الأحد 23 جمادى الأولى 1446 هـ :: 24 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

35- الميزان


عناصر المادة
الأدلة على وزن الأعمال يوم القيامة
هل هو ميزان أم موازين؟
صفة الميزان
دقة الميزان
ما هو الذي يوزن في الميزان؟
الأدلة على أن الأعمال توزن
الجمع بين الأقوال
أحوال الناس في الوزن
وقت الوزن يوم القيامة
الحكمة في نصب الموازين
 
الأعمال التي تثقل الميزان
أعمال تخسف بالميزان
حال من لم تبلغه الدعوة في الدنيا

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن من مشاهد القيامة العظيمة الميزان، الميزان في اللغة معروف وهو الآلة التي يوزن بها، ويُعبر بالميزان أيضاً عن العدل والعدالة، فأما الميزان الذي نتحدث عنه يوم الدين فإنه ما يضعه الله لعباده لوزن أعمالهم.

الأدلة على وزن الأعمال يوم القيامة

00:00:32

وقد دل على وزن الأعمال يوم القيامة بالميزان الكتاب والسنة والإجماع فقد قال الله في كتابه العزيز: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وقال : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ[الأعراف: 8-9]، وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة: 6-9]، يضع الله -تعالى- الموازين ليوم القيامة، فتوزن أعمال العبادة بغاية العدالة والإنصاف، فلا يظلم الله أحداً شيئاً من الخير أو الشر، فلا يظلم الله أحداً شيئاً، وإن كان عمله مثقال ذرة من خير أو شر، فإن الله يأتي به لأنه لا يخفى عليه شيء، وكفى به حاسباً سبحانه؛ لإحاطته بأعمال العباد.
وقد ورد الميزان في السنة، فقال النبي ﷺ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، [رواه البخاري: 6406، ومسلم: 2694].
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وهذا هو الشاهد وسبحان الله، والحمد لله تملأن أو تملأ ما بين السماء والأرض [رواه مسلم: 223].
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47]، وذكر النبي ﷺ الميزان يوم القيامة فمن رد على النبي ﷺ فقد رد على الله ". [فتح الباري: 10/391].
هذا تبيين لحال المبتدعة الذين يقولون: لا يوجد ميزان حقيقي، ولا يوجد ميزان له كفتان، وإنما هو مجاز، والمقصود هو العدل فقط، فمن رد على رسول الله قوله فقد رد على الله؛ لأن الله هو الذي أرسله وهو الذي أوحى إليه، فإذاً ميزان مذكور في الكتاب والسنة.
وأجمع السلف على إثبات الميزان في الحساب يوم القيامة، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "السنة عشرة فمن كن فيه فقد استكمل السنة، ومن ترك منها شيئاً فقد ترك السنة: إثبات القدر، وتقديم أبي بكر وعمر، والحوض، والشفاعة، والميزان، والصراط، والإيمان قول وعمل، والقرآن كلام الله، وعذاب القبر والبعث يوم القيامة، ولا تقطعوا بالشهادة على مسلم". [اعتقاد أهل السنة لللالكائي: 1/155].
لا تقل هذا في الجنة تقطع له، ولا تقطع له بأنه يدخل النار أيضاً، قد يرحمه الله بمشيئته، ويغفر له ذنوبه كلها، العقيدة والسنة أكبر من هذه، أو أكثر من هذه العشرة، لكن هذه العشرة صارت فيها معارك بين أهل السنة، وأهل البدعة في ذلك الوقت، ولذلك كان يقول العلماء يؤلفون في العقيدة مؤلف، وأشياء معينة يتوسعون فيها ويذكرونها وأشياء أخرى لا يذكرونها مع أنها من العقيدة، لكن لأن تلك الأشياء أهل البدع غامروا فيها ودخلوا وتكلموا بالباطل، فصار الرد عليهم أن تُبين هذه في أي كتاب يؤلف في العقيدة في تلك الأوقات.


قال ابن بطة -رحمه الله-: "وقد أجمع أهل العلم بالأخبار، والعلماء والزهاد والعُباد في جميع الأمصار أن الإيمان بذلك، -يعني: بالميزان- واجب لازم"، وهذا في كتابه الإبانة. [الإبانة الصغرى: 1/358].
الوزن والميزان من المواطن الرهيبة يوم القيامة ينسى فيه العبد نفسه وأهله وأحبابه، وينشغل بالشيء الذي أمامه، إنه موقف ينتظر فيه النتيجة؛ لأنه بناء على الوزن يتوقف سعادته أو شقاوته.
فروى أبو داود من طريق الحسن عن عائشة -رضي الله عنها- أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله ﷺ: ما يبكيكِ؟ قلت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة، فقال رسول الله ﷺ: أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحدٌ أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب حين يقال هاؤم اقرءوا كتابيه، حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه، أم في شماله، أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم [رواه أبو داود: 4757] الحديث قال عنه العراقي: "إسناده جيد" [تخريج أحاديث الإحياء: 4469]، الألباني ضعفه في ضعيف سنن أبي داود [4755]، الأرنؤوط في تعليقه على جامع الأصول حسنه بشواهده [10/475]. فالحديث يمكن أن يكون حسناً.
وما يدل على شدة الموقف، وأهميته أن النبي ﷺ يكون عند الميزان، فقد روى الترمذي -رحمه الله- عن أنس بن مالك قال: سألت النبي ﷺ أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قال: قلت: يا رسول الله فأين أطلبك".
بهذا الزحام وبكثرة الأعداد البشرية هؤلاء العدد الهائل، أين أجدك في هذه الزحمة، أين أطلبك؟ وهذا للمعلومة معلومة تهمنا جميعاً؛ لأنه يوم القيامة يحتاج هذه المعلومة.
قال: قلت: يا رسول الله، فأين أطلبك؟ قال: أطلبنيأول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض فإني لا أُخطأ هذه الثلاث المواطن، [رواه الترمذي: 2433، وصححه الألباني في صحيح الترغيب:3625].
"يا رسول الله أين أطلبك؟" قال الطيبي: "في أي موطن من المواطن التي احتاج إلى شفاعتك أطلبك لتخلصني من تلك الورطة، فأجاب على الصراط، وعند الميزان والحوض، أي: أفقر الأوقات إلى شفاعتي هذه المواطن". [تحفة الأحوذي: 7/101].


