الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد:
فكنا قد تحدثنا في الدَّرس الماضي أيها الإخوة، عن عقيدة القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة، وكيف يجب أن يكون موقف المسلم من قضاء الله تعالى وقدره.
ونواصل في هذا الدرس الحديث عن هذا الموضوع الخطير وفيه مسائل:
الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله
ومنها: هل الإيمان بالقدر ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، هل لنا نحن مشيئة وهل نختار أم لا؟ الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وأن يكون له قدرة عليها؛ لأنَّ الشَّرع والواقع يدُلُّ على ذلك.
الأدلة على مشيئة العبد
أمَّا الأدلة الشَّرعية التي تدل على أن لنا إرادة ولنا مشيئة مثل قول الله : فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا[النبأ: 39]. وقوله : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223].
وقال الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[الكهف: 29]، وأمَّا الواقع فإنَّ كُلَّ إنسان عاقل يعلم أنَّ له قدرة ومشيئة بهما يفعل ويترك، وأنَّه يأتي الأشياء عموماً بمشيئته وإرادته إن شاء تركها وإن شاء فعلها، هذا يعلمه كل عاقل، ولكن مشيئتنا وقدرتنا أو إرادتنا داخلة وضمن ومقيدة بمشيئة الله تعالى لقوله : لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير: 28-29]. فأثبت أن للعبد مشيئة: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وجعلها مقيدة بمشيئته رهن مشيئته تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وهذه تُلخِّص عقيدة القضاء والقدر في مسألة مشيئة العبد تلخيصاً جيداً، فإذا صلَّى العبد أو صام وعمل الخير أو عمل المعاصي في الجانب الآخر كان هو الفاعل لهذا العمل الصالح أو العمل السَّيء، وهذا الفعل وقع باختياره هذا شيء لابد منه، وقد قال النبي ﷺ: وأمَّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة [رواه البخاري: 1296، ومسلم: 2647].
فالله يُعين من يريد الخير ويُمده بأسباب وإعانات متنوعة، كما أنَّه سبحانه يخذل الفاسقين ويكلهم إلى أنفسهم؛ لأنَّهم لم يؤمنوا به ولم يتوكلوا عليه، فإذاً هذه المشيئة والإرادة ثابتة لنا، وبناء عليها يكون التَّكليف، ولو واحد منا فقد المشيئة والإرادة لا يعود مُكلَّفاً بل يكون مُكرهاً مثلاً ولا يقع عليه عقاب.
العمل بالأسباب ينافي القضاء والقدر
المسألة الثانية: هل فعل الأسباب ينافي القضاء والقدر؟ فإذا قال قائل إذا كان كل شيء مكتوب فلماذا نعمل؟ ولماذا نأخذ بالأسباب وكُلُّ شيءٍ مكتوب فيجب علينا التَّسليم ولا نعمل شيئاً؟
الجواب: نرجع إلى الشَّرع دائماً، فلقد جاءت أدلَّة الكتاب والسُّنَّة حافلة باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة، فأمرت بالعمل والسَّعي في طلب الرِّزق واتخاذ العدد لمواجهة الأعداء، والتَّزَّود في الأسفار، قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10].
ولم يقل اقعدوا في بيوتكم انتظروا الرِّزق ينزل عليكم من السَّماء، بل قال: انتشروا في الأرض، قال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا[الملك: 15].
وقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقال: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، وقال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45]. وهكذا.
فأمر باتخاذ الأسباب الشَّرعية التي تسبِّب النَّجاح في الآخرة والفلاح، وكذلك تسبِّب النَّجاح في الدُّنيا في تحصيل الرِّزق والولد وغير ذلك فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة: 187].
كيف يحصل الولد بغير المباشرة؟ ولذلك قال: بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وهو الولد، كما قال المفسِّرون، وأمرنا باتخاذ الأسباب الشَّرعية التي توصل إلى رضوان الله وجناته كالصَّلاة والزَّكاة والصِّيام والحج، وهذه حياة النَّبي ﷺ وأصحابه الدَّالَّة على أنَّهم كانوا يأخذون بسائر الأسباب الشَّرعية الموصلة إلى رضوان الله تعالى، والذي يظنُّ أنَّ اتخاذ الأسباب يُنافي الإيمان بالقضاء والقدر فقد غلط غلطاً فاحشاً، ويقال لهذا: إذاً لا تبذر وسيخرج الزَّرع، ولا تتزوَّج وسيأتيك ولد، ولا تأكل وتشرب وستشبع وتروى، فهذا كلام لا يقوله عاقل، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا ترك العبد ما أُمر به متكلاً على الكتاب وعلى المقدور وعلى ما في اللوح المحفوظ، كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقياً، وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول: لا آكل ولا أشرب وإذا كان الله قدَّر لي الرِّي والشَّبع فسيحصل، ولا أجامع امرأتي وإذا كان قدَّر الله لي ولداً فسيحصل، وهكذا من ترك الدعاء والاستعانة والتوَّكل ظاناً أنَّ هذا ينافي المقامات الخاصَّة"[مجموع الفتاوى: 8/284].
لأنَّ بعض الصُّوفية الآن يقولون نحن لا نعمل شيء كل شيء سيأتينا من دون أن نعمل شيئاً، والرسول ﷺ قال في صحيح مسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز لا تترك العمل لا تكون عاجزاً ولا تعجز، وإن أصابك شيء بعد كل اتخاذ الأسباب إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان[رواه مسلم: 2664].
فأمر بالحرص على ما ينفع ونهى عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، وأمرنا إذا أُصبنا بشيء أن لا نيأس ونُسلِّم الأمر لله تعالى الذي كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّموات والأرض بخمسين ألف سنة، هو الذي قال وأخبرنا بهذا وهو الذي قال: اعملوا فكل ميسر لما خلُق له [رواه البخاري: 4663، ومسلم: 2647].
