الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في كتابه: الشمائل المحمدية: باب ما جاء في صفة مغفر رسول الله ﷺ.
عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ دخل مكة عام الفتح وعليه مغفر، فلما نزعه قيل له: هذا ابن خطل متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه ، قال ابن شهاب: "وبلغني أن رسول الله ﷺ لم يكن يومئذ محرمًا". حديث صحيح. [رواه الترمذي: 114، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 91].
والمصنّف -رحمه الله- جمع الأحاديث في لباس النبي ﷺ ومنه لباس يكون في المعركة، وقد سبق ذكر سيفه، وذكر لباسه للدرع، وهذا المغْفر الذي كان يغطي به رأسه؛ وفيه اتخاذ الأسباب للوقاية والحذر من الأعداء، وأن النبي ﷺ مع أن الله قال له: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، إلا أنه اتخذ الأسباب، وهذا لا ينافي هذا، فالله يعصمه بأسباب؛ فهذا لا ينافي هذا.
أما ابن خطل: فهو عبد الله بن خطل، وهو أحد أربعة نفر أهدر النبي ﷺ دماءهم لما دخل مكة عام الفتح، ولم يؤمِّنهم كما أمّن الناس، فإنه قال: من دخل بيته فهو آمن، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن والذي في الحرم في مكة في المسجد آمن، [رواه مسلم: 1780]، لكن هؤلاء الأربعة ليسوا بآمنين، وهم: عكرمة بن أبي جهل، وكان يومئذ كافرًا مشركًا، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صُبابة. وقد روى النسائي حديثهم مطولًا، عن مصعب بن سعد، عن أبيه والحديث صححه الألباني.
قال سعد: "لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله ﷺ الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة [رواه النسائي: 4067، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي: 4067].
عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خَطَل، ومِقْيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح؛ فأما عبد الله بن خطل فأُدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حُريث وعمار بن ياسر، مسابقة في تنفيذ أمر النبي ﷺ بقتل هذا المشرك المرتد المجرم، تسابقًا في تنفيذ الأمر النبوي بقتله، فسبق سعيد عمارًا، سعيد بن حُريث وصل إلى الكافر وهو متعلق بأستار الكعبة أولًا، وكان أشبَّ الرجلين فقتله، وأما مقيس بن صُبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر فأصابه عاصف، ركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة، فقال أصحاب السفينة وفيهم عكرمة الهارب، قال أصحاب السفينة: أخلِصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئًا هاهنا، الآن الدعاء لله فقط، الآلهة الآن لا تفيد، والمشركون إذا ركبوا في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وتركوا آلهتهم، وهؤلاء مشركو العرب الأوائل، لكن يوجد من المشركين التالين من يشركون بالله حتى في البحر، فقد ركب موحِّد مع قوم من الصوفية المشركين الشرك الأكبر، فلما عصفت الريح بهم في البحر، واحد يقول: يا بدوي المدد، يا عيدروس أنجنا، يا عبد القادر أدركنا، يا شاذلي! وكل واحد يدعو وليَّه من دون الله، فقال الموحِّد: اللهم أغرق، أغرق، فما بقي أحد يعرفك، فإذن، هناك من مشركي زماننا من هو أسوأ من مشركي العرب، مشركو العرب كانوا يرجعون إلى الله في البحر، فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65]، فلما كان عكرمة معهم وهبّت الريح عرفوا الله في البحر، فقال بعضهم لبعض: اخلِصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئًا هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم يُنجنِ من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره"، الآن أراد الله الهداية لعكرمة، وهو فار من قتل مشرك، فقال عكرمة: "اللهم إن لك عليّ عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه -من كربات تلاطم الأمواج في البحر- اللهم إن لك عليّ عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا ﷺ حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوًا كريمًا"، فجاء فأسلم فنجا عكرمة وأسلم، وبعد ذلك صار من قادة الفتوحات صحابي.
وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، وكان بينه وبين عثمان قرابة، فلما دعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة جاء به عثمان، جاء بعبد الله بن سعد بن أبي السرح ليبايع النبي ﷺ مع الناس، حتى أوقفه على النبي ﷺ، قال: يا رسول الله بايع عبد الله، قال: فرفع رأسه النبي ﷺ، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، النبي ﷺ يرفض أن يبايع هذا الرجل، لما صار ثلاث مرات بايعه بعد ذلك، قال: فبايعه بعد ذلك، ثم أقبل النبي ﷺ على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ [رواه أبو داود: 2683، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: 2683]. يعني: أنا أمرتكم بقتله، وجاء يبايع الآن مع الناس، وامتنعتُ عن بيعته، كففتُ يدي عنه ثلاث مرات، ما أحد فهم أن يقوم ويقتله، لكن النبي ﷺ بايعه بعد الثلاث، وبما أنه بايعه خلاص انتهى؛ حُكم له بالإسلام، وحُقن دمه، وحسن إسلامه بعد ذلك، وصار من قادة الفتوحات، وقاد المسلمين في المعارك البحرية "عبد الله بن سعد بن أبي السرح"، قالوا -الصحابة-: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟ إشارة هكذا خفيفة نخلّص عليه، قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين يعني: هذه حركات ما تليق بالأنبياء، كذا هذه لا تليق بالأنبياء.
قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "واستؤمن رسول الله ﷺ لإحدى المرأتين فأمنّهما فأسلمتا"، هذا ما كان من المرأتين الأخريين اللتين أهدر دمهما.
وقوله في الحديث: "أمّن" يعني: أعطاهم الأمان، وقوله: "أما كان فيكم رجل رشيد" يعني: فطن لمراد النبيﷺ لما رآه كف يده عن البيعة، وقد أهدر دم الرجل من قبلُ، فيقوم فيقتله، وقوله: أن يكون له خائنة الأعين يعني: أن يضمر بقلبه غير ما يظهر للناس، فإذا كفّ لسانه وأومأ بعينه فقد خان؛ ولأن ظهور تلك الخيانة كان من خلال عينه سُمّيت خائنة الأعين، فما يناسب أبدًا مقام النبوة أن يكون في قلب النبي شيء وفي ظاهره شيء آخر، فلذلك النبوة مقام عظيم يقتضي الوضوح والبيان والذي في قلبه على لسانه، أما حركات خفية فلا يليق بمقام النبوة.
وفي الحديث: بيان قاتل ابن خطل وأنه سعيد بن حُريث، وقال بعضهم: أبو برزة الأسلمي، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي: "أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة"، وإسناده صحيح مع إرساله وله شاهد، وجمع بينهما بعض العلماء بأنهما اشتركا في قتله، ورجح بعضهم أن القاتل سعيد بن حريث، ورجح بعضهم أن القاتل أبو برزة الأسلمي.
النبي ﷺ أمر بقتل ابن خطل؛ لأنه كان مسلمًا ابن خطل هذا، وبعثه النبي ﷺ يجبي الصدقات ومعه رجل من الأنصار ومعهما مولى يخدمهما وكان مسلمًا، فنزلا منزلًا فأمر ابن خطل المولى الخادم المسلم أن يذبح تيسًا ويصنع له طعامًا، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، المولى تكاسل ما صنع شيئًا، أو نام ما صنع شيئًا، فعدى عليه فقتله، ابن خطل غضب وقتل المولى المسلم، ثم ارتد مشركًا، وليس هذا فقط، وكان له قينتان، يعني مغنيتان امرأتان مغنيتان خاصتان به تغنيان بهجاء رسول الله ﷺ، تنشدان الأشعار تغنيان بسبِّ النبي ﷺ، فهنا أهدر النبي ﷺ دم عبد الله بن خطل، وهذا حكم من سبّ رسول الله ﷺ أنه يُقتل ولو تاب على الراجح، الآن أما في عهد النبي ﷺ فلو تاب ممكن النبي ﷺ يقبل توبته وتنتهي القضية، ويحقن دمه، لكن بعد وفاة النبي ﷺ الذي يسب محمد بن عبد الله يتعلق به حقان: حق لله تعالى وهذا ممكن بالتوبة يغفر، وحق النبي ﷺ ما يمكن التنازل عنه؛ لأن النبي ﷺ مات، ولازم يؤخذ حق محمد بن عبد الله ﷺ ممن يسبُّه، لازم يؤخذ حقه بالقتل، وقد بين النبي ﷺ في عدد من الأحداث أن الذي يسبه حكمه عند الله