الحمد لله، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المقدمة
الحلقة الثانية في أحوال النبي ﷺ في تعجبه، وحاله ﷺ في المواقف التي استدعت التعجب منه، وكان يعرف تعجبه ﷺ بتسبيحه، ومعلوم أن من السنة إذا تعجب الإنسان من شيء أن يقول: سبحان الله، كما أنه إذا أعجبه شيء أن يقول: الله أكبر، وقد يكون تعجبه ﷺ بسؤال يسأله على وجه التعجب، أو بشيء يظهر على وجهه من علاماته.
تعجبه ﷺ من لعب عائشة
كان ﷺ يتعجب من بعض المباحات إيناسًا لأهله، فتعجب مرة من لعبة غريبة في لعب عائشة -رضي الله عنها- كما روت هي رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أو خيبر.
رجح الحافظ ابن حجر رحمه الله أنها خيبر [فتح الباري:10/ 527].
وكان عمر عائشة في ذلك الوقت أربع عشرة سنة، قالت: "وفي سهوتها ستر"، والسهوة هي البيت الصغير الذي يشبه الخزانة، وقيل: يشبه الرف أو الطاق يوضع فيه الشيء، "فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة، لعب فقال النبي ﷺ لما رأى هذا: ما هذا يا عائشة؟.
قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟، قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟، قالت: جناحان، فقال النبي ﷺ: فرس له جناحان، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة. قالت: فضحك رسول الله ﷺ حتى رأيت نواجذه، وهذا الحديث: [رواه أبو داود: 4934]، وهو حديث صحيح. [صححه الألباني صحيح آداب الزفاف:170].
وفيه تعجب النبي ﷺ من لعبة عائشة، ومن صنعها لفرس له جناحان، وقد استدل بهذا الحديث أهل العلم على جواز اتخاذ صور البنات، يعني: لألعاب البنات من أجل لعب البنات بهن، وهو ما يعرف بالعرائس، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور لأن الأدلة معلومة في تحريم صنع ذوات الأرواح، فهل هناك استثناء؟
الجواب: نعم لعب البنات للبنات، لكن كانت لعب البنات ليست مثل باربي وساندي، ليست أشياء متقنة الصنع من هذه البلاستيك، ومن هذه القطع المحفورة المنقوشة التي تكاد تجسها كمثل جلد الآدمي، وأنها تتحرك، وتضحك، وتبكي، وتتكلم، ونحو ذلك، وإنما كانت من جنس القطن والصوف من العهن، وبهذا قال جمهور أهل العلم في جواز بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، هذا كلام ابن حجر. [فتح الباري: 10/527].
وقال الحليمي من فقهاء الشافعية: "للصبايا في ذلك فائدتين: إحداهما عاجلة، والأخرى آجلة، فأما العاجلة فالاستئناس الذي فيه يكون الصبي أنعم حالاً، وأطيب نفسًا، وأشرح صدرًا؛ ليكون أقوى وأحسن نموًا، وذلك لأن سرور الولد الصغير يبسط قلبه، وينتشر ذلك في بدنه فيؤثر في قوة أعضائه وجوارحه، وتكون نفسه طيبة، فيكون نموه حسنًا.
وأما الفائدة الآجلة فإنهن يعني البنات يتعلمن من هذه الألعاب، وبهذه الألعاب معالجة الأطفال، وحبهم، والشفقة عليهم، فإذا كبرن وعاين لأنفسهن ما كن تسرين به من الأولاد، كن لهم بالحق كما كن لتلك الأشباه بالباطن، يعني لما تربت وتنشأت نشأة على رعاية لعبة ستكون في كبرها محبة ومعتنية ومهتمة وراعية للولد الحقيقي. [المنهاج في شعب الإيمان:3/ 97].
تعجبه ﷺ من حب الأنصار التمر
تعجب النبي ﷺ، كذلك مرة من المرات من حال طفل وليد من الأنصار ورث عادات آبائه، وهو لم يقض بعد يومًا من عمره، لا زال في يومه الأول.