في وحييه على نبيه ﷺ، هو الذي أخبرنا عن طريق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أن المقادير كُتبت وانتهت هو نفسه الذي أخبرنا على لسان نبيه: اعملوا فكل ميسر، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85].
فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78]، يقولون: القدر مكتوب وما كُتِب سيصل إلينا ولا حاجة للعمل، إن كان في أمر الدُّنيا! ولذلك يعيشون عالة على النَّاس لا يريدون العمل، وإن كان في أمر الآخرة سيردون جهنم داخرين؛ لأنَّهم لا يعملون ما يوصل إلى الجنَّة، فهم ليسوا عقلاء لا في أمور الدنيا ولا في أمور الآخرة.
الاحتجاج بالقدر على المعصية
هل يصحُّ الاحتجاج بالقدر على المعصية؟ كثيرٌ ما يوجِّه الدُّعاة إلى الله والنَّاصحون بعض المدعوين والمنصوحين وينصحونهم: يا فلان لا تفعل كذا، أقلع عن المعصية الفلانية، لماذا أنت مقيم على المعصية؟ يقول: لأنَّ الله ما قدَّر لي الهداية، فإذا قدَّر لي الهداية سأترك هذه المعصية، ولو شاء الله ما أشركنا، ويقول: إنَّا تبع المشيئة، نقول: حجبت نصف الحقيقة، أنت تبع المشيئة ونحن تبع المشيئة، لكن الذي مشيئته أنت تحتها أمرك بالعمل، وأين العمل؟ فأنت تقول أنك تحت المشيئة ولا تعمل، إذاً متى ستهتدي؟ وألطف هؤلاء جواباً الذي يقول: ادع لي بالهداية، لا يعمل شيء، وكأنَّها قضية علينا معاشر الدُّاعاة، تقول له: اترك الدخان، يقول ادع الله أن يجنبني هذا، فأنا اعمل بالدَّعوة وأنت ماذا تفعل؟ تستمر على التدخين، إذاً متى تهتدي؟ متى تقلع عن الذنب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذَّنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل وسائر العقلاء؛ فإنَّ هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النُّفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر"[مجموع الفتاوى: 8/179].
يقولون: قد كُتب كل شيء، فقاتل مجرم يقول مكتوب، وكل ما نلومه على ذنب قال: مكتوب ومقدَّر، وهذه حجة الكفار: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا[الأنعام: 148].
فاعتبر الله هذا تكذيباً: كَذَلِكَ كَذَّبَ فنفس الحُجَّة استعملها الأولون: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148].
فاحتجُّوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم بالقدر على الشِّرك الذي وقعوا فيه صحيحاً ما كان الله عذبهم، فلماذا يعذبهم؟ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165].
ثم إنَّ الله أمر العبد ونهاه فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[التغابن: 16]، ولو كان العبد مُجبراً على الفعل ما كان عليه معصية ولا عليه جزاءٌ ولا عقاب، ثم نقول للعاصي: عندما نقول لك لماذا لا تغير مسيرتك ولا تسلك سبيل الحق وتتبعه؟ يقول: مُقدَّر ومكتوب، أسألك يا أيها العاصي هل اطلعت على اللوح المحفوظ ورأيت أنَّه مكتوب عليك إلى آخر عمرك أنَّك ستبقى على الكفر وعلى المعصية وعلى الضَّلال؟ إذاً ما يدريك يا أيها المدَّعي أنَّه مكتوب عليك أن تبقى في المعصية، هو إلى الآن وإلى هذه اللحظة مكتوب عليك من قبل، لكن مستقبلاً هل اطلعت على اللوح المحفوظ وعرفت أنَّك ستبقى على المعصية؟ فتقول أنا مستقبلي معروف، وقد اطلعتُ على اللوح المحفوظ ومكتوب عليّ أنَّي سأبقى ضالاً إلى آخر عمري، فلماذا اهتدي ولماذا اتخذ سبيل الهداية؟ فلو أنك اطلعت على اللوح المحفوظ لصدقت، ولو أنك اطلعت حقيقةً فحاول تعمل الخير حتى تقول إني فعلت ما عليّ يوم القيامة، وهل اطلعت أنَّ الله جعل عليك خاتمة السُّوء؟ وهل اطلعت على اللوح المحفوظ أنَّ الله قد كتبك من أهل النَّار؟ فأنت لم تطلع، ومن يقول أنه اطله فهو كذَّاب، ولذلك يقال له: القدر سِرٌ مكتومٌ، لا يعلمه أحدٌ من الخلق إلا بعد وقوعه، ولو سلمنا للمحتج بالقدر لتعطلت الشَّرائع، ولو كان الاحتجاج بالقدر صحيحاً لقبل الله حجة إبليس لما قال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: 16].
انظر إلى إبليس احتجَّ: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16]، وسأفعل المعصية أضعافاً مضاعفة عليّ وعلى غيري: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الأعراف: 16-17].
وأزيد الطَّينَ بِلةً وأعمل معصيتي وأركَّب عليها معاصي الخلق كلهم، هذا منهج وحجة إبليس، ولو كان الاحتجاج بالقدر على المعصية صحيحاً لقبل الله عذره، ولتساوى فرعون وموسى، فهذا مقدَّر ومكتوب، فرعون إذاً لا يُعاقب؛ لأنَّه مسكينٌ ومقدر عليه وما له ذنب، والاحتجاج بالقدر على الذُّنوب والمعائب تصحيح لمذهب الكُفَّار، ولو كان هذا صحيحاً لاحتجَّ به أهل النَّار، لو كان الاحتجاج بالقدر صحيحاً إذا جيء بأهل النَّار يوم القيامة إلى النَّار سيقولون: كتبتَ علينا وقدَّرتَ علينا، وما لنا ذنب ونحن مساكين، ولماذا تُدخلنا جهنَّم، لكن الله لم ينقل هذا عنهم أبداً، بل بالعكس يقولون: ربنا أخِّرنا إلى أجل قريب ونأخذ بأسباب دخول الجنة و نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ[إبراهيم: 44].
