الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تقدم ذكر بعض ما يتعلق بلباس النبي ﷺ، وبقي في ذلك بعض الأحاديث سنأتي عليها إن شاء الله.
ونذكر الآن ما يتعلق بخاتم رسول اللهﷺ.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان خاتم النبي ﷺ من ورِق، وكان فصه حبشيًّا" حديث صحيح، وقد أخرجاه.[رواه البخاري: 5865، ومسلم: 2094].
وعن أنس بن مالك قال: "كان خاتم النبي ﷺ من فضة، فَصُّه منه".
[رواه الترمذي: 1740، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4809].
وقوله في الحديث: "من ورِق"، أي من فضة، وقوله: "كان فصُّه حبشيًّا"، يعني: الحجر الموجود في هذا الخاتم حجر حبشي، وهو يكون من جزع أو عقيق؛ لأنها المعادن الموجودة بالحبشة واليمن، وقيل: "لونه" يعني: لون الفص، "حبشي" يعني: أسود.
وحديث أنس: "فَصُّه منه" يعني: من الورِق، يعني الفص من الفضة، ويشهد له قوله في الصحيح: "كان خاتمه من فضة" وفي رواية لأبي داود: "كله من فضة"، من فضة كله.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "فهذا نصٌ في أنه كله من فضة".
وقيل: "إنه محمول على التعدد"، يعني: أنه كان له خاتم من فضة كله، وكان له خاتم فَصُّه حبشي.
وفي رواية: "فَصُّه من عقيق"، قال الحافظ -رحمه الله-: "ويُحتمل أن يكون هو الذي فَصُّه منه، ونُسب إلى الحبشة لصفة فيه، يعني في هذا الخاتم، مثل الصياغة أو النقش" [فتح الباري لابن حجر: 10/322].
قال النووي -رحمه الله-: "وقد أجمع المسلمون على جواز خاتم الفضة للرجال، وكرِه بعضهم الخاتم لغير ذي السلطان؛ لأنه يستعمله في الختم -يعني: ختم رسائله- ولكن هذا شاذ مردود" [شرح النووي على مسلم: 14/67].
يعني هذه الكراهية شاذة، والصحيح أن العلماء قد أجمعوا على جواز خاتم الفضة للرجال.
ولعل النووي -رحمه الله- أشار إلى حديث أبي داود والنسائي: "عن أبي ريحانة نهى رسول الله ﷺ عن عشرٍ: عن الوشر، والوشم، والنتف، ومكامعة الرجل الرجل بغير شعار، وعن مكامعة المرأة المرأة بغير شِعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النُّهبة وركوب النمور، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان"، لكن هذا الحديث ضعّفه أهل العلم، ولو ثبت نهى عن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان لقلنا به، لكن لم يثبت، ولبس الخاتم من الفضة للرجال جائز؛ سواء كان ذا سلطان أو لم يكن بذي سلطان.
وأما خاتم الفضة للنساء، فالصواب أنه لا كراهة فيه أيضًا، فهي تلبس خاتم فضة أو خاتم ذهب، أو ما شاءت من الحلي، وأما قول الخطابي -رحمه الله-: "يُكره للنساء خاتم الفضة؛ لأنه من شعار الرجال"، وقوله: "فإن لم تجد خاتم ذهب، فلتصفره بزعفران وشبهه" [شرح النووي على مسلم: 14/67]، فهذا الذي قاله ضعيف أو باطل لا أصل له؛ فالصواب أن خاتم الفضة للنساء أيضًا لا بأس به، ومعلوم الآن أن هناك ما يسمى بالذهب الأبيض، وبعضهم يطلقه على البلاتين، وبعضهم يطلقه على السبيكة المخلوطة من الذهب والفضة، أو يقولون: ذهب أبيض، فإذن، هذا الذي هو مخلوط من الذهب والفضة لا يجوز لبسه للرجال؛ لأن فيه ذهب، ولا يقال الحكم للون؛ لأننا إذا عرفنا أن فيه ذهب حقيقة، فالعبرة بالحقيقة بالحقائق، فلا يجوز للرجل أن يلبس الذهب الأبيض إذا كان ذهبًا، وكونه مخلوط بالفضة لا يجيز لبسه للرجل، لكن النساء يلبسنه، لا بأس للمرأة أن تلبس خاتم الذهب أو خاتم الفضة أو خاتم بلاتين أو خاتم ذهب مخلوط بالفضة، أو خاتم ذهب ملبّس بالفضة، أو خاتم فضة ملبّس بالذهب، أو مطلي به، كل ذلك لا حرج عليها في لبسه.