فعن أنس قال: "مات ابن لأبي طلحة من أم سليم...، فولدت غلامًا، فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله ﷺ".
هذا فيه كمال محبة النبي ﷺ وتقديم ريق النبي ﷺ على حليب الأمهات ولبن الأم والمرضعة مع أن الولد الآن يبكي من الجوع، ولكن تريد أن أول ما يدخل فم هذا الولد ريق النبي ﷺ، "فلما أصبح احتملته، فانطلقت به إلى رسول الله ﷺ فصادفته ومعه ميسم"، وهي الحديدة التي يسم بها إبل الصدقة، وهذا من تواضعه ﷺ أنه كان يتولى بنفسه ما يوكل عادة للعمال، فهو كان بنفسه يأخذ الميسم الذي تعلم به الإبل ويجعل فيها هذه العلامة في جنبها مثلاً حتى تميز، فإذا دخلت في إبل الناس يعرفون أن هذه إبل بيت المال، فوضع الميسم لما رأى أنس ومعه الولد، قال أنس: "فلما رآني قال: لعل أم سليم ولدت؟
قلت: نعم، فوضع الميسم، قال: وجئت به" -يعني: بأخيه الصغير- "فوضعته في حجره ودعا رسول الله ﷺ بعجوة من عجوة المدينة، فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في في الصبي، فجعل الصبي يتلمظها"، يحرك لسانه في فمه تتبعًا للحلاوة، "فقال رسول الله ﷺ: انظروا إلى حب الأنصار التمر ، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله". [رواه مسلم: 2144].
وفي هذا الحديث تسمية المولود حين يولد، فهذه سنة، والسنة الأخرى تسميته يوم السابع، فهناك سنتان في تسمية الأولاد: في اليوم الأول، أو في اليوم السابع، وكذلك فيه كرم الأخلاق، وحسن معاشرة الأطفال والمواليد، والرحمة بهم، وأخذ الولد ووضعه على حجره.
وكذلك فيه تحنيك الصبي، وأنه سنة، ولاسيما بالتمر، ويمكن أن ينظف يديه، ويلين التمر بيده، ويجعلها في في الصبي، ويمررها على حنك الولد من الأعلى والأسفل، وذلك اتباعًا لفعل النبي ﷺ.
وهذا فيه فوائد للولد سواء عرفناها، أو قال بعض الأطباء: أن سكر الجلوكوز الذي يحتاجه الولد أول ما يولد، وأنه يكون عنده مستوى السكر فيه انخفاض، فإن هذا يفيده، ونحو ذلك أو كانت حكمة ما عرفناها، فإننا نعمل بسنة النبي ﷺ في جميع الحالات.
تعجبه ﷺ من فعل الشيطان بالمستحاضة
تعجب النبي ﷺ مرة أيضا من فعل الشيطان بالمستحاضة، المستحاضة التي يتدفق منها الدم مستمرًا، ليست عادة تنقطع، لا هذا دم مستمر له علاقة بالشيطان، فما هي علاقة الشيطان بالاستحاضة؟ وهل للشيطان تمكن من جعل الدم في نزيف مستمر عند المرأة؟
عن أسماء بنت عميس قالت: قلت: يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت من كذا وكذا فلم تصلي؟
فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله، إن هذا من الشيطان، لتجلس في مركن وهو الإناء الكبير، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحدًا، وتغتسل للفجر غسلاً واحدًا، وتتوضأ فيما بين ذلكرواه أبو داود وهو حديث صحيح. [أبو داود: 296، وصححه الألباني صحيح أبي داود: 283].
أحكام المستحاضة وأن لها سنناً ولها فروقاً، فهنالك وضوء واجب، وهنالك غسل مستحب، وهنالك أكثر من كيفية في تطهر المستحاضة، لكن ما يهمنا الآن من الحديث في موضوعنا قوله: سبحان الله تعجبًا.
