الحمد لله سريع الحساب، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، الذي دعا إلى الله وأناب، صلى الله عليه وعلى آله والأصحاب.
درسنا في هذه الليلة في سلسلة أهوال القيامة ومواقفها عن أمر عظيم، وخطب جسيم إنه الحساب والجزاء.
يوقف الله العباد بين يديه ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها وما كانوا عليه في الدنيا من الأحوال، من كفر وإيمان واستقامة وعصيان، وما يستحقونه على ما قدموه من ثواب وعقوبة، ويؤتيهم كتبهم بأيمانهم وبشمائلهم إن كانوا طالحين.
يوم الحساب والجزاء
سمى الله -تعالى- يوم القيامة، واليوم الآخر، والأحوال والأهوال تلك كلها حساباً فقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1]، سماه بيوم الحساب، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[ص: 26]، بين أن حسابهم على الله حساب الخلق على الخالق، فقال تعالى:إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ[الغاشية: 26]، مدح نفسه في غير ما آية بأنه سريع الحساب، فقال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد: 41].
وبين لخلقه قدرته على ذلك وكفايته في حسابهم جميعاً، فقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]، والله يحاسب كل الخلق من أولهم إلى آخرهم كما يحاسب نفساً واحدة لا يطول الحساب لكثرة عددهم لا، يحاسب كل العباد كنفس واحدة، ولشدة الهول في ذلك اليوم تجثوا الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب لعظم ما يشاهدون، قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29]، جاثية باركة على الركب من الهول والشدة وعظمة ذلك اليوم، كل أمة تدعى إلى كتابها إلى كتاب أعمالها.
ولذلك قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، خيراً وشراً، يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13]، وقال : هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، يعني: يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقصان، وقوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، نأمر الحفظة من الملائكة بكتابة أعمالكم الصغير والكبير، قال النبي ﷺ: إن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية حديث صحيح [رواه الترمذي: 2382، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 1335]، يكون مشهداً جليلاً عظيماً في ذلك الموقف.
أول الأمم يوم القيامة حساباً
ومن رحمة الله أن هذه الأمة، وهي أمتنا الأمة المحمدية، هذه الأمة أمة الإجابة، الذين أجابوا داعي الله تسبق غيرها من الأمم في القضاء والحساب، ودخول الجنة، فقال النبي ﷺ: نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فُرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبعا، اليهود غداً، والنصارى بعد غد [رواه البخاري: 876، ومسلم: 855]، نحن وجدنا بعدهم بعد أمة السبت، وأمة الأحد، اليهود السبت، والنصارى الأحد، ولكننا قبلهم هدانا الله ليوم الجمعة، والجمعة قبل السبت والأحد، وكذلك نحن قبلهم يوم القيامة في الحساب، سنُحاسب قبل الأمم الأخرى، قال النبي ﷺ: أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق [رواه مسلم: 856].
وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: نحن آخر الأمم، وأول من يُحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأولون[رواه ابن ماجه: 4290، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2374].
فيُعطى كل عبد كتابه المشتمل على أعماله التي كان يعملها في الدنيا، أما المؤمن فإنه يؤتاه بيمينه، فيحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله في الجنة مسروراً، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: 8- 9].
فإذا اطلع على صحيفة أعماله سُر واستبشر ورفع صوته، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19-20].
أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حنظلة قال: "إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له: أنت عملت هذا؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقول له: إني لم أفضحك به وإني غفرت لك، فيقول عند ذلك: فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19-20]، متى قالها؟ قال ﷺ، قال عبد الله بن حنظلة في حديثه: "حين نجى من فضيحته يوم القيامة". [تفسير ابن أبي حاتم: 18974].
وأما الكافر والمنافق فإنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم، وعند ذلك يدعو الكافر بالويل والثبور: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 25-29].
تمنوا الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره عندهم من الموت، ومع ذلك يقولون يوم القيامة يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة: 27].
يا ليتها كانت موتة لا حياة بعدها، يا ليتها كانت الموت التي في الدنيا لا بعث بعدها ولا نشور ولا حساب، مع أنهم في الدنيا كانوا يكرهون الموت، هلك عني سلطانية.
قال قتادة: "أما والله ما كل من دخل النار كان أمير قرية، ولكن الله خلقهم وسلطهم على أبدانهم وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته". [الدر المنثور: 8/273].
وقال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 10-12]، فهذه هيئة الكاره المُكره الخزيان من المواجهة، فهذا التعيس قضى حياته في الأرض كدحاً تبينت له نهايته، ومقدم على مواجهة مصيره، فيدرك الآن أنه بعد العناء الطويل هذا سوف يصير إلى العذاب، فيدعو عند ذلك وينادي على نفسه بالهلاك؛ لعله يجد من ينقذه ولكن هيهات هيهات.
أنواع الحساب والعرض
ما هي أنواع الحساب والعرض على الله؟
المؤمن يحاسبه الله حساباً يسيراً، وينقلب بعده إلى أهله مسروراً، ويعلن فرحته على الناس، ولأجل ذلك كان النبي ﷺ يدعو ربه أن يجعله حسابه يسيراً، ففي الأدعية النبوية في بعض صلاته كان يقول: اللهم حاسبني حساباً يسيراً، قالت عائشة -رضي الله عنها- بعدما انصرف النبي ﷺ من صلاته، يا نبي الله، ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه، ينظر الله في كتاب العبد، فيتجاوز عنه، هذا الحساب اليسير، إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك [رواه أحمد: 24261، وصححه الألباني مشكاة المصابيح: 5562].
إذا وصلت المناقشة هلك، أما النظر وتجاوز نجا، وقد دل الحديث على أن الحساب اليسير الذي وعد الله -تعالى- به عباده المؤمنين الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم لا مناقشة فيه، ولا استقصاء، وإنما يُعرض عليه تعالى، ثم ينظر فيه فيغفر له، حتى يعرف منة الله عليه.
إن قال قائل: فلماذا ينظر الرب في كتاب العبد؟ ولما يُعرض الكتاب على الرب؟
فالجواب: لتظهر منة الرب على العبد، أنه نظر في كتابه، ورأى أعماله، والله عالم بها قبل أن يراها سبحانه، فينظر في كتاب عبده، والعبد الآن في غاية الوجل ماذا سيفعل الله به؟ فإذا تجاوز وغفر، ما ناقشه نجا، وإذا ناقشه هلك، فتظهر فائدة النظر في كتاب العبد، ثم المغفرة ليعرف العبد منة الله عليه في الستر، وأنه ستره في الدنيا وعفا عنه في الآخرة، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
إن النجاة في ذلك اليوم العصيب فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة، ولذلك تنطلق الصرخة هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19]. من شدة الفرح.
عن صفوان بن محرز المازني قال: "بينما أنا أمشي مع ابن عمر -رضي الله عنهما- آخذ بيده إذا عرض رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى؟ فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يُدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته [رواه البخاري: 2441، ومسلم: 2768].
الكنف يُطلق على الستر في اللغة، ويُطلق على الجانب، والمقصود به هنا أن الله يستر عبده من الخلق، لئلا يفتضح، لطفاً منه وإكراماً، ويناجيه مناجاة المصافاة لا يطلع عليها أحد، هو وعبده فقط، من هؤلاء السعداء الذين ييسر حسابهم، إن الله يقرره على ذنوبه، ولكن لا يناقشه عليها، عملت كذا؟ نعم، عملت كذا؟ نعم، لكن لماذا وفيما ومن أين، إذا كان نقاش فقد هلك، إذا صار نقاش على الصحيفة.
ثم إن من السعداء من يدخل الجنة بلا حساب أصلاً، وقد مر معنا حديث السبعين ألف، ومع كل ألف سبعون ألفاً وزيادة من الله -تعالى-.
وفي رواية الترمذي عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً، لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثياته من حثيات ربي. [رواه الترمذي: 2554، وهو حديث صحيح صححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 7111].
ومنهم من يعاتبه الله على ما قصر وفرط، إذاً هم منازل: ناس بلا حساب، ولا عذاب، وناس مع معاتبة، المعاتبة على تقصير على تفريط في حق الله.
فروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، الله لا يمرض، قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، وهذا يفسر أن المراد ثواب العمل، يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقيه أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي[رواه مسلم: 2569].
ومن هؤلاء المسرورين السعداء من يلقينه الله حجته إذا سأله عن أمره، وأمام هيبة الله من الذي سيتذكر ويستحضر حجة ويجمع في ذهنه عذراً يقوله، لأن الآن الإنسان في الدنيا إذا فوجئ بالوقوف أمام الملك، أو الأمير ضاعت علومه، فكيف إذا فوجئ بالوقوف أمام ملك الملوك بهيبته تعالى وعظمته، فمن الذي سيثبت؟
عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره، إذاً هنا سؤال على منكر رآه العبد في الدنيا فلم ينكره، إذاً هذه عليها محاسبة المنكرات التي نراها أمامنا، ونمر ولا نفعل شيئاً تجاهها، ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته، إذا لقن الله إذا أراد الله به خيراً، فإذا لقن الله عبداً حجته، قال: يا رب رجوتك، وفرقت من الناس [رواه ابن ماجه: 4017، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 929].
ومعنى فرقت من الناس، يعني: خفتهم فسامحت في حقك اعتماداً على أنك كريم، يُرجى فضلك، ولطفك بخلاف الناس، إذاً: إذا لقن الله عبداً حجته، سيقول: خفت على نفسي ورجوتك، رجوت فضلك، وخفت على نفسي من الناس، وهذا يشير إلى أن الشخص هذا قد يكون معذور فعلاً؛ لأنه لم يستطع خاف على نفسه، والقاعدة في إنكار المنكر أن من لم يستطع إذا كان الإنكار سيلحق به ضرراً لا يطيقه فإنه يسقط عنه الإنكار، أما إذا كان شيئاً يطيقه، فإنه لا بد أن يُنكر، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17].
وأما أهل الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم، أو من وراء ظهورهم، فأولئك يحاسبون الحساب العسير -نعوذ بالله من أسباب سخطه-.
تقول عائشة -رضي الله عنها- وكانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، لما قال النبي ﷺ: من حُوسب عُذب، قالت عائشة: أوليس يقول الله تعالى: فقال: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك [رواه البخاري: 103، ومسلم: 2876].
ناقشه الحساب إذا عاسره فيه، واستقصى فلم يترك قليلاً ولا كثيراً، سأله عن كل شيء، واستقصى وناقشه لماذا، وفي كل شيء.
قال النووي رحمه الله: " عُذب لهم معنيان أحدهما: أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ، وطول القيام والوجل الشديد، وهول الموقف هذا.
والثاني: يعني: أنه سيعذب، أو عُذب من نوقش الحساب عُذب، يعني: أنه مفض إلى عذاب النار". [شرح النووي على مسلم: 17/208].
هذه أولها، النقاش أولها، والنار تاليها، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: من نوقش الحساب يهلك، يعني: إلى النار، قال النووي: "وهذا الثاني هو الصحيح" [شرح النووي على مسلم: 17/208].
ولا مانع أن يجتمع عليه الأمران عذاب في التوقيف والنقاش وعذاب في النار، والتقصير غالباً في العباد فمن استقصي عليه، ولم يُسامح هلك ودخل النار، ولكن الله يعفو ويغفر وله تجاوزات عن العباد، فمنهم من بمشيئته ورحمته يُنجيه ويسامحه ولا يناقشه، ويستره فيالها من شدة شديدة وحسرة مديدة، ويا له من طرد ليس بعده وصل، وحرمان ليس بعده نيل، من نوقش الحساب يهلك، وقد جاء في حديث النجوى وأما الكافر والمنافقون، فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين [رواه البخاري: 103، ومسلم: 2876].
ومن الذين يناقشون نقاش العذاب أهل الرياء، كما جاء في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: "حدثني رسول الله ﷺ: أن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يقتتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أُعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمته أو عُلمته؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة كذبت، الملائكة تدري عن حاله، وهو من شهداء الله على خلقه، وتقول له الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال إن فلاناً قارئ، فقد قيل ذاك، أخذت السمعة في الدنيا وتلذذت بها، رياء الناس، فقد قيل ذاك.
ويؤتى بصاحب المال، ويقال له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق؟ فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد، فقد قيل ذاك، قالوا: كريم جواد سمعة بين الناس.
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله يعني: في الظاهر فيما يبدو للناس، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أُمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله -تعالى- له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذاك، قيل: شجاع، جريء.
"ثم ضرب رسول الله ﷺ على ركبته، فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسعر بهم النار يوم القيامة.
لما سمع معاوية هذا الحديث قال: قد فُعل بهؤلاء هذا، فكيف من بقي من الناس، ثم بكى معاوية بكاء شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[هود: 16]. [رواه الترمذي: 2382، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 22] ، أرادوا الدنيا فخسروا الآخرة.
محاسبة الكفار
هل يسأل الكفار ولماذا؟
اختلف العلماء في مسألة سؤال الكفار هل يحاسبون ويسألون أم يؤمر بهم إلى النار مباشرة من غير سؤال ومن غير حساب؟ وإذا كانت أعمالهم حابطة، فما الفائدة من السؤال والحساب؟ وإذا كانوا يحاسبون ويسألون فلماذا؟
والصحيح أن الكفار محاسبون، ومسؤولون وكما أن أعمالهم ستوزن، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62]، وهؤلاء كفرة مشركون بالتأكيد، ومع ذلك يقول: أين، في سؤال أين شركائي الذين كنتم تزعمون، وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65]، وقال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 24].
وقال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92- 93]، وقال : وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت: 13].
وهذه النصوص في أهل الشرك والكفر، الذين قالوا إن الكفار لا يُسألون احتجوا بنصوص ومنها: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ[القصص: 78].
ومنها: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39].
ومنها: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35- 36]، ونحو ذلك من النصوص، فماذا فعل أهل العلم في التوفيق بين السؤال المنفي والسؤال المثبت؟ نصوص فيها إثبات للسؤال ونصوص فيها نفي للسؤال، أجابوا عن ذلك بإجابات:
منها: أن السؤال المنفي هو سؤال الشفاء والراحة، السؤال الذي لا تقريع فيه، والسؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع، كذلك في الكلام، هنالك ما يدل على أن الله لا يكلمهم، وهناك نصوص أن الله يكلمهم، فالكلام الذي يدل على رضا منفي، الله لا يكلم الكفار كلام رضا ورحمة، والكلام الذي هو توبيخ وتقريع هذا هو المثبت.
ويمكن أن يقال أيضاً: إنهم لا يسألون سؤال استفهام عن أعمالهم لأن الله عليم بهم وبأعمالهم، ولكن يسألون سؤال تقرير لم فعلتم كذا؟ قال الحسن وقتادة: "لا يسألون عن ذنوبهم؛ لأن الله حفظها عليهم، وكبتها عليهم الملائكة، لكن يسألون لماذا فعلتم". [تفسير القرطبي: 17/174].
قد أرسلت إليكم رسولي لماذا خالفتم، قد تبين لكم الحق، لماذا عاندتم؟ ونحو ذلك من أسئلة التوبيخ والتقريع.
ويمكن أن يُجاب أيضاً بأن يوم القيامة يوم طويل جداً فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4]، فهذا اليوم فيه أحوال، ففيه حال يتكلمون، وفيه حال لا يتكلمون، وحال يسألون، وحال لا يسألون، ونحو ذلك من الأمور، فإذاً ليس هناك تناقض بين الأمور؛ لأن الله حكيم خبير عليم، فأنا لكتابه التناقض، فهي مواطن يوم القيامة مواطن وأحوال، فأحوال فيها سؤال وكلام، وأحوال ما فيها سؤال وكلام، ويختم على أفواههم، ولا يكلمون، ولا يتكلمون.
وكذلك فإن الملائكة لا تحتاج أن تسأل الكفار عن ذنوبهم، هذا السؤال المنفي؛ لأنهم يُميزون عن غيرهم، فلا يؤتى مثلاً يقال: ما هي مشكلتك أنت؟ ماذا عملت؟ هذا لا يقال؛ لأنه أصلاً معروف مختوم عليه، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106].
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن: 41]، فإذاً السؤال التعرف على كل واحد، أنت ماذا عملت، هذا منتهي مفروغ منه، فلا سؤال من هذه الناحية السؤال المنفي، وأما من جهة السؤال المثبت وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 24]، هذا سؤال التوبيخ والتقريع، ولماذا عملت ونحو ذلك فهذا سيحدث للكفار.
وإذا قيل لماذا يحاسبون؟ ولماذا ما يدخلون إلى النار مباشرة؟ ما هي فائدة الحساب؟ ووزن الأعمال إذا كان مصيرهم إلى النار؟
فيقال: أولاً: لإظهار عدل الله، ويعرف أهل الموقف كلهم هذا لماذا ذهب إلى النار، وهو نفسه ما يدخل النار إلا وهو مقتنع تماماً أنه يستحق دخولها، ما في ولا واحد يدخل النار وعنده شك أنه يمكن ما يكون مستحق لدخولها، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 11].
كل واحد يدخل النار يكون مقتنعاً تماماً استحقاقه دخول النار، وتقام الحجة ويظهر عدل الله، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14].
ثانياً: أن الحساب فيه توبيخ، وفيه تعذيب، وفيه تقريع، فيضاف إلى العذاب الذي سيأتي بعد عذاب النار، قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ[الأحقاف: 34].
وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام: 130].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "يُراد بالحساب عرض أعمال الكفار عليهم وتوبيخهم عليها، ويُراد بالحساب موازنة الحسنات والسيئات، فإن أُريد بالحساب المعنى الأول فلا ريب أنهم محاسبون بهذا الاعتبار"، الذي هو حساب التوبيخ والتقريع، "وإن أُريد به المعنى الثاني، فإن قُصد بذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات يستحقون بها الجنة، فهذا خطأ ظاهر". [مجموع الفتاوى: 4/305].