قال: وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن النبي ﷺ اتخذ خاتمًا من فضة، فكان يختم به ولا يلبسه" [رواه البخاري: 5866، ومسلم: 2092]، قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه أحمد وأبو الشيخ بأتم منه دون قوله: "لا يلبسه"، بل هذا القدر منه شاذ، قال: "لأن الحديث في الصحيحين وغيرهما عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "اتخذ خاتمًا من ورق، فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر" وسيأتي الحديث إن شاء الله. [سلسلة الأحاديث الصحيحة: 6/1178].
وأما قوله: "اتخذ خاتمًا من فضة فكان يختم به"، فقد صحّ، أما قوله: "ولا يلبسه" فلم يصح.
قال: وعن أنس بن مالك قال: "كان نقشُ خاتم رسول اللهﷺ محمد سطر، رسول سطر، والله سطر" [رواه الترمذي: 1747، وصححه الألباني في الشمائل: 74].
فإذن، كان منقوشًا في خاتمه ﷺ في مكان الفص: "محمد رسول الله"، لكن كيف هي مكتوبة؟ محمد في سطر، ورسول في سطر، والله في سطر، فالنقش كان ثلاثة أسطر، كل كلمة في سطر، وفي طريق أخرى عنه؛ عنه عن الصحابي الذي سبق ذكره في الحديث الذي قبله؛ عن أنس أيضًا أن النبي ﷺ أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابًا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله ﷺ خاتمًا حلقته فضة، ونقش فيه: "محمد رسول الله، قال: "فكأني أنظر إلى بياضه في كفِّه" حديث صحيح. [رواه الترمذي: 2718، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 74].
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك" [فتح الباري لابن حجر: 10/329].
يعني فقط هذه الكلمات الثلاث، وظاهره أيضًا أنه كان على هذا الترتيب: محمد رسول الله، لكن لم تكن كتابته على السياق العادي، وإنما كانت الكتابة مقلوبة؛ ليخرج الخاتم مستويًا، قال ابن حجر: "وأما قول بعض الشيوخ إن كتابته كانت من أسفل إلى فوق، يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد في أسفلها، فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال فيها محمد سطر، السطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله" [فتح الباري لابن حجر: 10/329]. انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "وكأنه والله أعلم كان منقوشًا وكتابته مقلوبة ليطبع على الاستقامة، أو ليطبع على الاستقامة، كما جرت العادة بهذا، وقد قيل إن كتابته كانت مستقيمة وتُطبع كذلك، وفي صحة هذا نظر، يقول ابن كثير: "وفي صحة هذا نظر، ولست أعرف لذلك إسنادًا صحيحًا ولا ضعيفًا" انتهى كلامه رحمه الله. [البداية والنهاية: 6/5]. فإذن، كان النقش مقلوبًا حتى إذا طُبع يُطبع مستويًا، وجزم الحافظ ابن سيِّد الناس بأن اتخاذ الخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره في إنه كان في السنة السادسة.
وقال ابن حجر -رحمه الله-:" ويُجمع بينهما بأنه كان في آخر السادسة وأول السابعة؛ لأنه إنما اتخذه عند إرادته مكاتبة الملوك، وكان إرساله إلى الملوك بعد صلح الحديبية، لما وضعت الحرب أوزارها بينه وبين مشركي قريش والعرب تبع لهم تفرّغ للدعوة في أوساط العرب، وإرسال الرسائل إلى العجم، فأرسل الرسائل، فبدأت المكاتبات بينه ﷺ وبين الملوك في ذي القعدة سنة ستٍ، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووجّه الرسل في المحرم من السابعة، وكان اتخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك، إذن، هذا الوقت الذي اتخذ فيه الخاتم إذن، في أواخر السادسة وأول السابعة لأجل ختم الرسائل التي ترسل إلى الملوك" [فتح الباري لابن حجر: 10/325].
قال: "وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، اتخذ رسول الله ﷺ خاتمًا من ورق فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع بعدُ في بئر أريس -اسم البئر-، نقشه: محمد رسول الله. حديث صحيح. [رواه البخاري: 5873، ومسلم: 2091].
وقوله: "حتى وقع من عثمان في بئر أريس، حديقة بالقرب من مسجد قباء، ولما كان عثمان جلس على بئر في ذلك المكان، وفي رواية لابن سعد بسند البخاري: "ثم كان في يد عثمان ست سنين" [فتح الباري لابن حجر: 10/319].
