الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تحدثنا عن طائفة من نواقض الإيمان، ونتابع الحديث في هذا الدرس عن هذا الموضوع الخطير والذي ينبغي معرفته خصوصاً في هذا الزَّمان الذي كثر فيه الشِّرك وأنواعه، والكفر وأنواعه.
من نواقض الإيمان: الشِّرك في الرُّبوبية
ومن نواقض الإيمان أيها الإخوة: الشِّرك بالله ، ومن ذلك: الشِّرك في الرُّبوبية وقد سبق تعريف توحيد الرُّبوبية، فما هو الشرك في الربوبية؟
الشِّرك في الرُّبوبية مثل: أن يُوصَف أحدٌ من الخلق بأيِّ صفة من صفات الله الذَّاتية، أو الفعلية المختصة به ، كالخلق أو الرِّزق أو علم الغيب أو التَّصرُّف في الكون، حتى ولو أثبت هذه الصِّفات لله، فلو قال مثلاً: الله يعلم الغيب وفلان يعلم الغيب، فإن ذلك يُعتبَر من المخالفة للتَّوحيد مخالفةً أساسيةً ناقضةً للإيمان، وهذا الشِّرك يكثر لدى الفرق المنحرفة، كغلاة الصُّوفية، والباطنية، حيث يعتقد أهلُ الرَّفض مثلاً في أئمتهم المعصومين الاثني عشر بزعمهم أنَّهم يعلمون الغيب، وتخضع لهم ذرَّات الكون ونحو ذلك، وهذا ولا شكَّ شِركٌ في الرُّبوبية، من اعتقد أنَّ الأئمة يعلمون الغيب فهو مشركٌ كافر خارج عن الملة، ونوع الشِّرك بالتَّحديد والتَّوصيف شرك في الرُّبوبية.
الشِّرك في الخلق والرِّزق
وأما الشِّرك في الخلق والرِّزق فيقر به عامة الصُّوفية، وكذلك المشركون الأوائل يعتقدون بأنَّ الله هو الخالق الرَّازق، لكن يدعونه ويستغيثون بالأولياء من دون الله لزعمهم أنَّهم يُقرِّبونهم إلى الله زلفى، ولذلك اقتصر مفهومهم باعتقاد أن الأولياء يخلقون، أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرُّفهم في الخلق استقلالاً.
الشِّرك في عِلم الله
ومِن الشِّرك في الرُّبوبية أيضاً: الشِّرك في العلم، يعني: أن يعتقد أنَّ بعض النَّاس يعلمون مثل علم الله، أو يشاركون الله في العلم الذي هو مختص به كما جاء في كتاب المجالس المؤدية، وهذا في عقيدة الإسماعيلية والمؤلف هِبة الله الشِّيرازي يقول: "الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد" وكذلك يقول الكُليني في الكافي من أهل الرفض تدليل على أنَّ القوم مشركون شرك الرُّبوبية في قضية علم الله، وقد نسب الكلام إلى جعفر الصَّادق، وجعفر الصَّادق من أئمة أهل السُّنَّة وهو بريء من هذا الكلام، يقول إن جعفر قال: "وربِّ الكعبة وربِّ البنية لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأنَّ موسى والخضر عليهما السلام أُعطيا علمَ ما كان، ولما يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم السَّاعة، وقد ورثنا من رسول الله ﷺ وراثة" وينسبون إلى الحسن بن علي أنَّه قال: "إنَّا نعلم المكنون والمخزون والمكتوم الذي لا يطَّلِع عليه ملك مُقرَّب ولا نبي مُرسل غير محمد وذريته" وهذه الفكرة أيضاً موجودة عند الصُّوفية الغلاة، ولذلك بينهم وبين أهل الرَّفض قرابة في المذهب، أولاد عمٍّ في الأفكار والمعتقدات، وهذا عبد الكريم الجيلي الصُّوفي صاحب كتاب الإنسان الكامل يزعم أنَّه كُشف له عن حقائق الأمور من الأزل إلى الأبد، وأنَّه رأى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة، وهذا الشَّعراني صاحب الطَّبقات الكبرى ينقل عن شيخه الخواص أنَّه كان يعلم ما يُكتب في اللَّوح المحفوظ ساعةً بساعة، ومما قاله المتصوفة: "وينبغي على المريد أن يعلم أو أن يعتقد في شيخه أنَّه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزُّجاجة" وهذا الكلام في كتب التِّيجانية في كتاب رماح حزب الرَّحيم في محور حزب الرَّجيم.
وكذلك فإنَّ أهل السُّنة والجماعة يعتقدون أنَّه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا واضح من خلال الآيات وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ[هود: 123]. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف: 26].
ما الفرق بين: غيب السموات والأرض له، وبين: له غيب السموات والأرض؟ التَّخصيص، له غيب السموات والأرض اختص به : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ[الأنعام: 50].
وأولئك يقولون ورثناها وراثةً عن محمد ﷺ، كذبوا، ينسبون إلى الأئمة كذباً عن النَّبي ﷺ أنَّهم ورثوا منه وراثة، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ[النمل: 65].
والنَّبي ﷺ قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله [رواه البخاري: 7379].
والحديث رواه البخاري، وكذلك لما قال عن نفسه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 27].
فإذاً هذا بَيِّنٌ أنَّ الله خاص مختص بعلم الغيب، وأنَّه أطلَع رسولَ على شيءٍ من الغيب لحكمةٍ، كما أطلَع الرَّسول ﷺ مثلاً على بعض ما يكون عند قيام السَّاعة، فحدثنا به عليه الصلاة والسلام فيما يُعرَف بأشراط السَّاعة، فأطلَعه على شيءٍ محدودٍ مُعَيَّن، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 27].
