الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات: إن الله خلق آدم أبانا وكل بني أدام خطاؤون وخير الخطائين التوابون [رواه أحمد: 13049، والترمذي: 2499، والحاكم: 7617، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 4515]. والله يقبل التوبة عن عباده، وإذا كان الإنسان، هذا المخلوق الضعيف ظلوماً جهولاً، نسياً عجولاً، يخطئ، فإن الله قد فتح باب التوبة للعاصي، وكذلك الاستدراك والإصلاح للمخطئ.
كل ابن آدم خطّاء ولا عِصمة لأحد
وهذا الخطأ لا يسلم منه بشر، والكمال معدوم، إلا من هو معصوم عليهم صلوات الله وسلامه أنبياؤه ورسله.
ولذلك الوحي لا يتطرق عليه خطأ ولا زلل ولا شطط، ولا ثغرات، وهذا القيمة العظيمة بأيدينا، وهي وجود ما نعتمد عليه ونستمسك به، ليست آراء بشر، ولا يمكن أن يتبين خطأ هذا مستقبلاً، أو أن فيه نقص أو ثغرة.
لكن نحن البشر، وكل المؤمنين على اختلاف درجاتهم في الفضل والعلم غير معصومين، بل هم عرضة للخطأ والسهو والغفلة والتقصير. يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون فإذا شاهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطأهم مغفور لهم" [الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3/453]. والفرق بينهما، أن من يأتي المعصية وهو يعلم أنها معصية فهذا قد عصى الله بهذا الفعل ويأثم عليه، وعليه التوبة، أما الخطأ الذي وقع فيه الإنسان غير متعمد بل يظن نفسه مصيباً، مثل من عنده آلات العلم فاجتهد فأخطأ، فخطأه مغفور وله أجر على اجتهاده، ومن اجتهد فأصاب له أجران، على اجتهاده وعلى إصابته.
فإذن، الزلات والهفوات والسقطات من طبيعة الإنسان ومستكثر ومقل.
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها | كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
ولو أنك أردتَ مهذّباً من كل عيب فلن تدرك ذلك.
إن كنتَ تطلب في الزمان مهذباً | فنيَ الزمان وأنت في الطلباتِ |
[الصداقة والصديق: 261].
وهذه الحقيقة ينبغي استحضارها ونحن نتعامل مع الناس، القريب والبعيد، الكبار والصغار، الذكور والإناث، ومن الناس منهم من أهل العلم، ومنهم من ليس كذلك، فإذن أنت لا تتطلب المثالية وأن تصل إلى ناس لا يخطؤون لا يزلون، هذا غير موجود، لكن نريد أن نعرف كيف نتعامل مع الزلات، هل معنى ذلك أن نفتح الباب؟ هل نرضى بما يحصل؟ هل في المقابل نرفض الشخص كله؟ أو ماذا نفعل؟ ما هي الطريقة في التعامل مع الزلات؟ المدقق جداً يتعب، ويُتعب، والشخص الذي يتغاضى عن كل ممكن تصل القضية إلى منكرات وهو ساكت عليها.
المعنى اللغوي والاصطلاحي للزلّة
الزلّة يقال في اللغة: زل عن الصخرة زلق وزلّ في الطين، وقع فيه، وزلّ عن مكانه تنحى عنه، وزلّ في منطقه أخطأ.
قال الله تعالى: فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [209 سورة البقرة].
عدلتم عن الحق بعدما جاءتكم الحجج والبراهين، فاعلموا أن الله عزيز ينتقم، ولا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب، وهو حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه .
والزلّة مخالفة الأمر سهواً.
والزلّة الخطأ والعدول عن الصواب.
والزلّة من الإنسان إذا قصدها فهو عاصٍ، وإذا لم يقصدها فهو مخطئ، وأخطاء الناس وزلاتهم ليست على درجة واحدة، فينبغي أن نفرّق بين العمد والسهو، وما كان بتأويل، وما كان بغير تأويل، التأويل الذي يسلك فيه الإنسان في هذا الفعل مسلكاً يظن أنه محق، أو أنه عنده دليل فيما يفعل، أو أنه يتكئ على شيء صحيح، فبعض الناس يزل وهو متأول، بعض الناس يزل ما عنده أي شبهة في الموضوع، القضية واضحة أتاها عمداً.
وكذلك فيه اجتهاد وفيه خطأ، ثم المجالات أيضاً تختلف: الزلات في مسائل العقيدة غير الزلات في مسائل الأحكام، الزلات في مسائل الأحكام غير الزلات في مسائل الأخلاق والسلوك، يعني في الجملة.
ولذلك هناك كبيرة وهناك صغيرة، خطأ كبير وخطأ صغير، الشرع فرّق بين الكبائر والصغائر، حتى الذين يزلون بعضهم أصحاب ماضٍ حسن، بعضهم أصحاب ماضٍ سيء، وهناك زلات متكررة، وزلات نادرة، ما يمكن أن نعامل صاحب الزلة النادرة مثل صاحب الزلات المتكررة، ومنهم من يتوالى منه حدوث الخطأ وراء بعض، ومنهم من يقع الخطأ بعد الخطأ على مدة، فترات متباعدة، ومنهم المجاهر ومنهم المستتر، فإذن، من التجنّي معاملة هؤلاء بشكل واحد، ولا يُسوّى بين هؤلاء، ليس من العدل، والنبي ﷺ فرّق بين هذه المقامات وحتى أصحاب الهيئات: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود [رواه أبو داود: 4375، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 1185]. ولا يظن بعض الناس أن أصحاب الهيئات هم أصحاب البشوت، فمن هم أصحاب الهيئات؟ قال الشافعي -رحمه الله-: " وذوو الهيئات الذي يُقالون عثراتهم الذين ليسوا يُعرفون بالشر، فيزلّ أحدهم الزلّة" [السنن الكبرى للبيهقي: حديث16202] ، إذا كان سجله نظيفاً، حياته مستقيمة، تاريخه طيب، صفحته بيضاء، فزلّ زلّة وهو صاحب مكانة أيضاً، ولكن الشاهد أو المهم في الموضوع قول الشافعي -رحمه الله-: "ليسوا يُعرفون بالشرّ فيزلّ أحدهم زلّة"[السنن الكبرى للبيهقي: حديث16202] أضاف ابن القيم -رحمه الله- قال: "ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد"، فجعل الله لهم نوعاً من المراعاة، فمن كان منهم أصحاب المكانة، قد تكون مكانة علمية، قد تكون مكانة اجتماعية ، قد تكون مكانة نسبية، قد تكون مكانة وظيفية، يقول ابن القيم:: "فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير" مستوراً ليس شخصاً مجاهراً، وعنده مصائب، لا، "مستوراً، مشهورا بالخير، حتى كبا به جواده، ونبا عصبُ صبره، وأُديل عليه شيطانه -يعني تسلّط-، فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تُقال عثرته، مالم يكن حدّاً من حدود الله، فإنه يتعين استيفاءه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع". يقول ابن القيم: "وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة، وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد"، [بدائع الفوائد: 3/139].
والنبي ﷺ راعى هذا، فمثلاً: حديث معاوية ابن حكم السُّلمي لما جاء ولم يكن يدري بتحريم الكلام في الصلاة وعطس رجل بجانبه وقال له: يرحمك الله، ورماه القوم بأبصارهم، وقالوا: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إليّ، وجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، وفي القصة قال: "فو الله ما رأيتُ معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن [رواه مسلم: 537].
النووي -رحمه الله- علّق عليه، أنه كيف كان النبي ﷺ رفيقاً بالجاهل، وكان صاحب خُلُق حسن، وهو ﷺ لما أعطى من أعطى من زعماء العرب في الفتح وبعد الفتح، وبعد معركة حنين تأليفاً لقلوبهم وكذلك لما قال ما قال لأبي سفيان مراعاة لحالة. [شرح النووي على مسلم: 5/20].
أصناف الزلات وأنواعها
أصناف الزلات كما قلنا متنوعة، أصناف الزلات منها ما يكون في الأصول والعقائد، قد تأتي الزلة كارثة وبدعة عظيمة وفتح باب شر على المسلمين لا يعلم به إلا الله.
مصيبة القول بخلق القرآن، وإنكار الشفاعة وإنكار عذاب القبر، وخروج إنكار مسائل معلومة من الدين بالضرورة، ليست مثل الأشياء التي تكون في الأحكام، في الفقه، زلّ بعض العلماء في مسألة الغناء، زلّ بعض العلماء في تحريم الذهب المحلّق، زلّ بعض العلماء في تحريم الزيادة على إحدى عشر ركعة في قيام الليل، وخلال هذه الأقوال أقوال تكاد تكون شاذة أو تكاد تكون مخالفة لاتفاق أهل العلم.
