمل الثالث، بمعنى لن يهلكا من الجوع إذا أدخلا معهما ثالثاً.
"وكذلك انطلق النبي ﷺ بعشرة".


أخذ بأفضل الأمور، دالاً على جوده وكرمه ﷺ؛ لأن عياله قريب من ضيفانه في هذه الليلة، والنبي ﷺ كان عنده تسع زوجات هو العاشر.
أخذ أبو بكر ثلاثة.
يقول: الراوي عبد الرحمن بن أبي بكر: فهو أنا، فهو يقول عبد الرحمن فهو يعني أبي، طيب، فهو يقول فهو وأنا وأبي وأمي، وامرأتي، وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر.
هذا الخادم المشترك بين بيتين.
عددهم ستة، أبو بكر أحضر ثلاثة فقدم ثلث الطعام، النبيﷺ كم قدم؟ نصف الطعام، نصف طعامه وطعام أهل بيته.
وكان أبي يتحدث إلى النبي ﷺ من الليل، فانطلق، وقال: يا عبد الرحمن افرغ من أضيافك قبل أن أجيء ما أجي للبيت إلا وأنت عشيتهم إياك، ثم إياك أن آتي للبيت وما انتهوا، قال: فلما أمسيت جئنا بقراهم، فأبوا.
قالوا: حتى يجيء أبو منزلنا.
يعني يأتي أبو بكر صاحب البيت، نحن نأكل قبله لا يمكن فيطعم معنا.
فقلت: إنه رجل حديد -أبو بكر أبي شديد عليّ في مسألة الضيافة- وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى، فأبوا.


قال عبد الرحمن: وإن أبا بكر تعشى عند النبي ﷺ، ثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع، فلبث حتى نعس رسول الله ﷺ، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله –والضيوف ما أكلوا شيئا، ما أكلوا شيئاً، ما الذي أشغل أبو بكر؟ النبي ﷺ، لكنه كان قد أوصى ولد أن يعشيهم- فجاء بعد أن بعد مضى من الليل ما شاء الله.
قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتيهم؟
قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، يعني عرضنا عليهم العشاء، وألححنا عليهم، وامتنعوا حتى غلبونا، ورفضوا أن يأكلوا شيئاً حتى تأتي.
قال عبد الرحمن: فذهبت أنا فاختبأت؛ لأن الآن ستأتي عاصفة أبي عليّ، هذا ضيوف- فدخل أبو بكر، عرف عبد الرحمن مفقود غير موجود في الخدمة مؤقتاً.
فقال: يا غنثر، وهذه كلمة تقال للثقيل والجاهل واللئيم، فظن أن عبد الرحمن ظنه مقصر في حق الأضياف، فقال: يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا جئت.
قال: فجئت؛ لأنه أقسم حلف بالله.
فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافكم فسلهم، قد أتيتهم بقراهم فأبوا أن يطعموا حتى تجيء.
قالوا: صدقك.
فقال: مالكم أن لا تقبلوا عنا قراكم، فو الله لا أطعمه الليلة، غضب أبو بكر .
فقالوا: فو الله لا نطعمه حتى تطعمه.
فقال أبو بكر: إن كانت هذه من الشيطان -خلاص وصلت إلى طريق مسدود، إذن هذه صارت من الشيطان واضحة، فدعا بالطعام فسمى فأكل وأكلوا".
وهذا يدل على فقهه ؛ لأن من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فإنه يأت الذي هو خير ويكفر عن يمينه.


قال عبد الرحمن: فايم الله –أيم من أين مأخوذة؟ أيمن أيم من أيمن من يمين- فايم الله ما كنا نأخذ من لقمة، يقول عبد الرحمن ما نأخذ من لقمة من الإناء إلا ربا من أسفلها من الموضع الذي أخذت منه أكثر منها ما تؤخذ لقمة إلا ينبع من مكانها أكثر منها حتى شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك".
وهذه من كرامات الصديق ، هذه من كرامات أولياء الله.
فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر.
فقال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟
قالت: لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار.
لأن هي التي طبخت، هي التي تعرف المقدار، قالت هذي أكثر ثلاث مرات من التي وضعناها، هل انتهت الكرامة؟ لا.  
"ثم حملها إلى رسول الله ر فأصبحت عنده" الجفنة على حالها فقال –يعني الصديق-: يا رسول الله، بروا وحنثت، يعني: هم حلفوا ويمينهم مشى، وأنا حلفت وكسرت يميني من أجلهم.
قال: بل أنت أبرهم وأخيرهم؛ لأنك حنثت لأجل شيء أفضل.
قال عبد الرحمن: وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل. يعني بيننا وبين قوم من الكفار هدنة وانتهى أجلها، فصار في تجهيز جيش للحرب.
فعرفنا اثنا عشر رجلاً فعرفنا اثني عشر رجلاً –يعني جعلناهم عرفاء على هذا الجيش- مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل -يعني الآن قسمناهم إلى ثنتي عشرة فرقة، وعلى كل فرقة عريف، وكل عريف الله أعلم كم واحد معه-إلا أنه بعث معهم فأكلوا منها أجمعون».
الجفنة تلك أكلوا منها أجمعون، إذن الجيش أكل من الجفنة بعدما أكل الضيوف، وبعدما أكل أبو بكر وأهله. 


والقصة رواياتها في:  [البخاري:3581 ومسلم: 2057، وأحمد: 1702].
هذا الحديث فيه إيثار الفقراء بالشبع من الطعام، ومواساتهم فيه، والحرص عليهم، والحرص على مصلحتهم وعلى إطعامهم.

مقاسمة الفقراء الطعام

00:20:18

وكان ﷺ يقتسم ما عنده من الطعام معهم.
كما جاء المقداد بن عمرو، كما قال المقداد بن عمرو : "جئت أنا وصاحب لي قد كادت تذهب أسماعنا وأبصارنا من الجوع، فجعلنا نتعرض للناس فلم يضفنا أحد -ما أحد عنده شيء يقدمه لنا- فأتينا النبي ﷺ فقلنا: يا رسول الله بنا جوع شديد فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد فأتيناك، فذهب بنا إلى منزله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي ﷺ: احتلبوا هذا اللبن بيننا، فكنا نحتــلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع لرسول الله ﷺ نصيبه، فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان –هذا من آداب السلام- ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي. فقال محمد يأتي الأنصار فيتحفونه ويصيب عندهم، وما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني –دخلت وتمكنت خلاص لا سبيل إلى إخراجها- وعلمت أنه ليس إليها سبيل ندّمني الشيطان –وهذا الشيطان يوقع الإنسان يغريه ثم يندّمه-.
فقال: ويحك ما صنعت، أشربت شراب محمد فيجيء فلا يجده فيدعو عليك، فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، وعليّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت، فجاء رسول الله ﷺ فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا، فرفع رأسه إلى السماء.
فقلت: الآن يدعو عليّ فيهلك، فقال: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من أسقاني.


فذهب المقداد بشفرة ليذبح واحدة من العنز، فرآها كلهن حفّل هي الآن محلوبة قبل قليل كيف اجتمع اللبن فيها؟ حفّل كلهن، وهذه من معجزات النبي ﷺ فعمدت إلى إناء لآل محمد ﷺ ما كانوا يطمعون أن يحتــلبوا فيه، فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله ﷺ، فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قلت: يا رسول الله اشرب.
فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله، اشرب. فشرب ثم ناولني. فلما عرفت أن الرسول ﷺ قد روي وأصبت دعوته أطعم من أطعمني واسق من سقاني ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض –كان في غم شديد، لأنه شرب نصيب النبي ﷺ، فلما رأى نفسه قد حلب ودخل في الدعوة من فرحه ضحك، وضحك، وضحك حتى سقط على الأرض.
فقال النبي ﷺ: إحدى سوآتك يا مقداد، فعلتك، قال يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا، فقال النبي ﷺ: ما هذه إلا رحمة من الله.
يعني إحداث اللبن في غير وقته هذه رحمة من الله؛ لأن الشاة إذا حلبت ما يجتمع فيها اللبن مرة أخرى في الضرع مباشرة- قال: أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها هذه الآن الجديدة- فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس" [رواه مسلم: 2055].

كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يأتيه الجائع فيرسله إلى شخص معين

00:24:25

وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: إني مجهود –يعني أصابني الجهد أصابني الجهد، والمشقة، والحاجة، وسوء العيش، والجوع- فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال رسول الله ﷺ: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله فقال رجل من الأنصار وهو أبو طلحة: أنا يا رسول الله.
فانطلق به إلى رحله. يعني: منزله.
فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، قالت: ما عندنا إلا قوت صبيانك.
قال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل –تمثيلية- فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين على الجوع، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ﷺ، فقال: ضحك الله الليلة، أو عجب من صنيعكما، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. [رواه البخاري: 3798].
هذا النبي ﷺ بيوته كلها ما فيها شيء إلا الماء، كلها ما في ولا بيت ولا زوجة عندها شيء إلا الماء.
كذلك: فيه المواساة في الشدائد، والاحتيال لإكرام الضيف ودفع الحرج عنه، ولذلك قال: "أطفئي السراج، وأريه أنا نأكل"، لأنه لو رأى قلة الطعام ما يتجرأ. هذا الحديث فيه الإيثار العظيم.
والحديث هذا: فيه تقديم الضيف على الأولاد والزوجة إذا كان يعلم صبرهم، أو أنهم يطيقون.
يعني ما يلحق بهم ضرر، يعني يمكن يبيت الأولاد على جوع، لكن ما يصلون إلى مرحلة الضرر؛ لأن الإنسان عليه أن يبدأ بمن؟ الأصل يبدأ بأولاده.

مواساة الفقراء

00:26:55

كان ﷺ يواسي الفقراء فيشاركهم في جوعهم.
وعن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان يخطب قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا -يعني في الفتوحات- فقال: "لقد رأيت رسول الله ﷺ يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطن" الدقل: هو التمر الرديء. [رواه مسلم: 2978].
فإذن كان ﷺ يشاركهم في الجوع، وكما قلنا كان يصبرهم، ويذكر لهم فضل الفقر لمن ابتلي به فصبر، ويبين لهم عاقبة الفقراء يوم القيامة: أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة [رواه الترمذي: 2478، وحسنه الألباني صحيح الجامع الصغير: 4491].
وأما الفقراء فقراء المهاجرين أخف الناس حساباً يوم القيامة، يحاسبون على ماذا؟ وإنما كانت أسيافهم على عواتقهم في سبيل الله.
وسنأتي بمزيد، وسنأتي بمشيئة الله تعالى على مزيد من تعامل النبي ﷺ مع الفقراء، وكيف كان يواسيهم.
نسأل الله أن يلحقنا بالصالحين، وأن يرزقنا عيش السعداء، وأن يغنينا من فضله إنه أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.