الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن من ميادين تربية النفس أيها الإخوة: تربيتها على الجد في طاعة الله تعالى.
تعريف الجدية
والجد نقيض الهزل، وهو الاجتهاد في الأمور.
وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ: أنه كان إذا جد في السفر جمع" [رواه مسلم: 703] أي: اهتم به، وأسرع فيه.
ويقال: جد فلان في أمره، إذا كان ذا حقيقة ومضاء.
فمعاني الجد والجدية تدور على الاجتهاد في الأمر، والمبالغة في تحقيقه، والاهتمام به، والإسراع في إنجازه.
وهذا الجد من الأمور اللازمة لكل إنسان يريد أن يسير سيرًا مربحًا إلى الله اجتهادًا في الأمر، واهتماماً ومبالغة في تحقيقه، وبذل للطاقة والوسع، إنه مخالف للتردد والقعود، والتواني والكسل.
الحث على الجدية
والله قد ندبنا إلى المسارعة في الخيرات، هذه المسارعة التي تقتضي الجد في العمل لأجل الله ، والإنسان يحتاج إلى الجد كثيرًا؛ لأن العمر قصير، واللُبث يسير.
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا | ندمت على التفريط في زمن البذر |
وقد كان النبي ﷺ يوصي أصحابه بقوله: بادروا بالأعمال [رواه مسلم: 118].
اعملوا قبل ألا تستطيعوا أن تعملوا، إما أن تقوم الساعة، أو تأتي الفتن، أو تعرض العوارض، كالمرض وغيره.
والجد من صفات أهل الإيمان، وأولياء الرحمن، الذين امتدحهم الله بقوله: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون [المؤمنون: 61].
قال القرطبي رحمه الله: يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ أي: الطاعات، كي ينالوا أعلى الدرجات والغرفات.
يُسَارِعُونَ يعني: يكونون سراعًا إليه.
وَهُمْ لَهَا سَابِقُون أي: يسبقون إلى أوقاتها، فيعملون العمل الصالح في أول وقته، مبادرة منهم إلى طاعة الله تعالى، وحبًا للتقرب إليه، والاستعجال في عبادته على الوجه الذي يرضيه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: 84].
وأيضاً: فإننا نعلم أيها الإخوة، أن الواجبات أكثر من الأوقات، وإذا لم يكن عندنا جد في العمل، فمتى سننجز ما هو مطلوب منا، والواجبات أكثر من الأوقات، والأوقات تحتاج إلى استثمار صحيح، حتى نؤدي فيها أماناتنا، ونقوم بمسؤولياتنا؟
إن هناك أناس أعرضوا عن الجد، واشتغلوا بالهزل، واستعذبوا القعود، وأطالوا النوم، وتوسعوا في المباحات، فصار أمرهم في تباب وخسارة.
والنبي ﷺ يوقظنا بأمور تنبه الكسلان والغافل: يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا [رواه البخاري: 1044].
أهمية الجدية
والجد أيها الإخوة، يفتح مجال الطاقات الحبيسة في النفس، لكي تعمل، إذا وضع الإنسان نفسه في مجال وجو الجد اشتغلت وعملت.
إني رأيت وقوف الماء يفسده | إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب |
كما قال الشافعي رحمه الله [ديوان الشافعي: 3].
فالإنسان إذا تكاسل، وتوانى، وتوقف، يصبح كالماء الآسن، وإذا عمل واشتغل جرى في الأعمال كالماء الجاري، طاب معدن الإنسان، يصبح طيبًا بالجد والعمل.
ولذلك لما نتكلم عن تربية النفس، نقول: الجدية أو الجد مهم هنا، لكي لا تتعفن هذه النفس، ولا تكون في حال العجز والكسل الذي يوردها المهالك.
ثم يا إخوان، الإنسان عمره مراحل، والشاب إذا كان في وقت الشباب والعنفوان والقوة، لا يجد ويعمل بقوة، فمتى سيعمل؟
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ [رواه البخاري: 6412].
وقال بعضهم يوصي الشباب: يا معشر الشباب: "جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي، فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرت" [الرسالة القشيرية: 1/48].
إذا صار الإنسان متقدمًا في السن، فلا تكون عنده القوة اللازمة للقيام بكثير من الأعمال.
ثم إن الإنسان كلما جد اقترب من الله أكثر، وكلما اقترب من الله أكثر ارتفعت درجته عند الله: لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به... [رواه البخاري: 6502] الحديث...
ثم يا إخوان، هذا دين، وهو متين، ويحتاج إلى قوة لحمله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: 63]. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين [الأعراف: 170].
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ مستمسكون به، عاملون به، حريصون عليه، جادون في تطبيقه.
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12].
قال السعدي رحمه الله: "بجد، واجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معناه، والعمل به" [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 1/490].
فالله أمرنا بالجد كما أمر من قبلنا، وقال: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: 63] أي: بجد واجتهاد.
فلا بدّ من المبادرة، والعمل، والتحذير البالغ من التفريط، والإهمال، والكسل؛ لأن الندم هو العاقبة، قال الله : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَل [المؤمنون: 99 - 100].
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 10-11].
والنبي ﷺ حثنا على الجد بقوله: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز عندك قدرة اشتغل اعمل لا تقعد: ولا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان [رواه مسلم: 2664].