هناك زلّات في السلوك؛ قد يقع الإنسان في خيانة الأمانة، والعياذ بالله، في أخذ رشوة، في أكل مال بالباطل، نصب، احتيال، وتضعف النفوس أمام النساء والمال، أمام الشهوتين، وهذه من أكثر ما تقع فيه الزلات.
وكما ذكرنا أن الزلات متنوعة فهناك زلات ضررها لازم، وهناك زلات ضررها متعدٍ، الآن الفتوى الخاطئة ضررها متعدٍ؛ لأن كثيراً من الناس قد يأخذ بها، وقد يصلون إلى الملايين، زلّة المهندس في البناء قد تودي بحياة عشرات الأشخاص، وقد يكون أكثر أحياناً، زلات في الجسور.
إذن، هناك زلّة قد يكون الذي يتورط فيها هو فقط، وهناك زلات الورطة فيها تدخل أشخاصاً آخرين كثر.
نحن في موقفنا من الزلات الآن نحن نرى أن هناك تغيرات تعصف بقناعات الناس وبالثوابت وبالأسس وبالقواعد الشرعية، وهناك تغيير ممنهج، يمارس أعداء الإسلام علينا تسلّطاً في تغيير منهج لقواعد الدين، يريدون تغيير قواعد الدين، وتغيير القضاء، وتغيير الأشياء الشرعية والحسبة بحيث أنه لا يعود المنكر منكراً، ولا المعروف معروفاً، ولا يصبح الحرام حراماً، ولا يصبح الكفر كفراً، حتى هذا يراد تغييره، تغيير هكذا بالقوة، تغيير بالتسلُّط، تغيير بالضغوط، بالإجبار، غير الأشياء التي تأتي على الناعم كما يقولون، وفيها فتح أبواب الحرام، تزيين الحرام، تسهيل طرق الحرام، جذب الناس للحرام، فالآن يُمارس علينا وعلى المسلمين إيقاعهم في الحرام بطريقتين، بطريقة التزيين، وهذه الطريقة الإبليسية المعروفة، لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم [الحجر: 39].
وأيضاً هناك إجبار، إكراه، وضغوط من الأعداء، أن تسير الشعوب المسلمة في طرق معينة يجبرونهم عليها، مثل: ترك الشريعة، تنحية الشريعة، مخالفة الدين، مخالفة الأحكام، فرض أشياء معينة بالقوة، أشياء منكرة، أمام هذا سواء قلت: التزيين أو قلت: الضغط، ألا تزل النفوس، النفوس تزل في الحاجات العادية، كيف لو كان من الجهة الأخرى إكراه وضغط على التغير، والذين يكونون في بعض مواقع المسؤولية يدركون ويحسون أن الأعداء وصلوا إلى منافذ تمكنوا تمكنات شنيعة، بحيث أصبح الحرام يدخل عليك من بعض المنافذ أنت ما ترضى بها أصلاً، ولا تريدها، فكأن الذرية تتجه، أنت تحس أن الأمور في تفلُّت.
الله خلقنا وابتلانا، وما عندنا خيار في قضية التمسك والمدافعة والثبات أمام كل هذه الضغوطات والتزينات، سواء قلت: نحن أُدخلنا في مسلسلات من الإكراه والضغط، أو أُدخلنا في مسلسلات من التزيين، ما عندنا خيار، ولا يقال: نحن معذورون وانتهى، تفلُّت النفوس، وتتبع الهوى، وتدع الأمور تتسيب، لا يمكن، لا بد أن نقاوم إلى الرمق الأخير، الأمة مستهدفة الآن، الأمة مستهدفة في وجودها؛ لأن الخطة محو الدين، محو الإسلام، تسليط الباطنية على المسلمين، تشويه المرجعيات والشخصيات العلمية، وإغلاق منافذ الخير والدعوة، وإغلاق الأحكام الشرعية، من الحجاب وعدم الاختلاط، واضح أن هناك مكر الليل والنهار، أو المكر الكبّار، كما وصفه الله، ليس عندنا خيار في قضية المدافعة إلى الرمق الأخير، هذه مسالة وجود، يجب أن نفهم تماماً بأننا الآن في استهداف في العُمق، في الثوابت، في الجذور، في القواعد، ليست القضية هامشية، كان للأعداء نوع تسلُّط أحياناً، لكن لم يكن مثل الآن، والتقنية تساعدهم، الاتصالات تساعدهم، الاختراعات، الأجهزة والآلات تساعدهم، البهرجة الإعلامية تساعدهم، نحن ندرك هذا جيداً، في المجالس الناس يتكلمون بهذا، ويقولون: نحن ما لنا خيار، نحن مالنا كذا، نعم لكن الله أعطاك إرادة، الله أعطاك حيلة، إذا أنت تدبِّر رزقك وتفعل أنواع الأفكار والاختراعات والابتكارات لتكسب رزقاً، فأن تعمل ألوان الابتكارات والاختراعات حتى تنجو بدينك أنت ومن معك من باب أولى.
إذن الزلات الآن قد تكثر، وهي الآن واضحة تجاه البشرية، أعداء البشرية يتجهون إلى إحكام التزيين، وإحكام البغض والإكراه، فمعنى ذلك: أن الزلات ستكثر، بالتأكيد.
وهذه الزلات قد يقع فيها من الناس عامة وخاصة، هل خاصة الناس، مثل طالب العمل والداعية، منزّه عن هذه فلا يقع؟ هؤلاء الصفوة مثل طلبة العلم والدعاة، أفهم الناس بدين الله، أعلم الناس بدين الله، والمفروض أقرب الناس إلى الله، وهناك عامّة عندهم بعض من العلم، أو الفهم أو الإدراك لأشياء من الدين، ليسوا مثل الخاصة، نلاحظ أن الزلات لا تستثني لا هؤلاء ولا هؤلاء، يقع فيها هؤلاء وهؤلاء، المفترض أن يكون الخاصة في الدين أصبر، أبعد عن الزلات، لكنهم ليسوا معصومون ولا مستَثنون من الوقوع في الزلات.
التغيرات الكثيرة التي تحصل الآن على قناعات الناس، وعلى عقائدهم وعلى دينهم، والثوابت؛ ما كان حراماً بالأمس صار حلالاً اليوم، ما كان بدعة في الأمس صار اليوم يكاد يكون سنة، ما كان مرفوضاً وخطاً أحمر بالأمس الآن صار مسموحاً به، هذا الآن كثير.
تعاملنا مع الزلات ينطلق من عدة منطلقات، منها منطلق العدل، وتحري الإنصاف مع عدم المحاباة على حساب الدين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة المائدة: 8]. لا يجرمنكم: لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا فتشهدوا على عدوكم بالزور، تشهدوا لأصحابكم وأقاربكم بالباطل، اعْدِلُواْ لو كان صاحب الحق كافراً، لو كان صاحب الحق المالي كافراً، تشهد له على أخيك المسلم، صاحب عمل مسلم أكل حق عامل كافر تشهد في المحكمة للكافر على المسلم، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ [سورة المائدة: 8]. انتهى، كونوا قوامين لله شهداء بالقسط.
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة الأنعام: 152]. الظلم حرام.
النبي ﷺ لم يمنعه حب أسامة، كم كان يحب أسامة بن زيد هو حبُّه وابن حبِّه، ومع ذلك لما كانت القضية في الشفاعة في حد من حدود الله كيف كان موقفه؟ عن عائشة -رضي الله عنها- أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: "ومن يكلِّم فيها رسول الله ﷺ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبِّ رسول الله ﷺ، فكلمّه أسامة، فقال رسول الله ﷺ: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام واختطب ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله يقسم: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها [رواه البخاري: 3475، ومسلم: 1688].