وقوله: فإني لا أُخطأ ، يعني: لا أتجاوز هذه المواطن الثلاثة، ولا أحد يفقدني فيهن جميعاً، فلا بد أن تلقاني في واحدة من هذه الثلاث، فإذاً يوم القيامة إذا أردت تبحث -أنا وأنت وأي شخص- عن النبي ﷺ إذا أراد الواحد يبحث عنه فأين سيجده؟ عند الحوض، أول ما يطلبه عند الصراط، وعند الحوض، وعند الميزان، فالنبي ﷺ قال: أول ما تطلبني عند الصراط، وإذا ما وجدته عند الصراط؟ عند الميزان، وإذا ما وجده عند الميزان؟ عند الحوض، ولا يمكن أن لا يكون موجوداً في أحد الثلاثة المواطن هذه لابد أن يكون موجوداً في واحدة من هذه الثلاثة، فهذه المعلومة مهمة لنا جميعاً.
وقوله: "أين أطلبك"، إمكان البحث عن النبي ﷺ في تلك الزحمة، وإمكان العثور عليه، وإمكان طلب الشفاعة منه، كيف لا يكون موقف الميزان، موقف رهبة وهول وفزع والنتيجة، إما إلى الجنة، وإما إلى السعير.
روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً  كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا ربي ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفه فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء[رواه الترمذي: 2639، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 1533].


هذا رجل من الناس سيختاره الله يوم القيامة، ويؤتى به على رؤوس الخلائق، ويُرى صحائف أعماله تسعة وتسعين سجلاً كل واحد مد البصر، كلها كتبتها الملائكة من الأعمال والأقوال، والرجل لا يستطيع أن يُنكر شيئاً منها، وما هو الحل وخلاص الآن كأنه يأس، فيقال: لكن عندنا حسنة، تُعجل السجلات في كفة ولا إله إلا الله في كفة فتطيش السجلات، وترجح لا إله إلا الله، لا يثقل مع اسم الله شيء.
العلماء قالوا عن هذا الرجل: إنه رجل عنده توحيد عظيم وأنه مع كثرة معاصيه لكن الإيمان في قلبه وما قام من الإيمان في قلبه عظيم، ولذلك رجح وليس كل واحد يقول الكلمة سيكون له ميزة، لا، هذا رجل واحد إن الله سيلخص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق، واحد من الأمة هو الذي سيقع له هذا المشهد، ويكون فيه إعلان رحمة الله أهل الموقف كلهم، وبيان فضل شهادة إن لا إله إلا الله لأهل الموقف كلهم، وبين الإيمان الذي وقر في قلب ذلك الرجل حتى صارت الشهادة التي نطقها أثقل من كل السجلات، الميزان حقيقي له كفتان وليس هو فقط العدل أو القسط.
قال أبو إسحاق الزجاج -رحمه الله-: "أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان" [فتح الباري: 13/538].
ويميل بالأعمال، وهذا الذي تشهد له ظواهر نصوص القرآن والسنة والقاعدة المقررة عند العلماء، أن ظاهر القرآن والسنة لا يجوز العدول عنهما إلا بدليل يجيب الرجوع إليه، ولا يمكن تنقل المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي بدون قرينة صحيحة، وحيث أنه لا توجد قرينة هنا توجب صرف اللفظ عن ظاهره فاللفظ على ظاهره، ميزان له كفتان، إذاً لا يمكن العدول عن هذا ولو كان الميزان هذا معنوي وهو مجرد العدل كيف يطلب أنس النبي ﷺ في شيء معنوي، هذا ميزان موضع حقيقي يُنصب ميزان له كفتان توزن فيه أعمال العباد، "وأجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل"، كما قال القرطبي -رحمه الله- [تفسير القرطبي: 7/165].
والذين أرادوا أن ينفوا الميزان وأن له كفتان فلم يستندوا إلا إلى مجرد استبعادات عقلية، وهذه بدع كالليل المُظلم يتركون كلام العلماء والسلف خلف ظهورهم ونصوص الكتاب والسنة تُحرف بمثل هذا.

هل هو ميزان أم موازين؟

00:13:10

فإن قال قائل: لقد وردت بهذه اللفظة بالجمع يعني الموازين قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة: 6-9].
الموازين في القرآن بلفظ الجمع للشخص الواحد موازين للواحد موجودة، كذلك في السنة في رواية في سندها ضعف وربما تشهد لها رواية البخاري: الخيل في نواصيها الخير معقود أبداً إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله، وأنفق عليها احتساباً في سبيل الله، فإن شبعها وجوعها وريها وضمأها وأرواثها وأبوالها فلاح في موازينه يوم القيامة [رواه أحمد: 27615، وقال محققو المسند: صحيح لغيره، وضعفه الألباني سلسلة الأحاديث الضعيفة: 6836].
وورد في البخاري حديث مشابه: في ميزانه [رواه البخاري: 2853]، البول والروث وما أكله؛ لأنه ربط الفرس وقفاً في سبيل الله، وسنأتي على الحديث.
النصوص الأخرى فيها لفظ الميزان مفرداً الميزان، فكيف نفهم الموازين بالجمع؟ الحقيقة أن بعض العلماء، قالوا: أن لكل إنسان ميزان، بل إن بعضهم، قال: لكل عمل ميزان، الصلاة توزن بميزان، والزكاة بميزان، وبر الوالدين بميزان، والعمال الأعمال التي عملوها لك والأجرة التي أعطيتهم إياها كل عمل بميزان، فإذاً قال بعضهم تعدد الموازين بتعدد الأشخاص، قال بعضهم: تعدد الموازين بتعدد الأعمال، وأنه يمكن أن يكون للعامل الواحد عدة موازين، كما يُفهم من قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة: 6، 7].
وقيل: ليس هناك إلا ميزان واحد، والجمع باعتبار الأعمال التي توضع في الميزان؛ لأنها متعددة، فالآن الميزان عند الله واحد، فيؤتى بفلان لتوزن أعماله، فتوزن الصلاة، ثم توزن الزكاة، توزن، يعني: هناك عمليات، أو هناك أعمال توزن، أو الوزن يكون في عدة عمليات، عمليات وزن، فإذاً جمع الموازين لأجل هذا التعدد.