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10]. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 44]، يتحسفَّون ويتحسَّرون، وكذلك فإنَّ مما يُردُّ به أيضاً على هؤلاء المكذِّبين أو هؤلاء المحتجين بالقدر على المعصية يقال لهم: لماذا أنتم في مسألة الطَّاعات والمعاصي تقولون نحن مجبورون؟ وفي مسائل الدُّنيا وتحقيق الأرباح والاختبارات والشَّهادات، وتحصيل الأموال قدرية؟ نحن نعمل ونكدح ونفعل ونخلق أرباحناً وأعمالنا وأفعالنا، سبحان الله! ولماذا إذا أنتم صرتم في الدُّنيا تعملون أسباب النَّجاح، وكذلك في الاختبارات والحصول على الوظائف والتِّجارة، وتسافرون وتبيعون وتشترون لتحصيل الأرباح والأموال، ثم في أمر الآخرة تقولون: مكتوب علينا، وما نُغيِّر، فهو مكتوب علينا، ثم لا تعملون أسباب دخول الجنَّة، ولا تتقون أسباب دخول النَّار، كما قال بعض السَّلف: "أنت عند الطَّاعة قدريٌّ وعند المعصية جبريٌّ" [منهاج السنة النبوية: 3/10].
فأي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فبعض النَّاس يعملون الطَّاعات لكن يقول: الذي استطيعه سأفعله، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فأنت ما استطعت أن تعمل الطَّاعة حتى أعانك الله عليها، وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن المحتجين بالقدر: "هؤلاء القوم إذا أصرُّوا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى" [مجموع الفتاوى: 8/262].
فتصور لو قبلنا الاحتجاج بالقدر على المعاصي لتعطَّلت الحدود والتَّعزيرات، ومسحنا باب العقوبات والجزاءات؛ لأنَّ كل قاتل وسارق وزاني وشارب خمر ومرتشي ومعتدي وقاذف كل ما أردنا أن نقيم عليه الحد نجلدك؟ يقول: لا، فهذا مكتوب عليّ، وما لي ذنب، فإذاً تتعطل الحدود والتَّعزيرات، ولو كان الكلام هذا مقبولاً أن يحتج بالقدر على المعصية ويُخرج نفسه بريئاً، فإذاً لا داعي للتَّوبة والاستغفار، فكيف يتوب وهو ما أذنب بل كل شيء مُقدَّر ومكتوب وما له حول ولا قوة ولا مشيئة ولا اختيار ولا إرادة، فهو كالرِّيشة في مهب الرِّيح، وكالسَّاقط من أعلى إلى أسفل، فهذا الشَّخص إذاً لماذا يتوب ويستغفر؟
متى يُسوَّغ الاحتجاج بالقدر
متى يسوغ الاحتجاج بالقدر؟ نحن الآن نذكر قصة موسى مع آدم عليهما السَّلام: لما احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة أخرجتنا ونفسك من الجنَّة، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قد قُدر عليّ قبل أن أُخلق، فحج آدم موسى[رواه البخاري: 3409، ومسلم: 6912].
كسب المناظرة آدم وفاز فيها، إذاً حجَّ آدم موسى كيف حصل هذا؟ نقول: هل آدم احتجَّ بالقدر على معصيته أو على المصيبة التي حصلت بخروجه من الجنة؟ هنا أمران لابُدَّ أن نُفرِّق بينهما: وقع لآدم ذنب فعله ومصيبة حصلت عليه نتيجة الذَّنب بإخراجه من الجنَّة، فلما قال موسى: أخرجتنا ونفسك من الجنَّة، هذا الكلام حصل بعد الذَّنب، والتَّوبة، وبعد قبول التَّوبة ونزوله وموته ثم التقيا، فقال موسى أنت آدم فعلت كذا وكذا، قال آدم فاحتجَّ آدم بالقدر، قال: مكتوب قبل أن أُخلق، فمتى احتجَّ آدم بالقدر وعلى أي شيء احتج بالقدر؟ نقطتان مهمتان: احتجَّ آدم بالقدر بعد ما مات وليس أثناء المعصية جاء يقول له تأكل من الشَّجرة فقال مكتوب، بل حصل ذلك بعد أن مات وبعد ما تاب وقُبلت التَّوبة، واحتجَّ بالقدر على المصيبة التي صارت، كأنَّه يقول: يا موسى المصيبة صارت وانتهت، أتلومني على ماذا؟ ولذلك لو سألك سائل فقال: لو أنَّ إنساناً عمل جريمةً وتاب واستغفر وأقلع وجاء شخص يقول له: كيف تعمل الجريمة هذه، هل يجوز له أن يقول قدَّر الله وما شاء فعل؟ نعم، يجوز للتَّائب الذي أقلع عن الذَّنب أن يحتجَّ بالقدر ويقول قدَّرها الله، لو جاء شخص يقول له: قبل عشر سنوات كيف سرقت؟ أنت يا أيها أنت يا الدَّاعية يا طالب العلم: قبل عشر سنوات أنت سرقت من البقالة مثلاً، فكيف سرقت؟ وهذا الآن قد تغيَّر وصار شيخاً وشخصاً آخراً، فممكن يقول: يا أخي تبت، أتعيرني على ذنب تبت منه؟ ذاك شيءٌ قدَّره الله وكتبه وانتهى، وأنا ما زلت استغفر الله كل ما تذكرت ذنبي، وأقلعت عنه وأصلحت الخطأ، ورجَّعت المال لصاحب البقالة، ماذا تريدني أن أفعل؟ فهنا يكون الاحتجاج بالقدر صحيحاً.
كذلك يكون الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحلُّ بالإنسان: كمرض، أو فِقد قريب، أو تلف الزَّرع، أو خسارة تجارة، أو قتل خطأ، فهنا يقف الإنسان مع القدر، ويقول من تمام الرِّضا بالله رباً: أن يرضى ويُسلِّم، فهذا المصائب، وأمَّا في المعائب والذُّنوب فلازم يستغفر ولذلك قالوا: "السعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب" كما قال الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[غافر: 55].
لاحظ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[غافر: 55]، فالذي يصيبك تصبر عليه وذاك مقدَّر ومكتوب، والذَّنب الذي فعلته تستغفر منه، وهو أيضاً مقدر ومكتوب، لكن ما هو الموقف أنستمر على المعصية؟ ونقول مقدَّر ومكتوب، كلا، استغفر لذنبك.
وهنا لابد أن نُفرِّق فقضية الإرادة الربانية مسألة مهمة.
الإرادة الرَّبانية قسمان:
والإرادة الرَّبانية تنقسم إلى: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية دينية، ولابُدَّ من أن نُفرِّق بينهما:
الإرادة الكونية القدرية
فالإرادة الكونية القدرية: هي مرادفة للمشيئة، إرادة لا يخرج عن مرادها شيءٌ، فالكافر والمسلم تحت إرادة الله الكونية، فالطَّاعات والمعاصي كُلُّها بمشيئة الرَّب : وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد: 11]، فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام:125 ].
إذاً: الإرادة الكونية القدرية: كل ما أراده الله من خير أو شر، طاعات أو معاصي، فكُلُّه داخل تحت إرادة الله ومشيئته، فهذه إرادة كونية، الإرادة الكونية إذا أراد الله إرادة كونية قدرية لازم تحصل وتقع، سواءً خير أو شر، صالح أو طالح لابُدَّ أن يقع.
الإرادة الشَّرعية الدِّينية
أمَّا الإرادة الشَّرعية الدِّينية التي تتضمن محبة الله ورضاه، فإنَّ الله يريد أشياءً محبةً لها، يُحبها ويريدها إرادة شرعية، شرعها لعباده ورضيها لهم، هذه التي هي شريعته: أوامره نواهيه، وهذه كونها تحصل أو لا تحصل في الواقع، وكون النَّاس يلتزمون بها أو لا يلتزمون بها قد تحصل وقد لا تحصل، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: 185].
فهذه إرادة شرعية؛ لأنَّه قد تحصل وقد لا تحصل لبعض النَّاس، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27]، لكن بعض النَّاس يعصي ويصرُّ ويرفض التَّوبة، ولا يُحصِّل أسبابها، فلا يتوب الله عليه مثلاً، فإذاً قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ[النساء: 27].
فهل هذه إرادة شرعية أو إرادة كونية؟ أرادة شرعية؛ لأنَّها قد تحصل وقد لا تحصل: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا[النساء: 27].
الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشَّرعية
هل هناك فروق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؟
الإرادة الكونية قد يحبها الله وقد لا يحبها، وقد تقع على شيء يمكن يحبه الله ويمكن لا يحبه لكن تحصل، أمَّا الإرادة الشَّرعية فيحبُها ويرضها ولابُدَّ، فالكونية مرادفة للمشيئة، والشَّرعية مرادفة للمحبَّة، احفظ هذه العبارة.
والإرادة الكونية قد تكون مقصودة لغيرها، يعني: الله يريد أن يقع شيء لا لذاته ولكن لأمر يترتب عليه، مثلاً: خَلْقُ إبليس، وحصول المرض، فالله يري أن يخلق إبليس ليس لأجل أنَّه يحب إبليس، وليس لذات إبليس لكن لأنَّه يريد من وراء خلق إبليس ابتلاء العباد: يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس: 60]. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ[يس: 62].
إذاً يريد ابتلاء العباد، والمرض يريده مثلاً لتطهير ذنوب النَّاس، وكفِّه للشَّرير عن الشَّر، فالظَّالم إذا مرض ارتاح النَّاس، والعابد إذا مرض زاد ذلك في حسناته وارتفعت درجاته.
من الفروق: أنَّ الإرادة الكونية لابُدَّ من وقوعها كالإحياء والإماتة، أمَّا الشَّرعية فقد تقع وقد لا تقع، فمثلاً: الله يريد النَّاس كُلَّهم في الأرض أن يسلموا، أليس كذلك؟ أليس الله يريد أنَّ النَّاس الذين على كل الأرض أن يسلموا؟ نعم، يريد إسلامهم من ناحية الإرادة الشَّرعية، لكن كون هذا يحصل أو قد لا يحصل بل إنَّه أخبرنا أنَّ أكثر النَّاس في الأرض كفار، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[يوسف: 103].
وهل هناك إرادة شرعية وكونية معاً؟ نعم، ونورد لذلك مثالاً: إيمان المؤمن، ولنقل: إيمان أبي بكر الصِّديق مثلاً، فهذه الله يحبها، وحصلت، فالله يحبها؛ لأنَّها إرادة شرعية، وحصلت إذاً هي إرادة كونية، إذاً الإرادة الشَّرعية الكونية انطبقت مثلاً في حالة إيمان أبي بكر الصِّديق، وإضاً إيمان أبي جهل فالله يريده أن يؤمن، يريد ذلك شرعاً ويحبه، فهل آمن أبو جهل؟ لا، إذاً وهذه إرادة كونية، وهي أن أبا جهللم يؤمن، وأراد الله أن يموت على الكفر فهذه إرادة كونية، ولكنه شرعاً يريد منه أن يُسلم، فإذاً نقول: الإرادة الشَّرعية لا يلزم وقوعها، وقد تقع وقد لا تقع، ولو كان لابُدَّ من وقوعها لآمن من في الأرض كلهم جميعاً.
الإرادة الكونية: متعلقة بربوبية الله وخلقه، والإرادة الشَّرعية: متعلقة بألوهيته وشرعه، فالإرادتان تجتمعان في حق المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي، وتنفرد الإرادة الشرعية في إيمان الكافر، فإذا قلت: إيمان أبو جهل مثال على إرادة شرعية غير كونية، إذا قلت إسلام عمر إرادة شرعية كونية، وإذا قلت كفر أبي جهل إرادة كونية غير شرعية.
الله أراد أشياء كونية، منها ما هو شرعي، ومنها ما هو غير شرعي، كما أن هناك كتابةٌ وأمرٌ وإذنٌ، وجعل كونياً وشرعياً وهكذا، فمثلاً: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183]. هذه كتابة شرعية أو كتابة كونية؟ كتابة شرعية، بعض النَّاس يمكن لا يصوم، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50]. هل هذا أمر كوني أم أمر شرعي؟ أمر كوني، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90].
الأمر شرعي؛ لأنَّ بعض النَّاس لا يعدل ولا يحسن، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى:21]. فإذن الله هنا شرعي؛ لأنَّ بعضهم خالفوا، جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة: 97]. هذا الجعل: كونيٌ وشرعيٌ، أراده كذلك وهو كذلك، وهكذا في الأمثلة الكثيرة.
هل يُنسب الشَّر إلى الله تعالى؟
نحن نؤمن بالقضاء والقدر، وأنَّ الخير والشَّر كله خلقه الله ، فهل يقع في أفعاله تعالى شرٌّ؟ نحن الآن نقول: هو منزه عن الشَّر ولا يفعل إلا الخير، فالقدر من حيث نسبته إلى الله نقول هذا قدر الله لا شر فيه بوجه من الوجوه، لما تقول هذه أفعال الله وتنسبها لله ليس فيها شر من جهة فعل الله، لكن من جهة فعل العبد الذي قام بالعمل وبالجريمة بالقتل أو بشرب الخمر فهي شر، لكن من جهة فعل الله وتقديره ليس بشرٍّ، الله ليس في أفعاله شرٌّ محضٌ من جميع الوجوه، لازم يكون فيه خيرٌ من وجه من الوجوه علمناه أو لم نعلمه، لو قلت: خَلقُ إبليس شر بالنُّسبة إلينا، لكن بالنُّسبة لفعل الله فخلقُ إبليس ليس شر، فلا تقل في فعله شر أبداً، فالله مُنزَّه عن ذلك، ولو رأيت شراً مخلوقاً في الأرض فلازم يكون فيه خير من وجه من الوجوه أدركناه أو لم ندركه، فكما قلنا: في ابتلاء النَّاس بإبليس، كما قلنا في المرض، فمثلاً: المرض شرٌ هذا بالنُّسبة لنا، لكن بالنُّسبة لأفعال الله لا يوجد فيها شر على الإطلاق، قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على حديث: لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تبارك وتعاليت[رواه مسلم 771]. قال: "فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه، تعالى الله عن هذا، بل كل ما نُسب إليه فهو خير، والشَّر إنَّما صار شراً لانقطاع نسبته وإضافته إلى الله تعالى، فلو أُضيف إليه لم يكن شراً"[شفاء العليل 179]. إذا قلت: خَلقُ الله لإبليس هل هو شرٌّ لإبليس؟ لا، لله فيه حِكمٌ، لكن إبليس نفسه هذا شرٌ، فلا يضع الله الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يظلم ، والظَّلم وضع الشَّيء في غير موضعه، ولا يمكن نسبة الظَّلم إلى الله أبداً، وإذا نظرنا إلى حال العِباد والنَّاس عرفنا أن الشَّر بالنُّسبة لهم في الظَّاهر، فالمرض شرٌ مثلاً، والمصيبة شرٌ لكن إذا علموا أنَّ الله يُكفِّر بها السَّيئات، ويزيد بها الحسنات، ويرفع بها الدَّرجات، هل تكون شراً؟ لا، ولذلك نظرتنا قاصرةٌ، ممكن نقول على الشَّيء شرٌ، فالله أخبرنا قال: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ[البقرة:216]. فنحن نظرتنا قاصرة، إذاً ليس في أفعاله شرٌ، فالشَّر في المفعولات، وليس في أفعاله، الشَّر ليس في فعله بالخلق، ولكن في مخلوقاته، وما يظهر لنا أحياناً أنَّه شر قد يكون خيراً عظيماً، وما يظهر لنا أنَّه خير قد يكون شراً عظيماً، بسبب ضعف علمنا.
هل يريد الله أمراً ولا يحبه
هل يريد الله أمراً ولا يحبه؟ نقول: المراد نوعان: مراد للنَّفس، ومراد للغير، فالمراد لنفسه: مطلوبٌ ومحبوبٌ لذاته، وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره: قد لا يكون مقصوداً لما يريد، وليس فيه مصلحة بالنَّظر إلى ذاته وإن كان وسيلة إلى مقصوده، فإذاً مراده إذا أراد شيئاً فمن الممكن أن يجتمع فيه الأمران: أنَّه يُبغضه، وأنه يريده ولا يتنافيان، فيبغضه من وجه وهو يريده.
لو أخذنا مثالاً للعباد نوضح المفهوم: الدواء الكريه المُرُّ، فهل أنت تحب الدَّواء هذا، وتستمتع وتستلِذ به؟ لا، فأنت تكرهه؛ لطعمه المُرّ، لكن تريد أن تشربه إذا مرضت، إذاً أنت تريد وتكره وأنت مخلوق، فهل يعظم عليك أن تتصوَّر ذلك في حق الخالق؟ أبداً، فالله قد يريد شيئاً وهو يكرهه، كما أنك يا أيها المخلوق: تريد تشرب الدَّواء المُرّ وأنت تكرهه.