ودعونا نقول: أن زلات الأفاضل أو زلات بعض طلبة العلم، وزلات بعض الدعاة مؤثرة، أو فيها شناعة في سُمعة أهل الإسلام، الأعداء كثر والمتربصون كثر، حتى قبل أن يزلّ يلتقطون ذلك، كيف إذا زل، يعني يلبِّسوه تُهمة بدون ما يزل، كيف لو يزل؟! لأن خطة تشويه أهل الدين قائمة، فالآن ممكن يلبّس تهمة هو برئ وما فعل شيئاً، ويتهم أنه على الباطل، فكيف لو زلّ وفعل معصية فعلاً وأخطأ على الشرع؟! هذه زعزعة في المعنويات، أنت تضع نفسك مكان عامة الناس، وترى من كنت تعتبره مثلاً عظيماً، وتعتبره قدوة وزلّ، الواعي الفاهم يقول: والله هذا بشر، زلّ وأنا لا أتبعه في زلّته، ولا أقلّده في معصيته وخطئه، وما أحمل الإسلام أخطاء المسلمين، يبقى الدين ديناً له مكانة وقدسية، لا يتحمل الدين أخطاء هؤلاء، لكن هناك ناس كثير عندهم إما نوع وخلل في المبادئ مثلاً فيركبها على الدين، يقول: إذا فعل هذا هكذا، معنى ذلك الدين انتهى، يحمّلها على الدين، ويجعل هذا سبباً للتفلُّت، يقول: إذا هذا بمنصب وهذا بمكانته فعل هذا، معنى ذلك أنا لو عملتُ عشرة أضعاف ما عليّ، هذا ما ينفع عند رب العالمين، فهذا لو جاء يوم القيام وسأله الله وحاسبه: لم فعلتَ كذا؟ قال: والله عبدك فلان فعل!، سيعذره ربه ؟ لا، ربما يدخل وإياه النار، وقد يغفر لذلك ويدخل لأعمال سابقة فضل له، وهذا يهلك، فلن تمضي عند رب العالمين قضية كان فلان كذا، فأنا ...، هذه لا تنفع.
أقسام زلات الأفاضل والموقف الشرعي تجاهها
لكن زلات الأفاضل أقسام:
القسم الأول : بعض الناس من موقفهم منها يعتبر أنه كأن شيئاً لم يكن، وأن هذه ليست زلّة، ويمكن يفهمها أنها وهذا هو الصحيح، يعني: عنده نوع تعصُّب، أنه يصحح ويعدِّل ويجوِّز الحرام والمعصية والزلل إذا وقع من شخص يحبه، هذا من نوع الغلو؛ لأن الله لا يرضى بهذا مهما كان، الله عاتب نبيه ﷺ قال: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1]. عاتبه، وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 74]. لو كان الرسول ﷺ يريد أن يخفي آية من كتاب الله لأخفى الآية التي فيها زواج النبي ﷺ بمطلقة متبنّاه السابق، الذي جاء الإسلام لتحريم التبنِّي، وإباحة الزواج بمطلقة المتبنَّى سابقاً.
وقال الله لنبيه كلمة: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [سورة الأحزاب: 37]. فإذن، هذه مسألة مبدأ، المبادئ لا يمكن التلاعب بها، هذا الذي حصل خطأ، زلل، معصية، يُحكم عليها.
الموقف من الشخص بحسب أشياء، لكن المهم الآن:
أولاً: سلامة المبدأ، نحن الآن أمام الزلات، من مشاهير، من فضلاء من أخيار، لا يمكن نضحي بالمبدأ، فسنقول: هذا الفعل محرّم، هذا انحراف، هذه الفتوى باطلة، التصريح هذا خطأ، هذه مخالفة للشرع، هذا على خلاف الأدلة، هذه شذوذ، فتوى شاذة؛ لأن المبدأ أهم من الأشخاص، الأشخاص يذهبون ويأتون ويموتون، لكن هذا المبدأ وهذا الدين باقٍ ثابت، لا يصح التلاعب فيه أبداً، فإذن، هناك ناس يجعلون السيئات حسنات، وهذا تعصُّب، من التعصب المذموم.
القسم الثاني: في المقابل يسقط الفاعل إسقاطاً تاماً، وكأنه ليس له حسنة سابقة، ولا رصيد سابق، ولا تاريخ سابق، ولا عنده حسنات كثيرة، أو عنده قدم فضل في الإسلام.
القسم الثالث: صنف يتبع الحق والعدل ويرحم الحق، فيراعي قدر أصحاب العلم والفضل، والصلاح، مع بيان أن ما وقع منهم أو من بعضهم، أو من أحدهم، أن هذا خطأ شرعاً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "من سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحق التعظيم وأحبّه، ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق، ويرحم الخلْق، -وهذه عبارة ما أجملها- "فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات، وسيئات ، فيُحمد ويُذم ويُثاب، ويُعاقب، ويُحَبُّ من وجه، ويُبغض من وجه".
هناك ناس عندهم إيمان وكفر أصغر، عندهم إيمان ونفاق أصغر، إذا حدَّث كذب وإذا عد أخلف [رواه البخاري: 33، ومسلم: 58]. عندهم حسنات وسيئات، الموقف منهم: هو العدل، يُحب من وجه ويُبغض من وجه، نواليه بحسب ما عنده من الإيمان ، ونبغض ما عنده من الفسوق والعصيان.
قال شيخ الإسلام: "هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة، ومن وافقهم".
[منهاج السنة النبوية: 4/544].
ابن القيم -رحمه الله- لما شرح كتاب "منازل السائرين" لأبي إسماعيل الهروي -رحمه الله-، فيه بعض العبارات ليست مقبولة أبداً، إذا عُرضت على الشرع لا تُقبل، وصاحبها في العبادة والتألُّه والزهد ورقة القلب والإقبال على الله، لكن هذه العبارة لا تُقبل، مخالفة للشرع، أتى إلى عبارة من العبارات قال ابن القيم: "في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله إلا أن يكون الكمال له" [مدارج السالكين: 3/142].
ثانياً: علينا أن نتثبّت وما نتسرع في التخطئة أو التبرئة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات: 6]. ما قال: اقبلوه، ولا قال: ارفضوه، قال: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا لا تسرع في اتخاذ موقف، فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [سورة الحجرات: 6]. وبئس مطيّة الرجل زعموا [رواه أبو داود: 4972، وصححه ال ألباني في السلسلة الصحيحة: 866]. وبئس ما يفعله بعض الناس من التخصص في نقل زلات الأفاضل، وكفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع [رواه مسلم: 5]. بل حتى عامة الناس، الذي يتخصص في نقل زلات الناس، صار مثل الذباب، لا يقع إلا على هذه القاذورات، هذا الذي أنت تنقل عنه عنده حق، وعنده أشياء طيبة، لماذا لا تنقل عنه الأشياء الطيبة؟ له سيرة حسنة، لماذا فقط لا تنقل عنه إلا السيء؟ هذا ليس عدلاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ [سورة الحجرات: 6]. معناها القضية تحتاج إلى تمحيص، وعدم نقل وعدم إذاعة إلا بعد التثبت، بل قد لا يكون من المصلحة الإذاعة والنشر.
والنبي ﷺ لما تُكلّم في عائشة، تكلم فيها المنافقون، قال: أما بعدُ، يا عائشة أنه بلغني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله، وإن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف وتاب تاب الله عليه [رواه البخاري: 2661، ومسلم: 2770].
وأبو بكر كان شديد التثبُّت والتحري، فلم يُنقل عنه في قصة الإفك، مع تمادي الحال فيها شهراً كلمة، ما نُقل عنه كلمة فما فوقها.
ثالثا: موضوع السِّتر.
يعني: متى نستر؟ ومتى لا نستر؟ مبدأ الستر عموماً من الناحية الشرعية مبدأ صحيح وشرعي ويؤجر الإنسان أن يستر زلّة أخيه المسلم أياً كان، هو من العامة، هو من الخاصة، يبقى هو أخ لك في الإسلام، ستر المسلم عموماً قاعدة شرعية، ستر أهل الإسلام عموماً، وعلماء الإسلام يقررون مبدأ السِّتر على غير المجاهر، أن غير المجاهر يُستر، وكذلك من باب أولى غير المعروف بمعاصيه سابقاً، قد تكون هذه المرأة الأولى، فالحرص على سترها، أولى وأوجب، وهذا الستر من الأُخوّة الإيمانية أن تستره.