قال الحافظ -رحمه الله-: "ويحتمل أن يكون الجمع للتفخيم، كما في قوله تعالى:كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105]، مع أن المرسل هو نوح واحد فقط" [فتح الباري: 10/391].
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جُمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه". [تفسير ابن كثير: 5/345].
وهذا هو الأقرب، أن الميزان واحد، والوزن واحد، لكن لما كانت كفة الحسنات فيها صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر والدين، وصلة رحم، وجهاد، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، صدقات، فتعدد الأعمال في الكفة هذه كذلك تعدد الأعمال في الكفة الأخرى، هو الذي يُطلق عليه موازين، وإلا فالميزان واحد، والوزن واحد، مرة واحدة، ولكن تعدد الأعمال في الكفة هو الذي يُطلق عليه موازين.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والذي يترجح أنه ميزان واحد، ولا يُشكل بكثرة من يوزن عمله". [فتح الباري: 10/391].
لو قال: هذه الأمة البشرية كلها من الأولين والآخرين، وآدم إلى آخره والجن والإنس، متى يخلص الميزان، كيف الوزن هذا يستوعب، كل الناس وعلى ميزان واحد هؤلاء لو كانوا في الدنيا سرة طويلة جداً متى ينتهي؟
فيقال: لا تقس أمر الآخرة على أمر الدنيا، الله قادر على أن يزن أعمالهم، وينتهي كل شيء في لحظة، يعني: لو أراد  مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان: 28].
والحساب يُحاسب الناس كلهم كما يحاسب الواحد، إذا حساب الواحد يأخذ ثواني أو خمس دقائق، أو ساعة، حسابهم كلهم يأخذ ساعة، فالله لا يتعاظمه شيء، ولا نقيس أمر الآخرة على أمر الدنيا، ونقول ميزان واحد يستعمله كل الناس متى يخلص، نقول: إن الله قادر على أن يزن أعمالهم كلهم، ولذلك ذكر ابن حجر -رحمه الله- عبارة مهمة جداً، قال: "لأن أحوال القيامة لا تُكيف بأحوال الدنيا". [فتح الباري: 13/538].
الميزان عظيم، روى الحاكم في المستدرك عن سلمان قال: "يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزنت فيه السموات والأرض لوسعهن، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله : لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك"، رواه أيضاً الآجري في الشريعة [الشريعة: 885] بسند صحيح موقوفاً عن سلمان، وإن كان مرفوعاً سنده ضعيف في المستدرك [المستدرك: 8739]، ولكن الصحابي لا يقول من عنده، فإذا ثبت إلى الصحابي، فله حكم الرفع، والحديث ذكره في السلسلة الصحيحة. [941].

صفة الميزان

00:18:44

صفة الميزان جاء في حديث السجلات المتقدم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة.
واستدل ابن كثير -رحمه الله- بهذا على أن الميزان له كفتان، وهكذا الموازين المعتادة للناس اليوم لها كفتان، الآن الموازين الالكترونية والعدادات هذه صارت بطريقة أخرى، لكن المعتاد عند الناس في القديم البشرية إلى الآن بعضهم لا زال يستعمل الميزان الذي له كفتان.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "الميزان له لسان، وكفتان". [شعب الإيمان: 1/447].
وذُكر الميزان عند الحسن فقال: "له لسان وكفتان". [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2210].
وقال أبو الحسن مبيناً رأي أهل السنة في الميزان: "فقال أهل الحق: له لسان وكفتان، توزن في إحدى كفتيه الحسنات، وفي الأخرى السيئات، فمن رجحت حسناته دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته دخل النار". [مقالات الإسلاميين: 1/211].
وإذا قررنا أن الميزان ميزان حقيقي، وأن له كفتان على ما يعرفه الناس من لغة العرب فليس معنى هذا أنه مُطابق لموازين الدنيا ومشابه لها، بل كما ابن عباس : "ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء". [البعث والنشور للبيهقي: 332، بلفظ: "ليس في الجنة شيء].
أن يقول الكفة الواحدة الميزان يسع السموات والأرض، ما في ميزان في الدنيا عندنا الآن بهذا، ولذلك لا يمكن تخيل الميزان أصلاً، تخيل الميزان لا يمكن وهذه من أمور الغيب.
وروى اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة بإسناده عن حذيفة بن اليمان، قال: "صاحب الميزان يوم القيامة جبريل يرد من بعضهم على بعض، فيؤخذ من حسنات الظالم، فترد على المظلوم، فإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم". [شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 1794].


 وهذا كله الآن في الميزان، وأنه يؤخذ ويوضع، وإذا كنا نثبت صفة الميزان على ضوء ما جاء به الشرع، فإنه لا ينبغي لنا أن نتكلف وراء ذلك فنثبت له أوصافاً أخرى لم يرد بها دليل صحيح، فقد روى البخاري ومسلم عن مسروق، قال: "دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال: يا أيها الناس، من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلمه الله أعلم، قال الله لنبيه ﷺ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ  [ص: 86] [رواه البخاري: 4809، ومسلم: 2798].
وأمثلة التكلف والقول بلا علم في موضوع الميزان: قول بعض الناس: إن كفتيه من ذهب، قال عبد الملك بن حبيب: "كنا عند زياد اللخمي، صاحب مالك -رحمه الله- إذا جاءه كتاب من بعض الملوك فكتب فيه وختمه، قال لنا زياد عن فحوى الرسالة: إنه سأل عن كفتي الميزان، أمن ذهب أم من فضة؟ فكتبت إليه: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه [رواه الترمذي: 2317، وحسنه الألباني صحيح الترغيب: 2881]" [سير أعلام النبلاء: 9/312].
هذا الجواب، وأيضاً القول بأن كفة الحسنات من نور وكفة السيئات من ظلام، أو القول بأن كفة الحسنات عن يمين العرش مُقابل الجنة، وكفة السيئات عن يسار العرش مُقابل النار، إلى آخر ذلك من الأمور التي لا يمكن إثباتها إلا بدليل صحيح وخبر عن المعصوم ﷺ وحيث أنه لا يوجد بذلك خبر صحيح لا يجوز إثباتها، ولا داعي للكلام فيها أصلاً، وإثارتها والبحث فيها مضيعة للوقت، وإذا ما كان فيها دليل صحيح، فلماذا تُبحث.