ما في حساب للكفار حساب احتمال رجحان الحسنات، لا ما في هذا الحساب، ولا هذا الوزن من هذا النوع، أمر محسوم معلوم حساب توبيخ وتقريع، وتطيش الموازين ما في احتمال أن لهم شيئاً يدخلهم الجنة.
ثالثاً: أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة، فإن قال قائل: لماذا يحاسبون؟
فالجواب: أنهم مكلفون بفروع الشريعة، مكلف بعدم لبس الذهب والحرير للرجال، مكلفين بكل الأحكام التي جاءت إيجاباً وتحريماً يحاسبون عليها، ولذلك قال الله عن المجرمين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 41-47].
فأولئك الكفرة يكذبون بيوم الدين، فلماذا يسألهم عن الصلاة؟ لأنهم محاسبون على الواجبات الشرعية، وعلى المحرمات لماذا عملوها، وعلى الواجبات لماذا لم يعملوها، ويعذبون على ذلك، لا يعذبون على الكفر فقط، بل يعذبون على الكفر وعلى بقية المعاصي وترك الواجبات، وكفى بالله شهيداً على خلقه في أقوالهم وأفعالهم، وهو الذي خلقهم، وقضى وقدر بعلمه وحكمته، ولا تخفى عليه خافية، قال : وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[يونس:61]، لا يغيب ولا يخفى، وقال : قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ[الرعد: 43].
الشهداء يوم القيامة
وهو يُحب الإعذار إلى خلقه؛ ولذلك بعث من مخلوقاته شهداء على المكذبين الجاحدين يوم الدين يبعثهم لئلا يكون لهم عذر إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، هناك أشهاد.
وقال: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر: 69]، الشهداء والذين سيشهدون يوم القيامة على أعمال العباد، هنالك شهداء على أعمال العباد سيشهدون عليهم، ومن ذلك أن أول من يشهد على الأمم الرسل، فيشهد كل رسول أنه بلغ.
قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء: 41]، وقال : وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89]، وكما يشهد الرسل على أممهم بالتبليغ فإنهم يشهدون عليهم بالتكذيب لمن كذب، قال : فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6].
وقال سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109]، الرسل شهداء على أقوامهم ويسألون، قال مجاهد والحسن والسُدي: "إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم". [ تفسير ابن كثير: 329].
الرسل عاشوا، ويعرفون ماذا قال الأقوام، وتأدباً مع الله كما قال عيسى : وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[المائدة: 117]، فيكفي علم الله، ومهما بلغ الرسل من العلم فلن يكون علم إحاطة وشمول، علم الإحاطة والشمول منفي إلا عن الله -تعالى-.
وتكذب الأمم الكافرة يوم القيامة تكذب، وقد ألفوا الكذب في الدنيا، ويظنون أنه ينفعهم يوم القيامة، فتقول كل أمة ما جاءنا من نذير، فتأتي أمة محمد ﷺ لتشهد عليهم أنه جاءهم نذير، قال : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
إذاً في عملية المحاسبة سيُسأل المرسل إليهم، وسيُسأل المرسلون، وسيكذب المُرسل إليهم المكذبين، يقولون: ما جاءنا من رسول، ما جاءنا من نذير، فيقيم الله عليهم شهداء، أنهم جاءهم رسل ونُذر.
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك، يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال: لأمته؟ هل بلغكم، فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فتشهدون أنه قد بلغ ، نشهد بناءً على ماذا؟ القرآن أخبرنا أنه بلغ، يعني: بلغ وآمنا، وسنشهد على هذا، بناءً على العلم اليقيني المأخوذ من الكتاب العزيز أن نوحاً بلغ فسنقول بلغ، وهود بلغ، يعني بلغ، وصالح وشعيب كل الأنبياء، الرسل فتشهدون أنه بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً فذلك قوله جل ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة : 143] [رواه البخاري: 4487].
وروى أحمد وابن ماجه: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيُدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيُدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، وسطاً يعني: عدلة، لتكونوا شهداء على الأمم أن الرسل بلغتهم، حديث صحيح، عن النبي ﷺ-.[رواه أحمد: 11575، وابن ماجه: 4284، وصححه الألباني صحيح الجامع: 8033].
ويشهد على العبد يومئذ الأرض، فإذاً من الشهود الذين يشهدون الأنبياء، وأمة محمد ﷺ، والأرض، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 4-5]، تُخبر ما جرى عليها من أعمال العباد، تُخبر ما كان عليها الخلق يعملون، بما علموا عليها من خير أو شر.
وأيضاً من الشهداء الملائكة، والملائكة يشهدون إلى أن يكون من الشهود الأعضاء التي تشهد على الإنسان، فإنه يُكذب ربه، ويُكذب الملائكة، ويُكذب فيقول الله له: ألا ترضى أن نبعث عليك شاهداً من نفسك؟ قال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[فصلت: 19-21].
وقال : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65].
وروى مسلم عن أنس قال: "كان عند رسول الله ﷺ فضحك، قال: هل تدرون مما أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، من مخاطبة العبد ربه، يعني: الكافر، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيُختم على فيه، فيقال لأركانه لأعضائه انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يُخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لكن وسُحقاً فعنكن كنت أناضل [رواه مسلم: 2969].
وجاء في المسند عن النبي ﷺ قال: إلا إن ربي داعيَ وإنه سائلي هل بلغت عباده، وإني قائل له: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مَدْعُوُّونَ مُفَدَّمَةً أفواهكم بِالْفِدَامِ، ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه [رواه أحمد: 20055، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2713].
الفدام ما يُشد على فم الإبريق لتصفية الشراب، فهؤلاء مختوم على أفواههم، ما يمكن أن يتكلموا، وممنوعين من الكلام، وتنطق الأفخاذ والأيدي، والنبي -عليه الصلاة والسلام- وجه الكلام لأصحابه، وقال: ليُبلغ الشاهد الغائب، مدعوون مفدمة أفواهكم بالفدام.
عموم المحاسبة يوم القيامة
عن أي شيء سيكون السؤال؟ يُسأل المرء يوم القيامة عن جميع أعماله، قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 93]، وهذا الحساب الذي يغفل عنه الناس، قال : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1]، دنا الحساب على الأعمال، وعلى النعم، وعلى المطاعم، والمشارب، والملابس، وسائر ما وهبهم الله إياه، ماذا عملوا فيه، وهل أطاعوه أم عصوه، والناس في غفلة معرضون، في الدنيا لاهون،
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح... [رواه البخاري: 4730]، وذكر قصة الذبح ذبح الموت، في آخرها قال: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ[مريم: 39].
يعني: أهل الدنيا، وفي رواية لمسلم: "أنه قرأ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، قال: وأشار بيده إلى الدنيا". [رواه مسلم: 2849].
يُسأل العباد عن كل شيء، من المسائل الكبار إلى الصغار من الأُسس والقواعد إلى الفروع، فأولاً يسألون عن الإيمان والكفر، فإذا وقف الكفار بين يدي الله سألهم عن كفرهم، وإذا وقف المشركون سألهم عن شركهم.
قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء: 93].
وقال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [النحل: 56]، يتقربون إلى الأصنام برزق الله، بدلاً من أن يتقربوا إلى الله بالرزق الذي آتاهم يتقربون إلى الأصنام بالرزق الذي آتاهم من الله، والأصنام لا تغني، ولا تسمن، ولا تنفع، ولا تضر سيسألون عن ذلك.
من الأسئلة أيضاً السؤال عن الأهل والأولاد والرعية، فقالﷺ: كلكم راع، ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده وهو مسئول عن رعيته فسمعت هؤلاء من رسول الله ﷺ وأحسب النبي ﷺ قال: والرجل في مال أبيه راع ومسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [رواه البخاري: 2409، ومسلم: 1829].
قال العلماء: "الراعي هو الحافظ المؤتمن، المُلتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه" -يعني في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم هذا- "أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه" -عمال موظفون طلاب عبيد أولاد أهل- "ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته" [شرح النووي على مسلم: 12/213].
وقال النبي ﷺ: إن الله سائل كل راع عنما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته. [رواه ابن حبان: 4493، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1636].
من الأشياء التي سيتم السؤال عنها: العمر والمال والعلم والشباب، كما جاء في حديث أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله ﷺ: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه[رواه الترمذي: 2417، وهو حديث صحيح، صححه الألباني صحيح الترغيب: 126].
من الأشياء التي سيتم السؤال عنها يوم القيامة النعيم الذي كانوا يتمتعون به في الدنيا، قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8].
خرج النبي ﷺ من بيته هو وأبو بكر وعمر في وقت الظهيرة من شدة الجوع، ما أخرجكم؟ أخرجنا الجوع، أخرجني الذي أخرجكما، هلم بنا إلى أبي الهيثم بن التيهان، نزلوا عليه ضيوفاً، فذبح لهم، وأكلوا من الشاة، ومن عذق نخلة قدمه لهم وشربوا، فلما شبعوا ورووا، قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم [رواه مسلم: 2038].
فإذا كان هذا للشيخين فما بالك بمن دونهما، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ الحديث وفيه: فيلقى -يعني: الله العبد فيقول: أي فُل -يعني: يا فلان- ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع، فيقول: بلى، فيقول: أفظننت أنك مُلَاقِيَّ، فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فُل، ألم أكرمك وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع، فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك مُلَاقِيَّ، فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني[رواه مسلم: 2968].
وعن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: إن أول ما يُسأل عنه يعني العبد من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد، [رواه الترمذي: 3358، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2022].
وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ[التكاثر: 8]، قال الزبير: يا رسول الله، فأي النعيم نُسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ هذا أيام الشدة والفقر، قال: أما إنه سيكون، [رواه الترمذي: 3356، وحسنه الألباني].
والسؤال عن النعيم ما معناه؟ يعني: هل شكر النعمة، أم لا؟ هل أدى حقها، أم لا؟ هل نسبها إلى الله أم إلى غيره؟ هل استعملها في شكره، أم في كفره؟
عن أنس قال: قال رسول ﷺ: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها [رواه مسلم: 2734].
وقال ﷺ: التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، فهذا من أصول الشكر. [مسند البزار: 3282، وحسنه في صحيح الترهيب والترغيب: 976].
ومما سيتم السؤال عنه يوم القيامة أيضاً العهود والمواثيق، فقد عظمها الله وعظم الالتزام بها وأنب الذين ينقضونها، قال : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ[النحل: 91].
وقال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34].
وقال: وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب: 15]، وأعظم عهد وميثاق العهد الذي أخذه الله على بني آدم وهم في أصلاب آبائهم أن لا يشركوا به شيئاً.
روى الإمام أحمد عن أُبي بن كعب: في قوله : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172].
قال أُبي: جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع، والأرضين السبع، وأشهد عليكم آباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئا، وإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك فأقروا بذلك". [رواه أحمد: 21232، حسنه الألباني في مشكاة المصابيح: 1/26].
كل عمل عمله الإنسان من أعمال الطاعة سيُسأل عنه بسؤالين لمن وكيف، لمن عملته؟ هذا سؤال عن الإخلاص، وكيف عملته؟ حسب السنة أو على هواه، حسب السنة والشريعة أو البدعة، حسب السنة والطريقة المحمدية، أو على تقليد الآباء والأجداد، على العلم أو على الجهل، فكل عمل عمله سيُسأل عنه بسؤالين لمن وكيف، عن الإخلاص وعن المتابعة.
أيضاً من الأشياء التي سيتم السؤال عنها الحواس، قال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء: 36].
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال في قوله: "لا تقف: يعني لا تقل". [صحيح البخاري: 6/84].