العلماء أكيد لا يتناولون قادة الشر، أكيد لا يتناولون بكلامهم هذا زعماء الضلالة، أكيد لا يتكلمون عن رؤوس الانحراف، في المجتمع؛ لأن زعماء الشر وقادة الضلالة ورؤوس الانحراف يجب إسقاطهم أصلاً، هؤلاء فضْحُهم عبادة؛ لأنه لا يمكن أن يبقى هذا شخصاً مرموقاً، أو تشرئب إليه الأعناق، أو بعض ضعفاء النفوس يتخذونه قُدوة مثلاً، على العكس، هذا النصيحة في الدين أن يُعرف حاله، لكن هذا إنسان ساقط العدالة، هذا إنسان مجاهر، هذا إنسان صاحب بدعة، هذا إنسان صاحب عقيدة خبيثة، نحلة خبيثة، فصل الدين عن الحياة، فصل الدين عن الاقتصاد، فصل الدين عن الاجتماع، هذا إنسان يعمل على الكيد لأهل الدين، هو يكيد لهم، كيف يستر هذا؟ بالتأكيد العلماء لا يتناولون عندما يتكلمون على قضية، ويؤكدون على مسألة ستر المسلم، لا يتناولون هذا النوع من البشر؛ لأن هؤلاء أعداء، يعني الواحد معروف بالفجور والفاحشة، وأنه يجر غيره إلى الفاحشة، هناك مروّج مخدرات، هناك مروِّج فواحش، هناك مروِّج أفكار كفرية، بالتأكيد أن العلماء لا يتكلمون عن مروِّجي الانحرافات الفكرية، ورؤوس هؤلاء سواء كانت شبهات أو شهوات أنهم من المفسدين في المجتمع، لا يمكن يتناولهم موضوع السِّتر، موضوع الستر يتناول شخصاً من عامة المسلمين، لا يعرف بأنه رأس ضلالة، ولا قائد انحراف، وليس مروِّجا، هذا يُستر، فضلاً عن كونه له إسهامات في خدمة الإسلام، هذا من باب أولى أيضاً.
فإذن، عامة المسلمين الواجب سترهم.
ومعنى الستر: كتم عيوبهم، إخفاء زلاتهم، عدم التحدث بمعاصيهم، عدم نشر سقطاتهم، عدم كشفهم للناس، ولا نعرّيهم ونقول: فعلوا، حصلوا سووا، خصوصاً أن عصرنا هذا عصر فتنة إعلامية، كل واحد عنده جريدة اليوم وتقريباً كل واحد يعمل قناة تليفزيونية، مع الإعلام الجديد، كل واحد يعمل قناة تليفزيونية، كل واحد عنده جريدة اليوم تويتر هاشتاق اشتعلت المواقع، اليوم قضية الموضوع هذا خطير، حساس للغاية؛ لأن النشر من زمان كانت أدوات النشر محتكرة، اليوم أدوات النشر غير محتكرة، اليوم أدوات النشر منشورة، تغير الوضع، هذا الموضوع يكتسب في عالم الواتس أب وتويتر أهمية خاصة في زمننا هذا، نشر الصور، نشر الحوادث والوقائع والقصص، ولما صار عامة الناس يملكون اليوم وسائل نشر، الواجب أن ينشر بها الخير والدين والعلم، تستعمل في الدعوة إلى الله، وعندما نقول: أن من الدين والعبادة فضح قادة الانحراف والشر والتحذير منهم؛ لأنهم يريدون الشر بالمسلمين، معاصيهم ليست مقصورة على أنفسهم، ضلالاتهم وانحرافاتهم ليست خاصة بهم، إن وظيفتهم وهمّهم، وعملهم في الإفساد، هؤلاء احتساب الأجر في بيان حالهم عبادة، لك فيه خير عند الله أنك تحذر من أعدائه وأعداء دينه، وأعداء المسلمين، وأعداء الفضيلة التي أتى الله بها، أعداء العفّة التي قررها ربنا في شرعه، أعداء الأحكام الشرعية التي قررها الله.
هناك ناس أعداء للحجاب، هناك أعداء لصلاة الجماعة، هناك ناس أعداء للمساجد، هناك ناس أعداء للدعوة، هناك ناس أعداء لحلق تحفيظ القرآن، هؤلاء بيان حالهم هو من باب النصيحة للأمة، الدين النصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم [رواه مسلم: 55]. انصح العامة، معنى: ((الدين النصيحة)) للعامة نصيحة، لكن المستور، الذي ليس رأس ضلالة، ولا قائد انحراف، ولا ناشر مذهب خبيث، ولا عدواً ناقماً لأحكام الشريعة، عامة المسلمين فضلاً عن أهل العلم والفضل، الواجب لو وقع واحد منهم في معصية، في زلّة، الواجب ستره، والحديث المشهور الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم الذي فيه الترغيب في هذا العمل؛ هو قوله ﷺ: من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة [رواه البخاري 2442 ومسلم 2564]. فجعل النبي ﷺ من حقوق الأخوة الإيمانية سترهم.
قال النووي -رحمه الله-: "الستر المندوب إليه هنا الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن هو ليس معروفاً بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يُسترَ عليه، بل تُرفع قضيته"، ترفع قضيته للقاضي، "والمجاهر يُنكر عليه، قال النووي –رحمه الله-: "فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحلُّ تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر" شرح النووي على صحيح مسلم. [شرح النووي على مسلم: 16/135].
الترغيب في الستر قال ﷺ: لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة [رواه مسلم: 2590]. قال ﷺ لما صعد على المنبر ونادى بصوت رفيع يا معشر المسلمين، يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه يعني: لم يصل الإيمان الكامل، لم يصل الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبّع عورة أخيه المسلم تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله [رواه الترمذي: 2032، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7985].
ولا تتبعوا عوراتهم لا تتجسسوا عليهم، الآن أدوات التجسس مع التقنية الحديثة في كل شيء، يقول لك: القلم فيه تجسس، الزر الذي في الثوب فيه تجسس، الجوال، أنت مخترق من جميع الجهات، عليك أن تنسى أن هناك خصوصيات مع وجود الأجهزة، هذه قاعدة لازم نضعها الآن نصب أعيننا، لا يوجد خصوصيات مع وجود الأجهزة، هذه كاميرا، وهذا مسجّل، لا خصوصية، إلا إذا أخذت الأجهزة بالكلية، إذا كنت تريد خصوصية حقيقة لا تحمل معك جهازاً البتة؛ لا تتبعوا عوارتهم: لا تتجسسوا عليهم ولا تكشفوا شؤونهم، لا تبحثوا في عيوبهم، والذي ستره الله لا تكشف.
يعني: لو جاء قائل يقول لك: تدري ماذا فعل فلان؟ أنا رأيته في الليل، ضع يدك على فمه، لا تتكلم إلا إذا كان هذا مروِّجاً، أو قائد عصابة، أو عنده جماعة للإيقاع في الفتيات، أو عنده نظام يوقع بالبنات والفتيات، هذا مجرم، هذا لم يزلّ زلّة ويُستر عليها، هذا يجب بيان حاله، مع الأسف، الشر عندما يطور، يكون له رؤوس، زعماء، قادة مروِّجون، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "اعلم أن الناس على ضربين ، أحدهما من كان مستوراً لا يعرف شيئاً من المعاصي فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز هتكها، ولا كشفها ولا التحدث بها لأن ذلك غيبة محرمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص ، وفي قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [سورة النور: 19]. والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه، أو اتُهم به مما برأ منه كما في قضية الإفك.
فإذن، تشيع الفاحشة لها عدة معان، الذين يروِّجون الأفلام الخليعة يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، الذين يروِّجون أرقام بنات، أرقام شباب كذا، هو يروَّج، يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، عندما يأتي واحد يكشف عيوب الناس المستورة، هذا داخل في الوعيد؛ لأن نشر مثل هذا يجرّئ زيادة، ويطبِّع المعصية في المجتمع، إذا كانت المعصية في المجتمع في العادة خطيرة وكبيرة وفضيحة ومصيبة، فإذا جاء من ينشر كل شيء من الأخبار، هذه فلانة الفلانية فعلت كذا، وفلان الفلاني فعل، وهذا الشاب فعل كذا، وهذا فعل كذا، ومع أنها حقيقة فعلاً، إلا أن نشر هذه الأشياء يؤدي إلى تطبيعها في المجتمع، فيصير كل يوم نقوم على فضائح، وكل يوم نسمع فضائح، وكل يوم نمسي على فضائح، وننام على فضائح، ونصحى على فضائح، تعوّد، يتبلّد الإحساس تجاه الفضيحة، ويؤدي إلى أن إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، تنسلخ من الأسماع استقباحها، عاد شيئاً عادياً.