وأخرج النسائي: وفي يد عثمان ست سنين من عمله -يعني من خلافته-، فلما كثرت عليه دفعه إلى رجل من الأنصار، فكان يختم به، فخرج الأنصاري إلى قليب لعثمان، إلى بئر لعثمان فسقط أي الخاتم في البئر فالتمس فلم يوجد، فمن يومها اختفى خاتم النبي ﷺ لما وقع في البئر.
وجاء في رواية لابن سعد: "فطلبناه ثلاثة أيام فلم نجده، فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه".[فتح الباري لابن حجر: 10/329].
وفي هذا الحديث من الفوائد: تعظيم الصحابة للنبي ﷺ، وحرص الخلفاء الراشدين على اقتفاء أثره ﷺ، وعلى الإبقاء على خاتمه، وعلى السير بسياسته، والختم بما كان يختم به، ولم يتخذوا خواتيم خاصة لهم، قال ابن بطال: "يؤخذ من الحديث: أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه، والاجتهاد في تفتيشه"، يعني لا يقال ضاعت عشرة دعها وليست مشكلة، لا، يبحث عنها، نهى عن إضاعة المال، وقد حبس النبيﷺ الجيش كله من أجل البحث عن عقد عائشة لما ضاع حتى وجد، قال ابن حجر تعقيبًا على قول ابن بطال: "كذا قال وفيه نظر، فأما عِقد عائشة فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة التي نشأت عنه؛ وهي رخصة التيمم، فكيف يُقاس عليه غيره" يقصد أن يقال: إن البحث عن الأشياء اليسيرة يُفعل إذا ما كان تضيع مصلحة أكبر، فأما تعطيل أوقات الناس التي تكون أثمن من هذا المال فلا، ليس في ذلك حكمة، قال: "وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلًا لما ذُكر؛ لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه لكونه أثر النبي ﷺ قد لبسه واستعمله وختم به، ومثل ذلك يساوي في العادة قدرًا عظيمًا من المال، وإلا لو كان غير خاتم النبي ﷺ لاكتفى بطلبه دون ذلك، وبالضرورة يُعلم أن قدر المئونة التي حصلت في الأيام الثلاثة تزيد على قيمة الخاتم، لكن اقتضت صفته وعظيم قدره، فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال" [فتح الباري لابن حجر: 10/329]. فإذن، ماذا نفعل إذا ضاع شيء يسير من المال؟ نبحث عنه، نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال [رواه البخاري: 1477، ومسلم: 593]، والمال لا يُضيّع ولو كان يسيرًا، ويُبحث عنه ولو كان يسيرًا، لا يضيع، يعني لو واحد سقط منه ريال في الشارع ما يقول انتهى يتركه ويمشي يأخذه يتصدق به، يشتري به لأهله، لا يدري قد يدخل به الجنة، قد يكون هو الذي يرجح بحسناته، لكن لو ترتب على البحث على هذا المبلغ اليسير ضياع وقت ثمين أكثر من هذا المال اليسير، فلا يضيع الوقت الثمين لأجل المال اليسير، قال ابن بطال: "وفيه أن من طلب شيئًا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيّعًا، وأن الثلاث حدٌ يقع بها العذر في تعذُّر المطلوبات" [فتح الباري لابن حجر: 10/329].
قال النووي: "وفيه أن النبي ﷺ لم يورث، إذ لو ورث لدفع الخاتم إلى ورثته، بل كان الخاتم والقدح والسلاح ونحوها من آثاره الضرورية صدقة للمسلمين، يصرفها ولي الأمر حيث رأى من المصالح، فجُعل القدح عند أنس إكرامًا له لخدمته، ومن أراد التبرك به لم يمنعه، وجعل باقي الأثاث عند ناس معروفين، واتُخذ الخاتم عنده للحاجة التي اتخذها النبي ﷺ لها، فإنها موجودة في الخليفة بعده، ثم الخليفة الثاني، ثم الثالث، وفيه: جواز نقش الخاتم" [شرح النووي على مسلم: 14/ 67]. يعني إذا اتخذ الإنسان خاتمًا وعليه نقش فلا بأس بذلك، ولا بأس بنقش اسم صاحب الخاتم على الخاتم، فلو نقش عليه اسمه فلا بأس بذلك، واستدل بعضهم بجواز نقش اسم الله على الخاتم على أن هذه الكلمة: محمد رسول الله، تامة يعني جملة تامة، ليس فقط الله، فإن بعض النساء تضع في حليها لفظ الجلالة، وهذا التعليق غلط، ولا يعلق في الرقبة لا لفظ الجلالة ولا غيره من القرآن، وأما الخاتم فقد جعل عليه النبي ﷺ محمد رسول الله، محمد مبتدأ، رسول: خبر، هذه الجملة تامة كاملة، أما مجرد وضع لفظ الجلالة ليتبرك به بزعمهم فلا، وبعضهن تضع آية الكرسي في رقبتها وهذا أيضًا خطأ، وهذا الذي يضعه أو هذه التي تضعه لا تخلو من أن تنام عليه فهو تحتها وهي فوقه، وتدخل به الخلاء، المهم أنه يتعرض لإهانة، وأما التختُّم بالفضة فهو الذي قال فيه سعيد بن المسيِّب لصدقة بن يسار: "البسه وأخبر الناس أني أفتيتُك بذلك".
ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه
ثم قال -رحمه الله-: "باب ما جاء في أن النبي ﷺ كان يتختّم في يمينه".
عن علي بن أبي طالب : "أن النبي ﷺ كان يلبس خاتمه في يمينه"، حديث صحيح. [رواه الترمذي في الشمائل: 96، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 77].
وعن حماد بن سلمة قال: رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه، فسألته عن ذلك فقال: رأيت عبد الله بن جعفر يتختّم في يمينه، وقال عبد الله بن جعفر: "كان رسول الله ﷺ يتختم في يمينه". حديث صحيح. [رواه الترمذي: 1744، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4900].
أما عبد الله بن جعفر فهو: ابن أبي طالب الهاشمي، أحد الأجواد المولود بأرض الحبشة وله صُحْبة، روى أن النبي ﷺ كان يلبس الخاتم في خنصر يده اليمنى، يتختّم في يمينه يجعله في خنصر يده اليمنى.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "أن النبي ﷺ كان يتخّتم في يمينه" [رواه الترمذي: في الشمائل: 79، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4900].
وعن الصلت بن عبد الله قال: "رأيت ابن عباس يتختم في يمينه، ولا إخالُه -يعني: لا أظنه- إلا قال: رأيت رسول الله ﷺ يتختّم في يمينه"، حديث حسن. [رواه الترمذي: 1742، وحسنه الألباني في مختصر الشمائل: 80].
وأما الصلت بن عبد الله بن نوفل فهو: ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، كان فقيهًا عابدًا.
وعن ابن عمر: "أن النبي ﷺ اتخذ خاتمًا فضة، وجعل فصُّه مما يلي كفّه"
فالفص هل هو للخارج أو هو للداخل؟ قال: "مما يلي كفه"، وهذا الكف، ونُقش فيه: "محمد رسول الله، ونهى أن ينقش أحد عليه"، يعني لا أحد ينقش مثل خاتمه، قال: "وهو الذي سقط من معيقيب في بئر أريس" حديث صحيح. [رواه الترمذي في الشمائل: 102، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 76].
وقوله: "وجعل فصُّه مما يلي كفه"، قال النووي: "قال العلماء: لم يأمر النبي ﷺ في ذلك بشيء، ما وجه بشيء معين للأمة قال اجعلوا هذا من الداخل أو من الخارج، قال: "فيجوز جعل فصه في باطن كفِّه وفي ظاهرها"، فيجوز أن يُجعل الفص من الداخل، ويجوز أن يُجعل من الخارج، الأمر واسع، قال: "وقد عمل السلف من وجهين، وممن اتخذه في ظاهرها ابن عباس ، قال: ولكن الباطن أفضل اقتداء بالنبي ﷺ؛ ولأنه أصون لفَصِّه، وأسلم له، وأبعد من الزهو والإعجاب" [شرح النووي على مسلم: 14/69].
"ونهى أن ينقش أحد عليه" السبب في ذلك أنه ﷺ كان يختم به كتب إلى ملوك العجم وغيرهم، فلو نقش غيره مثل هذا النقش لحصلت المفسدة ودخل الخلل.
قال: "وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: "كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما" [رواه الترمذي: 1743، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 82]. جعفر هو: الصادق، وأبوه: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهذا أبو جعفر الباقر ثقة فاضل، وقوله: "كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما"، قصد المصنف بسياق هذا الأثر في هذا الباب مع الأحاديث التي كلها في اليمين لعله قصد الإشارة إلى أنه لا يثبت ولا يُحتج به، ولكن الترمذي نفسه لما ساقه في سننه قال: "حديث صحيح"، ولذلك قال المباركفوري في التُّحفة: "هذا الأثر لا يناسب الباب، ولو زاد الترمذي في ترجمة الباب لفظ: واليسار، بعد قوله في اليمين لطابقه هذا الأثر أيضًا" [تحفة الأحوذي: 5/345].