وقوله: هذا من الشيطان له معنيان:
معنى مجازي: أنه أنساها أيام حيضها حتى حصل لها لبس في وقت طهرها وصلاتها.
والثاني حقيقي: بمعنى أن الشيطان له تسلط على عرق الاستحاضة، فيسبب النزيف؛ ولذلك في شرح العيني على أبي داود قال في تفسيره: "ضربها حتى فتق منها عرق الاستحاضة" [شرح أبي داود للعيني: 2/83].
وفي هذا الحديث تعجب النبي ﷺ من فاطمة حين تركت الصلاة، وهي بنت أبي حبيش بظنها أن الاستحاضة تمنع من الصلاة كالحيض، فعملت بظنها ولم تسأل، فأرشدها ﷺ أن تأتي حوض ماء، تملأه وتجلس فيه، فإذا رأت الصفرة على وجه الماء فهذا علامة على أن تلك الصفرة من دم الاستحاضة، وليست من دم الحيض لأن دم الحيض لا صفرة فيه، فهو أسود أو يميل إلى السواد، فإذا رأت الصفرة علمت أنها مستحاضة، وهذا في حال من اتصل الدم عندها، الدم متصل ومستمر.
تعجبه ﷺ من أن تطلب المرأة من زوجها أن يتزوج عليها
وتعجب النبي ﷺ مرة أن تطلب زوجة من زوجها أن يتزوج عليها، وكان ذلك في قصة زوجته أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان.
قال: وتحبين ذلك، كيف تطلب الزوجة من زوجها أن يتزوج عليها؟
قلت: نعم، ليست لك بمخلية" يعني: أنا قد علمت أنني لن أمكث معك وحدي، ولا بد أن يشاركني فيك نساء أخريات، قالت: "وأحب من شاركني في الخير أختي".
قال النبي ﷺ: إن ذلك لا يحل لي [رواه البخاري: 5372].
قال الحافظ: قوله: أو تحبين ذلك هو استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج زوجها غيرها مع ما طبعت عليه النساء من الغيرة". [فتح الباري: 9/143].
وقولها: "لست لك بمخلية" يعني أنا علمت أني لن أنفرد بك، ولن أخلو من ضرة، فإذا كان ولا بدّ من ضرة فلتكن أختي، لكن ما كان عندها علم بأنه لا يجوز الجمع بين الأختين، فأخبرها النبي ﷺ بتحريم ذلك.
تعجبه ﷺ من بغض بريرة لزوجها
وتعجب النبي ﷺ مرة من بغض امرأة لزوجها، وشدة تعلقه بها، هو يحبها جداً، وهي تبغضها جداً، فعن ابن عباس : "أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له: مغيث، قال: كأني أنظر إليه يطوف خلفها، يبكي ودموعه تسيل على لحيته"، وفي رواية للبخاري: "يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها" كانت بريرة أمة متزوجة من عبد يقال: له مغيث، فعتقت بريرة، ومن أحكام الأمة إذا عتقت وهي متزوجة من عبد أنها بالخيار؛ إذا أرادت أن تستمر معه، أو أرادت أن تنفصل عنه، بريرة اختارت الانفصال، وزوجها كان يحبها جداً، فانفصلت عنه، وهو يمشي وراءها في طرق المدينة يبكي ودموعه تسيل على لحيته يرجوها أن تعود إليها، وهي لا تريد، فقال النبي ﷺ لعمه العباس: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا، فقال النبي ﷺ لبريرة: لو راجعته، وفي رواية: لو راجعتيه فإنه أبو ولدك.
قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ هل هذا أمر؟
قال: إنما أنا أشفع يعني: أقول على سبيل الشفاعة لا على سبيل الإلزام.
قالت: لا حاجة لي فيه [رواه البخاري: 5283].
وفي رواية: لو أعطاني كذا وكذا ما كنت عنده".
النفوس تختلف فهناك من يقبل، وهناك من يدبر، فتعجب النبي ﷺ من حب مغيثًا لبريرة، وعاطفته، وأشفق عليه مما حل به، وأراد أن يرقق قلب بريرة عليه، ولكن لم يأمر فخاطبها شافعًا متلطفًا: لو راجعتيه، وبريرة مؤمنة قالت: يا رسول الله تأمرني، يعني: لو أمرتني سأرجع رغمًا عني، لأنها تعلم أن الله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]، فلما علمت أنها مخيرة اختارت أن تكون حرة، وهي بعدما صارت حرة اختارت نفسها، وألا تكون تحت مغيث.
تعجبه ﷺ من غلبة المرأة للرجل
وتعجب النبي ﷺ أيضاً من عنصر ضعيف يغلب عنصرًا قويًا، فقال ﷺ للنساء: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. [رواه البخاري: 1462، ومسلم: 79].
وليس نقصان ذلك ذمًا لها، ليس معناه أنها مجنونة، كلا، وإنما بالنسبة للرجل هي أقل منه في العقل، لأن عندها عاطفة قوية، والعاطفة القوية عند المرأة ضرورية للحضانة والأمومة، فهذه العاطفة تزاحم العقل، الرجل عاطفته أقل من عاطفته المرأة، وعقله أقوى من عقل المرأة.
وكذلك نقص الدين ليس معناه أن المرأة فاسقة أو كافرة، معناه أن الله ابتلاها بالحيض مثلاً فلا تصلي في وقت يصلي فيه الرجل، وكذلك في الجهاد ليست مفروضًا عليها لضعف بنيتها، وكذلك في أحكام صلاة الجماعة، والجمعة ليست واجبة على المرأة، فإذًا النقص هنا ليس عيبًا وذمًا لها، ليس معنى النقص هنا ذم للمرأة ولكن بالنسبة للرجل لا شك أنها أنقص منه، وأنه أكمل وأقوى، وهذا في الغالب، وإلا فقد يوجد امرأة أعقل من زوجها، كما أنه قد يوجد امرأة أقوى من زوجها، يمكن يكون هو بينته ضعيفة، وهي فيها قوة لكن ما هو الغالب قوة عقل الرجل وبدنه، وأن المرأة أضعف منه، مع هذا الضعف قال: أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يعني مع هذا النقصان ولكن عندكن يا معشر النساء من الحيلة ومن القدرة العجيبة أن إحداكن يمكن أن تغلب الرجل الحازم، وهذا التعجب من كثرة غلبتهن كما قال القاضي عياض [إكمال المعلم: 1/234].
وقال ابن بطال: "فإذا كن يغلبن الحازم فما الظن بغيره"، فما الظن بمن ليس بحازم. [شرح ابن بطال: 1/456].
وما أحسن قول جرير رحمه الله:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به | وهن أضعف خلق الله أركانًا |
[ديوان جرير: 1/660].
تعجبه ﷺ من مغالاة المهور
وقد يكون تعجبه ﷺ من أنواع من التقصير والتفريط والأخطاء التي تحصل من بعض الناس، ومن ذلك تعجبه من المغالاة في المهور.
فعن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار.
فقال له النبي ﷺ: هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئًا يعني: من الصغر.
وقيل: من زرقة، أو نحو ذلك، فأراد أن ينظر إليها مسبقًا حتى لا يفاجأ بشيء ليس في حسبانه، فينفر في وقت الانسحاب فيه صعب جداً، فمن الآن إذا كان يريد أو لا يريد يقرر.
قال الصحابي: قد نظرت إليها.
قال: على كم تزوجتها؟ كم المهر؟
قال: على أربع أواق.