هذه قصة من تاريخ المسلمين السابقين، قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : "اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام"؛ قدّر الآن ماذا سيقول النصراني الذي يعيش في المجتمع؟ الذمِّي الذي يعيش في المجتمع ماذا سيقول؟ عندما يذهب مسلمون إلى الخارج ويفسقون، ويفجرون، ويشربون الخمر ويعملون الفواحش، ماذا يقول النصارى هناك؟ الآن فاض الكيل، أصبحوا يقولون أشياء كثيرة بسبب هذه الممارسات، وهناك هل تستطيع أن تقول: هل هو راسخ عندهم الفرق بين الإسلام والمسلمين، يعني: ذاك النصراني أو اليهودي سيعذر أهل الإسلام، يقول: لا، نحن ندرك الفرق بين الإسلام وبين أن هذا التصرف لا يُحمل على دين الإسلام، ودين الإسلام نقي، والكتاب والسنة بريئان من هذا، لا، أول شيء ستستغل وسائل إعلامهم وتنشر مباشرة، الصحف التي تسمى: صحف الفضائح، جاهزة لهذا، والنتيجة: أنه الإسلام دين مثل الأديان، وأنتم لا تلومونا نحن، أنتم عندكم مثلنا، وأنتم واقعكم كذا.
ولذلك قال بعض الوزراء لبعض من يأمر بالمعروف: "اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب"، وهذه القاعدة الأولى كما قلنا عند العلماء في موضوع الستر.
القاعدة الثانية: "من كان مشتهراً بالمعاصي معلناً بها لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلن الذي ليس له غيبة، كما نصّ على ذلك العلماء، وكما جاء عن الحسن البصري وغيره.
والمقصود بـ "ليس لفاسق غيبة": ليس لمن أعلن بالفسق، للمستعلن بالفسق ليس له غيبة، لا يحرُم الكلام فيه.
أهمية الحكمة والرِّفق في معالجة الزلات
رابعاً: ومن الأمور المهمة أيضا الرِّفق في معالجة الزلات، الله قال: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل: 125]. والله تعالى رفيق يحب الرفق، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه [رواه مسلم: 2594]. والله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه [رواه مسلم: 2593]. ومن يُحرم الرفق يُحرم الخير كله [رواه مسلم: 2592].
وقال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [سورة آل عمران: 159].
وكذلك نمتثل في معالجة هذه الزلات، خلق النبي ﷺ الذي قال الله في شأنه: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة: 128].
يعز عليه ما يشق على أمته، ويعنتهم.
خامساً: إحسان الظن، والحمل على المحمل الحسن ما أمكن، ترجيح جانب الخير في شأن المسلم مطلوب من باب إحسان الظن، ما دمت تجد له محملاً، ما دمت تجد له مجالاً، فاجتناب الظن السيء والتهمة هو الأصل، وإحسان الظن بالمسلم هو الأصل، وهذا من أعظم واجبات الإخوة الإيمانية، وحقوق المسلم على أخيه المسلم، ومن سلامة الصدر ومن نقاء السريرة، ومن صفاء القلب، من صفاء قلب المسلم لأخيه، والمسلم مأمور بإحسان الظن في إخوانه، وأن يحمل أفعالهم وأقوالهم على أحسن المحامل، ويلتمس لهم الأعذار، ويستُر الزلات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ [سورة الحجرات: 12].
نهى الله عن تخوُّن الأهل والأقارب والناس، تخوُّن، بعض الناس الأصل عنده أنهم فسقة أنهم عصاة، أن هؤلاء الأصل كذا، الأصل في أي امرأة في أي قريب، في أي قريبة، الأصل... حتى تتسلسل الوسوسة إلى زوجته والأصل في بناته، والأصل في كذا، وكيف يعيشون معه على هذا؟ خصوصاً أنه قد يوجد نوع من التمرُّد والعناد في بعض الأولاد يقول: مادام أنك أنت تظن عني أني كذا، انتهى أنا بايعها وخربانة خربانة، وهذا موجود مع الأسف، من هو الولد العاقل الذي يقول لأبيه الذي يسيء الظن به مثلا: والله يا أبت لا تسيء بي الظن، أنت لو أسأت بي الظن ستحملني إلى أن أكون في موضع التهمات، ولو اتهمتني يمكن نفسي الأمارة بالسوء تجعلني أقول: ما دام أبي أساء بي الظن، وأساء بي الظن ما عاد تفرق معه، ركبت الفجور أو اجتنبت، كنت مستقيماً أو ما كنت، هو سيتهمني، لماذا أجاهد نفسي، ولماذا كذا، سبحان الله، هذا الخطأ هناك في الجانب المقابل أن بعض الناس يضع الأصل كلام الآخرين، وليس رضى رب العالمين، لو كان عندها الأصل ماذا يعني؟ ينظر الله إلي، هذه نظرة رب العالمين إلي، ما عاد يبالي أنه هو أبوه وإلا واحد أساء به الظن أو ما أساء به الظن، يقول: أنا المهم بيني وبين الله، لكن كثير من الناس يضعفون، ما يتحمل الكلام والإشاعات، تعددت المصادر، إما يصاب بالإحباط والانهيار ، أو قد ينحرف، وربما حصل عنده زلة فصار السجل كله أسود، تبتَ إلى الله أو ما تبت، أصلحتَها، أو ما صلحتَها، حكمنا عليك، اعمل ما تريد، هذه مصيبة أخرى، هذه كارثة كبرى في الدعوة إلى الله أن يُعمم تعميماً، قد يتوب ويصير أحسن منك.
قال: ابن كثير -رحمه الله-: "يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن وهو التُّهمة والتخوُّن للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً، فليجتنب الكثير منه احتياطاً" [تفسير ابن كثير: 7/352].
وقد قال ﷺ: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا [رواه البخاري: 5143، ومسلم: 2563]. "ليس لك أن تعتقد في غيرك سواء إلا إذا انكشف لك بأعيان لا يقبل التأويل" كما قال بعض أهل العلماء، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته بعينك، ولكن التصرف بعد ذلك أنه الآن أنت تعظه، تذكره، أنت رأيتَ بنفسك، سمعتَ بنفسك، بقي التصرُّف الصحيح شرعاً، "وما لم تشاهده بعينك وتسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإن الشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذِّبه". لأن الشيطان ليس عدلاً حتى تقبل خبره، "فإن كان هناك قرينة تدل على فساد واحتُمِل خلافه -يعني هناك احتمال البراءة- لم تجز إساءة الظن"[إحياء علوم الدين: 3/150].
وهذا معنى قول الفاروق: "ضع أمر أخيك على أحسنه مالم يأتك ما يغلبك". لأنه هناك حالات ليس لها محمل، رأيت بعينك، ماذا تفعل، هنا سيكون عندك من قبل تبنّي لحسن الظن، ونحمل الأمر على أحسن، وما نتجسس، ولما صارت هناك قرائن، وربما صارت أدلة أيضاً، سمعت ورأيت، فلا تقل: أنا أُحسن به الظن، وأعتبر كأنه ما عمل شيئاً، لا يمكن، من رأى منكم منكراً فليغيره [رواه مسلم: 49]. انتهينا.
فأنت إذا رأيت منكراً فلا تقل: أحمله، بقي الآن: كيف تتصرف؟ الذي هو إذا كان سجله وتاريخه وحاله أنه مستور، ما يُعرف بالمعاصي والشر، استره وانصحه بينك وبينه، وإذا كان الشيء الآخر ارفع بأمره.
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لابنه: "يا بُني إذا سمعتَ كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً من الخير".
قال أبو قلابة: "إذا بلغك عن أخيك شيئاً تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل لأخي عذراً لا أعلمه".
وكانت عبارات ابن القيم وهو يعلِّق في مدارك السالكين: "ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه" [مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: 2/38].
خلع المنظار الأسود مهم جداً، ولكن في نفس الوقت التعامي خطير جداً، يكون الواحد أعمى، أنت عندك مسؤوليات أيضاً، أنت الآن مكلّف، ربُّ الأسرة يتعامى، وبعد ذلك إذا صارت هناك قرائن، لابد أن يكون له موقف عند الرِّيبة، ما الوضع؟ ما الذي صار؟ أنا لا أتهمُّك الآن، ولا أُثبت عليك معصية، لكن هذه ما معناها؟ هنا يظهر الفرق بين الوعي بما يدور والمسؤولية تجاه ما يحدث، واستدراك الأمور من أولها، وعدم ترك القضية تستفحل، هذا ما يتعارض مع هذا، لأن هناك قرائن، لو لم يحصل شيء أنا ما أسيء به الظن، ولا أفتّش، لكن إذا بدأت الروائح تخرج والقرائن تظهر، صحيح أنه ما وصلت لدرجة رأيت وسمعت، لكن الواحد هنا يتصرف، يتعامى؟ يتغافل؟ لا، لأنه لا سمح الله بعد ذلك، المسألة تنتقل إلى الواقع، وربما هذه أولها، إذا تركت الأمور وبالذات أصحاب المسؤوليات نحو الأشخاص، أب في أسرة، مدير في مدرسة، أنت مسؤول عنهم، أنت مدير في موظفين، عندك موظفون أنت مسؤول عنهم أمام الله، أنت تحت مسؤوليتك إدارة، مُنشأة مبنى، أشخاص، تحت مسؤوليتك، فهنا يكون التدخل، ما يأتي يقول: أنا ليس لي دخل، أنا علىّ من عمله، هو عمله مصمّم، يصمم تصميمه، مبرمج برمجته جيدة، انتهى، لا، الآن هو تحتك، وهذه الأشياء تأتي من بين يديك ومن خلفك وتمر عليك، اتصالات، إيميلات، أشياء، لا بد يكون هناك موقف، ((من رأى منكم منكراً)) رأى بنفسه، سمع، بلّغه الثقة، هناك شر يحدث لا بد من علاجه، وهذا ما يتعارض مع قضية الستر؛ لأنك ممكن تعالج وتستر، المشكلة الذي ما يعالج بزعم الستر، الستر لا يناقض المعالجة، أنت لا تعالج أو تعظ وتذكِّر أو تمنع، وبعد ذلك تروح وتذهب، والله عندي واحد موظف، والله عندي واحد مدرس، والله عندي واحد طالب، والله عندي ابن كذا، والله عندي جار، لا تكن مغفلاً أنت عالج الأمور، لكن ما تفضح، لا يوجد تعارض، أما قضية إنزال الناس بمنازلهم ومراعاة حال كل إنسان ومراعاة مرتبته الشرعية والاقتصادية والنفسية، يختلف، سرقة الفقير ليست كسرقة الغني، الله قال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [سورة المائدة: 38]. بدأ بالذكر، السارق والسارقة، ثم قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [سورة النور: 2].
بدأ بالذكر في السرقة وفي الزنا بدأ بالأنثى؛ لأن الذكر يقدر على الكسب أكثر من الأنثى، فهي إذا سرقت ممكن تكون حاجتها أشد منه، هو عنده قدرة على الكسب أكثر منها، فالسرقة منه أقبح، السرقة من القادر على الكسب أقبح، فبدأ به وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [سورة المائدة: 38]. في الزنى كلاهما قبيح، لكن المرأة عندها حياء أشد، فالمفترض أنها تكون هي أبعد عن الفاحشة، فإذا زنت فهي أقبح، وكلاهما قبيح، ولذلك قال في الزنى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [سورة النور: 2]. وقال في السرقة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا الترتيب في القرآن مقصود ، وهذه بلاغة من كلام رب العالمين.
ويتصور بعض الناس أنه لا تمييز بين الأشخاص، شيخ القبيلة، وآخر من القبيلة كله سواء، أكبر عالم وأجهل واحد في المسلمين كلهم سواء، ليس صحيحاً، هذه منازل لها قيمة عند الناس، والناس في العادة يراعون فطرياً، والدين: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه [رواه أبو داود: 3712، والطبراني في الأوسط: 5261، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 26]. "أمرنا رسول الله ﷺ أن نُنزل الناس منازلهم"
رواه مسلم، معلّقا ووصله أبو داوود وصححه الحاكم.
فلا بد أن يكون هنا فرق في المراعاة، إذا كان زعيم في الشر ماله قيمة يكون من يكون، هذا يُفضح أصلاً، هذا بيان حاله دين كما قلنا، نصيحة، لكن في حالة الآن تتكلم على استواء الأمور، من هذه الجهة، لكن هذا الشخص له مكانة أعلى بين الناس، لا بد أن يكون هنا نوع من المراعاة لهذه الحالة، وقضية الدعوة والحوار والاقتناع والموعظة في التعامل مع مثل هذه الحالات أمر واضح.
قضية زلات العلماء وطلبة العلم والدعاة، وعندما نقول كلمة: "زلات" لا يعني أن كلها معاصٍ شهوانية، لا، هناك زلات في فتوى، هناك زلات في حكم قضائي، هناك زلات في أسلوب دعوي، انظر الآن التويتر من مشاكله: أنه بسرعة تنشر، بسرعة تكتب، من زمان كان لكي تنشر كتاباً لكي تنشر شيئاً بين الناس لا بد أن تذهب تكتب المسودة وتراجعها، وتعطيها لواحد يراجعها وتدقق إملائياً، ولغوياً نحوياً صرفياً، تطبعها، تذهب بها إلى الإعلام يفسحوها، وأيضاً لا بد أن تمر إلى إدارة الإفتاء للتأكد من خلوّها من المحظورات الشرعية، مطبعة، در النشر والتسويق والمكتبات وبيع التجزئة؛ حتى تصل ليد الناس، الآن توزع مباشرة، توزّع عشرين ألف نسخة في غمضة طرف، توزع خمسين الف نسخة، مائة ألف، مباشرة على الهواء.
فالآن واحد انفعل انفعالاً نفسياً معيناً، وكثيراً ما تكتب بعض هذه التغريدات من نتيجة انفعال نفسي معين، وذهب يكتب، والكلمة أنت تملكها إذا كانت حبيسة في نفسك، إذا خرجت ستذهب أين؟ حتى لو حذفت، نُشرت، فلذلك الزلات قد تقع، فكيف نتعامل مع زلات أهل العلم؟ سواء كانت فتوى شاذة، سواء كانت رأياً خاطئا خالف الكتاب والسنة، قد يكون موقفاً أعلنه أو كتاباً نشره، خالف كلام العلماء الثقات، وقواعد الشريعة إلى آخره.
يجب أن نفرق بين هذا الإنسان هل هو عالم من علماء أهل السنة المعتبرين؟ هل هو طالب علم من طلبة العلم المعتبرين؟ هل هو مبتدئ ؟ هل هو داعية بدعة؟ هل هو من علماء أهل البدع والضلالة؟ هل هو داعية انحراف؟ هل هو مبتدع من المبتدعة؟ هناك فرق، لا يمكن تعاملهم سواء، فأما إن كان من علماء أهل السنة فإن الله رفع مرتبة العلماء، فلا يمكن أن نحطها ونضعها نحن، الله إذا رفعهم نحن لا ننزلهم، ولا نشنّع عليهم ولا نشتمهم، ولا نسبّهم، ولا نفضحهم، ولا نشوّه سمعتهم؛ لأن الله رفع قدرهم؛ لأن كتابه في صدورهم، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سورة العنكبوت: 49]. وأحاديث نبيه ﷺ في صدورهم، وعلم الحلال والحرام عندهم، فلا يمكن أن نأتي نحن نحط من قدرهم ونريد أن نسفّه رأيهم، العلماء ورثة الأنبياء، وكفاهم فخراً أن الله أشهدهم على أعظم حقيقة، شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ [سورة آل عمران: 18]. شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ هذه أعظم حقيقة، والذي أشهدهم معه هم الملائكة وأولوا العلم، هذا دليل على فضلهم، وشرفهم، وإذا جعلهم الله مراجع لنا، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل: 43].
وأن نعود إليهم، وإذا كان هؤلاء العلماء تلزم طاعتهم، أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] يدخل في ذلك العلماء والأمراء الذي يحكمون بشرع الله.
فإذا كان هذا هو الواقع شرعاً، فما هو الجواب إذن؟ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحج: 32]. إذن، تجب هنا، مسالة توقيرهم وحفظ مكانتهم واجبة، لكن هذا لا يعني أن ندلِّس ونمشِّي الخطأ ونقول: هو صواب، كلا، لكن هناك فرق كبير بين بيان الحق في المسألة، وبين التشويه على من قال بخلاف الحق فيه، بيان الحق في المسألة واجب، حتى لو قال من قال بخلافه، لا مجاملة، هذا دين، والعلماء نجوم يُقتدى بهم، "ومن استخفّ بالعلماء ذهبت آخرته" كما قال ابن المبارك: "ليس له حظ في الآخرة" [سير أعلام النبلاء: 8/408].
وعلماء الأمة خيارها ونقلة الدين والعلم، ولولا الله ثم هم ما عرفنا الدين، ولا الحلال من الحرام.
معايير مهمة في التعامل مع زلة الفضلاء
وهناك معايير في التعامل مع هذه القضية.
أولاً: من كثر صوابه تغتفر هفواته، من كثر صوابه من أهل العلم والفضل تُغفر له الهفوة والزلة ولا يسقط أو يشهّر بها، ولا يُسقط، قال سعيد بن المسيب: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب، ولا بد، ولكن من الناس من لا تُذكر عيوبه" من هو؟ "من كان فضله أكثر من نقصه، وُهِب فضله لنقصه" [رواه الخطيب في الكفاية: 79، وابن عبد البر في التمهيد: 11/170]. قال الذهبي -رحمه الله-: "إن الكبير من أهل العلم إذا كثر صوابه وعُلِم تحرِّيه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم، وهذه "نعم" مهمة جداً، نعم يعني: "ولكن لا نقتدي به في بدعته وخطأه ونرجو له التوبة من ذلك" [سير أعلام النبلاء: 5/271].
هذه لا نقتدي به في بدعته وخطأه مهمة للغاية؛ لأن الدين عندنا أعظم، وحق رب العالمين أعلى.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدر صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة، والزلّة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده" يعني الزلة العلمية، زلة الفتوى مثلاً " فلا يجوز أن يُتبّع فيها، في المقابل ولا تجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين" [إعلام الموقعين: 3/220].
وقال: "من قواعد الشرع والحكمة: أن من كثرت حسناته عظُمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يُحتمل له ما لا يُحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لا يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحمل أدنى خبث"، لا يحتمل. [مفتاح دار السعادة: 1/176].
ولا يزيدنك في رجل حمدت سيرته وارتضيت وتيرته وعرفت فضله، وبطنت عقله، عيب تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله، العلماء يستغفر لهم من في السموات ومن في الأرض، ما يدريك ربما استغفار النمل والحوت، ألم يقل النبي ﷺ هذا؟ وهذا الحديث والله لو لم يكن إلا هو لكفى به حاثاً لنا على أن نسلك سبيل طلبه، وإن العالم ليستغفر له من السموات ومن في الأرض حتى النمل في الجحر وحتى الحوت في البحر [رواه ابو داود: 3641، والترمذي: 2682، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 6297]. هل تريد أكثر من هذا، والله الواحد لو ما كان إلا هذا الحديث يحمله على أن يعرف معاني القرآن تفسير القرآن وشروح الأحاديث ويأخذ متون العلم، وشروح العلم، وينتقل من حلقة إلى حلقة، ويثني ركبه عند هذا العالم، وهذا العالم، ويرفع السماعة على هذا الشيخ ويسأل، وعلى هذا ويسأل، ويتتبع مواقعهم ويتتبع كتبهم ويقرأ في الليل، ويقرأ في النهار، ويرحل في طلب العلم، وفي المسألة والواحدة، ويدخل في الحلَق، المذاكرة والحفظ والتكرار، لو لم يكن إلا هذا الحديث كان كافياً والله، لكن ما أشد تقصيرنا.
نتفكر في هذه، من أين تأتي؟ هذه تحصل لمن يستغفر له من السموات الملائكة، ومن في الأرض، والنملة في جحرها والحوت في البحر، كل الأسماك وكل النمل، وكل هذا تستغفر للعالم، ولذلك لو أراد الواحد من أجل هذه فقط حاول أن يصبح عالماً، من أجل هذه فقط تكفي وزيادة، ستر زلات العلماء وأخطائهم، الستر هذا عندما لا يبلغ الناس الزلة، افرض قالها في بيته، قالها في مجلس محدود، يمكن ثلاثة أربعة، فهؤلاء من دينهم وورعهم وعقلهم وحكمتهم قالوا: يا جماعة ما أحد ينشر هذه عن الشيخ أبداً، اكتموها بينكم، هو ما قالها في مكبّر صوت، ما قالها على الملأ، ما قالها في قناة، ما قالها في موقع، ما نشر كتاباً، أو في إذاعة، ما قالها في محاضرة عامة، مجلس خاص زل فيه الزلة وقال فيه الهفوة وتكلم فيه بهذا الخطأ حاصروها، واكتموها، وأميتوها، هذا هو الموقف الصحيح، وتأدبوا معه وتلطفوا في قضيته، لا، لعلك يا شيخ لا تقصد هذا، غفر الله لك، ورحمك الله، لا يقال عنهم هذا، نحاول معالجة الموضوع على أضيق نطاق، وبالحسنى، و: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وهذا من كامل الاحترام والتوقير، ولكن إذا انتشرت، فلا بد من موقف آخر، تلك حاصرناها، من أقال مسلماً اقال الله عثرته يوم القيامة [رواه ابن ماجه: 3460، والحاكم: 3460، وابن حبان: 5030، وصححه الألباني في المشكاة: 2881]. هذه من إقالة عثرة العالم، أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم [رواه أبو داود: 4375، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 1185]. يعني: اصفحوا غضوا الطرف عنه وعن زلاتهم، هذا العالم لما صار في المجلس الخاص لازم، هذا واجبنا. وإذا أعلن، وبعضهم -سبحان الله- يندفع، وبعضهم تكون هناك عوامل نفسية كثيرة، والله الذي يضبط ويملك نفسه الآن هذا بطل، الذي يملك نفسه؛ لأن الأشياء المغيظة والأشياء المغضبة الآن كثيرة، نحن الآن هل وضعنا طبيعي، ونحن نسمع كل الأخبار وكل المآسي، وكل المصائب التي تقع في العالم، وأي حرب وأي قتل وأي مصيبة، وأي جرح وأي دم، وأي صور، ناس ميتون ورؤوسهم مقطعة، وأي حال، كل يوم نرى هذا؟ من زمان ربما واحد في مكة، وآخر في بغداد، وتقع مذبحة في بغداد، ويُقتل مليونان، حتى يصل خبر فيها إلى مكة يحتاج إلى شهرين على الدواب، تكون المأساة نشرت وربما عادت الحياة إلى طبيعتها، والآن وصلت المأساة، نحن الآن كل يوم، نفسياً هناك ناس ما تتحمل، لذلك الآن هناك اكتئابات، وأمراض نفسية، ومشاكل عند الناس.
في غمرة هذا إذا خرج شيء، إذا كان الواحد من هؤلاء العلماء يرى كل ما يحدث، كل يوم مصيبة في أهل الإسلام، وحصل شيء وخرج عن طوره، إذا حصلت زلّة، وانتشرت قضية، الاعتذار عنهم ولهم ما وسعنا ذلك، ونقول: غفر الله له، لعله لم يقصد ذلك، لعلها كلمة خرجت دون قصد، لعله لم يزنها، لعله يراجع نفسه، لعله كذا، هذه قضية الاعتذار الحسن عنه، هذا مطلب شرعي مهم.
ثانياً: نذكر فضله، لا تنس أنه فعل كذا، وفعل كذا وفعل كذا، النبي ﷺ لما خلأت القصواء، وهي ناقته قالوا: خلأت القصواء، خلأت يعني بركت من غير علّة وحزنت، فقال الناس: خلأت القصواء، فقال النبي ﷺ: ما خلأت القصواء، وما ذلك لها بخُلق، ولكن حبسها حابس الفيل هذا ليس عناداً من الدابة، حبسها حابس الفيل [رواه البخاري: 2731].
وحابس الفيل هو الله . رواه البخاري.
الحديث يقول ابن حجر له فوائد: "جواز الحكم على الشيء بما عُرِف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره،
فإذا وقع من شخص هفوة -يقول ابن حجر- "لا يُعهد منه مثلها لا يُنسب إليها ويُرد على من نسبه إليها" [فتح الباري: 5/335]. إذا كان النبي ﷺ دافع عن دابته، ألا ندافع نحن عن علماء أمته؟.
يقول الإمام الذهبي -رحمه الله-: "ولو أن كلما أخطأ إمام في اجتهاده في أحد المسائل خطأً مغفوراً له، قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه ما سلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا هو من هو أكبر منهما" وابن نصر وابن منده من كبار العلماء في الأمة، قال: "الله هو هادي الخلق إلى الحق، وأرحم الرحمن الرحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"
قال: "ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق"، وهذه مهمة: "وتوخيه لاتباع الحق"؛ لأن هناك بعض الناس أصحاب هوى، لا علاقة لهم، ليسوا من هؤلاء قال: "ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدّعناه، لقلّ من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع منه وكرمه". [سير أعلام النبلاء: 14/376].
زلّة العالم لا يُتابع عليها
والموقف الأساسي والمهم، وأعظم نقطة الآن في الموضوع اعتقاد أن زلته ليست من الشرع ولا يجوز الاقتداء فيها، ليست محل اقتداء، قال الشاطبي -رحمه الله-: "زلّة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عُدّت زلة، وإلا فلو كانت معتدة بها لم يُجعل لها هذه الرتبة، ولا نُسب صاحبها إلى الزلل، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها، يشنّع عليه بها، ولا يُنتقص من أجلها" [الموافقات: 5/136]. وإلى آخره.
فإذن، قضية أنه لا بد يوضح تماماً أن هذه ليست من الشرع، على خلاف الشرع، لا مجاملة، أبداً.
ومن الناس من يجامل، إذا كان من نفس بلده جامله، من نفس مدينته جامله، من نفس قبيلته جامله، حتى من نفس الجامعة التي تخرج منها جاملهم، وإذا شخص آخر من مكان آخر نزل عليه، هذا ليس عدلاً، وليس من الدين.
عدم الغلو فيهم وادعاء عصمتهم
كذلك من المواقف: عدم الغلو فيهم بإنكار وقوع الخطأ منهم؛ لأن بعض الناس ربما صار مثل الرافضة، ادعاء العصمة للأئمة، وادعاء العصمة عند الصوفية لصاحب الطريقة والشيخ، قطب الأعظم والأوتاد عندهم، يقول لك: شيخنا ما يخطئ أصلاً، أو الإمام هذا ما يخطئ أصلاً، بعض أتباع المذاهب الفقيهة مثلاً يقول: هذا إمامنا ما يخطئ أصلاً، وإذا وجد الخطأ فهو عندك أنت، الخطأ في عقلك أنت، ما يخطئ، هل هو معصوم؟ نبي؟ ولذلك رفض الغلو في الأشخاص، يقول ابن حجر في الدرر الكامنة في ترجمة أحد أعلام الشافعية، كان يقول: "كنتُ إذا سمعتُ شخصاً يقول: أخطأ النووي، أعتقد أنه كفر" [الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: 2/311].
من شدة تعظيمه للنووي إذا خطأ شخص النووي، كنت أعتقد أن هذه التخطئة كفر، الواحد يبدأ صغيراً في مشوار طلب العلم، بعد ذلك يكبر ويفهم ويعي، تتغير عنده أشياء يراها بعد ذلك، يبصرها، فرق مهم جداً، التفريق بين زلّة المتأوِّل الذي له اجتهاد سائغ وغير المتأوِّل.
قال شيخ الإسلام: "وكل من كان باغياً أو ظالماً أو معتدياً أو مرتكباً ما هو ذنب فهو قسمان: متأوّل وغير متأوّل" [مجموع الفتاوى: 35/75]. متأول يظن نفسه على الحق، يظن أنه عنده دليل، يظن أن هذا الذي يفعله له وجه من الحق والصواب، وغير المتأول، الذي ليس عنده دليل وهو يعلم أنه خطأ، أنه زلّ، فلا بد من التفرقة بينهما، والله عذر المخطئ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فمن كان خطأه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والسنة وتعديه الحدود بخلاف المجتهد، المجتهد مغفور له، أما ذاك يقال له: اتق الله كيف تُفتي وما عندك علم؟ اتق الله، كيف تتخذ هذا الموقف وأنت تعلم أنه باطل؟ اتق الله، انظر إلى الناس، ألا تخاف الله، هؤلاء الناس الآن سيتبعونك على الباطل، هناك كلام لا بد أن يقال لمن ليسوا على الرُّتبة، ليسوا على الأهلية، أو يجاملون على حساب الدين، الموقف لابد منه، عندما صارت القضية على حساب الدين انتهى، ومع ذلك لا يكون الواحد سباباً وشتاماً.
-أختم بكلامي هذا-: عندما نقول: الزمن الآن الذي نحن فيه زمن فتن، زمن تراجعات، تنازلات، تساهلات، تبديل، تلبيس الحق بالباطل، وعندما نقول: هناك الآن مغريات وهناك ضغوط وإجبارات من الكفار، وهناك أشياء هائلة تحدث، ألن يتأثر بذلك بعض المنسوبين للعلم والدعوة؟ ألا يمكن أن ينحرف بعض هؤلاء ويكونون من زمرة المميعين للدين؟ المتساهلين في الأحكام؟ الذي يحاولون إرضاء البشر أو بعض البشر؟ حتى صاحب العلم الذي دخل في العلم أو في الدعوة قد يُفتن بالشهرة، وقد يفتن بالإعلام، وقد يفتن بتويتر، وقد يفتن بالأتباع، هذه الفتنة قد ينبني عليها أنه يزل، قد يسترضي الجمهور بكلام غير صحيح شرعاً، ربما يدخل عليه ضعف بشري، يظن أن الناس لن يسمعوا كلامه إذا ما أعطاهم وأرضى أهوائهم بأشياء من التسهيلات والتنزيلات والتخفيضات في الدين، هناك بعض الناس هكذا، فيبدأ هو بالاسترضاء، يزلّ حتى ينفي عن نفسه تهمة أنه متشدد، يقول مثلاً عن مسألة محرمة أنها مكروهة، عن مسألة محرمة أنها جائزة، أليس بشراً، ممكن الواحد يتعرض لنوع تعذيب، عقاب، أي حاجة وتتغير مواقفه، يتعرض لاضطهاد معين فتتبدل مواقفه، ممكن، إذا فيها إغراءات، مناصب، هذا كلام كله عند رب العالمين، هذا ما ينفع وليس عذراً، الله سيحاسبنا، هذا دين، ولذلك نحن نعرف فضل أهل الفضل.
وقد تكون للإنسان سابقة لكن يغير الاتجاه، ليس هو على السابقة وعلى الحسنات والعلم والدين والمنهج الصحيح، وبعد ذلك يزل زلّة، وهو على الدين والعلم الصحيح والمنهج الصحيح زلّة أخرى، وبعد ذلك...، لا، هناك ناس كانوا مستقيمين على المنهج الصحيح، بعد ذلك غيروا، صار عنده طريق آخر، هذا ليس مثل أهل العم والفضل في الدين، الثابت، المستقيم، ما غير وبدل، لكن وقعت منه زلة، بعد سنة سنتين وقعت منه زلة ثانية، بعد سنة ثلاث سنوات وقع منه زلة أخرى، لكن هو ما زال ثابتاً على المنهج الأول ما غير، مازالت عقيدته عقيدة السلف، مازال منهجه منهج السلف، ما زال ثابتاً في الأحكام والحلال والحرام على الدليل من الكتاب والسنة.
ما زال لا يخرج عن أقوال أهل العلم المعتبرين وليس متخصصاً في الشذوذات الفقهية.
وآخر صار الآن يأتي لنا بمصيبة، ومصيبة بعد مصيبة، وتنازل بعد تنازل، وتساهل بعد تساهل، وكل يوم يفتح علينا باب فتنة، وبعد باب فتنة، لا غير، هذا التقرُّب إلى الله ببيان فساد ما هو عليه هذا من الدين والإيمان، انتهى، غيّر بدّل، والله قال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً [سورة الأحزاب: 23].
وقال: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران: 8].
ألم يوجد ناس عندهم علم غزير، آحاد وليسوا كثيراً -والحمد لله- انقلب الواحد منهم إلى ملحد؟ يوجد، ألم يكن هناك واحد كان سنياً صار مبتدعاً؟ يوجد، ألم يكن هناك من كان يتبع الدليل من القرآن والسنة، صار الآن يتبع العقلانيات، الآراء؟ صار يقدِّم العقل على الوحي؟ كان يقدِّم الوحي على الرأي صار يقدّم الرأي على الوحي؟ تغير المنهج، هذا الذي غير المنهج أمره آخر، هذا إذا نشر زلاته فلا بد أن يُبين حاله، وأنه ليس بثقة أن يأخذ منه، لم يعد أهلاً أن يأخذ منه، لم يعد يصلح أن يُستفتى، لم يعد يصلح أن تأخذ منه المواقف الشرعية في الأحداث المختلفة، تغير أمره، وهذا دين، هذه أمانة، هذا ما سنح المجلس أن نتكلم به في هذا الموضوع، وهذا الموضوع يا إخواني موضوع مهم والله؛ لأنه يتعلق بالدين أمانة دين، وأيضاً حق العلماء وحق أهل العلم والفضل والدعوة إلى الله، وأيضاً قضية الستر حتى في مسائل الفواحش وغيرها مما طم وعم الآن فتدبروا فيه وتفكروا فيه، ونحاول أن نلتزم ونعمل ما قاله أهل العلم والشأن ، وقد ذكرنا نقولات عن عدد منهم في هذا الصدد.
نسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، ونسأله أن يثبَّت على الدين أقدامنا، وأن يحيينا مؤمنين، ويتوفنا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
وصلى الله على نبينا محمد.