أيها الإخوة: إن المؤمن القوي الجاد لا يعجز ويترك العمل، بل يغتنم ساعات عمره في طاعة الله تعالى، والله فتح لنا أبواب أجر كثيرة، ليست أبواب الخيرات محدودة قليلة في الدين أبداً، هناك أبواب خير عظيمة كثيرة جداً، ولو اطلع الواحد على أي كتاب من كتب الترغيب التي ألفها العلماء لوجد أبوابًا كثيرة في الخير، وهذا من رحمة الله: أنه فتح لنا أبواب متعددة وكثيرة في الخير، وقال: اعْمَلُوا [فصلت: 40].
ولا شك: أن الإنسان المسلم سيحتسب الأجر في عمله مهما كان قليلاً، وينوع في الطاعات.
ومن أكره الصور: أن يوجد الواحد، كما قال عمر سبهللاً: "إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً" أي فارغًا "لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة" [تخريج أحاديث الكشاف: 1507].
فأشر شيء في العالم البطالة، كما ذكر عمر ، وذلك لأن الإنسان إذا تعطل عن الاشتغال بأمور تنفعه في الدنيا أو في الدين، فسيحدث أن هذا إنسان غير مفيد، ولا يستفاد منه، لا هو يعمل لمصلحة نفسه، ولا يفيد الآخرين بشيء.
وينبغي أن يكون الجد في أمور الدين مقدمًا على الجد في أمور الدنيا، والله قد أمر نبيه ﷺ بالجد والعمل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].
وحياة إبراهيم عليه السلام عمل: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام: 162 - 163].
ولا شك أن الجاد سيحصل له من الخير العظيم والارتقاء ما لا يحصل للكسلان المتواني.
إن رجلاً أيها الإخوة، من الجادين، لما سمع الملأ يأتمرون بموسى عليه السلام ليقتلوه: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص: 20].جاء من مسافة بعيدة.
هل جاء يمشي على مهل؟
كلا. جاء يسعى، يشتد في السير ناصحًا ومحذرًا موسى عليه السلام، وتحولت العاطفة إلى خطة وعمل: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20].
فالآن هو حذره، فقال: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوك [القصص: 20].
هل اكتفى بالتحذير ونقل الخبر؟
كلا، وإنما أرفق ذلك بنصيحة عملية، وهي الخروج فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20]. وموسى -عليه السلام- ما قال: أروح أودع أهلي، وأسلم على أصحابي، وأجمع عفشي ومتاعي فَخَرَجَ مِنْهَا [القصص : 21] مباشرة، وعمل بالتحذير.
بعض مجالات الجدية
والجد أيها الإخوة له ميادين كثيرة، فمن ذلك: الجد في طلب العلم، والجد في هذا يقتضي حضور الحلق، والتبكير إليها، والمواظبة عليها، ومصابرة النفس، النفس لا تريد الانطلاق، تحب النوم، تحب الكسل، فإذا قيل: احبس نفسك في الدرس، كان ذلك شاقًا على النفس، لكن الشخص الجاد يصبر، ويحبس نفسه لما يفيده، وكذلك يرحل ويسافر في طلب العلم، ويتحمل المشاق: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122].
المسألة فيها إنذار، وتحتاج إلى إعداد لأجل الإنذار، ولذلك حث الله طلبة العلم أن ينفروا لتعلمه؛ ليحذروا قومهم.
وتربية الآخرين تحتاج إلى جد -سواء تربية الأولاد، تربية الزوجة، تربية الأهل- لو أنك تريد أن تلتزم بإقامة ولدك للصلاة كل يوم، هذه عملية تحتاج إلى جد كبير، وإلا فالإنسان يمل وقد يترك.
والجد للعمل للإسلام، والدعوة عمومًا لا شك أنها مما يؤدي إلى رفعة شأن الدين، وهذا أمر مطالبون به، ومن مسؤولياتنا.
أيها الإخوة: إن الشخص الجاد، جاد في كل شيء، حتى في تطلعاته، وفي أمانيه حتى قبل أن تكون أعمالاً، فهو جاد في أفكاره وطموحاته، وهذه الأشياء الحبيسة في نفسه، والأفكار التي تتولد، والخواطر هذه جادة أيضاً، بمعنى أنه يفكر دائمًا كيف يعمل على رفعة شأن الدين؟ وهذه الأماني قد تكون كاذبة، وقد تكون أماني صحيحة، فإذا كانت الأماني مقرونة بالأعمال، متبوعة بالعمل، فهذه أماني جادة.
أما أن الإنسان فقط يتمنى دون أن يعمل، فالله قال: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه [النساء: 123].
وبعض بني إسرائيل: قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة: 246].
ومن الناس: مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا [التوبة: 75 - 76] عن العمل، فهذه أماني كاذبة، لأنها افتقدت إلى الصدق، ما أُتبعت بعمل.
لكن عندما ينوي الإنسان أن يعمل بأمانيه هذه فعلاً؛ فإنه يؤجر ولو ما عمل: من سأل الله الشهادة بصدق أنزله الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه [رواه مسلم: 1908].
ما تمكن من العمل، فيبلغه الله ذلك، واحد مر من شارع، فرأى مسجدًا بناه غني، فقال: لو أن لي مال فلان؛ لعملت بعمله، فهما في الأجر سواء.
هذه الأماني الصادقة، تسبب ارتفاع درجة صاحبها.
فلذلك يا إخوان لو قلنا: هل أنا جاد؟ هل أنت جاد؟ هل نحن جادون؟
لا بدّ أن يكون عندنا برامج علمية، لا بدّ أن يكون عندنا خطط، قد نفكر بأمور جميلة لرفعة شأن الدين، الدعوة إلى الله، عندنا طموحات، وعندنا أفكار، لكن إذا لم توجد خطط لتنفيذ هذه الأفكار، فهذا لا يدل على الجدية، وإنما تبقى القضية مجرد أماني في النفوس، لم تنفع صاحبها، ولذلك الشخص الجاد دائمًا يفكر في السبل التي تعين على تنفيذ هذه الطموحات.