فقال النبي ﷺ له: على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، كأن أموالكم ما شاء الله يعني واسعة، كأنكم تأتون بالفضة من الجبل، تقصون من الجبل؛ لأن هذا الرجل جاء يستعين. يقول: أعني تزوجت أعني، أعطني مهراً، كم كتبت لها؟ قال: أربع أواق، قال: أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك هذا المبلغ غير متوفر، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، قال فبعث بعثًا إلى بني عبس، وبعث ذلك الرجل فيهم. [رواه مسلم: 1424].
يعني: من السرايا والغزوات لعله يصيب من المغانم شيئًا يكون له فيه تفريج، وقضاء للدين الذي عليه من النكاح، وهو المهر، فالمهر شرع لإتمام الزواج، وليس لتعطيله، إن كثيرًا من المهور هي تعطيل للزواج، شرع المهر في الإسلام لإتمام الزواج لا لتعطيله، ولذلك ترى الرجل يشتغل يقول أنا صار لي أشتغل سنة ونصف سنتين ما كملت المهر، ما كملت الطلبات، فالعجب من ناس جعلوا المهر تعطيلاً للزواج بدلاً من أن يجعلوه معينًا على الزواج، وكم تعطلت الأنكحة من التعنت في المهور والمغالاة فيها.
وتعجب النبي ﷺ من حال الذين يغالون في المهور كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل وخاصة عندما يكون الإنسان فقيرًا، قليل ذات اليد.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "هذا الإنكار منه ﷺ على هذا الرجل المتزوج على أربع أواق ليس إنكارًا لأجل المغالاة والإكثار في المهر، وإنما أنكر بالنسبة إلى حال الرجل، فإنه كان فقيرًا في تلك الحال، فأدخل نفسه في مشقة، وتعرض للسؤال، -صار يمد يده-؛ ولهذا قال: ما عندنا ما نعطيك، والنبي ﷺ لكرم أخلاقه ورأفته ورحمته جبره منكسر القلب، ولكن عسى أن نبعثك في بعث فتصيب منه فأصاب حاجته ببركة النبي ﷺ". [المفهم: 12/150].
تعجبه ﷺ من الحرص على المال
ومن تعجب النبي ﷺ ما حصل مرة من تعجبه ممن يحرص على المال حرصًا زائدًا، فعن أنس بن مالك قال: أتي النبي ﷺ بمال من البحرين، وأرسلوا له العلاء بن الحضرمي من جزية أهل البحرين، وهم أهل هجر، وكانوا مجوسًا فأخذت منهم الجزية كأهل الكتاب، والذي قدم به أبو عبيدة بن الجراح، فقال ﷺ: أنثروه في المسجد، وكان أكثر مال أتي به رسول الله ﷺ فخرج رسول الله ﷺ إلى الصلاة فلم يلتفت إليه" ما التفت هذا إلى المال أبدًا، وهذا فيه بيان احتقاره للدنيا مهما كثرت، مر بمال عظيم، ولم يلتفت إليه، "فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه"، وزع، وقسم، أعطى كل الناس، "إذ جاءه العباس عمه فقال: يا رسول الله أعطني؛ فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً" لأن العباس خرج في معركة بدر مع المشركين، قيل: كان يخفي إسلامه، وأخرجوه بالإحراج، المهم أنه أخذ أسيرًا، عومل بالظاهر، وفرضت عليه الفدية أخذ مع الأسارى، وعليه الفدية، فدفع، وغرم فدية عنه وعن عقيل، فلما جاء مسلمًا إلى النبي ﷺ بعد ذلك بعد سنين، وبعد مدة لما جاءه مال البحرين، وهي منطقة هجر، "قال: يا رسول الله أعطني؛ فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً.
فقال له رسول الله ﷺ: خذ.
فحثا في ثوبه وحثا، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله آمر بعضهم يرفعه إليّ.
قال: لا.
قال: فارفعه أنت عليّ.
قال: لا.
فنثر منه" -خفف- "ثم ذهب يقله فلم يستطع أن يحمله، فقال: يا رسول الله أأمر بعضهم يرفعه عليّ.
قال: لا.
قال: فارفعه أنت عليّ.
قال: لا.
فنثر منه، ثم احتمله فألقاه على كاهله" -ما بين الكتفين- "ثم انطلق، فما زال رسول الله ﷺ يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبًا من حرصه، فما قام رسول الله ﷺ وثم منها درهم" [رواه البخاري: 421].
ما بقي منه درهم واحد له هو ﷺ، وزعها كلها.
قال ابن رجب: "وفيه التعجب من حرص الحريص على المال، والمستكثر منه، ويصدق هذا قوله: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وهذا الحديث في الصحيح. [رواه البخاري: 6436، ومسلم: 1048].
وكان العباس عظيمًا جسيمًا شديد القوة، فحمل مالاً كثيرًا". [فتح الباري لابن رجب: 2/367]، مع أنه كان غنيًا، لكن غرم بسبب المفاداة، والنبي ﷺ لم يرض أن يعين العباس على حمل المال ليزجره عن الاستكثار منه، وألا يأخذ منه أكثر من حاجته، فلم يرفع معه لئلا يعينه على شيء لا يرضى به.
تعجبه ﷺ من هيبة عمر
تعجب ﷺ من هيبة النساء ممن يغلظ عليهن، وعدم هيبتهن ممن يحنو عليهن، فعن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله ﷺ وعنده نسوة من قريش يسألنه، ويستكثرنه" يعني حوائج وأسئلة، وكلام، "عالية أصواتهن على صوته" من المحتمل أن يكون ذلك قبل نزول آية: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2].
أو أن علو أصواتهن كان باجتماعها، لا كل واحدة بانفرادها، العلو على صوت بمجموع الأصوات، "فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب" هاربات من المجلس، واختفين وراء الستر واختبأن، "فأذن النبي ﷺ لعمر، فدخل والنبي ﷺ يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي.
قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب.
فقال: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم أقبل عمر عليهن" -وهن وراء الحجاب- "فقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولم تهبن رسول الله ﷺ؟
فقلن: إنك أفض وأغلظ".
قال العلماء: ليست أفعل هنا للمفاضلة، بل لمعنى الفض الغليظ، وليس معنى أن النبي ﷺ فيه فضاضة، وأنت أفض منه، وفيه غلظة وأنت أغلظ منه، ولكن المقصود شدة عمر، وكان عمر يبادر في الزجر عن المكروهات، وطلب المندوبات والمستحبات، من حرصه.
فقال رسول الله ﷺ: إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك [رواه البخاري: 6085].
هذا الحديث ظاهره أن الشيطان إذا رأى عمر سالكًا طريقًا هرب هيبة من عمر، وفارق ذلك الطريق خوفًا من عمر، ومقصود النبي ﷺ أن الشيطان يهابك يا عمر، فكيف لا يهبنك هؤلاء النسوة.
تعجبه ﷺ من سوء المكافئة
وتعجب النبي ﷺ مرة من امرأة نذرت أن تذبح ناقة نجت عليها، وكان سبب نجاتها بعد الله تعالى فأرادت أن تكافئها بالذبح، هذا شيء عجيب، فعن عمران بن حصين قال: أسرت امرأة من الأنصار".