وأيضاً قال: "لا ترم أحداً بما ليس لك به علم"، وعن عكرمة: "سمعه وبصره يشهد عليه"، وعن قتادة في الآية: "لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا تقل رأيت ولم ترى فإن الله سائلك عن ذلك كله" [تفسير ابن كثير: 5/75].
ما هو أول ما يحاسب عليه العباد، أول شيء؟ قال ﷺ: إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلُحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها من انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك [رواه الترمذي: 413، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 540].
يعني: وعن الزكاة، وعن الصيام، وعن الحج، وهكذا، في فرض وفي نفل، هل الفرض كامل؟ إذا ما هو كامل، هل له من نوافل العبادة هذه ما يكمل به فرضه.
وعن عبد الله بن قُرط قال: قال رسول الله ﷺ: أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلُحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله [رواه الطبراني في الكبير: 1880، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1358]. وقال المنذري: "لا بأس بإسناده إن شاء الله". [الترغيب والترهيب: 551].
وكيف بحديث النبي ﷺ: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء [رواه البخاري: 6864، ومسلم: 1678].
فالآن أول ما يقضى أو ما يحاسب بين الناس في الصلاة، أو في الدماء؟ الجمع بينهما أن أول ما يُسأل عنه العبد من حقوق الله الصلاة، ومن حقوق المخلوقين الدماء القتل والجراحات حساب.
يجمعهما رواية النسائي من حديث ابن مسعود ﷺ: أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماءوهو صحيح. [رواه النسائي في سنن الكبرى: 3453، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1748].
وهذا يُبين عظمة موضوع الدماء عند رب العالمين؛ لأن البدء يكون بالأهم والذم يعظم بحسب المفسدة وتفويت المصلحة، ولا شك أن انعدام البنية الإنسانية وإزهاق الروح وقتل النفس هذا أمر غليظ جداً.
ولذلك قال ﷺ: يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول: يا ربي هذا قتلني حتى يدنيه من العرش سل هذا فيما قتلني [رواه الترمذي: 3029، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 8031].
حتى يدنيه من العرش، فيقترب المقتول والقاتل يوم القيامة من عرش الرحمن، وهذا المقتول يطالب بثأره وحقه، وقد قام سوق العدل في ذلك اليوم، انظر هذا فيما قتلني.
قواعد الحساب يوم القيامة
ما هي القواعد التي يحاسب عليها الناس يوم القيامة؟ الله لا يظلم، ولا يُسأل عن ما يفعل، سيحاسب الناس.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن نعمه على عبده المؤمن ما يسره له من الإيمان والحسنات، فإنها من فضله وإحسانه ورحمته وحكمته، وسيئات العباد من عدله وحكمته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو لا يُسأل عن ما يفعل لكمال حكمته ورحمته، وعدله لا لمجرد قهره وقدرته". [مجموع الفتاوى: 8/511].
فإذا شخص قال: ولماذا يُسأل الناس وهذا كل شيء مقدر عليهم؟ فنقول: قدر الله عليهم ما كان عشوائياً ولا اعتباطياً، الله أعظم من أن يكون قدره في العباد بلا حكمة، لا حكيم فكل تقدير الله على عباده لحكم وما قدر على هذا المعصية إلا لحكمة، وما وفق هذا لطاعة إلا لحكمة، كله لحكم، ولا يُسأل عما يفعل ويقال كيف يحاسبهم وقد قدر عليهم، ألم يعطهم إرادة؟ ألم يعطهم سمعاً وبصراً وقلباً؟ ألم يرسل لهم رسلاً؟ ألم يُنزل عليهم كتباً؟ ألم يُبين لهم طريق الخير وطريق الشر؟ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:10].
ثم كيف يقال بعد ذلك لماذا يحاسبهم وقد قدر عليهم؟! فيقال: لأن الأهلية للحساب والتكليف موجودة عندهم، ولذلك ترى المجنون، والخرف، ومن مات صغيراً لا يفقه، وقبل البلوغ هؤلاء لهم شأن آخر، ولذلك كان من أقوال العلماء في هؤلاء أنهم سيمتحنون يوم القيامة، والذي لا يفقه والخرف.
أطفال المسلمين يلحقوا بهم، وأطفال المشركين من الأقوال فيهم أنهم يُمتحنون، والله أعلم بما كانوا عاملين، طيب الامتحان لهؤلاء الذين ما كان عندهم في الدنيا عقل أو ما درى لا عن رسول، ولا عن كتاب، ولا درى عن نار وجنة، ما درى عن شيء، في ناس في الدنيا ما يدرون عن شيء؟! يُمتحنون يوم القيامة، الله لا يظلم أحداً فمما ورد في الأحاديث أن يؤخذ عليهم العهد والميثاق ليُطيعنه، هو سؤال واحد موقف واحد يؤخذ عليهم العهد والميثاق بالطاعة أي شيء يأمرهم.
فيقال لهم: قعوا في النار، فمن وقع فيها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى سُحب إليها.
على أية حال الله بصير بالعباد، وفي حيثيات في الحساب وأشياء.
شخص يقول: هذا كان يُجن، ثم يُفيق، ثم يُجن، هذا كذا، هذا دخل في غيبوبة طويلة جداً لسنوات، هذا صغير، هذا مات قبل البلوغ، هذا وصله الإسلام بطريقة مشوهة، الإعلام الغربي، في الأدغال، في الأسكيمو، كلٌ له حساب.
من قواعد الحساب
يعني: لم يُعجز الله أن يُحاسبهم، سيكون لهم طريقة حساب الرب يعلمها ، لكن من قواعد الحساب:
أولاً: أن الله لا يظلم الناس شيئاً، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]، إن تكن حسنة يضاعفها، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه: 112].
فالله لا يظلم، يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، قال في الآخر الحديث: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إيها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه [رواه مسلم: 2577].
في الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني في هذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا[النساء: 40]" [رواه البخاري: 7439، ومسلم: 183] .
يدخل في هذه القاعدة أن الله في الحساب وأعمال العباد على الصغيرة والكبيرة أصغر شيء فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8].
ثانياً: من القواعد أنه لا يؤاخذ أحد بجريمة غيره. ولا يُحمل الله -تعالى- أحداً وزر غيره، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]، قال تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام : 164]، وهذا من تمام عدله تعالى، قال سبحانه: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
قال القرطبي -رحمه الله-: "كل أحد يُحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتداءه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه" [تفسير القرطبي: 10/230].
وهذه القاعدة العظيمة واحدة من أصول الإيمان التي اتفقت عليها رسالات الأنبياء كلها، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى[النجم: 36- 37]، ماذا يوجد في صحف موسى وإبراهيم؟ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم: 37-41].
هل هناك تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل: 25].
وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت: 13]؟
الجواب: لا يوجد تعارض.
لماذا؟ لأن من عمل السيئة سيُجزى عليها، ومن تسبب في وقوع غيره في سيئة سيكون عليه مثل الإثم من غير أن ينقص من إثم الآخرين، فمن ضل يُحاسب على ضلاله ويأثم، ومن أضل غيره وتسبب في ذلك سيُحاسب ويُجزى على ذلك؛ لأنه من عمله، هو لما ضل الآخرين لما أسقطهم في الإثم، لما عاونهم على الشر، لما فتح لهم باب السيئة وشجعهم عليها وشاركهم فيها، هذا أليس عملاً من أعماله؟
إذاً سيُجزى عليه، فإذا شخص تسبب في وقوع شخص آخر في الإثم فسيكون عليه مثل وزره من غير أن ينقص من وزر الفاعل شيء، فالفاعل المباشر عليه وزر، والذي أمره أو شجعه أو فتنه أو أغواه سيكون عليه أيضاً وزر، كل واحد عليه وزره.
لا يزال الإنسان يستعجب من هؤلاء الذين يفتنون العباد في القنوات الفضائية، يبث مناظر وصور تفتن مليون، مليونين، عشرة مليون، كله على ظهره، أليس هو الذي بث وأمر وشارك ومول، وأنتج، وغنى، وعرض، كل ذلك في الحساب وسيجازون على ذلك.
كما أن من دعا إلى خير، وشجع عليه، وفتح الباب عليه، وأرشد إليه، وعاون عليه، سيكون له مثل أجر فاعله، قال ﷺ: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شَيْئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً[رواه مسلم: 2674].
فالآن الذين أسسوا الفرق البدعية، الذي أسس البدعة وأغووا فيها ملايين مشوا وراءه، هؤلاء أئمة الكفر، هناك كفار و هناك أئمة الكفر، هناك رؤوس الشياطين، هناك أتباع وهناك متبوعين، هناك قادة للشر قادة في العالم يغوون ملايين يمشون وراءهم في الشر، يرفعون اللواء، كلهم سيسألون ويحاسبون ويجازون، قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13].
ويدخل في ذلك الذي حُوسب على مظالم، فأعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فنيت الحسنات ماذا سيُفعل به؟ سيؤخذ من سيئاتهم وتوضع على ظهره، وتوضع على ظهره، وتوضع على ظهره، ومن سيئات فلان وسيئات فلان، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13].
قال ﷺ: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه [رواه البخاري: 2449].
فهذه العقوبة بسبب ظلمه، ولا يقال ما جنى، فلماذا يُحاسب ويُعذب؟ بل جنايته هي التي أدت إلى تراكم الأوزار والأثقال على ظهره.
ثالثاً: من قواعد الحساب بين الله وخلقه: أن يُطلع العبد على كل عمله، فمن إعذار الله لخلقه، ومن عدله في عباده أن يُطلعهم على جميع أعمالهم، حتى يكون الواحد عنده قناعة تامة بالمصير الذي ينتظره، فلا يكون عندهم أي عذر، ولا يدخل أحدهم النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10]، فما أشد مقت الله لأنفسهم، وما أعظم حسرتهم!
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30].
وقال تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ[الانفطار: 5]، وقال النبي ﷺ: لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم [رواه أبو داود: 4349، وصححه الألباني صحيح الجامع: 5231].
يعني: لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم فيستوجبون العقوبة، ويكون لمن يُعذبهم عذر، وقيل معناه: حتى لا يكون لهم عذر أبداً، قناعة تامة بالعذاب يستحق العذاب.
والله يُطلع عباده على أعمالهم بإعطاهم الصحائف، وأن يمكنهم من قراءتها، قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13- 14].
فكل شخص سيُمكن من مشاهدة وقراءة كل الأعمال التي عملها، كلها على طولها وكثرتها وتنوعها، سيُمكن من الاطلاع على سجله كاملاً، ألا ترى؟ يقول شخص منهم: أريد أن أنظر ورقة الامتحان، وأحياناً يُسمح له وأحياناً لا يُسمح له، أريد انظر نتائجي، يوم القيامة سيرى كل شيء ما في شيء مُخفى، ولا مُخبأ.
قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، لا يغادر يعني لا يترك.
وقال النبي ﷺ: إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟! أظلمك كتبتي الحافظون؟!، سبحان الله وسيُرزق كل شخص ذاكرة قوية جداً يوم القيامة يتذكر بها كل الأشياء التي عملها، كلها تخرج أمامه، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، [رواه الترمذي: 2639]، وهو حديث صحيح [صححه الألباني صحيح الترغيب: 1533].
رابعاً: من قواعد المحاسبة بين الله وخلقه، مضاعفة الحسنات دون السيئات. هذا من رحمته -تعالى- وفضله أنه يُضاعف لهم الحسنات والسيئات يكتبها سيئة واحدة ويُحاسبهم على ذلك.
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [التغابن: 17]، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا[النساء: 40]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160].
هل هي فقط عشرة بالمضاعفة؟ لا، في حديث مسلم قال ﷺ: يقول الله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وأزيد، ومن جاء بالسيئة فَجَزَاؤُهُ سيئة مثلها أو أغفر [رواه مسلم: 2687]، قال عليه الصلاة والسلام: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها[رواه الترمذي: 2910، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 1416].
في حديث الإسراء في حديث الصلاة: يقول الجبار: يا محمد! يقول: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يُبدل القول لدي، كما فرضت عليك في الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، أول ما فرض الله الصلوات خمسين صلاة في اليوم والليلة، وصارت المرادة والمراجعة بين موسى ومحمد ﷺ وإلى الله وينزل ويصعد، حتى نزلت إلى خمس، ولكنها بأجر خمسين، هذه الخمس التي نصليها بأجر الخمسين التي أول ما أخبر نبينا أخبره عن خمسين، فمن رحمته جعل الخمس بأجر خمسين، وأمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، قال: فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك، قال: كيف فعلت؟ قال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها [رواه البخاري: 7517].
هل المضاعفة إلى العشر فقط؟ الجواب: لا، ممكن تصل إلى سبعمائة، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة: 261].
كم يعني؟ سبعة في سبعة في مائة؟ سبع مائة، هل مقتصر على السبعمائة؟ لا، أكثر، قال: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
يعني: بحسب الإخلاص واتباع السنة يمكن العمل يرتفع إلى سبعمائة ألف، إلى أضعاف كثيرة جداً، والله يضاعف لمن يشاء، وكما أن البذرة تكون سبعمائة بحسب التربة الطيبة والسقاية والاهتمام والعناية من المزارع، كذلك الإنسان إذا انتقى الحسنة وراعها قبل وبعد وأثناء العمل وما منَّ، ولا آذى، وما رأى في نفسه عُجباً، فإنها تُضاعف.
وفيه حسنات تمشي، تعليم العلم، والجهاد والمرابطة في سبيل الله، أشياء عملها يُكتب إلى يوم يُبعثون، ومُضاعفات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، هذا تصريح أن التضعيف لا يقف على سبعمائة، ولذلك قال ﷺ: إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك: فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، هذه ما علمها لكن لأنه هم بها يُقال: خذ هذه حسنة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشرة حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، لأنه ترك السيئة لله، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة [رواه البخاري: 6491].
العجيب أن كل بعد هذه المضاعفات في الحسنات، وعدم المضاعفة في السيئات، وإذا هم بحسنة كُتبت له، ولو ما عملها، وإذا هم بالسيئة تكتب له حسنة إذا ما عملها لله، بعد كل هذا يخرج ميزان السيئات عند كثير من الناس كفة السيئات أثقل من الحسنات، معناها ما أكثر سيئاتهم، وما أقل حسناتهم، لو كانت الحسنات كثيرة كان رجحت، لكنهم يُكثرون من السيئات ويقلون من الحسنات، فمن حُرم هذا السعة، وفاته هذا الفضل، وكثُرت سيئاته وغلبت، فهذا هالك محروم، ومن الذين يحظون بالتضعيف العظيم "رجل جاء بناقة مخطومة، فقال ﷺ: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة [رواه مسلم: 1892]، الخطام الزمام حتى الحبل.
خامساً: من القواعد في المحاسبة بين الله وخلقه: تبديل السيئات حسنات، وهذه من الفضل العظيم لرب العالمين: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
إذا صحت توبة العبد فلا يُبعد في كرم الله أن يضع مكان كل سيئة حسنة، تنقلب السيئات الماضية بالتوبة فتصبح حسنات، بالتوبة النصوح، وهو كل ما تذكر السيئة ندم واستغفر الذنب، وهكذا يُصبح طاعة ويُنقلب حسنة في صحيفته، وآخر رجل يدخل الجنة: رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتُعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن يُنكر، وهو مُشفق من كبار ذنوبه أن تُعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك بدت نواجذه" [رواه مسلم: 190].
يعني: لما العبد رأى أن مكان كل سيئة مكانها حسنة، قال: سأل عن الكبائر التي ما عُرضت لكي تُبدل، ولذلك قال -في رواية الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً-: ليتمنين أقوام لو أكثروا من السيئات الذين بدل الله سيئاتهم حسنات حديث حسن [رواه الحاكم في المستدرك: 7643، وحسنه الألباني السلسلة الصحيحة: 3053].
لكن هل هذا معناه أننا نُكثر من السيئات؟ يمكن لو أكثر من السيئات ومات عليها أو ما وفق للتوبة، أو كانت التوبة غير نصوح، فماذا سيكون الحال؟
عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي ﷺ فقال: "أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها فهل لذلك من توبة"، وهذا يقع لبعض الناس يقول: أنا ما في كبيرة إلا وعملتها، أي ذنب تتخيله أنت عملته، "فهل لذلك من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، فما زال يُكبر حتى توارى"، ذهب الرجل. [رواه الطبراني في المعجم الكبير: 7235]، وصححه الألباني [السلسلة الصحيحة:3391].
الجزاء يوم القيامة من جنس العمل، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4]، جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 26]، فمثلاً: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180]، ما أدى الزكاة ماله يأتي ثعبان يطوقه، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[آل عمران: 161]، سرق ألف تجي الألف، سرق بعير يجي على ظهره، غصب أراضي على ظهره، أخذ شبر فقط من أرض إلى سبع أراضين يوم القيامة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124]، المعيشة الضنكا في القبر، ويكون أعمى في الآخرة، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: 126]، وتترك في العذاب.
ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة [رواه البخاري: 2442، ومسلم: 2580].
وإذا أقال مسلماً في البيع والشراء، ندم شخص في البيع والشراء أقاله أقال الله عثرته [رواه الحاكم في المستدرك: 2291، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 2614].
وهكذا، والله -تعالى- يرحم عباده المؤمنين يوم الحساب، رحمة عظيمة، رحمته ، رحمته واسعة، لكن لمن ستكون؟ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ[الأعراف: 156]، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156].
نسأل الله أن يجعلنا من المتقين، وأن يُخفف حسابنا ويثقل موازيننا، ونسأله أن يُثبت على الصراط أقدامنا، ويجعلنا يوم القيامة من الفائزين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.