يعني أن الصحيح التختُّم في اليمين واليسار كلاهما لا بأس به، وقد يكون الترمذي -رحمه الله- أراد أن يجمع ما صح عنده في هذا الباب، أو أن يبين أن الأمر واسع، أو أن التختُّم في اليسار له أصل صحيح أيضًا، وأن كلاهما سنة.
وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث ثابت عن أنس قال: "كان خاتم النبي ﷺ في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى" [رواه مسلم: 2095]. وأخرجه النسائي أيضًا بنحوه.
وأخرج أيضًا عن أنس: "كأني أنظر إلى بياض خاتم النبي ﷺ في إصبعه اليسرى"
[رواه النسائي: 5284، وصححه الألباني في صحيح النسائي: 5284].
قال المنذري: "رجال إسناده محتجٌ بهم في الصحيح"، وصححه الألباني أيضًا.
قال ابن القيم: "واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يسراه، وكلها صحيحة السند" [زاد المعاد: 1/134].
وأما الحافظ ابن حجر فلما ذكر الأخبار في الباب قال: "والذي يظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد؛ فإن كان اللبس للتزيُّن فاليمين أفضل، وإن كان للختم فاليسار أولى"، إذا كان يريد أن يختم به فيجعله في اليسرى ليخلعه باليمنى ويختم به باليمنى، وإذا كان يريد التزين فجعل الزينة في اليمنى أولى، هذا الذي مال إليه ابن حجر -رحمه الله-، قال: "لأنه كالمودع فيها ويحصل أو يسهل تناوله منها باليمين، وكذلك وضعه فيها، قال: "ويترجح التختُّم في اليمين مطلقًا؛ لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيُصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة"، ثم قال: "ونقل النووي الإجماع على الجواز، وإنما الاختلاف في الأفضل" [فتح الباري لابن حجر: 10/327].
فإذن، هذا النقاش كله الأفضل في اليمين أو في الشمال، أما الجواز بالاثنين جائز، ولذلك كان شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عندما يُسأل عن الساعة الأفضل وضعها باليمين أو بالشمال؟ قال: كان النبي ﷺ يتختّم في هذه وفي هذه، فإذن، لو جُعلت باليمين ولو جُعلت بالشمال، الخاتم لو جُعل باليمين ولو جُعل بالشمال كل ذلك صحيح لا بأس به.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "اتخذ رسول الله ﷺ خاتمًا من ذهب فكان يلبسه في يمينه، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فطرحه النبي ﷺ وقال: "لا ألبسه أبدًا، فطرح الناس خواتيمهم" حديث صحيح. [رواه الترمذي: 105، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 84].
أمر بصياغته فصيغ له فلبسه، وكان ذلك في ابتداء الأمر قبل أن ينزل عليه تحريم الذهب على الرجال، والناس مع نبيهم ﷺ يتأسون به، فلما رأوه تختم بالذهب تختموا مثله بالذهب، ولما طرحه ﷺ ورمى به، طرحوه، ولعله كره المشاركة أو زهوهم بلبسه وصادف ذلك وقت تحريم لبس الذهب على الرجال.
وقد جاء عن ابن عمر عند البخاري: "كان رسول الله ﷺ يلبس خاتمًا من ذهب فنبذه، فقال: لا ألبسه أبدًا"، الحديث يبين أن لبس الذهب للرجال كان في أول الأمر مباحًا، ثم بعد ذلك حُرّم لبسه وأُبيح للنساء، ونسخت تلك الإباحة، ونبذ الناس الخواتيم الذهب أيضًا، وامتناعه ﷺ عن الذهب مؤبد، وقال ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريرًا ولا ذهبًا . رواه أحمد وحسَّنه الألباني. [رواه أحمد: 22248، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2058].
وروى النهي عن خاتم الذهب بخصوصه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ: "أنه نهى عن خاتم الذهب" [رواه البخاري: 5864، ومسلم: 2089].
وفي الحديث: سرعة امتثال الصحابة والاقتداء به ﷺ، وترجم البخاري في صحيحه: "باب الاقتداء بأفعال النبي ﷺ"، وروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله ﷺ: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا، والله لا آخذه أبدًا، وقد طرحه رسول الله ﷺ. [رواه مسلم: 2090].
وبذلك يكون كتاب الخواتم، باب الخواتم قد انتهى، وسنكمل -إن شاء الله- غدًا ما يتعلق بالنعال، والأحاديث التي بقيت في الباب، ثم نشرع في صفة سيف رسول الله ﷺ، هذا والله تعالى أعلم.