قال ابن القيم رحمة الله عليه: "ومما ينبغي أن يعلم: أن من رجا شيئًا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أولاً: محبة ما يرجوه.
وثانيًا: خوفه من فواته.
وثالثًا: سعيه في تحصيله" [الجواب الكافي: ص: 39].
من رجى شيئًا إذا كان صادقًا، ثلاثة أمور: محبته، والخوف من فواته، والسعي في تحصيله، وأما رجاء لا يقارنه شيء، فهو من باب الأماني الكاذبة.
علامات وصفات الجادين
الحرص على اغتنام الأوقات
إن الجد الذي يجب أن تتصف به نفوسنا له علامات: فالشخص الجاد: حريص على اغتنام الأوقات، يدرك قيمة عمره، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما" [مكارم الأخلاق للقرشي: 47].
ولذلك كان السلف رحمهم الله عندهم حرص على اغتنام الأوقات في كل ما يمكن عمله، ولذلك لما قالوا في وصف حماد بن سلمة: "لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدًا ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا" [تذكرة الحفاظ وذيوله: 1/151].
يعني: واحد وصل لدرجة التشبع، مغتنم كل الأوقات، لو قيل له: إنك تموت غدًا ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا، هذا وصل إلى القمة.
قال بعض طلاب سليمان التيمي رحمه الله، وهو حماد بن سلمة هذا الذي مر معنا -كما ذكرنا عملية اكتساب الصفات تأتي من ملازمة القدوات- حماد بن سلمة أخذها من شيوخه، ومن شيوخ حماد سليمان التيمي، فماذا قال في سليمان التيمي: "ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا ووجدناه مطيعًا" إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم يكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئًا، أو عائدًا مريضًا، أو مشيعًا جنازة، أو قاعدًا في المسجد، "فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله" [تذكرة الحفاظ وذيوله: 1/114].
لو أراد أن يعصي يفشل، لا ينجح في المعصية، لا يحسن أن يعصي الله، من كثرة اشتغاله بالطاعات.
الاهتمام بالمسؤوليات وتنظيم الأوقات
من علامات الشخص الجاد: الاهتمام بالمسؤوليات، وتنظيم الأوقات؛ لأنه يعلم أن الواجبات التي عليه كثيرة، فإنه لا بدّ من إعطاء كل ذي حق حقه، وهذا لا بدّ من ترتيب للوقت، وتنظيم الوقت فيه، ولذلك عمر لما قال: "إن لله عمل في الليل لا يقبله في النهار، وعمل في النهار لا يقبله في الليل" [المصنف لابن أبي شيبه: 3].
المسألة معناها: هناك أعمال معينة لا بدّ أن تؤدى في أوقات معينة، ولو أنك أجلتها إلى وقت آخر، لا يقبلها الله.
فهناك أحيانًا فروض عين، أو فروض كفاية، لا بدّ أن يقام بها الآن، مثلاً لو واحد رأى منكرًا، لو توانى، وقال: سأنكر بعد ساعة، يمكن راح صاحب المنكر، ومشى، واختفى، وفاتت الفرصة، فلا بدّ أن ينكر فورًا وحالاً.
فينظم الإنسان وقته بناءً على الأولويات، مثلاً: يقدم الأوجب، أو الأعلى درجة، الأكثر أجرًا عند الله، ثم الشيء الذي يفوت ينفذ فورًا، يقدم على الشيء الذي لا يفوت.
هذه من الاعتبارات في عمليات تنظيم الأوقات، الشيء الذي يفوت يقدم على الشيء الذي لا يفوت.
أذكر أنني سألت الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله عن رجل قام قبل الفجر بدقائق هل يوتر، أو يتسحر وهو يريد الصيام؟
فقال الشيخ: يتسحر لأن السحور ما له قضاء، والوتر له قضاء.
ولذلك عملية تنظيم الأوقات يا إخوان، تحتاج إلى فقه، تحتاج إلى علم، نقول: مراعاة الأولويات بناء على أي شيء؟ تقدم هذا وهذا بناء على ماذا؟
ولما نقول مثلاً: الأعلى درجة يقدم، الأحب إلى الله يقدم، معرفة الأحب إلى الله هذا يحتاج إلى علم.
ولما نقول: ما يفوت يقدم على ما لا يفوت، وما ليس له عوض يقدم على ما له عوض، وما لا يقضى يقدم على ما يقضى، هذه مسائل تحتاج إلى علم، فالجد لا بدّ أن يكون عند صاحبه علم.
ثم الشخص الجاد يضرب في كل غنيمة بسهم.
والنبي ﷺ لما سأل أصحابه مرة، والله أراد أن يكشف للناس فضل الصديق، فسأل عليه الصلاة والسلام أصحابه مرة أسئلة: من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، من أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا، من عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا." - أجاب لأنه سؤال موجه من النبي عليه الصلاة والسلام, هذا غير الرياء، والنبي ﷺ، لا بدّ أن يطاع، ويجاب-.
قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة [رواه مسلم: 1028].
من الجد أننا نضرب في كل عمل خيري بسهم، ونحاول جمع الفضائل.
ثم من صفات الشخص الجاد -يا إخوان-: أنه دائم الارتقاء، بعض الشباب في مسيرتهم متذبذبين، تارة ينزل، وتارة يطلع، وقد يأتي عليه وقت طويل وهو نازل، أو وهو هامد بارد، بينما الشخص الذي يعمل باستمرار وعنده جدية يرتقى باستمرار.
