الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد قال المصنّف -رحمه الله تعالى-: "باب ما جاء في شيب رسول الله ﷺ"
عن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله ﷺ؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيبًا في صدغيه، ولكن أبو بكر خضب بالحناء والكتم". حديث صحيح متفق عليه. [رواه الترمذي في الشمائل: 36، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 30].
والخضب: هو تلوين الشعر بالحمرة، والصُّدغ: هو ما بين العين والأذن، هذه المنطقة التي بين العين والأذن هذه الصدغ تسمى صدغًا، فيقول في الحديث: "هل خضب رسول الله ﷺ؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيبًا في صدغيه، ولكن أبو بكر خضب بالحناء والكتم".
والخضاب: تلوين الشعر بالحمرة، والصُّدغُ: ما بين العين والأذن، ويسمى الشعر النابت على الصدغ صدغًا أيضًا وهو المراد هنا، والكتم والحناء: ورق يصبغ به، والحناء يجعل الشعر أحمر، والكتم يجعله أسود مائل إلى الحمرة، فليس أسود خالصًا وإنما هو أسود مائل إلى الحمرة.
وما جاء في الحديث من أن شيب النبي ﷺ كان في صدغيه، يعني هذه الشعرات التي في منطقة الصدغ، وصف بعضهم الشيب هنا في هذه الشعرات، شعرات شيب النبي ﷺ في هذه الشعرات على ما وصفه بعضهم، لكن هذا مخالف لما ورد في البخاري عن حريز بن عثمان أنه سأل عبد الله بن بُسر صاحب النبي ﷺ، قال: أرأيت النبي ﷺ كان شيخًا؟ قال: "كان في عنفقته شعرات بيض" [رواه البخاري: 3546]، كان في عنفقته هذه الشعرات أسفل الشفة السفلى، فإذن الذين قالوا كان الشيب في شعر الصدغ معارض قولهم بحديث البخاري عن عبد الله بن بُسْر ، أن النبي ﷺ كان في عنفقته شعرات بيض، والجمع بينهما كما ذكر ابن حجر -رحمه الله-؛ ونعيد الحديث مرة أخرى، قال المصنِّف -رحمه الله-: باب ما جاء في شيب رسول الله ﷺ: عن قتادة قلتُ لأنس بن مالك: "هل خضب رسول الله ﷺ؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيبًا في صدغيه"، وقلنا: الصدغ هو المنطقة التي بين العين والأذن، "ولكن أبو بكر خضب بالحناء والكتم"، وهذا الحديث صحيح متفق عليه أيضًا.
وقلنا: الخضاب تلوين الشعر بالحمرة، والكتم والحناء: كلاهما نبات ورق نباتي يُصبغ به، والحناء تجعل الشعر أحمر، والكتم يجعل الشعر أسود مائل إلى الحمرة، فليس أسود خالصًا ولكنه مائل إلى الحمرة.
والحديث الذي فيه أن شيب النبيﷺ كان في الصّدغين مخالف بحديث البخاري عن حريز بن عثمان أنه سأل عبد الله بن بُسْر صاحب النبي ﷺ، قال: أرأيت النبي ﷺ كان شيخًا؟ قال: "كان في عنفقته شعرات بيض"، والعنفقة: هذا الشعر تابع للحية، الشعر النابت أسفل تحت الشفة السفلى، فإذن، ذاك حديث يقول: إن الشيب كان في الصّدغين، وهذا حديث يقول: إنه كان هناك شعرات بيض في العنفقة، فما وجه الجمع بينهما؟ قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ووجه الجمع ما وقع عند مسلم من طريق سعيد عن قتادة عن أنس قال: "لم يخضب رسول الله ﷺ، وإنما كان البياض في عنفقته وفي الصُّدغين، وفي الرأس نُبَذ" [فتح الباري لابن حجر: 6/572]. أشياء يسيرة.
إذن، حديث أنس يجمع الروايات؛ وأنه كان هناك شعرات بيض في العنفقة، وكان هناك شعرات بيض في شعر الصدغين، وكانت هناك نُبذ يسيرة في الرأس؛ يعني متفرقة، نبذ متفرقة يسيرة، وعُرف من مجموع ذلك أن الذي شاب من عنفقته أكثر مما شاب من غيرها، فإذن، أكثر منطقة ظهر فيها الشيب في النبيﷺ، الشعرات البيض، في العنفقة، يوجد في الصدغين ويوجد في الرأس نبذ متفرقة، ومراد أنس ، أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب، ما معنى نفي أنس للخضاب؟ يعني: أنه لم يكن فيه ذلك الشيب الكثير الذي يحتاج إلى الخضاب، ولذلك نفى أنس أنه خضب، وقد صرّح بذلك في رواية محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك أكان رسول الله ﷺ خضب؟ قال: "لم يبلغ الخضاب"، ما يحتاج الشيب ما وصل لدرجة أنه يحتاج أن يغيره بلون آخر.
ولمسلم من طريق حماد عن ثابت عن أنس قال: "لو شئتُ أن أعد شمطاتٍ كنّ في رأسه لفعلت" [رواه مسلم: 2341].
يعني أنها قليلة لدرجة أنني لو أردت أن أحصي عددها لاستطعت.
وجاء عند مسلم من حديث جابر بن سمرة: "فقد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادّهن لم يتبين فإذا لم يدهِّن تبين" [رواه مسلم: 2344]. فإذن، إذا دهن شعره ما تبين الشيب، وإذا لم يدهن شعره تبين الشيب.
وأما ما رواه الحاكم وأصحاب السنن من حديث أبي رمثة قال: "أتيت النبي ﷺ وعليه بُردان أخضران، وله شعر وقد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحناء" [رواه الحاكم: 4203، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه]. هذا فيه أنه كان يخضب، وأنه كان يخضب بالحناء، فهذا موافق لقول ابن عمر : "رأيت رسول الله ﷺ يخضب بالصُّفرة"، إذن، أنس نفى الخضاب، وقال ما يحتاج أن يخضب الشيب قليل، وبالنسبة لحديث أبي رمثة وحديث ابن عمر أنه ﷺ خضب، فكيف نجمع بين هذه وبين حديث أنس؟
قال العلماء: يُحمل نفي أنس على غلبة الشيب حتى يحتاج إلى خضابه، ولم يتفق أنه رآه وقد خضب، ويُحمل حديث من أثبت الخضب على أنه فعله لإرادة بيان الجواز، ولم يواظب عليه.
فإذن، أنس ما رآه خضب فنقل ما رآه، ما علمه، وأن الشيب يسير لا يحتاج إلى خضاب، وكيف نحمل رواية الذين قالوا إنه خضب؟ على أنه فعل ذلك أحيانًا لبيان جواز صبغ الشيب -بغير اللون الأسود-، لبيان جواز الخضاب وتغيير الشيب؛ ولكنه لم يواظب عليه.
وأما جاء عن أنس وما رواه الحاكم عن عائشة -رضي الله عنها-: "ما شانه الله ببيضاء" [رواه مسلم: 2341]، فمحمول على أن تلك الشعرات البيض لم يتغير بها شيء من حُسْنه ﷺ، فليس معنى قوله: "ما شانه الله ببيضاء"، يعني ما نبت له ولا شعرة بيضاء، لكن معناه أن البياض الذي حصل له ما كان مُنْقصًا من حسنه ﷺ، وقد أنكر أحمد إنكار أنس أنه خضب، فرأي الإمام أحمد -رحمه الله- أن النبي ﷺ خضب، واستغرب من قول أنس ، وذكر حديث ابن عمر أنه رأى النبي ﷺ يخضب بالصُّفرة، وهو في الصحيح".
وعن أنس بن مالك قال: "ما عددت في رأس رسول الله ﷺ ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء"، حديث صحيح. [رواه أحمد: 12690، وابن حبان: 6293، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 31].