دقة الميزان

00:22:38

ما هي دقة الميزان؟
الميزان في أعلى درجات الدقة، وفي القمة من الاتقان، قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، كلمة القسط تدل على منتهى العدل، وصفه بالقسط، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]، ميزان دقيق ليس فيه خلل، ولا نسبة خطأ موازين الدنيا حتى الموازين الالكترونية الحديثة فيها نسبة خطأ، يقولون زائد ناقص كذا، هذا ما في نسبة خطأ أبداً، القسط بالدقة بالضبط.

ما هو الذي يوزن في الميزان؟

00:23:35

ما هو الذي يوزن في الميزان؟
قال بعض العلماء: إن الذي يوزن في ذلك اليوم الأعمال نفسها، وأنها تُجسم وتوضع في الميزان.
قال البخاري -رحمه الله-: باب قول الله -تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47]، وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن، لاحظ وقولهم يوزن، ثم روى فيه حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان [رواه البخاري: 6406، ومسلم: 2694]، فالكلام هذا في الدنيا ما نستطيع أن نزنه، وليس له جسم وثقل، يوم القيامة له ثقل، يوضع في الميزان، شيء حسي يتحول إلى شيء حسي بأمر الله، الموت يصير كبش، أيضاً الأعمال كلها المعنوية، هذا في قلبه حياء وإخلاص وخوف ورجاء ومحبة، هذه كلها أشياء معنوية، هذه معانٍ ليست أجسام في الدنيا، يوم القيامة توزن، والثقل على حقيقته؛ لأن الأعمال تتجسم عند الميزان والخفة والسهولة من الأمور النسبية.
وقال الطيبي: "والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تُجسد، أو تُجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المُسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن". [فتح الباري: 13/539].
ونحن نعرف في القبر يأتيه عمله الصالح على هيئة رجل حسن الهيئة، حسن الثياب طيب الرائحة، ويأتيه عمله السيء على صورة رجل سيء الثياب، سيء الشكل، سيء الرائحة، إذاً صار العمل إنسان، صار شكلاً، صار مخلوقاً أمامه يراه له لباس وهيئة وصورة ورائحة.
فإذاً الله على كل شيء قدير، جعل الأعمال على شكل إنسان، يجعل الأعمال على شكل مجسمات، يجعل الأعمال كما يشاء، والأعمال والأقوال والمعاني والأشياء التي في القلب كلها، وأعمال بني آدم وقول بني آدم أيضاً يوزن كما قال البخاري -رحمه الله- [صحيح البخاري: 6/2748].


وظاهر هذا العميم، لكن بعضهم استثنى طائفتين قال: من الكفار لا ذنب له إلا الكفر، ولم يعمل حسنة، فيقع في النار من غير حساب ولا ميزان، ومن المؤمنين من لا سيئة له، وله حسنات كثيرة زائدة على محض الإيمان، فهذا يدخل الجنة بغير حساب كما في قصة السبعين ألفاً، ومن شاء الله أن يُلحقه بهم، وهم الذين يمرون على الصراط كالبرق الخاطف وكالريح وكأجاويد الخيل، ومن عدا هذين من الكفار والمؤمنين يُحاسبون، وتُعرض أعمالهم على الموازين.
إذاً: بعضهم فهم أن هناك بعض الناس لا توزن أعمالهم لا حاجة لوزن أعمالهم، فهؤلاء يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، أو الكفار الذين لا ذنب لهم إلا الكفر ولم يعملوا حسنات، ولكن يدل على محاسبة الكفار ووزن أعمال الكفار قول الله -تعالى-: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 103]. يعني: كفار، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ  [المؤمنون: 106]، مع أن هؤلاء الكفار يخلدون في النار، ومع ذلك لهم موازين تخف يوم القيامة، ونقل القرطبي عن بعض العلماء أن الكافر لا ثواب له وعمله مقابل بالعذاب فلا حسنة له توزن يوم القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار، واستدل بقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا[الكهف: 105].
وبحديث أبي هريرة، وهو في الصحيح في الكافر: أنه لا يزن عند الله جناح بعوضة [رواه مسلم: 2785]، وتُعقب، يعني: ليس معناه أنه لا يزن عند الله جناح بعوضة أنه لا يوزن، فهو يوزن لكن وزنه أخف من جناح البعوضة، ووزن الميزان دقيق، يزن جناح البعوضة وأقل من جناح البعوضة.
وحكى القرطبي في صفة وزن عمل الكافر وجهين "أحدهما: أن كفره يوضع في الكفة، ولا يجد له حسنة يضعها في الأخرى فتطيش التي لا شيء فيها تنزل، هذه التي لا شيء فيها تطيش إلى الأعلى والتي فيها الكفر تثقل، قال: "وهذا ظاهر الآية؛ لأنه وصف الميزان بالخفة لا الموزون.


ثانيهما: قد يقع منه العتق والبر والصلة يعني الكافر وسائر أنواع الخير المالية مما لو فعلها المسلم لكانت حسنات، فمن كانت له حسنات جُمعت ووضعت غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها" [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 720-721].
فإذاً من العلماء من قال: إن حسنات الكافر يجعلها الله هباءً منثوراً، وما لها وزن أصلاً، ومنهم من قال: إنها توزن وربما تتحول إلى هباء منثور في ذلك الموقف تتلاشى، فتوزن أعمال الكافر، لكن الكافر لا يخف عذابه على كفره كما عرفنا، وحسناته في الدنيا قد أُعطي بها، فلذلك في الآخرة ما له نصيب عند رب العالمين، والحسنات لا تنفعه بشيء، ولكن من عدل الله أن توزن أعماله، وستخف موازينه، وسيدخل النار ويخلد فيها.
ورجح القُرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تُكتب فيها الأعمال، هذا أيضاً نظرة أخرى، يعني: هل هي الأعمال نفسها توزن أو الصحائف توزن أو الآدمي نفسه يوزن؛ لأن كل من هذه له أدلة. ونقل عن ابن عمر قال: "توزن صحائف الأعمال"، قال: فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام. [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 722].
فيرتفع الإشكال ويقويه حديث البطاقة؛ لأن السجلات صحائف أعمال، والبطاقة التي فيها أشهد أن لا إله إلا الله أيضاً، فيكون الوزن على السجلات والبطاقة.

الأدلة على أن الأعمال توزن

00:30:34

وفيه ما يُفيد أن الأعمال نفسها توزن، وفي ما يُفيد أن الأشخاص يوزنون، وإذا ثبتت الأدلة كلها فلا مانع أن يوزن الجميع، وما المانع؟ ما المانع أن توزن السجلات والأعمال والأشخاص، والصحيح أن الأعمال هي التي توزن.
وقد أخرج أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال: ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن [رواه أحمد: 920، وصححه الألباني ظلال الجنة: 782].
ما في شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من خلق حسن، فالخلق ما هو؟ عمل، الخلق قد يكون صبراً، قد يكون كرماً، الأخلاق كثيرة، فإذاً هذه الأعمال توزن، توضع في الميزان، وأثقل الأعمال حسن الخلق.
وفي حديث جابر رفعه: توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبه دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبه دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته فأولئك أصحاب الأعراف [مختصر تاريخ دمشق: 2/452، وانظر السلسة الضعيفة: 13/67].
على مُرتفِع بين الجنة والنار، وآخر أمرهم إلى الجنة؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه، وكرم الله عظيم، إذاً هذا هو العدل، وهذا هو الحق، ومن الأدلة التي تدل أيضاً على أن الأعمال توزن حديث النبي ﷺ: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملئان أو تملأ ما بين السماء والأرض [مسلم:223]، وفي مسند أحمد أن النبي ﷺ قال: بخٍ بخٍ خمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والداه [رواه أحمد: 15662].
وولد الصالح يتوفى فيتحسبه والداه هذا وزنه عظيم، والاحتساب أجره كبير، وفي الميزان ثقله عظيم، وهذا الحديث صححه الألباني [صحيح الترغيب: 1557].
وفي سنن أبي داود عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ: ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلقحديث صحيح [أبو داود: 4801، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 2641].
وبناء على ذلك رجح ابن حجر وغيره ونصر هذا القول أن الأعمال هي التي توزن، ومن الأقوال أيضاً أن الذي يوزن العامل نفسه، فقد دلت النصوص على هذا، لكن ليس الثقل باللحم والدم والشحم والوزن الذي في الدنيا، كلا، فقد قال النبي ﷺ: إنه ليأتي الرجل العظيم، طول عرض عظيم، السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] [رواه البخاري: 4729، ومسلم: 2785].


إذاً القضية على العقيدة وعلى ما في القلب وعلى عملك، وعلى حسب عملك، وليس على حسب وزنك في الدنيا لا الوزن المالي، ولا وزن المنصب، ولا وزن الجسم، وجاء في المسند أن علي قال: "أمر النبي ﷺ ابن مسعود فصعد على شجرة أمره أن يأتيه منها بشيء فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة فضحكوا من حموشة ساقيه، دقة ساقيه، فقال رسول الله ﷺ: ما تضحكون! لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحد، حديث صحيح [المستدرك: 5385، وصححه الألباني غاية المرام: 416].
إذا رجل عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد، فالوزن ليس على ما يكون في الدنيا، على حسب حال الإنسان وعمله وما في قلبه،.
إذاً: صار عندنا الآن قول أن الأعمال هي التي توزن.
القول الثاني: أن العامل نفسه يوزن.
القول الثالث: أن صحائف الأعمال هي التي توزن كما دل عليه حديث البطاقة: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء.

الجمع بين الأقوال

00:35:38

وفي الحقيقة أنه لا تعارض بين هذه الأقوال، ما في تنافي، يوزن العامل والسجلات والأعمال، ما المانع؟ ورد حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة، فيوضع ما أُحصي عليه فتمايل به الميزان، قال: فيُبعث به إلى النار، فإذا أُدبر به إذا صائح يصيح  من عند الرحمن لا تعجلوا فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان [رواه أحمد: 7066، وقال المحققون: إسناده قوي].
قال ابن كثير: "هذا السياق فيه غرابة" [تفسير ابن كثير: 5/346]، لكن صححه أحمد شاكر [مسند أحمد: 12/24].
على أية حال الكل يوزن، السجلات والأعمال والعامل، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها". [تفسير ابن كثير: 2/218]، واختار هذا القول يعني أن الوزن للجميع من المعاصرين الشيخ الحكمي -رحمه الله- في معارج القبول، والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وغيره من أهل العلم.
الظاهر أن الوزن عام، وشامل لكل الأعمال، ولكل العمال، قال البخاري -رحمه الله-: "باب قول الله -تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن" [صحيح البخاري: 6/2748].
قال ابن حجر: "وظاهره التعميم ويدل على أن الميزان والحساب عام يدخل فيه كفار أيضاً، وأن أعمالهم توزن أيضاً قول الله -تعالى-: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ[المؤمنون:103]، واستثناء الكفار الذين لا ذنب لهم إلا الكفر ولم يعملوا حسنة قط، ومن المؤمنين من لا سيئة له، وله حسنات كثيرة زائدة على محض الإيمان يدخل الجنة بلا حساب، هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل، وسبق ذكره، سبق ذكر أن بعض المستثنى هاتين الحالتين، لكن هذا يحتاج إلى دليل، وبما أنه لا يوجد دليل فإذاً الوزن عام على الجميع في كل الحالات، إلا إذا قيل بالنسبة للمؤمنين الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب إذا قيل الميزان جزء من الحساب، وهؤلاء يدخلون الجنة بلا حساب إذاً يمكن لهؤلاء أن يستثنون من هذا والله أعلم. [فتح الباري لابن حجر: 10/391].

أحوال الناس في الوزن

00:38:38

أحوال الناس في الوزن، متقون لا كبائر لهم، ومخلطون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وكفار، أما المتقون فإن حسناتهم توضع في كفة وصغائرهم أيضاً إن كانت بقية عليهم في الكفة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزناً، وتثقل كفة الحسنات حتى لا تبرح وترتفع الأخرى ارتفاع الفارغ الخالي، فهؤلاء المتقون غفر الله سيئاتهم فبقيت حسناتهم هي الموجودة في الكفة الأخرى لها وزن فتثقل، وهذه السيئات التي غفرها الله تكون الكفة بها كالفراغ الخالي، وأما المخلطون فحسناتهم توضع في كفة وسيئاتهم في كفة، فيكون لكبائرهم ثقل فإن كان الحسنات أثقل دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل دخل النار إلا أن يغفر الله له، وإن تساويا فهذا من أصحاب الأعراف، وإذا كان الواحد عليه تبعات، في ناس يطلبونه من مال، ومن عرض ومن دم ومن لطمة، ظلم، فلا بد أن يعطى هؤلاء من حسناته، وإذا فنيت يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه ثم يُطرح في النار، ويعذب على الجميع.

وقت الوزن يوم القيامة

00:40:18

متى يكون وقت الوزن يوم القيامة؟
تقرر أن الله ينصب الموازين لوزن الأعمال العباد، أو ينصب الميزان، فمتى يكون؟ لعله لا يوجد نص قاطع متى يكون، لكن بعض العلماء فهموا توقيتاً معيناً باجتهاد منهم.
قال القرطبي -رحمه الله-: "قال العلماء: وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال"، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، إذاً نحن قلنا الآن المحاسبة فيها عرض الصحائف، وتقرير العبد بأعماله، واطلاع العبد على أعماله، وتذكر العبد لأعماله، وفي أناس يُناقشون في الحساب وهذا يُعذب يعذب، وفي ناس الله يتجاوز عنهم، ويكون فقط مجرد عرض الأعمال عليه، وتقرير العبد ويستره بعد ذلك، ولا يناقشه في أعماله.
فقال القرطبي: إن الوزن بعد الحساب؛ لأن الوزن سيترتب عليه الجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها، قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47] [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص: 715].

الحكمة في نصب الموازين

00:41:48

وبناء على ذلك فإن الله إذا حاسب كل واحد ينصب له الميزان بعد ذلك؛ لتظهر النتيجة المحاسبة، ويطلع العبد على مصداق تلك المحاسبة ظاهراً في ميزانه، والحكمة في نصب الموازين أمور منها:
أولاً: ظهور آثار أسماء الله وصفاته، فالله العليم الخبير المحصي، كل هذا يظهر أثره في عملية الوزن، لا يخفى عليه شيء.
ثانياً: بيان قدرته -تعالى- على حساب خلقه على مثاقيل الذر، فيظهر أثر هذا، ويتبين للعباد كيف الله يحاسب على مثاقيل الذر. وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
ثالثاً: إظهار أنه لا تساوي بين المحسن والمسيء،  وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 58]، وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۝ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۝ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ۝ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: 22].
فإذاً لا يستوي المؤمنون والكفار، ولا يستوي المؤمنون والفجار، ولا يستوي الأتقياء والعصاة، فهنا تظهر في عملية الوزن تفاوت العباد.
رابعاً: فرحة المؤمن وخزي الكافر، وما يكون لهذا من الفرح عندما تثقل موازينه، وما يكون لهذا من الغم والحزن الشديد والخزي عندما تخف موازينه.
خامساً: إقامة الموازين ونصب الموازين فيها إقامة الحجة، أنت الآن هذا بالوزن العدل ما ظلمناك شيء، وهذا يدخل الجنة وهذا يدخل النار.
قال ابن أبي العز -رحمه الله-: "ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع، بخفاء الحكمة عليه ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفول"، يعني: في بعض المبتدعة حاولوا الطعن في الميزان، وقالوا: لا يحتاجه إلا البقال والفول، "وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنا ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف وراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه". [شرح الطحاوية: 1/419].


فقولوا لمن يرد ما جاء به نص الشارع المطهر ويتكلف ما يتكلف من التأويلات الواردة نقول له: بفيك الحجر.

فهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بُنيات الطريق

 

الأعمال التي تثقل الميزان

00:44:58

ينبغي على العبد المسلم أن يحرص أن يكون ميزانه ثقيلاً يوم القيامة؛ لأن هذا فيه الفلاح والنجاح، ولذلك النبي ﷺ كان من دعاءه إذا أخذ مضجعه من الليل: باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني، واجعلني في الندي الأعلى[رواه الحاكم في المستدرك: 1982، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 4649] يعني: الملأ الأعلى.
قال المناوي: "وهذا دعاء يجمع خير الدنيا والآخرة، فتتأكد المواظبة عليه كلما أُريد النوم، وهو من أجل الأدعية المشروعة عنده على كثرتها" [فيض القدير: 1/225].
إذاً: اللهم اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني، واجعلني في الندي الأعلى.
وباعتبار أن الأعمال تتفاضل فمنها الثقيل، ومنها الخفيف، فينبغي الحرص على ما يثقل الموازين، ولذلك فإننا نبحث عن العمل الأثقل؛ لكي نقوم به فتثقل موازيننا، فما هي الأعمال التي وردت في النصوص الشرعية أنها تكون ثقيلة في الميزان؟
أولها وأعظمها: كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، وقد مر معنا حديث البطاقة وجاء في المسند عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: إن نبي الله نوحاً ﷺ لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات والسبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يُرزق الخلق، وأنهاك عن الشرك والكبر [رواه أحمد: 6583]، قال الألباني في السلسلة: "إسناده صحيح [134].
ولأجل عِظم هذه الكلمة الطيبة في ميزان العبد أوصى الله بها نبيه موسى ، والتسبيح أيضاً وزنه في الميزان عظيم، كما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وهذه السهولة على اللسان والثقل في الميزان، هذه السهولة لمن يحلو ذكر الله في نفسه.


سُأل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة عموماً؟ يعني السيئات الأغاني سهلة، صلاة الفجر ثقيلة، فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها، يعني: أنت الآن تقوم الفجر شاق على النفس، فما الذي تشعر به؟ ثقل الحسنة، لكن الحلاوة ويوم القيامة والثواب لم يأت وقته بعد، السيئة بالعكس قال: والسيئة تحضر حلاوتها وتغيب مرارتها فلذلك تخف، فقال: "فلا يحملنك ثقل الحسنة على تركها ولا يحملنك خفة السيئة على ارتكابها"، كلام جميل!
 سأل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة؟ فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها، فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها". [فتح الباري: 10/397].
من الأشياء الثقيلة في الميزان التحميد كما جاء عن أبي مالك الأشعري، قال رسول الله ﷺ: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان معنى ذلك أن ذاكرها يمتلئ ميزانه ثواباً.
ذكر الله عموماً ثقيل في الميزان كما جاء في حديث النبي ﷺ: خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير ومن يعمل بهما يقيل يُسبح الله في دُبر كل صلاة عشرة ويحمده عشرة، ويكبره عشرة، فتلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان، لأنه عندك خمس صلوات، وعندك عشر وعشر وعشر، قال: وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة، فتلك مائة باللسان وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة، هذه الآن كفيلة بمقاومة السيئات، "قالوا: فكيف لا يحصيها؟ - إذا كانت بهذه المنزلة لماذا تفوت علينا- قال: يأتي أحدكم الشيطان، وهو في صلاته اذكر كذا اذكر كذا، حتى ينفتل فلعله لا يفعل، يعني: يقوم وما يسبح، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام فما يقول الأذكار، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [3410]، وصححه الألباني [صحيح الأدب المفرد: 926].
أيضاً من الأشياء الثقيلة في الميزان قوله عليه الصلاة والسلام: بخٍ بخٍ خمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والداه، وهذا الحديث رواه النسائي [9995]، وأحمد [18101]، وصححه الألباني [صحيح الترغيب: 1557]، أيضاً يدل على ثقل هذه الأذكار في الميزان.


حسن الخلق كما مر معنا في الحديث الصحيح: ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن [أحمد:920، وصححه الألباني ظلال الجنة: 782].
الوقف: قال ﷺ: من احتسب فرساً في سبيل الله، إذاً أوقف فرساً وقف للجهاد، من احتسب فرساً في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإن شبعه وريه، وروثه وبوله، في ميزانه يوم القيامة [رواه البخاري: 2853]، إذا أوقف فرس في سبيل الله، الشبع والري والروث والبول في ميزانه يوم القيامة.
من الأشياء الثقيلة في الميزان اتباع الجنازة، قال ﷺ: من تبع جنازة حتى يُصلى عليها ويُفرغ منها، فله قيراطان، ومن تبعها حتى يُصلى عليها فله قيراط، والذي نفس محمد بيده لهو أثقل في ميزانه من أُحد رواه أحمد وصححه الألباني [رواه أحمد: 21201، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 6135].

أعمال تخسف بالميزان

00:52:57

ما هي الأشياء التي يمكن أن تخسف بالميزان، وتجعله خفيفاً فيجب أن نحذرها؟
الرياء: قال ﷺ: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر، يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله لهم يوم القيامة إذا جُزي الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، تراءي رئيسك، تراءي شيخ، تراءي أباك، اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء، حديث صحيح. [رواه أحمد:23680، وصححه الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة:951].
انتهاك الحرمات، وما أشد انتهاك الحرمات، انتهاك الحرمات سواء كانت فروج أعراض، انتهاك حرمات الله ، تعدي حدود الله، انتهاك الحرمات هذا يخسف بالأعمال خسفاً، روى ابن ماجه عن ثوبان عن النبي ﷺ قال: لأعلمن أقوام من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله هباءً منثوراً، هذه مفاجأة.
"قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال:  أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها [رواه ابن ماجه: 4245، وصححه الألباني في صحيح الترغيب: 2346].
أسهل شيء عنده انتهاك المحرمات سهل جداً، يروح مشوار من أجل أن يزني، يطلع في السوق يزني، انتهاك الحرمات عندهم عادي جداً، قال: هؤلاء ناس يصلون معكم، ويقومون الليل لكن إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.


كذلك من الأمور التي توزن، وتخفف الوزن أيضاً في المقابل المظالم التي بين العباد، هذا بخس هذا، وهذا أخذ من هذا، عن عائشة: "أن رجلاً قعد بين يدي النبي ﷺ: يا رسول الله، إن لي مملوكين"، أن عندي عبدان، العبد سيده يشغله في الزراعة في النجارة في التجارة، فيأخذ الأرباح ويأتي بها إلى سيده، وقد بعض العبيد يسرق ويأخذ شيئاً ليس بحقه، "فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يُكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم"، هم يفعلون هذا وأنا أفعل هذا، "فكيف أنا منهم؟ قال: يُحسب ما خانوك، وعصوك وكذبوك -هذا في كفة- وعقابك إياهم -في المقابل-:  فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم -يعني بقدر خطأهم عليك- كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم -ذنوبهم في حقك أكثر من عقابك- كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم-العقوبة أشد من الذنب والتقصير- اقتص لهم منك ماذا يُقتص؟ الزائد، قال: اقتص لهم منك الفضل أنت عقوبتك أشد من ذنوبهم.
إذاً سيأخذون منك حسنات بقدر الزائد، قال: فتنحى الرجل، فجعل يبكي ويهتف فتأثر وخشي أن يكون عاقبهم أكثر مما ظلموه، "فقال رسول الله ﷺ: أما تقرءوا كتاب الله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]، فقال الرجل: والله يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدكم أنهم أحرار كلهم" [رواه الترمذي: 3165، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 2290]، خلاص اعتقهم، وارتاح، وهو حديث صحيح، يُبين أن هؤلاء الذين عنده، وخذ هذا على الموظفين الآن، مؤسسة عندك فيها موظفون، الموظف يمكن يسرق، يمكن يغيب عن الدوام، يمكن يقرأ جرائد، وما يشتغل الشغل المطلوب، وأنت تخصم عليه، وقد المسألة تتعدى إلى عقوبات أخرى، والحل والنتيجة؟ يُحسب، خصمت عليه أكثر من الذي قصر فيه، يأخذ منك يوم القيامة، خصمت منه أقل من الذي قصر فيه ستأخذ منه يوم القيامة، استويا لا لك ولا عليك، "يكذبونني": يعني في إخبارهم لي، أو يكذبونني، "ويخونوني" في مالي، "ويعصونني" في أمري ونهي، اشتمهم، يعني: أسبهم وأضربهم، "كيف أنا منهم" يعني عند الله، فقال: يُحسب ما خانوك، وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم شتماً وضرباً، الشتم محسوب، يعني: فقد يكون عندك واحد موظف مقصر فتشتمه، الشتم مع التقصير يوزن يوم القيامة، وبناء عليه سيكون هناك قصاص ونضع الموازين القسط ذوات العدل ليوم القيامة في ذلك اليوم، فلا تظلم نفس شيئاً لا من حسنة، ولا من سيئة، لا يزاد عليه سيئة، ولا ينقص من حسناته، الميزان والمحاسبة دقيق جداً.