وقال إبراهيم الحربي رحمه الله: "لقد صحبت أحمد بن حنبل عشرين سنة صيفًا، وشتاء، وحرًا، وبردًا، وليلاً، ونهارًا، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس" [طبقات الحنابلة: 1/92].
كل يوم الإمام أحمد في ارتقاء وزيادة، كل يوم أحصله أكثر إيمانًا، أكثر علمًا، هذا الرجل موفق، إنسان جاد، فلذلك كل يوم يزيد.
وكانوا يتأسفون على شيء مضى من العمر دون اغتنام، فقال قائلهم: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي" [مفتاح الأفكار في التأهب لدار القرار: 1/181].
فكل يوم يمضي آجالنا تنقص يوم؛ لأن الأجل محدد، مكتوب لنا أربعين سنة، خمسين، سبعين، ثمانين مكتوب، كل يوم يمضي العمر ينقص، إذا كان يمضي ولا نزيد نحن خيرًا وبرًا فنحن إذًا في خسارة.
عملهم أكثر من كلامهم:
ثم من صفات الجادين يا إخوان: أن عملهم أكثر من كلامهم، وقال بعض السلف وهو إبراهيم النخعي رحمه الله: "ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس: أي أكثر في تحديثهم ووعظهم.
أولاً: قول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44].
ثانيًا: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه [هود: 88].
وثالثًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون [الصف: 2]. [الجامع لأحكام القرآن: 18/80].
"وإذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، إذا أراد الله بعبد غير ذلك فتح عليه باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل" [حلية الأولياء: 4/27].
ولذلك ترى بعض الشخصيات في المجالس -مثلاً- كثير الكلام، جدال، نقاش لا فائدة منه، يفتح مواضيع، ويخلق مواضيع، ويخترع مواضيع، ولا تحس أن هناك فائدة عملية من وراء هذه النقاشات إلا إهدار الأوقات، وإثارة الشحناء، كل واحد يريد أن يثبت -من هؤلاء المصابين بهذا الداء- أنه على حق، وأن غيره غير محق، ونحو ذلك، فيصير هناك جدال وكلام كثير، ولغط، دون أن تكون هناك نتيجة عملية.
فالسعيد من قل كلامه، وكثر عمله.
وكثرة الكلام أصلاً تؤدي إلى كثرة السقطات، وتؤدي إلى كثرة الزلات، فأهل الجد يشغلون أنفسهم بالعمل، فإذا تكلموا أحكموا زمام ألسنتهم من أن يهذي الواحد بما لا يعرف.
والإنسان الجاد مهما صار عليه من الضغوط، والأزمات النفسية، والمصائب عنده دائمًا باب عمل، أنس بن النضر لما صار في جو الهزيمة في أحد، ويرى أصحابه قد قتلوا، انكشف المسلمون، وصارت الهزيمة العظيمة، عنده علم صاحب مبادرة، وجد- قام يقول: "اللهم إني أبرأ مما فعل هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء، يعني: أصحابه المسلمين، وقام يطعن، يقاتل يضرب بسيفه، ويجندل، ويصرع، ويجرح حتى قتل، وفيه سبعين طعنة، ورمية، وضربة بسيف، أو رمح، أو سهم" [رواه البخاري: 2805].
الشخص الجاد تجده حتى في وقت المصيبة يعمل، أذكر أني التقيت بواحد من الإخوة البوسنويين -في وقت اشتداد أزمة البوسنة، والمذابح المتعاظمة التي صارت- فمن تسلسل الكلام وهو يقص: أنه صار كذا، وصار كذا، فصار أنا عندي شعور أنه لا الفائدة الآن الصرب مسيطرين، وهؤلاء في ذبح، وقتل مستمر.
قلت: ما عندكم شيء تعملونه؟
قال: بلى، عندنا مجال كذا، ومجال كذا، فأعجبني فيه أنه يتوقد أفكارًا، وعملًا، وتخطيطاً، وانفتاح باب المجالات في عز الأزمة التي صارت.
لكن يا إخوان، هؤلاء قلة، الذين يعرفون العمل في وقت المصائب والشدة قلة؛ لأن كثيرًا من الناس إذا صاروا في وقت الأزمات استسلموا، وهذا يزيد المذابح، ويزيد البلاء، ويزيد الطين بلة، لكن الإنسان ممكن يصنع بأمر الله تعالى وإذنه من أشياء قليلة أعمالاً عظيمة إذا كان صاحب جدية، وطموح، ويمكن أن ينفذ خطط تغير مسار أحداث، تمشي في اتجاه كما يرى بعض البشر، وإذا بها تذهب في اتجاه آخر؛ لأنه وضعت خطة نفذت.
كيف تكون جاداً؟
ومما ينبغي أن نعلمه: أن الجد هذا ما يأتي من فراغ بالنسبة للمسلم، الجد يأتي من استعانة بالله، من توكل على الله، من معرفة مفهوم العمل في الإسلام، وأهميته، من الإقلاع عن الذنوب، الذنوب تثبط، تجعل الإنسان ليس عنده جدية، كثرة الذنوب تميت القلوب، وكذلك فك إسار الشيطان للإنسان، الرسول ﷺ كان يقول في دعائه: وفك رهاني، وأخسئ شيطاني [رواه أبو داود: 5054، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4649].
الإنسان يقيد بالذنوب، وبالشيطان يكبل، إذا تاب وأكثر من ذكر الله انطلق، وهذه قضية متعلقة بالجدية تعلق مباشر.