وما رأيك في قطع العضو المتآكل؟ فمثلاً: شخص لا سمح الله أصابه مرض كأن وقعت أكلة برجله، فقطع العضو هذا، فهل هو عمل محبوب للإنسان إذا وقع له؟ لا، من الذي يريد أن يُقطَع من أعضاءه إلَّا واحدٌ مجنونٌ، لكن إذا قالوا له الأطباء: لو ما قطعته انتشر إلى باقي الجسم، أتريد أن تقطعه أم لا؟ مع أنك لا تحب ذلك، لكن لماذا؟ لأنَّ في مفسدة أكبر وهكذا، إذاً قد يجتمع في الشيء الواحد أمران: بغض من وجه، وحب من وجه آخر، فإذا أخذنا الآن بالنُّسبة لله تعالى مثلاً خلق إبليس الذي هي مادة فساد الدُّنيا في الاعتقادات والشَّهوات والشُّبهات، وكل المصايب، فلو قال قائل: هل في خلق إبليس خير؟ نقول: نعم، لو تأملته ففيه خير، لكن قبل أن نذكر ما هي وجوه الخير في مثل هذا الشَّيء لابُدَّ أن نُنبِّه على مسألة مهمة جداً، وهي: أن أفعال الله التي يظهر لنا أحياناً أن فيها شر، مثلاً: في نفس الشَّيء المجعول أو المخلوق لا يُشترط أن نعلم الحكمة من ورائها، فقد لا نعلم الحكمة من ورائها، لكن نؤمن أنَّه ليس في أفعاله شرّ، فقد يقول لك الطيب: بالنُّسبة لي فالذي يظهر أنها شر، نقول: نعم، يظهر لك أنَّها شر، لكن في ورائها خير أو حِكمٌ بوجه من الوجوه، وإلَّا ما أرادها الله أن تقع، يعني: مثلاً يمكن تقول أنَّ إهلاك قومٍ من الأقوام شر، لكن الله جعلهم عبرةً ونكالاً لغيرهم، إذاً هذه خير، فأيُّ شيءٍ من الأشياء التي يظهر لك فيها شر لو ما عرفت الحكمة منها وأين الخير فيها، لم يتغير شيء في الموضوع، ولا يشترط أن نعرف، ولذلك نحن نُسلِّم بما قضى الله وقدَّر وشرع.
الحكمة من خَلقِ للشَّر
فالله خلق إبليس مثلاً: ويظهر في خلق إبليس قدرته تعالى على الخلق، أنَّه كيف خلق المتضادات والمتقابلات، وكما أنَّه خلق أشرف الذَّوات، خلق أسوء وأخبث الذَّوات، هذه قدرة على الخلق، وكما خلق الحرَّ والبرد، والماء والنار، والدَّاء والدَّواء، والليل والنَّهار، والحسن والقبيح، والموت والحياة، تظهر قدرته على الخلق في خلق أشرف مخلوق وأخبث مخلوق، وكذلك فإنَّه يُكمِل لأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة إبليس وحزبه، ويحصل الابتلاء بخلق إبليس، ويوضع النَّاس على المحك، ويظهر أهل الجنَّة من أهل النَّار، ويتميَّز المؤمنون عن الفُجَّار، وتظهر آثار أسمائه تعالى كالحكم والعدل والخافض والرَّافع؛ لأنَّ الأسماء هذه لها متعلقات، وتُستخرج ما في البشر من طبائع الخير والشَّر، فكل واحد في نفسه طبيعة خير وطبيعة شر، فالشَّيطان يستخرج ما في الإنسان من طبائع الشَّر، والرُّسل تستخرج ما في طبائع البشر من الخير، ووجود الصِّراع بين الحق والباطل عند الله شيء مهم جداً، الله يريد أن يحدث الصِّراع، وهذا الصراع ينتج عنه تمحيص، وينتج عنه تمييز درجات المضحيين في سبيل الله، وينتج عنه اتخاذ شهداء، فتصوَّر لو لم يوجد إبليس هل سيكون في الأرض جهاد؟ ليس هناك من يأز النَّاس للشرك والكفر ويُعلِّمهم ويدلُّهم عليه ويأمرهم بقتل المؤمنين، فلو لم يوجد إبليس لما وُجد جهاد، ولو ما وُجِد جهاد ما وُجِد شهداء، لكن الله يريد شهداء يُكرمهم ويرفع درجتهم، فلو لم يوجد إبليس كان كل النَّاس دخلوا الجنة، الذي يعمل والذي ما يعمل؛ لأنَّه ما وُجد أحد يستخرج ما في طبائعهم من الخير أو الشر، فكل النَّاس يدخلون الجنة، فإذاً: حتى إبليس مَن وراء خَلقِه حِكمٌ لله تعالى.
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظُمت | ويبتلي الله بعض القوم بالنِعم |
فالمعاصي أو المصائب مثلاً والآلام الأمراض شر بالنُّسبة لنا، لكن ينطوي على حِكم عظيمة وفوائد جليلة، فمثلاً: الصَّبر على الضَّراء فأيوب تفوق بماذا؟ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ[ص: 44]. بصبره وصل للمنزلة العالية، فلو لم يكن مرضاً يُبتلى به ولا وجع ولا ألم، كيف يتميز؟ عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له [رواه مسلم: 2999].
فلو لم يكن هذه الآلام والأمراض كيف الصَّبر سيظهر؟ ولو لم يوجد إبليس والشَّهوات هل سيكون هناك صبر؟ لا يكون هناك شيء يدعوا للصَّبر، لأنَّه لايوجد أمراض ولا آلام ولا مصائب ولا يوجد إبليس فتصبر على ماذا؟ فلو لم يكن الصَّبر موجوداً في طبائع البشر فسيترتب على هذا فوات خير عظيم جداً على البشرية، لكن لما يُقدَّر مرضٌ ويصبر عليه ويؤجر، خصوصاً أنَّ بعض النَّاس ليس عندهم مؤهلات لدرجة معينة في الجنَّة، وعباداتهم تقف عند حدٍ معين، فالله كتب لهم درجة عالية فكيف سيصلون إليها؟ مرض، آلام، مصيبة، فيصبر عليها فيصل إلى تلك الدَّرجة، ولذلك بعض السلف قال عبارة يقول: "لولا مصائب الدُّنيا لوردنا القيامة مفاليس". [زاد المعاد: 4/192].
يقول: أعمالنا ليست بشيءٍ فهناك الذي داخله عجب، والذي داخله رياء، والذي داخله مخالفة سُنَّة، لكن لولا المصائب لوردنا القيام مفاليس، رصيدنا هابط، لكن بالمصائب تعظم الأرصدة وتزداد الحسنات، وما فيها من تقوية المؤمن؛ لأنَّ المؤمن لو تعرض لمحنة وصبر يخرج أقوى مما كان، تطور في مستواه وما يحصل التَّطور إلَّا إذا صار هناك مصيبةٌ ومحنةٌ شراً عليه، ثم إنَّ الله بالمصائب وبالأمراض يقهر الظَّلمة، انظر إلى أطغى واحد في الأرض يصيبه مرض بسيط فيجعله طريح الفراش، وهو كان مفسداً جباراً ظلوماً غشوماً.
الحكمة من الابتلاء
وكذلك إيقاظ المبتلى من غفلته، فهناك أناس يكونون تائهين في الغيِّ، فإذا مرضوا تغيرت أحوالهم وقبلوا الحقَّ وتحسَّنت، وإيمانهم زاد، أليس كذلك؟ إذاً المرض هذا سبب هداية بعض النَّاس؛ لأنَّهم ما التزموا ولا اهتدوا إلا لمَّا مرضوا، ولم يكن راضٍ يسمع كلمةً من داعية من الدُّعاة، فلما مرض وذهب الدَّاعية لزيارته في المستشفى، يقول: أعطونا شريطاً نسمعه جزاكم الله خيراً، وكتاباً نقرأه، يقبل ويسمع النَّصيحة، ومن قبل كان مُعرضاً لا يسمع ولا نصف كلمة، وبعض المرض الآن استكان وتضعضع وضعف وصار قابلاً للاستماع، يمكن يهتدي بسبب المرض، فبعض الأمراض الخطيرة إذا أُصيب بها بعض النَّاس استعدَّ، كالسَّرطان والإيدز، فتجد بعض المصابين بالسَّرطان مودِّعاً، يقول: أُصحِّح نفسي؛ لأنَّهم أخبروه أنَّ ما تبقى له من حياته سوى ستة أشهر يصحح نفسه، فلو لم يصبه مرض السَّرطان ومات بسكتة ما كان صحح نفسه، بل حتى تصحيح أشياء أخرى، فمثلاً: شخص عنده مشاكل متعلقة بالاولاد والترَّكة وأشياء عويصة، وهو تاركها ومهملها، لما أصابه المرض هذاراجع حسابه، ذكر لي شخص عن شخص أُصيب بالسَّرطان -نسأل الله أن يعافينا وإياكم ومرضى المسلمين- قال: كان عنده مشاكل في الشَّركة وأشياء مالية عويصة، فلمَّا قالوا له: أنت عندك مرض السَّرطان فلازم تذهب للعالج، قال: ذهب وأحضر الأوراق ورتب الأوضاع وأنهى الإشكالات، وحدد الأمور التي تحتاج إلى تحديد، ووزع الأشياء، وكتب لي وصيةً، وجعل لي ثلثاً، فهذا صار بسبب المرض، وكذلك فإنَّ من الآلام ما يكون سبباً للصَّحة، فبعض الحُمى مثلاً تطبخ أشياء في الجسم ممكن تكون أمراض ستصيب الإنسان، فالحُمى تطبخها وتزيلها، فيكون الحمى هذه سبب للشِّفاء.
لعل عتبك محمود عواقبه | وربما صح الأبدان بالعلل |
كما قال أبو الطيب، وكذلك رحمة لأهل البلاء فالإنسان يرحمهم، إذا رآهم تستثير العاطفة والشَّفقة في نفوس الخلق، فلو لم يكن أناساً أصحاب بلاء فكيف ستثار العاطفة والشَّفقة، ويتصدَّق النَّاس عليهم أو يعينوهم مثلاً؟ كيف سيحصل الأجر؟ كيف تُكفَّر المصائب؟ كيف نعرف حقارة الدنيا؟ كيف نعرف أنَّنا لا نعرف عاقبتنا إلا بمثل هذه الأشياء؟ فالشاهد: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19].
هل حتى المعاصي داخل في ذلك؟ نقول: حتى المعاصي، تصوَّر لو لم توجد معاصي ولا توبة، والله يحب التَّوابين، ويفرح بتوبة عبده، كيف سيحصل هذا إذا لم توجد معاصي، الله يريد أن يتفضَّل على عباده ويعفوا عن من ظَلَمَ، ويُحسن إلى من أساءَ، ويغفر لمن أذنبَ، فكيف سيحصل إذا لم تكن هناك معاصي؟ وأن يعرف العبد حاجته إلى حفظ الله له، فلما يفعل معصيةً يعرف أنَّه لا يمكن أن يحفظ نفسه إلا بعون من الله فيلجأ إليه، طالباً حفظ نفسه، فهذه المعاصي تستجلب عبوديات ما كانت تحصل لولاها من تَضرُّعٍ ودعاءٍ وبكاءٍ وندمٍ، وكذلك يعرف العبد حقيقة نفسه أنَّه ظلوم جهول، فيتواضع لله، فكما أنَّه إذا لم يعص فممكن تكون العبادة مُدخلة للعُجب على نفسه، فهناك أناس عُبادٌ لكن العبادات عندهم صارت مجال سبيل وسبب للعجب المهلك، حتى يرى نفسه كَلَّ شيءٍ، ولا يرى النَّاس شيئاً، ويقول للآخر: اذهب فالله لا يغفر لك، كما قال الأول، قال للعاصي: اذهب والله لا يغفر الله لك، فهو ليس عاصياً، فلما رأى العاصي وكان ينصحه بل كان داعيةً وإنساناً عابداً، فكلما رأى صاحبه العاصي قال له: أقصر أقصر، وكفَّ عن الشَّر، وصاحبه مستمر، ويوم من الأيام قال له والله لا يغفر الله لك. [رواه أبو داود: 4903، وأحمد: 8275، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 4901].
من أين جاءت هذه الكلمة الخطيرة؟ أُعجب بنفسه وتألَّى على الله أن لا يغفر لفلان، أنت من أنت حتى تمنع فضل الله؟ إذا أراد يتوب عليه، فمن أنت حتى تمنع فضل الله؟ إذاً المعصية أحياناً تكسر كبر بعض العباد، وتجعل الإنسان متيقظاً للشَّيطان، وتجعل عنده خبرةً بالشَّر، وتجعله متحفزاً أنَّه لايغلط ولا يعصي كالأسد الجريح، تجده متحفزاً من جميع الجهات، وممكن أحياناً يصير عنده خبرةً بالشَّر يحذر غيره منها.
عرفت الشَّر لا للــــ | شَّر ولكن لتوقيه |
ومن لا يعرف الشر | من الناس يقع فيه |
فيلزم التَّواضع ثم يشتغل بعيوب نفسه، ويترك عيوب النَّاس، فالإنسان إذا صار منه معصية ينشغل بعيوب نفسه.
هل يجوز تمنِّي نزول البلاء؟
فهل نقصد بما سبق أنَّنا نقول: يا ليت تأتينا المصائب؟ ومتى تصيبنا أمراض؟ ونحرص على المعصية حتى نحصل المصالح هذه؟ الجواب: لا، هذه من الأشياء التي ليس من المطلوب منك تحصيلها، فليس المطلوب منك أن تحصِّل مرضاً لنفسك أبداً، ولا أنَّك تفعل معصيةً، يعني: لا يأتي شخص يقول: أنا قد اعتكفت في الحرم شهراً وأريد أكسر نفسي بمعصية، فما رأيكم بهذا الأسلوب؟ هذا أسلوب سخيف وسيء؛ لأنَّ هذا إنسان مُصرٌّ على ارتكاب المعصية عن سبق الإصرار والتَّرصُّد، فإذاً هذه الأشياء متى تكون نعمةً؟ إذا قدَّر الله، وإذا حصلت للعبد بدون سعيٍ منه واستفاد منها، وكيف يستفيد منها؟ يعني: صَبَرَ عند المصيبة، وتاب عند المعصية؛ لأنَّه ممكن أناس تصيبهم مصائب وما يستفيدوا، بل بالعكس يزدادوا ضلالاً، ويقول: لِما كتبت وقدَّرت عليّ؟ ما الذي أنا فعلته؟ وماذا فعل الولد الصَّغير لكي تقبض روحه؟ وتجده يناقش الله، والله لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون، وإذا فعل المعصية يمكن يفعل معصية ثانية وثالثة ورابعة، ولا يستفيد من المعصية، إذاً ليس كل مريض يستفيد، ولا كل عاصي يستفيد، ولذلك ليس مطلوب منَّا أن نوقع أنفسنا في المعاصي وندعو على أنفسنا بالأمراض، ولا نأخذ فيروسات ونتعاطى ما يُسبب المرض، لا، لكن لو وقع لا تحسبها شراً، بل فيها خير عظيم، لو وقعت بشرط أن تستفيد منها، وتحوِّل المعصية إلى انطلاقة في عالم الطَّاعات، واحذر من المعاصي، وكذلك المصيبة تحوِّل لك أرصدةً عند الله من الحسنات.
هل يجب علينا أن نرضى بكلِّ ما قدَّره الله علينا؟
فلو سأل شخصٌ سؤالاً فقال: هل يجب علينا أن نرضى بكلِّ ما قدَّره الله علينا؟ وهل مطلوب منَّا أن نرضى بذلك؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله هذه الأبيات. [مجموع الفتاوي: 8/253]. وهي تحتاج إلى تأمُّل وسنذكر بعض شرحها:
وأما رضانا بالقضاء فإنما | أُمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة |
كسقم وفرق ثم ذل وغربة | وما كان من مؤذٍ بدون جريمة |
فأمَّا الأفاعيل التي كُرِهَت لنا | فلا نص يأتي في رضاها بطاعة |
وقد قال قوم من أولي العلم لا رضى | بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة |
وقال فريق نرتضي بإضافة | ولا نرتضي المرضي أقبح خصلة |
وقال فريق نرتضي بإضافة إليه | وما فينا فنلقى بسخطة |
كما أنها للرب خلق | وإنها لمخلوقه ليس كفعل الغريزة |
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه | ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة |
الجواب أحد أربعة وجوه:
إمَّا نقول: هل يجب علينا أن نرضى بمقادير الله؟ فيقال: نرضى عن المصائب دون المعائب، إذا أصبنا بمرض أو بفقر نرضى، فما هو المطلوب عند نزول المصيبة؟ هل الواجب الصَّبر أو الرِّضا أو الاثنين معاً؟ انتبه: إذا نزلت مصيبة فالواجب الذي تأثم إذا تركته، فيكون الواجب الصَّبر؛ لأنَّ الرِّضا يصعب على الخلق جداً، فمثلاً: إذا مات لك ولدٌ هل واجب أنَّك ترضا وتكون في غاية الاطمئنان والرضا عن الذي حصل؟ هو مطلوب لكن ليس واجباً، لأنَّ البشر لا يطيقونه، لكن ما هو الواجب؟ الصَّبر، كفُّ النَّفس عن الحرام، وتسخُّط اللسان عن الشَّكوى، والأعضاء عن نتف الشَّعر وش