القتل، وأرسل عدة أشخاص لقتل عدد من المشركين الذين كانوا يسبونه ويهجونه ويشتمونه، وابن تيمية -رحمه الله- أطال الكلام في هذه المسألة ونصر هذا القول أتمّ نصر وأوفاه في كتابه "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، فأي واحد يتكلم يسب النبي ﷺ في جريدة في مسلسل في المقالة في الإنترنت في أي مكان حكمه القتل، فيُرفع إلى الحاكم المسلم فيحكم فيه بالقتل، ولا يقتله آحاد الناس؛ لئلا تصبح فوضى، لكن حكمه القتل يُرفع أمره إلى القاضي ويُحكم فيه بالقتل، ولو تاب يُقال توبتك تنفعك عند الله، لكن نحن نأخذ حق نبينا الآن، ما يمكن نسقط حق نبينا، كيف أنه، ما لنا حق نسقط حق نبينا، والنبي ﷺ مات، إذن يُستوفى حقه، وأنت إذا صدقت في التوبة تنفعك بعد الموت عند رب العالمين، أما الذي يسبُّ الله -عز وجل- فلو أعلن توبته ودخل في الإسلام حقنّا دمه؛ لأن حق الله بالتوبة، وهذا لا يعني أن الذي يسبُّ النبي ﷺ يعني جرمه أكبر من الذي يسب الله، لكن النكتة يعني الفائدة في الموضوع هو هذا، أن حق الله بالتوبة يسقط بالتوبة، وحق النبي ﷺ بعد موته لا يسقط، في حياته يسقط كما حقن دم عبد الله بن سعد بن أبي السرح وبايعه، ودم عكرمة بن أبي جهل وبايعه وقبِل منه.
واستدلّ بحديث الباب من ذهب إلى أنه ﷺ فتح مكة عَنوة، واستُدل بقصة ابن خطل أيضًا على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة؛ لأن العلماء اختلفوا هل تُقام الحدود في الحرم، أم أنه لابد إذا تقرر القصاص أو الحد في أشخاص أن يكون التنفيذ خارج منطقة الحرم، هل من خصائص الحرم أنه لا تُنفّذ الحدود فيه، وإنما يخرجون إلى خارجه، هل من تعظيم الحرم عدم إقامة الحدود فيه، وإنما تُنقل إلى خارجه، كما كان بعض الصحابة يفعل، إذا أراد أن يؤدّب عبيده، إذا كان واحد من عبيده يحتاج إلى تأديب خرج به خارج الحرم وأدبه، ولا يؤدبه ويضربه في مكة أو في الحرم، فالعلماء اختلفوا في قضية إقامة الحدود داخل الحرم، والذين رجحوا إقامتها داخل الحرم احتجوا بماذا؟ بقصة قتل ابن خطل هذا.
وقال السهيلي: "فيه أن الكعبة لا تُعيذ عاصيًا ولا تمنع من إقامة حد واجب"، وقال ابن عبد البر: "كان قتل ابن خطل قودًا من قتله المسلم"، وأصلًا اجتمع في قتل ابن خطل عدة أسباب، ارتد والمرتد يقتل، وقتل مسلم وهذا قصاص، وسبُّ النبي ﷺ وهذا حكمه القتل.
وقال النووي -رحمه الله-: "تأول من قال لا يُقتل فيها -يعني حديث: لا يُقتل فيها أحد في مكة في الحرم- على أنه ﷺ قتله في الساعة التي أُبيحت له، يعني كان قتل ابن خطل في الساعة التي أُبيحت له، هذا جواب الذين يقولون لا يُقتل أحد داخل مكة" [فتح الباري لابن حجر: 4/62].
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما قتل ابن خطل فإنه كان في وقت الحل؛ لأن النبي ﷺ لما فتح مكة، قال: وإن الله أحلّها لنبيه ساعة من نهار [زاد المعاد: 3/392]. ساعة من نهار، وإلا فهي حرام، وقال لا يحمل فيها السلاح، لا يحمل أصلًا، أما سلُّه القتل به هذه مصيبة المصائب أن يكون بمكة، فكيف إذا كان ظلمًا وعدوانًا.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى جواز تنفيذ الحدود داخل منطقة الحرم، قال ابن القيم: "أما قتل ابن خطل فإنه كان في وقت الحل، والنبي ﷺ أمر بذلك، ونصّ على أن هذه الساعة التي أحلّ الله له مكة فيها خاصة من خصائصه ﷺ، كما قال: إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة لا يجوز قطع الأشجار التي نبتت من تلقاء نفسها بمكة، لا يجوز قطع الأشجار والنباتات التي نبتت من تلقاء نفسها في منطقة الحرم، قال: فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله ﷺ فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذِن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشاهد الغائب .
قال ابن القيم: "وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها فيما عدا تلك الساعة" [زاد المعاد: 3/392].
قال ابن حجر: "واستُدل به -بالحديث- على جواز قتل الأسير صبرًا؛ لأن القُدرة على ابن خطل صيّرته كالأسير في يد الإمام، وهو مخير فيه بين القتل وغيره"، وقال الخطابي: "إنه ﷺ قتله بما جناه على الإسلام، وقيل: قُتل قَوَدًا قصاصًا، وقيل: قُتل مرتدًا"، واستُدل به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإسلام" [فتح الباري لابن حجر: 4/62].
لكن المصنّف أصلًا ساق الحديث الأصلي لبيان مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح، وأن ذلك لا ينافي التوكل.
وقد روى البخاري عن عبد الله بن أوفى قال: "اعتمر رسول الله ﷺ فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، ومعه من يستره من الناس" [رواه البخاري: 1600].
قال ابن حجر: "وإنما احتاج إلى ذلك؛ لأنه كان حينئذ محرمًا، فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه، فكانوا حوله يسترون رأسه، ويحفظونه من ذلك" [فتح الباري لابن حجر: 4/63].
باب ما جاء في عمامة رسول الله
ثم قال -رحمه الله-: "باب ما جاء في عمامة رسول الله ﷺ، عن جابر قال: دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح، وعليه عمامة سوداء"، [رواه مسلم: 1358].
وعن عمرو بن حُريث: "أن النبي ﷺ خطب الناس وعليه عمامة سوداء"، [رواه مسلم: 1359]. خطب الناس وعليه عمامة سوداء، قال النووي -رحمه الله-: "فيه جواز لباس الثياب السود، ولبسه في حال الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح: خير ثيابكم البياض ، قال: "وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانًا للجواز" [شرح النووي على مسلم: 9/133].
وقال ابن القيم: "فيه دليل على جواز لبس السواد أحيانًا، ومن ثم جعل خلفاء بني العباس لبس السواد شعارًا لهم ولولاتهم ولقضاتهم وخطبائهم، قال: "والنبي ﷺ لم يلبسه لباسًا راتبًا" [زاد المعاد: 3/403].
يعني: لبُس النبي ﷺ للون الأسود كان أحيانًا وليس دائمًا، وبهذا يُفهم حديث أن السنة لبس البياض، لو واحد أورده وقالوا لماذا النبي ﷺ لبس الأسود وهو الذي حث على لبس البياض، وأن البياض أفضل، وأن البياض من السنة، فيقال: إنه لبس الأسود أحيانًا ما داوم عليه ولا كان لبسه له راتبًا، وإلا سيكون لبس الأسود سنة، فهذا وجه الجمع بين لبسه للسواد وبين حثِّه على اللون الأبيض، والنبيﷺ يفعل أشياء في أحيان كثيرة لبيان الجواز أن هذا جائز، وقيل: إنه لبس السواد إشارة إلى ما منحه الله يومئذ من السؤدد، يعني يوم فتح مكة الذي لم يتفق لأحد من الأنبياء قبله، وإلى سؤدد الإسلام وأهله وظهوره ظهورًا لم يكن قبل الفتح.
وزعم بعضهم أن بين حديث لبس المغفر يوم فتح مكة، ولبس العمامة السوداء يوم فتح مكة بينهما تعارض، قالوا كيف مغفر والعمامة السوداء؟ وجمع العلماء بينهما فقالوا: يُحتمل أن يكون أول دخوله مكة كان على رأسه المغفر؛ لأن هذا حال الخطر، ولما أمِن أزال المغفر ولفّ على رأسه العمامة السوداء، فرآه رواة فرووا ما رأوا، كل واحد روى ما رآه، واحد قال: رأيته لبس المغفر، وواحد قال: كان على رأسه عمامة سوداء، فحكى كل واحد ما رآه، وكانت الخطبة عند باب الكعبة، وذلك بعد تمام الدخول، وجمع بعضهم قال: إن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، وعلى أية حال سواء كان لبسهما معًا أو لبس هذا ثم هذا، فالجمع ممكن.
قال: وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: كان النبي ﷺ إذا اعتمّ سدل عمامته بين كتفيه" [رواه الترمذي: 1736، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 94].
فالعمامة الآن إذا لفت في الأخير يبقى لها طرف الذؤابة، كان يرخيها بين كتفيه، قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك، وقال عبيد الله: ورأيت القاسم بن محمد وسالما يفعلان ذلك" [رواه الترمذي: 1736، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 94].
ومعنى: "إذا اعتمّ": لفّ العمامة على رأسه، و "سدل": أرسل وأرخى، و"عمامته" يعني: طرفها الذي يسمى الذؤابة والعذبة، "بين كتفيه": أرسلها، فهذا يدل على استحباب إرخاء طرف العمامة بين الكتفين، يعني إذا لبسها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إرخاء الذؤابة بين الكتفين معروف في السنة، وإطالة الذؤابة كثيرًا من الإسبال المنهي عنه" [المستدرك على مجموع الفتاوى: 3/67]. يعني بعض الناس يلبس عمامة ويجعل طرفها طويلًا نازلاً إلى الأسفل، فهذا من الإسبال المنهي عنه" [قاعدة تتضمن ذكر ملابس النبي وسلاحه ودوابه: 58].
وقال في السُّبل: "من آداب العمامة تقصير العذبة، فلا تطول طولًا فاحشًا، وقال النووي: "إرسال العذبة إرسالًا فاحشًا كإرسال الثوب يحرم للخيلاء، ويكره لغيره".
وقوله: وكان ابن عمر يفعل ذلك، قال عبيد الله: "ورأيت القاسم بن محمد وسالما يفعلان ذلك"، يعني أنها سنة مؤكدة محفوظة لم يتركها الصلحاء.
قال السيوطي في الحاوي للفتاوي: "أما مقدار العمامة الشريفة فلم يثبت فيه حديث، والادعاء المحض ليس بشيء كما قال المباركفوري"، وقال الصنعاني: "من آداب العمامة إرسال العذبة بين الكتفين، ويجوز تركها بالأصالة" [تحفة الأحوذي: 5/338].
وقال النووي في شرح المهذب: "يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله، ولا كراهة في واحد منهما ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شيء" [المجموع شرح المهذب: 4/457].
وقال المباركفوري: "لم أجد في فضل العمامة حديثًا مرفوعًا صحيحًا، وكل ما جاء فيه إما ضعيف أو موضوع" [تحفة الأحوذي: 5/339].
يعني حديث صلاة بعمامة خير من سبعين صلاة بغير عمامة، مكذوب لا يثبت أبدًا، وحديث: صلاة تطوع أو فريضة بعمامة تعدل خمسًا وعشرين صلاة بلا عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة بلا عمامة، قال ابن حجر: "موضوع"، وأورده الشوكاني في كتاب: "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ خطب الناس وعليه عمامة دسماء". حديث صحيح. [رواه الترمذي في الشمائل: 119، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 95].
ومعنى دسماء: يعني متلطخة متشبعة بدسومة شعره من الطيب، حتى صار لونها كلون الدسم، دسماء قيل في معناها أيضًا: سوداء، ومنه قول عثمان وقد رأى غلامًا مليحًا: "دسِّموا نونته" [رواه البغوي في شرح السنة: 12/ 166]. يعني سودوا النقرة التي في ذقنه؛ لئلا تصيبه العين، يعني هذا لما رأى غلامًا جميلًا خشي عليه من العين فقال: "دسِّموا" يعني: سودوا نونته حتى يكون كالشيء المعيب فلا تأخذه العين، فالشاهد: "دسِّموا" يعني: سودوا، دسماء قيل سوداء وقيل: دسماء من لون الدسم، من أين أتاها اللون هذا؟ من الطيب الذي كان في شعره ﷺ.
وفي البخاري عن ابن عباس قال: "خرج رسول الله ﷺ في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء"، وهي العمامة. [رواه البخاري: 3628].
وعن أنس: مرّ أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: "ما يبكيكم؟"
قالوا: ذكرنا مجلس النبي ﷺ منا، فدخل على النبيﷺ فأخبره بذلك، فخرج رسول الله ﷺ وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار فإنهم كَرِشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم [رواه البخاري: 3799]. وسنعرف معنى هذا الحديث، وندخل في صفة إزارهﷺ في الدرس القادم، وصلى الله على نبينا محمد.