قال عمر : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر  يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ  [الحاقة: 18]" إسناده جيد، كما قال الألباني، هذا أثر عمر . [رواه الترمذي: 2459، وقال الألباني. موقوف السلسلة الضعيفة:1201].
فعلى كل مسلم أن يُبادر بأعماله قبل أن توزن، فيتوب مما هو سيء، ويُكثر مما هو طيب، قبل أن يكون ذلك اليوم.

حال من لم تبلغه الدعوة في الدنيا

01:00:56

سبق أن تعرضنا إلى مسألة الذين تبلغهم الدعوة، نختم بها درسنا اليوم، الذين لم تبلغهم الدعوة في ناس في أقاصي الأرض وفي ناس حتى لما أُرسل الرسل كانوا في منطقة من الأرض ما سمعوا بالرسول، الآن مثلاً في ناس في أدغال في صقيع بلاد الجليد، في ناس في براري والقفار ما سمعوا عن النبي، ولا عن رسول، في ناس عندهم جهل عظيم جداً، وفي ناس سمعوا ولكن سماعاً مشوهاً يعني ليس كافياً في إقامة الحجة عليهم، هؤلاء ما وضعهم يوم القيامة؟ قال تعالى:  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا[الإسراء: 15]، قال ابن جرير: "وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار عليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم".
وقال قتادة -رحمه الله-: "إن الله -تبارك وتعالى- لن يعذب أحداً حتى يسبق إليه من الله خبر، أو يأتيه من الله بينه" [جامع البيان: 17/402].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولاً، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا"، ما هي النتيجة؟ من لم تبلغه الدعوة في الدنيا أفريقيا في أقصى آسيا في البرازيل في أي مكان، "فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة". [مجموع الفتاوى: 14/477].


وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- عن النبي ﷺ قال: أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق، فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفون بالبعر-يعني استهانة واستخفافاً به لأن العقلية لا توجد- وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فماذا يُفعل معهم؟ قال النبي ﷺ: فيأخذ مواثيقهم ليطيعونه، يأخذ مواثيقهم يوم القيامة يُجرى لهم امتحان ليطيعونه، فيعطون المواثيق أنهم سيطيعون الله في أي أمر يأتيهم، فيُرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاما، والحديث صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم. [طريق الهجرتين: 397]، ومن المعاصرين الشيخ الألباني [ابن حبان: 7357، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 881].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد رويت أحاديث الامتحان في الآخرة من حديث الأسود، وصححه عبد الحق، والبيهقي من حديث أبي هريرة وأنس ومعاذ وأبي سعيد، فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة" [طريق الهجرتين: 397].
ومن تأمل قدر الله يجد عجباً، يعني: في الخمسينات والستينات الميلادية هذه الماضية، كانت لا تكاد حتى السبعينات والثمانيات لا تكاد تجد شيء عن الإسلام في نشرات الأخبار، في نشرات الأخبار لا تكاد تسمع أشياء عن الإسلام، أخبار كلها في الغرب والشرق، والحرب الباردة، ويُجري الله أقداراً، انظر تأمل، يُجري الله أقداراً وتحصل أحداثاً في العالم، تقفز الأخبار عن الإسلام والمسلمين إلى قمة الشاشات ونشرات الأخبار، فالناس في الغرب والشرق يتساءلون ما هذا الدين؟ من هذا؟
الأحداث تحدث تتمحور وتدور على قضية الإسلام والمسلمين، وبالتالي الذي ما كان سامع يسمع، والذي ما كان يعلم يعلم، وهكذا، يعني: أن الله يُحب أن تبلغ الحجة خلقه.


تأملوا في الواقع الآن تجد أن الله أجرى من الأحداث ما وصل به الخبر عن الإسلام والقرآن إلى ناس في أقصى العالم، وخلق الله الانترنت وخلق الله القنوات الفضائية، وخلق الله الحوادث التي حدثت هذه ونفذت نسخ القرآن المترجمة من مكتبات في عدة بلدان أوروبية وأمريكية، صار الناس يقولون ما هذا الدين؟ ما هذا الإسلام؟ ما هي القصة؟ أحداث عجيبة!
فهذا يدل على أن الله يُريد أن تقوم الحجة على الخلق، يبقى ناس ما وصل إليهم، ولكن الحوادث التي نعيشها بسببها وصل إلى كثير من البشرية، وعن طريق الانترنت، والقنوات الفضائية، وصل لهم ما أقيمت به الحجة عليهم، في ناس ما وصل لهم خبر كافٍ.
وهناك ناس وصل لهم خبر مشوه، في ناس ما وصل لهم بعد سيصل إليهم الخبر وتقام الحجة، ونحن من وظيفتنا وواجبنا أن نقوم بالمساهمة بإقامة الحجة على الخلق، بتبليغهم هذا الدين؛ لأن هذه ينبني عليها الثواب والعقاب والجنة والنار والقيامة، ماذا سيكون، الناس هؤلاء العباد يوم القيامة، وهذا الامتحان للذين لم تقم عليهم الحجة سيكون، هناك ناس مضوا ماتوا جميعاً، لكن نحن من وظيفتنا من واجبنا أن نُبلغ هذا الدين إلى أقصى ما يمكن من الناس، أكثر من يمكن من الناس؛ لأن وظيفة الرسل إقامة الحجة وأتباع الرسل هذه وظيفتهم أيضاً إقامة الحجة، بالأساليب واللغات والأساليب المختلفة الممكنة.
ونسأل الله أن يغفر ذنوبنا، ويثقل موازيننا، ويرفع درجاتنا، إنه سميع مجيب.