فيُطلِعه على أمرٍ مُعينٍ، وليس على كُلِّ شيء: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ[المائدة: 109].
وقال عن نبيِّه: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود: 31]. فإذاً من ادَّعى علم الغيب لنفسه أو لغيره كافر، مُكذبٌ بالقرآن، وقد قال الله لنبيه أن يقول: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: 9].
فهذه الأخبار قد جاءت في القرآن الكريم بهذا عن سائر الأنبياء، وأنَّ إبراهيم لم يعلم بأنَّه يُولد له ولدٌ من زوجته إلا بعد أن جاءته الملائكة، وجاءته في صورة بشر فلم يعرفهم، وذبح لهم عجلاً ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أخبروه أنَّهم يريدون أن يذهبوا لتدمير قرية قوم لوط، ولمَّا جاءوا لوطاً ساءه ذلك ولا يعلم حقيقة أمر هؤلاء، وظنَّ أنه قد ابتُلي بهؤلاء الأضياف، وكيف يدافع عنهم، ولم يعرف الحقيقة إلا بعد أن أخبروه أنَّهم ملائكة، وأنَّهم جاءوا لإنجائه وإنجاء أهله إلا امرأته، إذاً هو المختص بعلم الغيب ، ولو قيل: إنَّه قال: إلا من إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:27]. فنقول: هذه في أمورٍ مُعينةٍ عند الله تعالى، علم الغيب وحده وبيده طرق الغيب لا يملكها إلا هو، فإذا شاءَ إطلاع أحدٍ من خلقه من الرُّسل مثلاً على شيءٍ من الغيب أطلعه عليه مثل أشراط السَّاعة، وأنَّ بعض الصَّحابة في الجنَّة، وأحوال بعض أهل النَّار وأهل الجنَّة، كما أطلعه عليها وقال: رأيت امرأة التي حبست هرتها في النَّار [رواه مسلم: 904].
أخبرنا بأمور من الغيب عن ربِّه .
ما هو علم الغيب؟
طبعاً أمَّا بالنُّسبة للغيب كل ما غاب عنك فهو غيب، قد يكون أشياء صارت في الماضي، وقد يكون في الحاضر أشياء في قاع المحيطات، وقد يكون في المستقبل وهو الذي لا يعلمه إلا الله، فالماضي قد يعلمه بعض النَّاس والحاضر يعلمه بعض الناس، ولذلك قضية الغيب الماضي والحاضر هذا قضية نسبية، فبعض النَّاس يعلمون أشياء لا يعلمها آخرون من أخبار الماضي أو من أخبار الحاضر، أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله ، ولذلك لابُدَّ من تمييز هذه القضايا لئلا يتسرَّع بعض النَّاس في الحكم على أشخاص آخرين بالكُفر دون أن يكون هناك بينة شرعية، ولذلك ابن العربي الإمام المالكي رحمه الله لما علَّق على قضية مقامات الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله وأنَّه قد تفرَّد بعلمها، وأنَّ من قال إنَّه يعلم ما في الرِّحم فهو كافر، وما في الرحم هذا يشمل أنَّه شقيٌ أو سعيدٌ، يعلم متى يولد، هل يجهض أو يموت؟ هل يُولَد ناقصاً أو كاملاً؟ يُكمِّل المدَّة أو أنَّه لا يُكمِّل المدَّة؟ أو يسقط جنيناً قبل أن يكتمل؟ كل ذلك لا يعلمه على الحقيقة إلا الله، بقيت قضايا معينة مثلاً ذكر أو أنثى مثلاً هذه المسألة إذا كان فيها تجربة، وقال الإنسان فيها بخبرته وتجربته قال: من خبرتي وتجربتي إنها تحمل ذكراً، فإنَّ كان لهذا سبب واضح فلا نقول هذا كافر، لا، يقول ابن العربي رحمه الله: "والتَّجربة منها أن يقول الطبيب: إذا كان الثَّدي الأيمن مُسودَّ الحلمة فهو ذكر، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر" يعني مسود الحلمة "فهو أُنثى" هذه تجربة عند بعض الأطباء يقولون بذلك، وقد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة "وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكر، وإن وجدت الجنب الأشئم أثقل فالولد أنثى، فإذا ادعى أن هذا عادة" أن هذا وجده من خلال تجربته، قال: "لم نكفره ولا نفسقه، وأما من ادعى علم الكسب في مستقبل العمر فهو كافر". [أحكام القرآن: 3/392].
وكذلك الآن لو قالوا في الآلات صوَّرناه بعد عُمرٍ مُعيَّنٍ رأينا كذا، لا يقال هذا كافر؛ لأنَّه لا يُخبر عن غيبٍ مستقبلي، بل يُخبر عمَّا يراه بالأجهزة الآن، ثم قد يكون صادقاً وقد لا يكون، وأخبروا رجلاً أنَّ زوجته ستضع أنثى فذهب ليشتري ملابسَ أنثى، لكن لما وُلِدَ كان ذكراً، فكُلُّ تلك الملابس التي اشتراها بدون فائدة، فإذاً حتى هذه القضية ليس بالضَّرورة أنَّهم يخبرون بها على الوجه الدَّقيق، فقد يخطئون ويقولون لم نعرف ولم يتبين، هذا يحدث عند الذين يصورون بهذه الموجات، قال صديق حسن خان رحمه الله: "فمن اعتقد في نبي أو ولي أو جن أو ملك أو إمام أو ولد الإمام أو شيخ أو شهيد أو منجم أو رمال أو جفار أو فاتح فال أو برهماً أو راهب أو جنية أو خبيث أن له مثل هذا العلم وهو يعلم الغيب فهو مشرك بالله، وعقيدته من أبطل الباطلات وأكذب المكذوبات" [الدين الخالص].
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "والمقصود من هذا أن معرفة من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيُلحق به" [فتح المجيد1/285].
الشِّرك في التَّصرُّف
هناك أيضاً مما يُخرج من الملة، وينقض الإيمان، وينافي توحيد الربوبية منافاة أساسية: قضية الشِّرك في التَّصرُّف، فالشِّرك في التَّصرُّف من ضمن ما تقول به بعض الفرق كالباطنية تألهيهم لبعض الأشخاص فيؤلَّه بعض فرق الباطنية عليَّ بن أبي طالب ، وكذلك الدروز يُؤلِّهون الحاكم بأمره، وهؤلاء لهم غلوٌ ظاهرٌ، فمثلاً يعتقد بعض الباطنية أنَّ الله يحل في الأشخاص، وأن آخر حُلولٍ له كان في علي بن أبي طالب، بل ذهبوا إلى ما يشبه عقيدة التَّثليث عند النَّصارى، إذ أنَّهم آلفوا ثالوثاً يتكون من علي ومحمد وسلمان الفارسي، ويزعمون أنَّ العلاقة بين أطراف هذا الثَّالوث علاقة إيجاد، فعليٌّ خلق محمداً ومحمدٌ خلق سلمان وسلمان خلق الأيتام الخمسة، وهم: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغِفاري، وعثمان بن مظغون، وعبد الله بن رواحة، وقُنبر بن كادان مولى علي ، وأنَّه أوكل لهؤلاء الأيتام الخمسة مسؤوليةَ الكون والتَّصرف فيه، وتصريف أموره، فالمقداد موكل إليه الرَّعد والصَّواعق والزَّلازل، وأبو ذر موكل إليه الرِّياح وقبض أرواح البشر، وقُنبر موكل إليه نفخ الأرواح في الأجسام، وعلي بن أبي طالب وسلمان والأيتام الخمسة يتفردون بتصريف أمور الكون من الخلق والموت والحياة، وهذا من أخصِّ صفات الرُّبوبية، فإذاً من يعتقد هذا فلا شك أنَّه كافر كفر أكبر.
كذلك تقدم أنَّ الإمامية الاثني عشرية يُنسبون إلى علي بن أبي طالب من رواية جعفر بن محمد قوله: انتقل النُّور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النَّجاة ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج.
وكذلك ينسبون إليه أنَّه قال: انظر الاعتقاد هذا الذي يقول: كيف يكفر؟ يكفر وإذا كان في أكثر من الكفر شيء فهو صاحبه، يقولون: يزعمون أنَّ علياً قال عن الأئمة: ونحن الذين بنا تُمسك السَّماء أن تقع على الأرض إلا بإذننا، وبنا تُمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث وتُنشر الرحمة، وكذلك قالوا: إنَّ لأئمتنا درجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون، وهذا شرك في الربوبية.
وكذلك المتصوِّفة جعلوا بعض أئمتهم أو الولي عندهم أو الغوث الأعظم مساوياً لله في بعض صفاته، يقولون: إنَّ الولي الفلاني يخلق ويرزق ويحيى ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات لهذه الولاية، الولي يعني الولاية، والولي طبقات وأنواع: فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدان السَّبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارَّة من القارَّات السَّبع، وكذلك النُّجباء كل واحد منهم يتصرَّف في ناحية يتحكم في مصائر الخلق، بل يزعم بعض المتصوِّفة أن من كرامات أوليائهم أنهم يحيون الموتى، وأنَّ أحمد بن البدوي جاءته امرأة تستغيث بولدها الذي مات فمد أحمد البدوي يده ودعا له فأحياه الله تعالى، والبدوي يميت من يتعرَّض له من الأحياء كما فعل مع معارضيه في العراق فقال لهم: موتوا، فوقعوا على الأرض قتلى، ثم قال: قوموا بإذن من يحيى الموتى ويحيى الإحياء، فقاموا.
الاعتقاد بالأنواء والكواكب
ومما يدخل تحت دعوى تَصرُّف المخلوقات بشؤون الكون من دون الله: ما يدعيه أهل الجاهلية ومن تبعهم من الاعتقاد بالأنواء والنُّجوم والكواكب، وأنها تُنشئ السَّحاب وتنزل الغيث، وأنَّ هذه النُّجوم لها تأثير مباشر على الحوادث الأرضية، وأنَّ بسببها يموت فلان ويحيى فلان ويحدث كذا، وتقوم حرب وهكذا فهؤلاء أيضاً مشركون شرك الربوبية.
أمِّا أهل السُّنَّة والجماعة –المسلمون- يعتقدون أنَّ الله مختص بهذه الأشياء، وأن النفع والضر، والخير والشَّر والخلق والرزق والإحياء والإماتة، والتَّصرُّف في شؤون العالم كله بقضائه وقدره ومشيئته وأمره ، وأنَّه يأمر ملائكته بالأوامر المختلفة فينفذون، وقال لنبيه ﷺ: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ[الأعراف: 188].
وقال : قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن: 21]. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 126]. وقال : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ[سبأ: 22].
ما لهم نصيب ولا مشاركة، ولا تصرُّف، والحديث: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما معنت [رواه البخاري: 844، ومسلم: 477]. لو اجتمع الخلق على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قدره الله لك [رواه الترمذي: 2516، وأحمد: 2669، وصححه الألباني في الجامع الصغير: 13917].
وكذلك في الضر، قال عن نفسه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ[الأعراف: 54]. ، فإذاً ليس لأحدٍ من مخلوقاته شيءٌ ما بوجه من الوجوه من ناحية التَّدبير والتَّصريف، فالكل تحت ملكه سبحانه وقهره، إماتةً وخلقاً ورزقاً وغير ذلك، ونحن نعرف حديث النَّبي ﷺ لما قال بعض النَّاس على إثر سماء أمطرت: مُطرنا بنوء كذا، فنقل لنا عن ربه حديثاً قدسياً: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب [رواه البخاري: 846، ومسلم: 71]. رواه البخاري.
من نواقض الإيمان: الشِّرك في الألوهية
فكما أنَّ هناك شرك في الرُّبوبية فهناك شرك في الألوهية، وعلى هذا قاتلت الأنبياء، فاعتقاد أُلوهية غير الله يناقض قولَ القلب، وينقل صاحبه من الإسلام إلى الكفر، وصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله شرك في الألوهية، قال ابن القيم رحمة الله عليه عند كلامه عن الشِّرك: "الشرك نوعان الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وأفعاله" وهذا شرك الربوبية "وشرك في عبادته ومعاملته" وهذا شرك الألوهية "وإن كان صاحبه يعتقد أنَّه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والشرك الأول" وهو الشرك الذي يتعلق في المعبود في ذاته وصفاته "نوعان:
شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون قال: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23]. لا يوجد، ما في، ادعى قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24].
النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهاً آخر ولم يعطل أسمائه وربوبيته وصفاته" لم يعطلها تعطيلاً كما يفعل الملاحدة، والجاحدون لله كفرعون، لكن يشركون معه "كشرك النَّصارى الذين جعلوه ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً وأمه إلهاً، وكذلك شرك المجوس الذين يسندون حوادث الخير إلى النَّور وحوادث الشَّر إلى الظلمة، وكذلك شرك القدرية الذين يقولون كل واحد يخلق أفعاله بنفسه" فالله لا يخلق أفعال العباد، فهؤلاء مشركون أيضاً في الرُّبوبية، وكذلك مشركو الصابئة الذين يشركون بالكواكب العلويات وأنَّ لها أشياء في التَّدبير فهؤلاء مشركون شركاً أكبر في الربوبية" [الجواب الكافي: 1/90-91].
النوع الثاني: وهو شرك الألوهية الذي يتعلق بالعبادة، وهو صرف العبادة لغير الله تعالى.
وقلنا سابقاً أنَّ أكثر البشر لم ينكروا توحيد الرُّبوبية، أي أنهم لم ينكروا وجود الله لكن أشركوا معه غيره، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومعلوم أن أحداً من الخلق لم يزعم أنَّ الأنبياء والأحبار والرُّهبان والمسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السَّموات والأرض، ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصِّفات والأفعال" [مجموع الفتاوى3/96].
لكن أين حصل أكثر الشرك؟ في الألوهية، أكثر الشِّرك حصل في الألوهية، ولكن ينبغي أن نعلم أنَّ هناك شرك في الرُّبوبية، وضربنا له أمثلةً حتى لا يُعلم فقط أنَّ القضية في صرف سجود أو نذر، أو خوف، أو رجاء، لا، والمسألة فيها حتى في الربوبية أنواع من الشرك.
من نواقض الإيمان: كفر الإعراض
هناك أنواع أخرى من نواقض الإيمان تنافي عمل القلب، أي: هناك أشياء تنافي قول القلب وأشياء تنافي عمل القلب، فمثلاً: كفر الإعراض، الإعراض عن دين الله لا يتعلَّمه ولا يعمل به، فما هو الإعراض؟ الإعراض عن الشِّيء الصَّدَّ عنه "ثم أعرض عنها" أي: تركها، ترك القبول، وقد ذكر الله الإعراض في آيات كثيرة من كتابه فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى[القيامة: 31-32]. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ[الأحقاف: 3].
وكفر الإعراض له مظاهرٌ
فقد يكون أحياناً عدم الاستماع لأوامر الله ، وعدم المبالاة بها، وعدم التَّفكر فيها وهو الغالب، فغالب كفر الإعراض: لا يسمع للشريعة أبداً، قول: الدِّين على جنب، أو أبسط كلمة يقولها: دع الدِّين على جنب، فأي مناقشة في أي قضية اقتصادية أو حياتية أو اجتماعية، قال الله قال رسوله ﷺ، قال: اترك الدين على جنب، فهذا إعراض واضح، هذا يمارسه بعض العامة، لا يدخل الدِّين في حياتنا ولا في عادتنا، كأنَّ الدِّين هذا لأهل السموات ونحن أهل الأرض ما لنا فيه حاجة.
ثانياً: يأتي الإعراض بمعنى عدم القبول، فشيء عدم الاستماع وعدم المبالاة وشيء عدم القبول.
ويأتي بمعنى عدم الامتناع والتَّولي عن الطَّاعة، وهذا يكون بعد الاستماع والقبول لكن يقول لا أطيع، ولا أفعل، ولذلك يأتي الإعراض أيضاً بمعنى ترك العلم بالكلية، وكذلك يأتي بمعنى الصُّدود، وأيضاً ترك التَّحاكم إلى الله.
فإذاً: شيء يتعلق بالعلم وهو قول القلب من عندم الاستماع وعدم المبالاة، وشيء يتعلق بعدم العمل، أي عمل القلب والجوارح، مثل عدم القبول وعدم الاستسلام هذا منافٍ لأعمال القلب، لا يعمل بالدين نهائياً ولا بشيء من الدين هذا ترك لعمل الجوارح هذا كله إعراض.
الإعراض نوعان
ينبغي أن نُفرِّق في مسألة الإعراض المكفِّر والإعراض غير المكفِّر؛ لأنَّ بعض النَّاس يُعرضون عن مسألتين: عن أشياء معينة يعني يتولُّون عنها لا يعملون بها، هل هؤلاء كُفَّار؟ من يكفر في الإعراض؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكذلك، عرفه ابن القيم كفر الإعراض قال: "أما كفر الإعراض فإن يُعرض بسمعه وقلبه عن الرسول ﷺ، لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه -إهمال- ولا يصغي إلى ما جاء به البتة" [مدارج السالكين: 1/338].
قال: هذا كفر الإعراض، في موضع آخر قال: "العذاب يستحق لسببين: أحدهما: الإعراض عن الحُجَّة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها" الحجة: هي الشَّريعة وهي الكتَاب والسُّنَّة، "الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها" [طريق الهجرتين1/611].
فلو جاء شخص تتناقش معه وتورد عليه شيئاً من القرآن والسُّنَّة، يقول: لا تُسمِعني ولا أُسمِعُك، ولا تقول لي شيئاً، فهذا مُعرض لا يريد السماع أصلاً، يقول: أي شيء فيه دِينٌ لا أقبله ولا أسمع، وهناك أناس يسمع لك، لكنه بعد أن يسمع يرفض ولا يقبل، وأناس قد يسمع لكن سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء: 46]، فالإعراض المكفِّر على حسب ما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله من نوع اللامبالاة، لا يسمع الحُجَّة ولا يبحث عنها ولا يفكر فيها، وليس فقط هذا هو الإعراض المكفر؛ لكن هذا الذي ينافي قول القلب، وإلَّا قد سبق الكلام على الإعراض من أنواع أخرى يتعلق بعمل القلب وعمل الجوارح ومكفرة.
من صور الإعراض المكفر الإعراض عن حكم الله ورسوله: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[النور: 47-51].
إذاً نستخلص من كلام العلماء في مسألة كفر الإعراض: أنَّ الإعراض الناقض للإسلام، هو أن يُعرض الإنسان حتى عن مسألة.
الإعراض النَّاقض للإسلام
ما هو الإعراض النَّاقض للإسلام؟ هو إعراض الشَّخص عن أصل الإيمان، إمَّا أن يُعرض عنه إعراضاً تامَّاً عن تَعلُّم أصول الدِّين مع قدرته على ذلك، يقول: لا أُريد أن أتعلم الدِّين، ولا أريد أن تسمعني آية، فهو لا يريد أن يتعلم منه حرفاً واحداً، إعراض عن أصل الإيمان إعراضاً تماماً عن تعلم أصوله مع القدرة، أو عن قبولها والانقياد لها، يقول: لا أنقاد ولا أقبل حكماً شرعياً أبداً، سواءً قاله بلسان الحال أو لسان المقال، أو يُعرض عن العمل تماماً، كأن يقول: أنا لا أعمل شيئاً البتة، وهذا الذي يُسمُّونه كفر التَّولي وترك العمل بالكلية؛ لأنَّنا نعلم -أيها الإخوة- أنَّ مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في الإيمان أنَّه قول بالقلب: وهو المعرفة والتَّصديق، وقول اللسان وعمل القلب: وهو القبول والتَّسليم، وعمل الجوارح.
إذاً أربعة أشياء يتكوَّن منها حقيقة الإيمان: قول القلب: وهو المعرفة والتَّصديق، وقول اللسان: وهو النُّطق بالشَّهادتين، وعمل القلب: وهو القبول والتَّسليم والاستسلام والانقياد، وعمل الجوارح: وهو التَّطبيق العملي للعبادات وما شابه ذلك.
فإذاً لو أنَّ إنساناً أعرض عن هذا بالكلية أو عن أي واحد منها، فيكفي أن يُعرض عنه بالكلية يكفر وينقض إيمانه، قال الشافعي رحمه الله: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعلم ونية لا يجزأ واحد من الثلاثة إلا بالأخر". [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 5/886].
وقال حنبل: "حدثنا الحُميدي وأُخبرت أن أُناساً يقولون: من أقرَّ بالصلاة والزَّكاة والصَّوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبراً القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا عُلم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذ كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، الآن هذا الزعم، فقلت: هذا الكفر الصُراح". [مجموع الفتاوى7/209]. لأنَّه لا يعلم شيئاً، تولى عن العمل بالكلية، مثل الذين يعيشون في الخارج مسلمون بالاسم فقط لا يعرفون مسجداً ولا قبلةً ولا صلاةً، ولا يُزكُّون ولا يصومون، ولذلك رأينا في الإنترنت أن أحدهم يقول: أنا مسلم بالاسم فقط، فهذا الذي يقول أنا مسلم بالاسم كافرٌ، لماذا؟ لأنَّه متولٍ عن الدِّين لا يعمل بشيءٍ منه أبداً، لا يعرف أيَّ عبادة، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، فهذا الذي يسمي نفسه مسلم بالاسم فقط هذا إنسان متولٍ عن العمل، وهذا إنسان كافر، وقد قال الإمام أبو ثور رحمه الله لما سأل عن الإيمان هل يزيد وينقص؟ قال: "فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان فهؤلاء على مذهب المرجئة" يصبح عندهم مسلماً يدخل الجنة، ونحن نقول الذي لا يعمل عمل الجوارح أبداً ليس بمسلم؛ لأنَّ هذا من أنواع الإعراض الذي ذكر الله في القرآن عند تكفير المعرضين، فنحن لا نقول أعرض عن شيءٍ واحدٍ، أعرض عن صيام يوم من رمضان فلم يصمه، لا، إنَّما أعرض عن العمل بالكلية، ولا يعمل شيئاً، هذا إنسان غير مسلم، وإن ادَّعى الإسلام، فيقول: "أما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان فيقال لهم: ما أراد الله من العباد إذ قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43]. فأبو ثور ذكيٌ، يقول: يُقال للذين يقولون العمل ليس شرط في الإيمان: ماذا أراد الله من عباده لما قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، الإقرار فقط أو الإقرار والعمل؟ ماذا أراد الله من هذا الأمر؟ "فإن قالوا إنَّ الله أراد الإقرار ولم يرد العمل فقد كفروا" لأنه تكذيب لله، فالله يريد العمل، إذا قال قائل: الله لا يريد العمل إذاً هذا كافر، "فإن قالوا أراد منهم الإقرار والعمل قيل فإذا أراد منهم الأمرين جميعاً فلمَ زعمتم أنَّه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعاً، أرأيتم لو أنَّ رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أُقرُّ به"، انظر النِّقاش، لو أن رجلاً قال: أنا أعمل جميع ما أمر الله لكن لا أقر به مثل ذاك الذي يقول أنا اصلي احتياطاً، أو يقول يمكن ويمكن، فهذا قال أنا أعمل كُلَّ شيء لكن لا أقر به أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا لا، لا يكون مؤمناً؛ لأنَّ أعماله ليس لها أساس الإقرار، لأنَّ الأعمال بدون إقرار عملهم باطل، قيل لهم: فإن أقرَّ بجميع ما أمر الله به، وقال لا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟ لاحظ! الله أراد إقراراً وعملاً، يقول: يُقرُّ أنَّ الله أوجب هذا وحرم هذا، ثم عمل، فإن قالوا: إنَّه أراد الأمرين جميعاً، فيقال: إذا قال رجلٌ لا أُقرُّ لكن أعمل كل شيء، قالوا: لا، هذا كافر. [مجموع الفتاوى: 7/388- 389].
وإذا قال أُقرُّ لكن لا أعمل شيئاً، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم فما الفرق وقد زعمتم أنَّ الله أراد الأمرين جميعاً؟ ومثل الأعمال في الإيمان كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو جسمٍ حياً لا قلب له، ولا ذو قلبٍ بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى منفصلان، فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقل، ومثل ذلك مثل العلم الظَّاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمثل العلم من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصح الكلام إلا بهما، تخيل لو أنَّ رجلاً عنده لسانٌ وليس عنده شفتين، لا يستطيع الكلام، لأنَّه بدون شفتين! وكذلك لأنَّ الشَّفتين تجمع الحروف واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك سقوط العمل بطلان الإيمان احفظوا هذا المثل: العمل مع الإيمان مثل الشفتين مع اللسان.
فيمتنع أن يكون الرَّجل لا يفعل شيئاً مما أُمر به من الصَّلاة والزَّكاة والصِّيام والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرَّمات، أي محرَّمٍ يُتاح له يفعله -هذا كلام ابن تيمية- مثل الصَّلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة، ونكاح الأمهات وهو مع ذلك مؤمن في الباطن[مجموع الفتاوى: 7/218]. فهل يُتصوَّر مثل هذا الكلام؟ أبداً لا يُتَصوَّر.
وسُئِل الشَّوكاني رحمه الله: ما حكم الأعراب سكان البداية الذين لا يفعلون شيئاً من الشَّرعيات إلا مجرد التَّكلم بالشَّهادتين، هل هم كفار أم لا؟ وهل يجب على المسلمين غزوهم أم لا؟ قال: أقول من كان تاركاً لأركان الإسلام وجميع فرائضه، ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرَّد التَّكلم بالشَّهادتين، فلا شك ولا ريب أنَّ هذا كافرٌ شديد الكفر حلال الدم والمال. [إرشاد السائل الى دلائل المسائل: 43].
فإذاً الخلاصة التي نستنتجها مما سبق:
أولاً: أنَّ وجود جنس العمل شرط لصحة الإيمان، وإذا لم يُوجد العمل معناه لم يوجد الإيمان، ويكون صاحبه مُعرضاً ناقضاً لأصل الإيمان.
ثانياً: إنَّ الكلام عن مسألة ترك العمل بالكلية متعلق بكلام السَّلف عن الإيمان أنه قول وعمل، لا يغني أحدهما عن الآخر.
وثالثاً: إنَّ هذا دليل على ارتباط الظَّاهر بالبَاطن والباطن بالظَّاهر، وأنَّه لا يوجد باطنٌ صحيحٌ بدون ظاهرٍ صحيحٍ، كما أنَّه لا يوجد ظاهرٌ صحيحٌ ومقبول عند الله إلا إذا كان يوجد باطن صحيح.
يعني: فالذي لا يعمل أبداً هذا دليل على أنَّه ليس في قلبه إيمان بالله، الذي لا يعمل شيئاً من الدين أبداً ماذا يوجد في قلبه؟ لو كان في قلبه إيمان لظهر في التطبيق، لو التطبيق ناقصاً لأنَّ هناك شيءٌ اسمه عمل، أما إذا لم يكن هناك عملٌ بالكلية فدليلٌ أنَّ في الدَّاخل لا يوجد شيءٌ بالكلية، إنَّما هو ادِّعاء كاذب.
فإذاً تصور الآن ما ينتج عن القول: بأن الإيمان هو مجرد التَّصديق القلبي، وأنَّ الكفر هو التَّكذيب والجحود فقط، وهذه مصيبة المرجئة وهذه معركتنا معهم، يقولون: الإيمان هو التَّصديق، والكفر هو الجحود والتَّكذيب، وما حال العمل، والمعرض عن العمل بالكلية وما شابه ذلك؟ إذاً هنا يتبيَّن الفرق بين مذهب أهل السُّنَّة والجماعة ومذهب المرجئة.
حكم تارك الأركان الأربعة
أيها الإخوة: إن مذهب المرجئة يناسب حال الكفرة في هذا العصر، فهم يحبونه جداً؛ لأنَّه يتوافق مع أهوائهم، ويجعلهم مؤمنين وليس لهم من الإيمان نصيب، وهذا الكلام يقودنا الآن إلى مسألةٍ وهي: قضية تارك الأركان الأربعة، فقد عرفنا أن ترك العمل بالكلية كفرٌ، فهل هناك أعمال معينة تركها كفر؟ لو أن رجلاً قام بأشياء أخرى كَبِرِّ الوالدين، وصلة الرحم، والصَّدقة على الفقراء، وصادق ملتزم بالمواعيد، هل هناك أعمال معينة تركها كفر؟ عرفنا ترك الأعمال بالكلية كفر، فهل هناك أعمال معينة إذا تُركت فهي كفر؟ نجد في كلام العلماء أنهم قد قالوا: بأن تارك الأركان الأربعة كافر، لم يخالف في مسألة ترك جنس العمل أحدٌ، وأما قضية الأركان الأربعة فإن تاركها كافر، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأقوال في المسألة، وقال انها روايات عن الإمام أحمد:
أولاً: أنَّه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج.
ثانياً: أنّه يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب.
ثالثاً: لا يكفر إلا بترك الصَّلاة، وهي رواية عن أحمد وكثير من السَّلف، وطائفة من أصحاب مالك والشَّافعي.
رابعاً: يكفر بترك الصَّلاة والزَّكاة.
خامساً: يكفر بترك الصَّلاة وترك الزكاة إذا امتنع وقاتل، يعني: تارك الزَّكاة بخلاً لا يكفر، لكن إذا قاتل يكفر، وقال لا أُعطي وامتنع وقاتل. [مجموع الفتاوى: 7/610-611].
فإذاً: ترك الأركان الأربعة يكفر، كما أن ترك العمل كله يكفر، أمَّا لو ترك الصيام أو الحج فالرَّاجح أنَّه لا يكفر، وهذا باختصار، وتبقى مسألة ترك الصَّلاة والزَّكاة فهذه فيها خلاف كبير كثير، والرَّاجح أن تارك الصلاة بالكلية كافر حتى لو كان كسلاً؛ لأجل النَّص: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة[رواه مسلم: 82].
وليس هناك شيءٌ آخرٌ منصوصٌ على أن تركه كفر من الأعمال، ولذلك قلنا به، فهو قال: فمن تركها فقد كفر [رواه الترمذي: 2621، وابن ماجه: 1079، والنسائي: 326، وأحمد: 22937، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 574].
والراجح أيضاً أنَّه أي صلاة يتركها فهو كافر، أو تركها يوماً أو يومين أو أسبوع، ففي الحديث هذا الرَّاجح والله أعلم كما هو نَصُّه: فمن تركها، أي: التَّرك الكُلِّي، يعني: تارك الصَّلاة بالكُلِّية كافر ولو أقرَّ؛ لأنَّه قال: فمن تركها، ولم يفرِّق بين الجحود وعدمه: فمن تركها فقد كفر.
وتارك الزَّكاة أيضاً فيه نقاش كثير وخلاف، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن تارك الزَّكاة لا يكفر إلا إذا قاتل [مجموع الفتاوى7/611].
فإذا قال: لا أُودي وأقاتل وأموت، فهذا كافر، وهذه هي الخلاصة في قضية ترك الأعمال.
إذاً ترك جنس العمل كُله كفر، ومن الأعمال الأخرى ترك الصلاة بالكلية هذا وحده كفر، والزَّكاة يكفر إذا قاتل؛ لأنَّه معناه مستعد يموت ولا يُزكِّي، ومعنى هذا: أين الإيمان الذي عنده؟ بعض النَّاس يقولون: إنَّ الجمهور يقولون: إنَّ تارك الصلاة لا يكفر، وهذه حقيقة لا ننكرها، لكنهم لا يقولون إن ترك أصل العمل لا يُكفر، فحتى الذين يقولون بعدم كفر تارك الصَّلاة من علماء السَّلف لا يقولون إن ترك العمل بالكلية لا يكفر، لا، ترك العمل بالكلية كفر، لكن حصل خلاف في ترك الصَّلاة وترك الزَّكاة.
اعتقاد أن بعض الناس لا يجب عليهم متابعة النبي ﷺ
ومن الأمور التي توجب الكفر أيضاً اعتقاد أنَّ بعض النَّاس لا يجب عليهم اتِّباع النَّبي ﷺ، وهذه كارثة ومصيبة عظيمة، وذهب إلى هذا غلاة من الصوفية والباطنية.
يقول الدَّاعي الإسماعيلي طاهر بن إبراهيم الحارثي اليماني في كتابه الهفت الشريف، وقد حقق كتاب العقد الشريف المفضل الجُعفي، وهو واحد من دعاة الإسماعيلية، يقول: حُجج الليل هم أهل الباطن المحض، الإسماعلية يعتقدون أنَّ هناك حُجج الليل هم أهل الباطن المحض المرفوع عنهم في أدوار السَّتر التَّكاليف لعلوِّ درجاتهم.
وكلام الدُّروز والباطنية والإسماعلية أشبه بالألغاز؛ لأنَّهم يخفون عقيدتهم عن النَّاس، ولذلك تجد فيها غموضاً، لكن مثل النَّص هذا واضح في قضية اعتقاد إسقاط التَّكاليف، وأن هناك أُناساً من أهل الباطن، مثلاً العامة من أهل الظَّاهر وهناك مشايخ من أهل الباطن، فهؤلاء المشايخ من أهل الباطن تسقط عنهم التَّكاليف لعلوِّ درجتهم، وينسبون إلى جعفر بن محمد الباقر قوله: من عرف الباطن فقد سقط عنه عمل الظَّاهر، ورُفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظَّاهر، ويقول أحد دعاة الباطنيين: من عرف الباطن فقد عمل الظَّاهر، وإنَّما وضعت الأصفاد والأغلال على المقصرين، سمى التَّكاليف أصفاداً وأغلالاً، وقال: هذه علينا نحن العامة المقصرين، أمَّا من بلغ وعرف هذه الدَّرجات التي قرأتها عليك فقد أعتقته من الرِّق، ورفعت عنه الأغلال والأصفاد، وإقامة الظاهر، وعند هؤلاء أيضاً أن المحرمات عليّ وعليك نحن العامَّة مثل الزنا وغيره، أمَّا هم أهل الباطن هؤلاء المشايخ الكبار ليس عليه حرام، وحتى نكاح الأم ووطء الأخت ليس فيه شيءٌ.
وقالوا بالنص: إذا وصلتَ إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادة، وما الدليل؟ قالوا: آية: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب، والخلوة بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة مما يفعله معهن، وإن كان محرماً في الشريعة، وكذلك يستحل المردان والتَّمتع بالنَّظر إليهم ومباشرتهم" ويقولون: "يرتقي بمحبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى وقد يستحلون الفاحشة الكبرى. [مجموع الفتاوي: 11/405].
ويحتجون بقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]. ويقولون: اليقين هذا العلم والمعرفة، فإذا حصلت سقطت العبادة، ولو تقرأ كلام بعض الصُّوفية في هذا الموضوع مثل ما ذكره الشعراني صاحب طبقات الأولياء، والنَّبهاني صاحب جامع كرامات الأولياء سترى العجب العجاب، فمن ذلك ما ذكره العطَّار عن ذي النُّون المصري أنَّه نصح أحد مُريديه بترك الصَّلاة، العطار ينقل القصة يقول: ذو النُّون المصري هذا من الصوفية نصح بعض مريديه قال له عندك مشكلة كذا وكذا اترك الصلاة، فالآن العطار يريد ترقيعها فقال: لو سأل سائل ما الحكمة في الأمر بترك الصلاة؟ فالجواب، إنَّ الطَّريق أحياناً الموصلة إلى الله تخالف ظاهر الشَّريعة كقتل الخضر الولد بدون سبب ظاهري، فإذاً لا إنكار في الطَّريقة على مثل هذه الأمور، يقول: فلو قال لك شيخ الطَّريقة افعل حراماً، أو اترك واجباً لا تستغرب؛ لأنَّه يمكن أن يكون وصل إلى الله بشيء غير الذي أنت تعرف، لمذا؟ قال: الخضر قتل الولد، نقول: الخضر قتل الولد بناءً على وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي[الكهف: 82].
لأنَّه نبيٌ يُوحى إليه، فالله الذي أمره بقتل الولد، وأنت من الذي أمرك بترك الصَّلاة؟ فالله أمرك أن تُصلِّي لا أن تترك الصَّلاة.
وحُكي عن العطَّار الصُّوفي أنَّه كان تاركاً للصَّلاة، وكان يقول: إنَّ الله رفع عني فريضة الصَّلاة، والشعراني في آخر كتابه الطَّبقات الكبرى لما ذكر مشايخه في القرن العاشر قال: وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله تعالى عنه، كان من الملامتية، والملامتية يظهرون المحرَّمات ليلومهم النَّاس، بينما هم في الحقيقة يريدون أنَّه لما يريد الولي أن يحلق لحيته فالنَّاس يلومونه، حيث أن قَصد الولي لم يفهمه النَّاس؛ لأنَّ قصده يخفي الولاية عنهم حتى لا يرائي، فيرتكب الزنا، أو يشرب كأس خمر، حتى لا يرائي يخفي الولاية عن الناس، فيقول: وفيهم سيدي بركات الخياط كان من الملامتية، وقد مدحته للشَّيخ جمال الدِّين الصَّائغ مفتي الجامع الأزهر والجماعة فقالوا لما سمعوا مدح الشَّيخ هذا: لابُدَّ أن نزوره ونستفيد منه، وكان يوم جمعة فكبَّر المؤذن على المنارة فقالوا: نُصلِّي الجمعة، فقال: مالي عادة بذلك، فأنكروا عليه، فقال: نُصلِّي اليوم لأجلكم، ومنهم سيدي الشَّريف المجذوب -والجذبة عند الصُّوفية شيءٌ أساسيٌ أنَّه إذا أصابته الجذبة فهذه تعدل كرامة- كان يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق أعتقني ربي، وكان يرى حلال زينة الدُّنيا كالحرام في الاجتناب، وكان الخلائق تعتقده يأتون إليه ويعدون رؤيته عيداً، وهذا موجود في العالم الإسلامي، والشيوخ من هذا النوع، وهناك أنواع كثيرة جداً.
شروط التَّكليف
التَّكاليف الشَّرعية مشروطة بالعلم والقدرة، فمتى تحقق العلم والقدرة وجب العمل، ولذلك الذي لا يستطيع لا يُكلف كالطفل والمجنون، ثم أعظم النَّاس درجة عند الله الأولياء أم الأنبياء؟ أليس الأنبياء، فهل رأيت النَّبي ﷺ في يومٍ من عمره ترك صلاةً واحدةً، أو ترك صومَ يومٍ دون عذر، أليسوا كانوا أشدَّ النَّاس في الشَّعائر، والنَّوافل، وعند العلماء معلوم أن من استحل الحرام كفر، فكيف من يستحل جميع المحرمات ويترك جميع الواجبات، ثم الولاية، والولاية بيننا وبين الصُّوفية ميدان للمعركة، فالولاية متى تُنال؟ وبأي شيء تُنال؟ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا