الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: وعن أبي هريرة ، قال: "خرج النبي ﷺ في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر فقال: ما جاء بك يا أبا بكر، فقال: خرجت ألقى رسول الله ﷺ وأنظر في وجهه، والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال ما جاء بك يا عمر، فقال: الجوع يا رسول الله، قال: فقال رسول الله ﷺ: وأنا وجدت بعض ذلك، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري وكان رجلاً كثير النخل والشاء، ولم يكن له خدم، فلم يجدوه، فقال لامرأته أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها، فوضعها ثم جاء يلتزم النبي ﷺ ويفديه بأبيه وأمه -الحقيقة أنه فوجئ، فوجئ بأكرم ثلاثة ضيوف على وجه الأرض، في هذه الساعة غير المعتادة- قال: ثم انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطًا، ثم انطلق إلى نخلة، فجاء بقنو فوضعه، فقال النبي ﷺ: أفلا تنقيت لنا من رطبه بدلاً من أن تقطعه كله كان انتقيت لنا بعض الرطب فيه- فقال: يا رسول الله إني أردت أن تختاروا، أو قال: تخيروا من رطبه وبُسره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله ﷺ: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد ، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعامًا، فقال النبي ﷺ لا تذبحن ذات دَرٍّ، قال: فذبح لهم عناقًا أو جديًا فأتاهم بها فأكلوا، فقال النبي ﷺ: هل لك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فأتنا، فأتي النبي ﷺ برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم فقال النبي ﷺ اختر منهما، فقال: يا نبي الله اختر لي، فقال النبي ﷺ: إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوصِ به معروفًا ، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله ﷺ فقالت امرأته: ما أنت ببالغ فيه ما قال النبي ﷺ إلا أن تعتقه، يعني كيف تصنع به معروفًا، ما هو ماذا يمكن أن يكون المعروف؟ أحسن شيء بالمعروف أن تعتقه، قال: فهو عتيق، فقال النبي ﷺ: إن الله لم يبعث نبيًا ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خَبالاً، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي " حديث صحيح، وقد رواه مسلم -رحمه الله- أيضًا مختصرًا. [رواه الترمذي: 2369، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 113....].
وفي هذا الحديث قوله: "خرج رسول الله ﷺ في ساعة لا يخرج فيها" يعني: في وقت غير معتاد أن يخرج فيه، ولا يلقاه فيها أحد، لم يكن أحد ليدخل عليه في حجرته في هذا الوقت.
وعند ابن أبي حاتم كما قال ابن كثير: "خرج رسول الله ﷺ عند الظهيرة فوجد أبا بكر في المسجد" [تفسير ابن كثير: 8/474].
وفي هذا أنه ينبغي مراعاة عادات الناس وأحوالهم، وتحين الأوقات المناسبة لملاقاتهم وزيارتهم، خاصة فيما يكون بين المعلم والمتعلم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "وجدت عامة علم أصحاب رسول الله ﷺ عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيل بباب أحدهم"، أنام القيلولة على بابه، "ولو شئتُ أذن لي"، لو شئت طرقت عليه وأنا ابن عم رسول الله ﷺ، لو شئت طرقت عليه وأذن لي لقرابتي من رسول الله ﷺ، "ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه"، أن لا ألقى العالم أو الشيخ إلا وهو طيب النفس، حتى يعطيني أحسن ما عنده، وحتى يكون منشرحًا لتعليمي، بخلاف ما لو جئته وأزعجته وأتيت في وقت غير مناسب ويتبرم ويتضايق، ولذلك قالوا: المتعلم يأتي المعلم في أحسن الأوقات لكي يكون صدره منشرحًا لتعليمه.
وقوله: "ما جاء بك يا أبا بكر"، يعني: في هذا الوقت، إشارة إلى أن أبا بكر مع أنه وزير النبي ﷺ الأول إلا أنه كان يراعي عادة النبي ﷺ ولا يأتيه في وقت على خلاف العادة، وأن أبا بكر كان يخرج حين يخرج النبي ﷺ ويدخل حين يدخل النبي ﷺ، فقال: "خرجت ألقى رسول الله ﷺ وأنظر في وجهه والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر وسأله فقال: إن الذي أخرجه هو الجوع".
وفي رواية مسلم: أن النبي ﷺ قال لهما: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا: الجوع يا رسول الله، فكأن الجوع أخرج الصديق من بيته، فأراد النظر إلى وجه النبي ﷺ ليتسلّى، يقول أنا جائع وأنظر إلى وجه من هو أفضل مني فأتسلّى بوجهه برؤيته عن ما أجد من مس الجوع، معنى ذلك أن وجه النبي ﷺ إليهم كان شيئًا عظيمًا جدًا ينسيهم ألم الجوع.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها | عن الطعام وتلهيها عن الزاد |
فقال ﷺ وأنا قد وجدت بعض ذلك، والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما كما في رواية مسلم. [رواه مسلم: 2038].
وفي هذا مشروعية القسم لتأكيد الأمر عند السامع، والحلف من غير استحلاف، وقد زعم بعض الناس كما قال القاري -رحمه الله- أن هذا قبل فتح الفتوح؛ وهذا زعم باطل، فإن راوي الحديث هو أبو هريرة وأبو هريرة أسلم بعد فتح خيبر، وفتح خيبر كان فتحًا عظيمًا، هذا الفتح العظيم الذي جاء مقفل النبي ﷺ من الحديبية فتح الله عليه وأعطاه أحسن مما لو كان اجتاح مكة وتحارب مع أهلها، ولا شك أن فتح خيبر كان نقطة تحول في الوضع الاقتصادي للمسلمين؛ لأن خيبر كان فيها خير عظيم ونخل كثير وثمر هائل، وصار لهم بها عمل من اليهود وشراكة بالإضافة إلى ما أخذوه منها غنيمة.
وفي هذا ما كان عليه النبي ﷺ من التقلُّل من الدنيا، إذا كان هذا الكلام بعد فتح خيبر هو يعني أعظم ثلاثة في الدولة، رؤساء الدولة، كبراء الدولة، قائد الدولة ووزيره الأول ووزيره الثاني أخرجهم من بيتهم الجوع، وفي أي وقت؟ يعني بعد فتح خيبر يعني بعد ما حصل رخاء للمسلمين أو نوع من الزيادة جاءت بعض الدنيا للمسلمين، ومع ذلك فإنه أخرجه الجوع من بيته، هو وأبو بكر وعمر، وهذا ما ابتلى الله به نبيه ﷺ وصاحبيه وهما أحب خلق الله إلى الله، ومع ذلك ابتلاهم به، ابتلاهم بضيق العيش والجوع وهذا لا يعني أن هذا الابتلاء سخط من الله، بل يبتلي الله حبيب.
وفي الحديث: جواز ذكر الإنسان ما يناله من الألم لا على سبيل التشكي وعدم الرضا، بل للتسلية والتصبير؛ كفعل النبي ﷺ هاهنا، ولالتماس دعاء أو مساعدة على التسبب في إزالة ذلك العارض، وهذا كله ليس بمذموم، وإنما يكون مذمومًا إذا كان من نوع التشكي والتسخُّط والتجزع، أما واحد يقول لصاحبه: والله أنا علي دين، يعني يشتكي إليه، أنا في جوع، وهو يقول الآخر: والله وأنا في جوع أيضًا، فإذًا إخبار الرجل صاحبه بما يجد من المشقة أو من الألم أو من الضيق لا حرج فيه، متى يكون فيه محظور أو محذور، إذا كان على سبيل التشكي والجزع، يا أخي ما شفنا خير، يا أخي ما ... يعني كأن الواحد ما هو راضي بالقسمة، كأنه ما هو راضي بالعيشة، لماذا الحظ يأتي معنا كذا؟، ولماذا القدر كذا؟، ولماذا الرزق؟ ولماذا ... و لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23].
قوله: فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم ، وأبو الهيثم اسمه مالك ، وقال ﷺ لهم: قوموا فقاموا إلى رجل من الأنصار، وفي هذا جواز الإدلال على الصاحب الذي يوثق به، واستتباع جماعة إلى بيته، يعني لو واحد قال ذهبوا من غير موعد؟ هجموا على الرجل فجأة! كيف وأين التعامل؟ فيقال: إذا كان الصحبة قوية ما يضر، لو أنك ما نقول زودتها معه، لكن لو أنك جئته من غير ميعاد، يعني إذا أنت كنت تعلم فعلاً أنه لا يتبرم ولا يتضايق، بل يُسرُّ إذا جئته، ولو جئته وقلت ما عندي شيء، أنا رامي نفسي عليك، تغديني تعشيني، فإذا كنت تعلم أنه يسر بذلك ويفرح وأن العلاقة قوية فلا حرج، ولو يعني جئت بغير موعد، يعني من باب عدم التكلف، ومع الأسف هذا قليل في هذا الزمان، يعني كل ما دخلنا في الحياة المادية أكثر تعقدت الأمور وصارت الأخوة كما قال أحد الأخوة تجي عند الفلوس تقف وهو صحيح؛ لأنه مجاملات أو أنه لو كان كما قال بعض السلف: أيضع أحدكم يده في جيب أخيه فيأخذ ما يشاء، قالوا: لا، قال: فلستم بإخوان كما تزعمون"، وهذا ما هو معناه أن الواحد الآن كل واحد على جنبه يحط يده في جيب اللي جنبه ويأخذ، لكن معناه يعني هل أنتم يعني تصل بكم الأخوة والعلاقة القوية لهذه الدرجة، فقالوا: لا، أو كما يقول هذاك يقول الذي في جيبك في جيبي، لكن الذي في جيبي ما هو في جيبك، فينبغي أن يكون الأمر بعض هذا، أحوال خاصة، الإنسان يعرف عدد من الناس يمكن يكون واحد اثنين ثلاثة من الخلّص الذين لا يجد حواجز نفسية فيما بينه وبينهم، لكن بعض الناس يفترض أن الآخر مسلمه الجمل بما حمل ويأخذ ثم يفاجأ أنه غضب منه، لماذا؟ لأنه افترض افتراضًا خاطئًا، ليس الأمر كذلك، فإذن، الناس ضاعوا بين قضيتين التكلف الزائد وبين قضية الاتكاء الزائد، يثقل على صاحبه حتى يمله، كل شيء يقول هات وأعطني وسلفني وكذا، واضح أنه يثقل عليه، هذا واضح، إذن، ليس هذا من هذا ولا داخلاً فيه، لكن قد يوجد بين اثنين ثلاثة من الأخوة العالية ما يمكن أن يصل إلى مثل هذه الدرجة.
وأبو الهيثم -رضي الله عنه- بالتأكيد إذا جاءه النبي ﷺ وأبو بكر وعمر في هذه الساعة، وأصلاً صاحب خير عنده شاء وعنده نخل وعنده حديقة، فلو جاءوه في هذا الوقت لن يثقلوا عليه، ولن ينقصوا مما عنده نقصًا يؤذيه، لا، إذا ذبح لهم شاة من هذا الغنم الكثير، وإذا كان قطع لهم عذق من هذا النخل الكثير ماذا سيحدث يعني ماذا سينقص، فإنسان كريم وغني، لكن المشكلة أنك تأتي واحد فقير ومحتاج وترمي نفسك عليه، وهذا المسكين هو أصلاً يريد أن يرمي نفسه على واحد آخر، وكل واحد يقول للثاني: لا تشكيلي لأشكيلك، لا تزيد ولا أزيد لا أزيد عليك، فإذن، المسألة فيها حدود وفيها درجات من الأخوة، وينبغي على كل واحد أن يضبط نفسه ويعرف صاحبه جيدًا.
قوله: "وكان رجلاً كثير النخل والشاء" أي: الغنم، والشاء: جمع شاة.
وعند ابن أبي حاتم: "هل بكما من قوة تنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعامًا وشرابًا وظلاً، قلنا نعم، قال: مروا بنا إلى منزل ابن التيهان، فقالوا لامرأته أين صاحبك"، وفي رواية: "فلما رأته المرأة قالت مرحبًا وأهلاً، فقال رسول الله ﷺ: أين فلان؟ " إذن، يجوز سؤال المرأة الأجنبية أين زوجها، وأن يراجعها الكلام عند الحاجة، وإذا كانت تعلم أن زوجها يأذن لهذا في بيته جاز أن تدخلهم إليه وخصوصًا في هذه الحالة ما في خلوة هم ثلاثة، ثلاثة، وليست هناك خلوة ولا تبرج، فيجوز إذن إذا كانوا جماعة وتعلم أن زوجها يأذن لهم وأنه يحب أن يدخلوا ويمكن لو قالت لهم انتظروا عند الباب يمكن يغضب زوجها، فإذن، هذا عندما تؤمن الخلوة والفتنة ويأذن الزوج لو علم ما عنده مانع بالعكس يسر بذلك، فتقول ادخلوا المجلس وانتظروه مثلاً، وقولها: "ذهب يستعذب لنا الماء" يبحث عن ماء عذب ليأتينا به، وكان أكثر مياه المدينة مالحًا كما قال بعض العلماء.
وفي سنن أبي داود عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي ﷺ كان يُستعذب له الماء من بيوت السُّقيا"، قال قتيبة: "هي عين بينها وبين المدينة يومان" [ رواه أبو داود: 3735، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4951].
وفي هذا مشروعية طلب الماء العذب، و"كان النبي ﷺ يدخل إلى بيرحاء ويستقي من ماء عذب فيها"؛ وهي قبالة المسجد، وهذا لا ينافي الزهد، ولا كمال الزهد، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32]، على أن النبي ﷺ كان يفعل ذلك أحيانًا أو نادرًا لبيان الجواز، وما كان حريصًا عليه وكل يوم يضيع وقته في البحث عن المياه العذبة وعن ... لا، هذا شيء يحصل أحيانًا، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 32].
وقوله في الحديث: "يزعبها" أي: يتدافع بها وهي ممتلئة، يحملها ويميل ويتدافع بها لثقلها؛ لأن الإنسان إذا حمل شيئًا وصار يمشي صار كأنه يندفع بهذا الشيء إذا كان ثقيلاً.
وفي هذا الحديث: أن خدمة الإنسان لأهله بنفسه لا تنافي المروءة، بل هو من كمال التواضع.
وفي البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله" [رواه البخاري: 676]. تعني خدمة أهله، "فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"، وفي مهنة أهله يعني: في خدمة أهله، وهذا فيه ترغيب في التواضع وترك الكبر وخدمة الرجل لزوجته، وأن الإنسان في بيته من البر والخير أن يساعد زوجته وأهله، ولا ينافي هذا الرجولة، وأن امتهان النفس فيه تربية لها؛ ولئلا تخلُد إلى الرفاهية المذمومة، وقد قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً [المزمل: 11].
وفي الحديث: أن الرجل قام يلتزم النبي ﷺ يضمُّه إلى نفسه ويعانقه، وفي هذا جواز المعانقة إذا قدِم من سفر أو في الحضر عند طول الفراق، أما العناق كلما رآه فليس بمشروع، كما ذكر العلماء، وقد قال أنس : "كان أصحاب النبي ﷺ إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدِموا من سفر تعانقوا"، قال الألباني: "رجاله رجال الصحيح كما قال المنذري" [سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1/301].
وفي الحديث: "ثم انطلق بهم إلى حديقته"، يعني انطلق معهم، انطلق بهم يعني: انطلق معهم، والحديقة: الروضة ذات الشجر والبستان من النخل والشجر، أو كل بستان أحاط به بناء.
وقوله: "جاء بقنو"، هو عنقود البلح، والقنو هو العذق وزنًا ومعنى، بما فيه من الرطب، يعني ليس فارغًا، جاء بعذق بما فيه من الرطب، وفي رواية مسلم: "فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب"، وهذا فيه استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما" كما قال النووي فيه دليل؛ لأن الرجل أتاهم بالرطب قبل أن يصنع لهم طعامًا من اللحم، لكن هذا فيه نقاش يعني هل هذا يدل على الاستحباب أو هذا لأنهم جوعى، وإعداد الطعام يحتاج إلى وقت، فأراد أن يسكن جوعتهم ببعض الرطب، أما الاستدلال به على استحباب تقديم الفاكهة على الطعام فليس بمسلَّم، يعني فيه نقاش فيه أخذ، ليس فيه نقاش وفيه ردود وليس بمسلَّم، وأبو الهيثم عجّل لهم بالرطب حتى لا يشق عليهم بانتظار الطعام، وأيضًا فإن الفاكهة أسرع هضمًا، وقد قال تعالى عن أهل الجنة: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 20، 21]، واستحباب المبادرة إلى الضيف بما تيسر واضح من الحديث، وإكرامه بعده بطعام يصنعه له، كأنه يقول خذ المتيسر الآن وانتظر علي حتى أعد لك ما بعده؛ خصوصًا عندما يكون الضيف جائع" [شرح النووي على مسلم: 13/213].
وقوله: أفلا تنقّيت لنا من رطبه يعني: اخترت لنا وتركت الباقي حتى يترطب فتنتفعون به؛ فلا داعي لقطعه، قال: "إني أردت أن تختاروا"، أنتم تنتقوا بأنفسكم من رطبه وبسره، والرطب هو: ما يكون قبل التمر، والبُسر: التمر قبل إرطابه، فإذن، بُسرٌ ثم رُطب ثم تمر، قال في المجمع: "أولها طلع -يعني النخل- ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب".
وقوله: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة .
وفي رواية مسلم: "فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم ، فكنتم محتاجين إلى الطعام مضطرين إليه فنلتم أكثر مما كنتم تتخيلون، يعني رطب وذبح لكم شاة وماء.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "كل أحد يُسأل عن تنعُّمه الذي كان فيه؛ هل ناله من حِل أو لا، وإذا خلص من ذلك يُسأل هل قام بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أو لا، والأول سؤال عن سبب استخراجه والثاني سؤال عن محل صرفه" [دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: 4/441].
قال النووي: "والسؤال هاهنا سؤال تعداد النعم، وإعلام بالامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة" [شرح النووي على مسلم: 13/214].
استدلوا بالحديث على جواز الشبع، وما جاء في كراهة الشبع محمول على المداومة على ذلك، يعني لو واحد شبع أحيانًا لا بأس مثل الحديث: اشرب اشرب اشرب قال: "لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا" [رواه البخاري: 6452]. فإذا شبِع أحيانًا خصوصًا إذا كان جائعًا خصوصًا إذا كان جائعًا فلا بأس، أما المداومة على الشبع فهي المكروهة والتي تقسي القلب وتنسي المحتاجين.
وقوله: "فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعامًا" يعني: مطبوخًا، هذا هو العرف وإلا فالفاكهة تسمى طعامًا في اللغة.
وقوله: لا تذبحن ذات درٍ يعني: لا تذبحن ذات لبن.
وفي رواية لمسلم: إياك والحلوب [رواه مسلم: 2038]، وإنما نهى عن ذبحها شفقة عليه وعلى أهله لأنهم ينتفعون بلبنها، فيقول يعني يحصل المقصود بغيره فلا تذبح ذات اللبن ابقوها لكم حتى تشربوا من لبنها، اذبح لنا غير ذات لبن، فذبح لهم عناقًا أو جديًا؛ والعناق الأنثى من ولد المعز، والجدي هو ذكر المعز.
قال النووي: "وقد كره جماعة من السلف التكلُّف للضيف وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة؛ لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور بالضيف، وأما فعل الأنصاري وذبح الشاة فليس مما يشق عليه، بل لو ذبح أغنامًا لكان مسرورًا بذلك مغبوطًا به" [شرح النووي على مسلم: 13/213].
إذن، هذا ما يتنافى مع التكلف، لأن الرجل وسع الله عليه؛ ولأنه لا يمكن أن يجد أضياف أكرم من هؤلاء، فيعني لو ذبح عدة رؤوس من الغنم كان لا بأس بذلك، هناك بقية للحديث سنأتي عليها إن شاء الله في الدرس القادم.