فلا بدّ أن نحرص عليه أيها الإخوة، فالذكر يسبب قوة للإنسان، وحديث فاطمة وعلي يدل على ذلك: تكبران أربعا وثلاثين، وتسبحان ثلاثا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم [البخاري: 3705].
قبل النوم، فيرزق الإنسان بهذا قوة في بدنه، كما يرزق قوة في قلبه، علي ما تركها حتى في ليلة صفين، وهو في هم المعركة. وكما مر في صفات أخرى: الإنسان يكتسب الصفة من مخالطة من اتصف بها، فإذا قال واحد: أنا أريد أن اكتسب الجدية؟
نقول: يا أخي خالط الجادين.
قال بعض الدعاة: يا إخوان: الدعوة الأوساط الدعوية مثل البيت فيه شباك يأتيك منه النور والهواء، وفي فتحة بلاعة ممكن تأتيك منها مصائب ومشاكل، فحتى بضع البيئات الإسلامية أو الدعوية فيها ناس هكذا، وناس هكذا، في ناس يثيرون مشكلات، يضعون عراقيل، يعيقون الحركة، وفي ناس يحلون المشكلات، ويقاومون المعضلات، ويقودون غيرهم، ويحرك نفسه، ويحرك الآخرين، جاد، صاحب مبادرات.
فأقول: حتى بالنسبة للشباب الأخيار، أو الذين يريدون يسلكون سبيل الاستقامة، ليس كل من حولك سواء، وقد يبتلى الصف الإسلامي بأناس عندهم مشكلات ومصائب.
وهذا كثيرًا ما تدهور العمل الإسلامي، وتأخر في الدعوة، بفعل أشخاص عندهم صفات من هذا النوع، ولذلك اندس في صفوف الدعوة في المدينة منافقون.
والله تولى كشفهم في سور.. ومنهم.. ومنهم.. ومنهم.. هذا لأهمية القضية، فهناك ناس فيهم نفاق، وهناك ناس فيهم بعض صفات النفاق، وهناك ناس فيهم مشكلات كثيرة، وفيهم عقد نفسية، فيهم مما قذفه المجتمع من رحمه المليء بالمصائب والمعاصي، يقذف حتى إلى مجتمع الصحوة بشخصيات فيها مشكلات متعددة كثيرة، قد الناس يحبون الجدل: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء: 72]. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة: 47].
موجودين في الصف قد يكون سوء نية، قد يكون بحسن نية.
فإذا قال شخص: أنا أريد أن أكتسب الجدية، كيف أكتسبها؟
نقول: بأن تكون مع الجادين، بأن تعاشر هؤلاء، بأن تقتدي بهم.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
والمرء على دين خليله [رواه أبو داود: 4835، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 927].
والإنسان يتأثر بمن حوله تأثرًا كبيرًا، ولذلك قال الأصفهاني في كتاب: "الذريعة" قال: "حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار، فهي قد تجعل الشرير خيرًا ،كما أن مصاحبة الأشرار تجعل الخير شريرًا" [فيض القدير للمناوي: 5/506].
وقالوا: إياك ومجالسة الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه، وأنت لا تدري.
وكذلك إذا رافقت الأخيار فأنك بدون أن تحس أحيانًا تكتسب طباعًا، ولذلك الإنسان إذا لازم أهل العلم والقدوات، هو يحس بعد فترة أنه ارتقى، وأن مستواه تحسن، ويستغرب كيف تحسن مستواه، أو ما هذا الشيء الإيجابي والتغير الإيجابي الذي طرأ عليه؟
هذا يا إخوان، من المقارنة، ومن الملازمة، والمعاشرة، والمخالطة، الإنسان يكتسب وهو لا يشعر صفات وخصال، تنمو فيه أشياء، ولذلك مرافقة الأخيار، ومخالطة هؤلاء الجادين، تكسب الإنسان صفة الجدية، بل وتنميها، وتزيدها في نفسه.
والشخص إذا كان نظرته نظرة دَنية ما يكون من أصحاب الجدية، وإذا كانت نظرته نظرة علوية يكون من أصحاب الجدية، النفوس الصغيرة ترى السعادة في الدعة، والكسل، والخلود إلى النوم والراحة، والإكثار من المطاعم والمشارب، واللهو بالمباحات.
وأما المكارم، لا تنال إلا بالصعاب، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، ولا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد، ومن طلب الراحة ترك الراحة" [مفتاح دار السعادة: 1 / 109].
واحد قال: أنا أريد أن أرتاح، كيف أرتاح؟
نقول: لا ترتاح، من أراد الراحة ترك الراحة، ومن تعود الكسل، ومال إلى الراحة، فقد الراحة، فحب الهوين يكسب التعب، وإن أردت ألا تتعب، فاتعب لئلا تتعب.
قالوا السعادة في السكون | وفي الخمول وفي الخمود |
في العيش بين الأهل | لا عيش المهاجر والطريد |
في لقمة تأتي إليك | بغير ما جهد جهيد |
في المشي خلف الركب | في دعة وفي خطو وئيد |
في أن تقول كما يقال | فلا اعتراض ولا ردود |
في أن تسير مع القطيع | وأن تقاد ولا تقود |
في أن تعيش كما يراد | لا تعيش كما تريد |
قلت الحياة هي التحرك | لا السكون ولا الهمود |
وهي التفاعل والتطور | لا التحجر والجمود |
وهي الجهاد وهل يجاهد | من تعلق بالقعود |
وهي التلذذ بالمتاع | لا التلذذ بالرقود |
هي أن تذود عن الحياض | وأي حر لا يوذود |
هذه الحياة وشأنها | من عهد آدم والجدود |
فإذا ركنت إلى السكون | فلذ بسكان اللحود |
الأموات
أفبعد ذاك تظن أن | أخا الخمول هو السعيد |
صاحب المعالي يتعب، ولا يمكن أن يركن، والجاد دائمًا في عمل، يكتشف قدراته، ويطور ذاته، ويتذكر الأجر الذي يحركه؛ لأن معرفة الأجر المحرك للعمل، فلا بدّ -لكي تحصل الحماسة، وهي من الجدية- أن يكون هناك معرفة بالأجور التي ذكرها الله ورسوله للأعمال الصالحة، ولذلك كان بعض السلف يقول: "مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها، وأغلالها، فقلت: يا نفس أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قلت: فأنت الآن فيها فاعملي" [التدوين في أخبار قزوين: 1/ 463].
فتذكر الجنة، وما أعد الله فيها يحمس على العمل، محاسبة الإنسان لنفسه كم الآن ضاع مني وقت؟ في أي شيء صرفت وقتي هذا؟ مما يجعله يجد أكثر في العمل.
والنبي ﷺ كان له أدعية، إذا اهتم الإنسان بهذه الأدعية يرزق أيضاً جداً ونشاطًا، ألم تر أنه ﷺ كان يقول: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين [رواه الترمذي: 3235، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب للألباني: 3561].
وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل [رواه البخاري: 2893].
الاستعاذة من العجز والكسل في غاية الأهمية.
العجز ألا تستطيع أن تعمل، والكسل عندك قدرة لكن متكاسل عن العمل، فيستعيذ الإنسان منهما؛ لأن كلا الأمرين العجز والكسل مانع من الإنتاج، العجز والكسل كلاهما يمنع من الإنتاج؛ لذلك لما قال: أعوذ بك من العجز والكسل.
فإن الدعاء هذا نافع جداً يا إخوان، في مسألة الانتاج، والجد والحماسة، وأن يكون الإنسان ثمرة ثمار ينتجها، ولذلك نسأل الله الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، الإمضاء والقوة.
وكذلك، فإن تذكر الإنسان للموت، وسرعة انقضاء الدنيا، وأن العمر يمضي، يجعله يواصل العمل أكثر إلى آخر لحظة. من علم قرب الرحيل عن مكة استكثر الطواف، من زمان كان يأتي الحجاج من مسافات بعيدة جداً، حتى ربما التقى حُجاج العام الماضي مع حُجاج الذين يأتون للحج العام الذي بعده في الطريق، في البحر الذين يأتون من إندونيسيا مثلاً، طبعاً كانوا يأتون قبل الحج بوقت، ويجلسوا في مكة، يتأخرون أكثر شيء ممكن، فهم في الذهاب يتقابلون مع حجاج السنة التي بعدها.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: "من علم قرب الرحيل عن مكة استكثر من الطواف، قال: هذه فرصتي، فإذا جاء للحج يمكن ما يستطيع يعود مرة ثانية، خصوصًا الذين يأتون من خارج" [صيد الخاطر: 1/98].
ولذلك يطوف سبعًا وراء سبع، وبعد كل طواف ركع ركعتين.
فإذًا، إذا علمت انقضاء العمر، وقرب الرحيل، ازددت في العمل.
معاول هدم الجدية
وينبغي أن يكون الإنسان حذرًا من الأمور التي تقضي على الجدية، وتنافيها، مثل: التسويف، كلما جاء طارق الخير صرفه البواب: لعل، وعسى، كلما جاءك خاطرك خير جاء لك الشيطان ببواب لعل، وعسى، بعدين، سوف، لعل، فرصة قادمة، وهكذا لا يزال يثبطك حتى تترك العمل.
والإنسان إذا أراد أن يقاوم التسويف: يعلم أن الفرصة التي تأتي الآن ربما لا تأتي بعد ذلك.
من الذي يضمن أن يعيش إلى الغد؟
لما دعا أحد الأمراء رجلاً، قال له: كل معي، قال: أنا صائم. قال: أفطر اليوم، صم غدًا، قال: تضمن لي أعيش إلى الغد؟ هذه فرصتي.
وكذلك، فإن الجاد عنده حزم.
والحزم معناه: أن يبادر الإنسان بتنفيذ الأعمال، ولا يؤخر، ولا يراكم الأشياء.
ولا يؤخر شغل اليوم عن كسل | إلى الغد إن يوم العاجزين غد |
فهؤلاء يقولون: بكره نعملها، وبعده نعملها، وهكذا.
وما الذي خلف الثلاثة وكعب بن مالك ، عن الغزوة؟ إلا قضية غدًا اتجهز، وغداً أمضي، وغداً أفعل، ثم ما فعل، ولكل يوم عمله، ولكل وقت واجباته، فليس هناك وقت فارغ من العمل.
بعض الشباب يقولون: عندنا فراغ كثير، في ناس آخرين -ولو أنهم ندرة في الأمة- يقولون: نريد أوقات زيادة نعمل ما نجد، فكأن الواحد يقول للبطال هذا: ليتني آخذ وقتك هذا الذي أنت لا تدري في أي شيء تغتنمه.
ثم إن التسويف يا إخوان، تأخير الأشياء- يعود الإنسان على الترك، وعلى عدم العمل، ويجعل العمل قليلاً.
ومما ينافي الجد: أن يكثر الشخص من الهزل واللهو، فترى الضحك كثير، والأشياء التي فيها إضاعة الأوقات كثيرة، والله وصف المؤمنين، قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 3]؛ لأن اللغو يعطل عن الإنتاج، وعمل الصالحات، حتى المجالس: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار [رواه أبو داود: 4857، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 77].