وفي رواية: "وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء" [رواه البخاري: 3547، ومسلم: 2347]؛ يعني أنها أقل من عشرين. ولابن أبي خيثمة من طريق أبي بكر بن عياش قلتُ لربيعة: "جالستَ أنسًا؟ قال: نعم، وسمعته يقول: شاب رسول الله ﷺ عشرين شيبة هاهنا -يعني: العنفقة-.
وجاء عن ابن عمر عند اسحاق بن راهويه وابن حبان والبيهقي: "كان شيب رسول الله ﷺ نحوًا من عشرين شعرة بيضاء في مُقَدَّمه"[فتح الباري لابن حجر: 6/570].
ويمكن أن يُقال: إن حديث عبد الله بن بُسْر إن شيبه كان لا يزيد على عشر شعرات أنه مخصوص بالشيب العنفقة، والزائد يكون في الصّدغين، لكن هل كان هناك شيء في اللحية؟ وقع عند ابن سعد بإسناد صحيح عن حميد عن أنس قال: "ولم يبلغ ما في لحيته من الشيب عشرين شعرة"، قال حُميد: "وأومأ إلى عنفقته سبع عشرة"، والعنفقة من اللحية.
وروى ابن سعد أيضًا بإسناد صحيح عن ثابت عن أنس قال: "ما كان رأس النبي ﷺ ولحيته إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة"، فهذه الرواية تقول إن السبع عشرة أو الثمان عشرة كانت موزعة على اللحية والرأس، ولابن أبي خيثمة من حديث حُميد عن أنس: "لم يكن في لحية رسول الله ﷺ عشرون شعرة بيضاء"، قال حميد: "كن سبع عشرة، وجاء أيضًا روايات أخرى بأعداد مختلفة لكنها كلها قليلة العدد وتوزيع الشَّيب في الثلاث مناطق: العنفقة وهي في اللحية، والصدغين، ونُبذ في الرأس.
وجاء في رواية ابن عقيل أن عمر بن عبد العزيز قال لأنس؛ لأن أنس تقدّم به السِّن ، وعمر بن عبد العزيز أدرك أنسًا، وأنس شهِد لعمر بن عبد العزيز أنه أشبه الناس صلاة بصلاة النبي ﷺ، الشاهد أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أدرك أنسًا، ومن شوق عمر بن عبد العزيز للنبي ﷺ وكما هو دأب التابعين الذين ما رأوا النبي ﷺ يسألون الصحابة الذين رأوا النبي ﷺ عن أحواله كلها، فعمر بن عبد العزيز سأل أنس بن مالك : "هل خضب النبي ﷺ؟ فإني رأيت شعرًا من شعره قد لُوِّن" [فتح الباري لابن حجر: 6/571].
هذا يدل على أن هناك شعرات من شعر النبي ﷺ بقيت إلى وقت عمر بن عبد العزيز، فيقول عمر بن عبد العزيز لأنس: هل صبغ النبي ﷺ خضب؟ أنا رأيت شعر له أحمر، رأيت له شعرًا مخضوبًا، فهل كان يخضب؟ فقال: "إنما هذا لون من الطيب الذي كان يُطيَّب به شعر رسول الله ﷺ فهو الذي غير لونه"
فكأنه يقول له اللون الأحمر الذي رأيته ليس من الصبغ الخضاب، وإنما هو من الطيب.
وعن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة وقد سُئل عن شيب رسول الله ﷺ فقال: "كان إذا دهن رأسه لم يُر منه شيب، وإذا لم يدهن رئي منه شيء" [رواه الترمذي: 38، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 32].
وفي رواية: "لم يكن في رأس رسول الله ﷺ شيب إلا شعرات في مفرق رأسه، إذا ادّهن واراهن الدُّهن" [رواه الترمذي: 43، وصححه الألباني مختصر الشمائل: 32]، ومعروف أن الطيب الذي كانوا يتطيبون به مثل الموجود الآن مثلًا العود والورد، وغير ذلك أن ملمسه دهني لزج نعم، قال: "إذا ادّهن لم يُر منه شيء"، استعمل الدهن في رأسه لاختلاط بياض الشيب القليل في رأس رسول الله ﷺ ببريق الدهن الذي استعمله، ولهذا كان يظهر الشيب إذا لم يدهِّن فإذا ادهن ما ظهر الشيب، فإن الدهن كان يواري الشيب، يخفيه ويستره.
وعن ابن عمر ما قال: إنما كان شيب رسول الله ﷺ نحوًا من عشرين شعرة بيضاء" [رواه الترمذي في الشمائل: 39، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 33]. قريبًا من عشرين شعرة بيضاء.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال أبو بكر يا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت [رواه الترمذي: 3297، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3723].
وعن أبي جحيفة قال: قالوا يا رسول الله نراك قد شبت، قال: قد شيبتني هود وأخواتها [رواه الترمذي: 41، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 35].
وأخوات سورة هود: الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت.
فإذن، العدد الإجمالي خمسة، وسورة هود فيها قول الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا [هود: 112]، والسور الباقية فيها ذكر أهوال القيامة، والنوازل التي حصلت بالأمم الماضية في سورة هود أيضًا، فأخذ ذلك من رسول الله ﷺ ما أخذه من خشية الله، حتى شاب قبل أوان المشيب.
وقولهم له: "قد شبتَ"، ظهر عليك آثار الضعف قبل أوان الكبر، وليس المقصود أنه عم الشيب رأسه، لكن لما بدأ يظهر على النبي ﷺ أشفقوا عليه وقالوا له: "قد شبتَ"، فقال: شيبتني هود، والواقعة.. ، وشيبتني هود وأخواتها .
وعن أبي رمثة التيمي، تيم الرباب قال: أتيت النبي ﷺ ومعي ابن لي، فقلتُ لما رأيته: هذا نبي الله ﷺ وعليه ثوبان" [رواه الترمذي: 42، وصححه الألباني في وصححه الالباني في مختصر الشمائل: 36]. وفي رواية: "بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر"، حديث صحيح. [رواه الحاكم في مستدركه: 4203، والطبراني في الكبير: 724، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 36]، والمصنّف -رحمه الله- يسوق الأحاديث من طريقه في الموضوع الواحد يجمعها.
وهذا الحديث الذي رواه الترمذي مختصرًا وهو حديث حسن، قد رواه أحمد، وفيه معان لطيفة، رواه أحمد مطولًا، ورواية أحمد: عن أبي رِمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله ﷺ فلما رأيته قال لي أبي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا، فقال لي أبي: هذا رسول الله ﷺ، فاقشعررتُ حين قال ذاك" [رواه أحمد: 7109، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح].
وفي رواية: "فأخذته الرعدة هيبة لرسول الله ﷺ" قال: وكنت أظن رسول الله ﷺ شيئًا لا يشبه الناس، فإذا بشر له وفرة"، وفي قول عفان: "ذو وفرة، وبها ردع من حناء، عليه ثوبان أخضران، فسلّم عليه أبي، ثم جلسنا فتحدثنا ساعة، ثم إن رسول الله ﷺ قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: حقًا ، قال: أشهد به، فتبسّم رسول الله ﷺ ضاحكًا من ثبت شبهي بأبي، ومن حلف أبي عليّ، ثم قال: أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه ، وقرأ رسول الله ﷺ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثم نظر إلى مثل السِّلعة بين كتفيه، فقال: يا رسول الله إني لأطبُّ الرجال ألا أعالجها لك، وفي رواية: "فقلت له يا نبي الله: إني رجل طبيب من أهل بيت أطباء، فأرني ظهرك فإن تكن سِلْعة أبطُّها، وإن تك غير ذلك أخبرتك، فإنه ليس من إنسان أعلم بجرح أو خُرّاج مني، قال ﷺ: لا، طبيبها الذي خلقها [رواه أحمد: 7107، وأبو داود: 4495، وقال الألباني في المشكلة: إسناده جيد: 3471]، وفي رواية لأحمد: "فنظرتُ فإذا في نغض كتفه مثل بعرة البعير أو بيضة الحمامة، فقلت: ألا أداويك منها يا رسول الله، فإنّا أهل بيت نطبب، فقال: يداويها الذي وضعها" [رواه أحمد: 7108، وصحح إسناده محققه الأرنؤوط: 7108].
وفي رواية: أن النبي ﷺ قال للرجل: لستَ بطبيب، ولكنك رفيق، طبيبها الذي وضعها ، وفي رواية: الذي خلقها [رواه أحمد: 7110، وصحح إسناده محققه الأرنؤوط]، وفي أخرى: أنت رفيق، والله الطبيب [رواه أحمد: 17492، وجوّد إسناده محققه الأرنؤوط].
نأتي إلى شرح الرواية؛ أبو رمثة صحابي جليل، وروى عن النبي ﷺ، واسمه: رفاعة، وكنيته: أبو رمثة، "من تيم الرباب"، التيم في اللغة: العبد، وتيم الله: عبد الله، وفي العرب قبائل سُمّوا بذلك، ولأجل ذلك قيد بالرباب تمييزًا عن غيرهم من القبائل، إذن، معنى تيم الله يعني: عبد الله، وقوله: "تيم الرباب"، تمييزًا له عن غيرهم، إذن، الرِّباب بكسر الراء وليس بفتح الراء، نعيد تيم الرباب، التيم في اللغة: العبد، وتيم الله: عبد الله، وفي العرب قبائل سُمُّوا بذلك، ولأجل ذلك قيد هنا بالرِّباب تمييزًا عن غيرها من القبائل التي يوجد فيها تيم، والرباب: أطلق عليهم هذا الاسم، عددهم خمس قبائل تجمّعوا وتحالفوا فيما بينهم، ولأجل توثيق ما بينهم من الحلِف وضعوا أيديهم في رُبٍّ؛ وهو نوع من الطعام من السمن، فلما تعاهدوا وتعاقدوا وضعوا أيديهم كلهم في هذا الرُّبِّ؛ فسموا الرِّباب.
أبو رمثة جاء إلى النبي ﷺ، فوجد النبي ﷺ رجلًا ذا وفرة، وهو الشعر إذا توفر فبلغ شحمة الأذن، وقوله: "عليه ردْعٌ من حناء"، ردع يعني: أثر، والحناء معروف، وعليه بُردان أخضران مصبوغان بالخضرة، واللون الأخضر لون جميل تحبه النفوس، وهو من ألوان ثياب أهل الجنة، والدليل: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ [الإنسان: 21]، وهو أكثر لباس أهل الجنة، أكثر لباس أهل الجنة لونه أخضر، وهو أيضًا من أنفع الألوان للأبصار، ومن أجملها في أعين الناظرين، والعرب وكذلك القدماء كانت لهم نظرات في أثر الألوان على النفوس، والله قال: بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة: 69].
إذن، الألوان لها أثر نفسي، فالأصفر الفاقع يسرُّ النفس، كذلك الأخضر، بينما يمكن أن تكون هناك ألوان تسبب آثارًا سلبية في النفس، وربما تثير الأعصاب.
يقول: إنه رأى عليه مثل السِّلعة، خاتم النبوة وصفناه في الدرس السابق، "السِّلعة" خرّاج أو غُدة تظهر بين الجلد واللحم، المراد به خاتم النبوة.
يقول الصحابي: "كنت أظن رسول الله ﷺ شيئًا لا يشبه الناس"، يعني هو سمع عنه، وكان معظمًا له، والإنسان إذا عظّم شيئًا قبل أن يراه؛ فإنه إذا رآه يتوقع أن لا يكون شيئًا عاديًا، فالصحابي من تعظيمه لرسول الله ﷺ ظن أنه لا يشبه البشر، أنه الآن إذا رآه لأول مرة سيرى شخصًا لا يشبه البشر، قال فلما رآه: "رأيته شخصًا من البشر"، وقد اجتمع في النبي ﷺ أمر البشرية؛ فهو من بني آدم، يأكل، ويشرب، وينام، ويمرض، ويموت، والأمر الثاني: أنه اختُصّ من بين الناس غير الأنبياء بمنصب النبوة والرسالة، وهذا أمر عظيم، فهو لا يشبه الناس من هذه الجهة، أما من جهة البشرية والجسد يشبه الناس، ولأجل ما اختصّ به ﷺ من منصب النبوة والرسالة ظن الظان أنه لا يشبه البشر في صفاتهم البشرية أو في خلقتهم، ولأجل ذلك ظن أبو رمثة أنه لا يشبه البشر، بل هو شيء آخر، فلم يفجأه إلا أن رأى النبي ﷺ بشر من الناس.
ظن أبو رمثة أن هذا الخاتم - خاتم النبوة - في ظهر النبي ﷺ ظنه خُرّاج، ظنه غدة، ظنه شيئًا مؤذيًا، فقال: أنا طبيب ومن أهل بيت أطباء، دعني أنظر فيها، فإن كانت تحتاج إلى إخراج ما فيها من القيح يعني غدة، فأبطها وأخرج ما فيها من القيح وأنظفها، والنبي ﷺ يعلم أن هذه ليست غُدّة مليئة بالقيح والصديد، هذا خاتم النبوة من أدلة النبوة هذا الذي بين كتفيه أقرب إلى الكتف الأيسر، وعرفنا أن هذا لونه من لون جلده ﷺ إلى الحمرة، هذه الغدة أو الانتفاخ هذا، وأنه لم يكن تشويهًا، هذه نقطة مهمة جدًا خاتم النبوة ليس تشويهًا في ظهر النبيﷺ، بل هو آية وعلامة من علامات نبوته ﷺ، ولما قال الرجل أنا طبيب ونحن من أهل بيت أطباء وإلى آخره، قال ﷺ: أنت رفيق، والله الطبيب، طبيبها الذي خلقها ، معنى ذلك العالم بها الذي خلقها، أنت ما عرفت حقيقتها، أنت لو كنت خبيرًا، أنت ما عرفت أن هذا خاتم النبوة، وليس بغدة ولا خراج ولا انتفاخ بقيح أو صديد، وإنما هي آية النبوة.
وفي الحديث صفة شيب النبي ﷺ، وأنه ربما صبغه بالحناء فصار أحمر من الصبِّغ، وبيان أدب المتعلم في مجلس العالم، وأنه يبدأ بالسلام إذا دخل، لقوله: "فسلّم عليه أبي ثم جلسنا"، وأدب النبي ﷺ في تعليمه، وسأله عن ابنه مع وضوح شبهه به، وليكون الحكم أوضح وأثبت في الذِّهن، وفي هذا هدم قاعدة من قواعد الجاهلية الذين كانوا يأخذون الإنسان بذنب غيره، ويحدث كثيرًا في الأحلاف، ومن صوره الثأر الجاهلي، فإذا قَتل الولد قد يقتلون أباه، وإذا قَتل الأب واحدًا قد يقتلون الابن، الأب هو القاتل يقتلون ابنه، والابن هو القاتل يقتلون الأب، الثارات الجاهلية، ولذلك قال: لا يجني والد على ولده ، لا تجني عليه ولا يجني عليك، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل أحد منهما وزر صاحبه، حتى لو كان الأب والابن.
وفي الحديث بيان رفق النبي ﷺ بالجاهل وتلطفه في تعليمه، فإنهﷺ لما أراد أن يعرف الصحابي أن السلعة التي بين كتفيه ليست مما يدركها طبُّه أو يحيط بها علمه، مدحه بما عنده من الخير، فقال: بل أنت رجل رفيق، أنت عندك شفقة، ولذلك قمت إلي تقول إذا كانت وإذا كانت، يعرض الخدمة، قال: أنت رفيق، طبيبها الذي خلقها ، إذن، معنى السلعة في اللغة: خُرّاج أو غدة تظهر بين الجلد واللحم، وهذا خاتم النبوة ظنه الرجل خراجًا أو سلعة وفي الحقيقة أنه خاتم نبوة النبي ﷺ، هذا والله تعالى أعلم.