وهي زوجة أبي ذر "وأصيبت العضباء" ناقة النبي ﷺ "فكانت المرأة في الوثاق" يعني: مشدودة في الأسر هذه المسلمة، وناقة النبي ﷺ العضباء أيضاً أخذها الأعداء، "وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم" يعني: هؤلاء المشركين الأعداء بعد الموقعة، وقد أخذت امرأة أبي ذر أسرت، والعضباء أيضاً صارت مع المشركين استطاعت المرأة رضي الله عنها أن تتفلت من الأسر، يعني: أن تهرب "فانفلت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغى فتتركه" يعني: خشية أن صوت البعير وهو الرغاء يفضح مكانها، "حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغُ" يعني العضباء لما دنت منها المرأة المسلمة ما أصدرت صوتًا، "وهي ناقة منوقة" يعني مذللة "فقعدت في عجزها"، كما يقعد الراكب على البعير في آخر البعير في عجزها، "ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها"، يعني: المشركون أحسوا بهربها، "فطلبوها فأعجزتهم" المرأة المسلمة، هذه الصحابية رضي الله عنها من شدة فرحها "نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لله، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله ﷺ فقالت لهم: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله ﷺ فذكروا ذلك له" قصة عجيبة، وفيه بشارة نجاة امرأة مسلمة من أسر المشركين، ورجوع العضباء ناقة النبي ﷺ رجعت إلى صاحبها ﷺ.
ثم هذه مسألة فقهية المرأة نذرت أن تنحر الناقة، ما هو الحكم؟
فقال ﷺ: سبحان الله، بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء في معصية لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد [رواه مسلم: 1641].
وحيث أن الناقة ليست ملكًا للمرأة تعجب النبي ﷺ من فعلها؛ لأن هذا ليس جزاء الإحسان، هل جزاء الناقة لأنها نجت عليها تنحر؟ قال: لا وفاء لنذر في معصية ونذر المعصية لا يحل الوفاء به.
وهل يجب فيه كفارة يمين أم لا؟
الجمهور يقولون: لا.
وقال أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية: نعم، فيها كفارة يمين.
واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلفوا في وجوب الكفارة.
قوله: ولا فيما لا يملك العبد لو قال: إذا شفى الله مريضي فإن عبد فلان حر لوجه الله، فهذا أيضًا لا يجوز أن يفي به لأنه لا يملكه أصلاً.
تعجبه ﷺ من خفاء بعض الأمور الظاهرة على بعض أصحابه
وتعجب النبي ﷺ من خفاء بعض الأمور الظاهرة على بعض أصحابه، وأن بعضهم يطالب بشيء واضح يسأل عنه، كما أن المرأة التي جاءت تسأل النبي ﷺ عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، وقال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها قطعة من صوف أو قطن فيها مسك امسحي موضع خروج الدم حتى تدفع الرائحة الكريهة.
قالت: كيف أتطهر؟
قال: تطهري بها.
قالت: كيف؟
قال: سبحان الله تطهري! واستتر، وأشار لنا سفيان بيده على وجهه.
قالت عائشة: فاجتبذتها، وعرفت ما أراد النبي ﷺ فقلت: تتبعي بها أثر الدم" رواه البخاري [314] ومسلم [332].
الحديث كما قال النووي: فيه التسبيح عند التعجب" [شرح النووي على مسلم: 4/14] معناه كيف يخفى هذا الشيء الظاهر الذي لا يحتاج إلى شرح؟
وفيه أيضًا أن الرجل إذا مر بشيء يستحيا من ذكره يعرض، وأن الاحتشام الحشمة مطلوبة، وأن الأمور المستهجنة يكتفى فيها بالتعريض وليس بالتصريح.
تعجبه ﷺ من اعتقاد أن الجنابة تنجس
كذلك تعجب النبي ﷺ من اعتقاد أبي هريرة أن الجنابة تنجس الإنسان، وهذا ليس بصحيح، فعن أبي هريرة قال لقيني رسول الله ﷺ في بعض طريق المدينة، وأنا جنب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت" -ذهبت خفية- "فأتيت الرحل" يعني: المكان الذي آوي إليه، "فاغتسلت ثم جئت وهو قاعد.
فقال: أين كنت يا أبا هر؟
فقلت له: كنت جبنًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة.
فقال: سبحان الله! يا أبا هر إن المسلم لا ينجس [رواه البخاري: 283، ومسلم: 372].
فتعجب ﷺ من ظن أبي هريرة أن الجنابة تنجس صاحبها، وأنه لا يلمس غيره، لكن فيه من أبي هريرة احترام أهل الفضل، وتوقيرهم، ومصاحبتهم على أكمل الهيئات، ولذلك ذهب واغتسل وجاء.
وروى في طريقة في رواية للنسائي وابن حبان أن أبا هريرة خشي إن مسه النبي ﷺ كعادته أن ينجسه، فبادر إلى الاغتسال، فقال ﷺ: إن المسلم لا ينجس[النسائي: 265] يعني: سواء في الحدث الأصغر أو بالحدث الأكبر.
تعجبه ﷺ من دعاء الإنسان على نفسه
وتعجب النبي ﷺ من جرأة بعض هذه الأمة، فهذه القصة قبل الأخيرة في درسنا:
عن أنس أن رسول الله ﷺ عاد رجلاً من المسلمين قد خفت" -يعني: ضعف- "فصار مثل الفرخ" ولد الطير إذا خرج من البيضة كيف يكون هزيلاَ ضعيفًا؟ فهذا المريض مثل الفرخ في نحافته وهزاله، مثل الفرخ فالنبي ﷺ لما نظر إليه تعجب، يعني هذا فيه شيء غير عادي، فقال له ﷺ: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ هل كنت تدعو الله بشيء؟
قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا"، فالرجل ابتلي ابتلاء عظيمًا في صحته حتى صار مثل الفرخ.
فقال رسول الله ﷺ لما سمع كلام الرجل: سبحان الله، لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفاه". [رواه مسلم: 2688].
فتعجب النبي ﷺ كيف الواحد يطلب هذا الطلب، ويدعو هذا الدعاء، الله كريم فليس عند الله لزامًا إما أن يعذب العبد في الآخرة أو يعذبه في الدنيا، لا قد يعافيه فيهما، فلماذا لا نسأل الله العافية في الدنيا وفي الآخرة؟ لماذا لا نقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟
وهذا فيه كراهة تمني البلاء، والحسنة: العبادة، والعافية في الدنيا والجنة والمعفرة في الآخرة.
تعجبه ﷺ من سرعة تغيير أصحابه لرأيهم
وأخيرًا تعجب النبي ﷺ مرة من سرعة تغيير أصحابه لرأيهم، كانوا يرون رأيًا فإذا بهم بعد مدة غيروا رأيهم لشيء حصل، وذلك في غزوة الطائف:
فعن عبد الله بن عمرو قال: "حاصر رسول الله ﷺ أهل الطائف، فلم ينل منهم شيء"، حصار بلا فائدة، تمنعوا، "فقال: إنا قافلون إن شاء الله سنرجع إلى المدينة، نترك القوم ونرجع.
"قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه؟" لماذا نرجع؟
"فقال رسول الله ﷺ لهم: اغدوا على القتال نبقى وفي الصباح نعود للقتال، وفيه تركه لرأيه من أجل رأي الجماعة، "فغدوا عليه"، يعني: على القتال، "فأصابهم جراح من سهام العدو.
فقال لهم رسول الله ﷺ: إنا قافلون غدًا، فأعجبهم ذلك، فضحك رسول الله ﷺ". [رواه البخاري: 4325، ومسلم: 1778].
فهو أولاً شفقة عليهم أن يعود بهم، ولكنهم أصروا على القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع مرة أخرى يعرض عليهم، فعلموا أن رأي النبي ﷺ أبرك وأنفع، وأحمد عاقبة، وأصوب من رأيهم، فوافقوا على الرحيل، وفرحوا، فضحك النبي ﷺ تعجبًا من سرعة تغير رأيهم.
وهذا فيه تعجب من اختلاف قولهم بين أمس واليوم للحالين المختلفين.
نسأل الله أن يرزقنا محبة نبينا، واتباع سنته، وأن نكون من أهل شفاعته، وأن يجعلنا من وراد حوضه، وأن يرزقنا مجاورته في جنات النعيم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.