معناها: لا بدّ أن تغتنم المجالس، كل مجلس لا بدّ يكون فيه ذكر، ما يمضي شيء من غير ذكر.
وكذلك إضاعة الأوقات، تبديد العمر بما لا ينفع، مثل هذه الأشياء التي انفتحت علينا الألعاب هذه، والأسفار، وهذا موضوع مهم طرقه. موضوع وسائل الترفيه، الآن في صناعة في العالم اسمها: صناعة الترفيه، شركة ننتندو، وسوني، اليابانيتين، تنتجان اليوم معظم الألعاب في العالم، الألعاب الإلكترونية، هذه تؤدي إلى إهدار الأوقات بلا حدود.
وكذلك هناك شركات، مصانع، تنتج آلات اللهو.
وأيضاً شركات تعمل خطط لاستيعاب الناس في مجالات الترفيه، فصار العالم اليوم يموج بالبطالة من هذه الخطط التي وضعت لإشغال الناس في هذه الملاهي.
ولذلك تجد كتب العلماء ذم الملاهي، لماذا كلامهم كثير في ذم الملاهي؟ الملاهي هذه إلى أي شيء تؤدي؟ البطالة، الانشغال بالدنيا، ترك العمل للآخرة، فانتبهوا من شيء اسمه: ترفيه، هذا فتح باب الترفيه والملاهي والألعاب على مصراعيه؛ لأن فتح القضية خطير جداً على أعمار الناس، وأوقاتهم، وحياتهم، وضياع أعمار كثير من الشباب، وحتى من بعض الطيبين والأخيار، أو الذين يريدون سلوك سبيل الخير ضيع عليهم فترات ثمينة من أعمارهم، من الانشغال بقضايا الترفيه، والأسفار، والسياحات، والألعاب.
حتى تجد في بعض المطاعم، مطعمًا، بوفية تجدهم يدخلون، يأخذ لك صحن أول شيء الشوربة، على مهلك، ويشرب الشوربة على مهل، خلص من الشوربة، راح إلى ركن السلطات، وسكب السلطات على مهل، وأكل السلطات على مهل، وقام إلى قسم الوجبة الرئيسية، ملأ صحن من الوجبات الرئيسية، وجلس يأكل على مهل، ثم انتقل إلى قسم الحلويات، وملأ الصحن من الحلويات على مهل، وأكل على مهل.
يعني يقول: أريد أحلل التسعين ريال، والأوقات التي أهدرت هذه في البوفية، هل من الجدية: أن الواحد يقضي في وجبة ساعة مثلاً؟ لكن صار دخلت أشياء في حياة الناس من أنواع الملاهي، والألعاب، والملذات، والمأكولات، والأشياء، وهذه الحياة المترفة ضيعت أوقاتًا وأعمارًا كان يجب أن تصرف في طاعات.
بعض الناس يقول: المهم ندخل الجنة، بس خلونا على الباب، لماذا يا أخي؟ الرسول ﷺ ندب إلى أن يطلب الإنسان الفردوس الأعلى، وحتى لو واحد دخل الجنة يريد درجات.
اللهم إني أسألك الدرجات العلى والنعيم المقيم، الدرجات العلى فوق، ثم الجنة لا تنال بالراحة؛ لأنه الجنة كما قال ﷺ: حفت الجنة بالمكاره [رواه مسلم: 2822].
يعني أنه إذا أردت أن تدخل الجنة لا بدّ تمر على المكاره، لا بد تخترق المكاره، وتدخل الجنة؛ لأنها محفوفة بالمكاره، فلا بدّ من الصعاب أيضاً.
مما يجعل الجدية هذه تزول، وتتضرر تضررًا بالغًا قضية كثرة الضحك، والإغراق في المزاح، وهذه أيضاً صارت صنعة في العالم، فهناك كتب للنكت، - النكت ليست بمعنى الفوائد التي يقولها العلماء، واحد عادي دخل مكتبة إسلامية أخذ كتاب النكت على ابن الصلاح، فتح يقرأ، قال: يا أخي ما في شيء يضحك، كلام صعب، نكت على ابن الصلاح، النكت الذي ألفه ابن حجر رحمه الله: يعني فوائد على كتاب ابن الصلاح في مصطلح الحديث، والزيادات، والشرح، والتعقبات، هذه النكت- لكن عند الآن الناس النكت هذا شيء ثاني، فله كتب، وله فقرات مخصصة، الطرائف، والنكت، والطويلة، ويتبارى فيها، فلان هذا ينكت أكثر، وفلان ينكت أحسن، ودخلنا في عالم اسمه: عالم التهريج، فقام صناعة: التهريج والمهرجون، وإضحاك الناس، وويل لمضحك القوم، وهذا يؤدي إلى قضية الكذب، إلى قضية تغيير خلق الله لأجل أن يضحك الناس، وإلى عمل أمور عجيبة فيما يسمونه بأمور السيرك وغيره؛ لأجل مهرج، ويضع أشياء ألوانًا وأصباغًا، وبلاستيك هذه أيش هذا؟ ويرتكب محظور بتغيير خلق الله.
بحثنا مرة في المواقع العربية في الانترنت نشوف كم عدد المواقع العربية بالنسبة للمواقع غير العربية، تقريبًا عدد الصفحات -ما هو المواقع- الصفحات العربية في الإنترنت مائة وسبعة وعشرين ألف صفحة، الصفحات العبرية مائة وسبعين ألف صفحة، يعني اليهود عدد صفحاتهم أكثر من عدد صفحات العرب كلهم، أما عدد الصفحات التي في العالم باللغات الأخرى فطبعًا هذه بملايين الملايين.
المواقع العربية للنكت والطرائف، ومواقع ثانية للأغاني، ومواقع ثالثة للكلام الفاضي، فصارت عملية إدخال مضيعات الأوقات في حياة الناس هذا منهج وراءه أعداء الإسلام، وغيرهم ممن يعلمون أنه لا يمكن أن يذلوا الأمة إلا بهذه الملهيات والمترفات، ولذلك رأيت صناعة الترفيه تروج، وقضايا المزاح، والنكت، والطرائف، والأضحوكات، عملية مبرمجة، يعني لو كانت قضية عفوية، واحد مزحة ضحكة هذا عادي، النبي ﷺ مزح، وضحك، وكان لا يقول إلا حقًا، والصحابة تمازحوا بقشر البطيخ، ولما صار الجد كانوا هم الرجال، عرفنا هذا، وعمر قال لابن عباس لما غطس على ماء، وقال: "تعال أباقيك" [سنن البيهقي: 9401، وصححه الألباني في إرواء الغليل: 1021].
يعني كل واحد يحبس نفسه تحت الماء، نشوف من أكثر، فهذا يعني حصول هذا النوع أثناء السفر، والسفر فيه تعب، وفيه كلل وملل، فلو صار مثل القضية هذه، "تعال حتى أباقيك"، يعني شيء عادي، بل محمود مقبول ظريف، لكن لما تصير القضية مبرمجة، وفقرات وأشياء، عندما يدخل الناس في عالم اللهو، وعالم الضحك، وعالم التهريج، وتضيع أوقات، وهذه الألعاب الإلكترونية، كما قلنا: سوني بلاي ستيشن، هذه وقلما يخلو بيت منها، كم اللعبة تأخذ هذه حتى ينهي المراحل، هذه الألعاب الإلكترونية المراحل فيها كم تأخذ اللعبة الواحدة حتى تصل المرحلة النهائية فيها؟ هذه الألعاب التي تروج بين الأولاد، هذه تأخذ أقل شيء يمكن شهر في بعض الألعاب، هم أصلاً صانعو الألعاب برمجوها على أساس أنه حتى تطلع اللعبة القادمة الجديدة يكون هذا أنهى اللعبة الأولى، ولذلك عملية إنهاء اللعبة تأخذ وقت طويل، ريثما ينتجون اللعبة التي بعدها، عملية مسلسل تجاري.
فعندما يكون هذا حال الشباب والأولاد: الالتهاء بهذه القضايا، إذًا أي جدية ترجوها أنت فيهم؟ وأي عملية إنتاج تريدها منهم إذا كان هذا ديدنهم؟ وهذا عملهم، وشغلهم الشاغل، أكل وجبات، ونوم، وألعاب ترفيه، ماذا بقي؟ وأين العمل للآخرة؟ هذه هي المصيبة الكبيرة.
هذا واقع الناس في القرن العشرين، صناعة اللهو والترفيه المخطط الكبير الذي تدخل فيه الأمة.
مسألة مصاحبة البطالين من الكوارث التي تضر بالجدية ضررًا بالغًا -وكما مر في مسألة ملازمة الأخيار والصالحين- أنها تنتج صفات طيبة، كذلك البطالين مجالسة الشرير، إياك ومجالسة الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه، وأنت لا تدري.
قال الأصفهاني: "والريحانة الغضة تذبل بمقارنة الذابلة"، ضع تفاحة فاسدة في كرتون تفاح، وتعال بعد مدة، تفاحة فاسدة في كرتونة تفاح يقضي على الكل، ولهذا يلقط أصحاب الفلاحة الرمم عن الزروع لئلا تفسدها، ومعلوم أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة إذا قربت منهما، وذلك مما لا ينكره ذو تجربة، وإذا كانت هذه الأشياء بلغت في قبول التأثير هذا المبلغ، فما الظن بالنفوس البشرية التي موضوعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟ يعني أكثر وأعمق.
لا تصحب الكسلان في حاجته | كما صالح لفساد آخر يفسد |
عدوى البليد إلى الصحيح سريعة | والجمر يوضع في الرماد فيخمد |
حط واحد نشيط وسط كسلانين بعد فترة يبرد هو يخمد، ولذلك فلا بدّ من الحذر من مصاحبة البطالين وأهل اللهو؛ لأنه سيفسد عليك الجدية هذه تمامًا.
والإغراق في المباحات -كما قلنا- مناف لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31].
وعمر قال لرجل: "كلما اشتهيت اشتريت" [الآداب الشرعية: 3/341].
يعني أنت عندك المسألة تبع على تبع الهوى والشهوة، كلما اشتهيت اشتريت.
وكان بعض السلف يدعو الله أن يرزقه النوم اليسير، حتى يستطيع يقوم الليل، ويعمل الأعمال الصالحة.
وكانوا أيضاً لا يستغرقون في المباحات؛ لأجل أنها تضيع عليهم القيام بالواجبات والمستحبات، وتشغلهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف: 20] كلها استمتاع بالمباحات.
إذًا ماذا بقي للدين، والعمل للإسلام، وهذا يركن إلى زوجته وأولاده، وهذا يتابعهم على هواهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم [التغابن: 14]، أناس في مكة أسلموا ولم يهاجروا ما الذي قعد بهم عن الهجرة؟ أهلهم، أبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يهاجروا، فجاؤوا بعد مدة والناس تعلموا العلم، وازدادوا إيمانًا بالمدينة، ولما رأوا ما فاتهم من الخير العظيم، هموا بهم ليعاقبوهم، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا