ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران: 102،
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا النساء:1، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا الأحزاب: 70-71.
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني المسلمين: إن من أهداف خطبة الجمعة إيضاح المشاكل التي وقع فيها الناس مما يمس الإسلام بصفة عامة، والعقيدة السمحة بصفة خاصة، ونحن اليوم إذا دققنا النظر في أحوال المجتمع لوجدنا بأن الآفات التي تنخر في عقيدته كثيره، وبأن الظواهر المحرمة قد انتشرت وعمت، ومن هذه الظواهر التي سنتكلم عنها -إن شاء الله-، ونبين علاقتها بالعقيدة الإسلامية، واستهانة الناس بهذا الأمر الخطير، وجزء من أحكامه الفقهية بشكل مبسط لعل الأمر يتضح عند الكثيرين -إن شاء الله-.
أسباب انتشار ظاهر الحلف
00:02:18
وهذه القضية -أيها الإخوة- هي انتشار مسألة الحلف بالله -تعالى- بالحق والباطل، فأنت اليوم ترى ألسنة الناس منطلقة بالقسم بالله بالأمر المهم، وفي الأمر الحقير، وفي الأمر الحلال، وفي الأمر الحرام، ترى أحدهم تسبق شهادته يمينه، ويمينه شهادته غير مبال بالله -تعالى-، وترى التجار يحلفون بالله -تعالى- أنهم قد أعطوا في السلعة كذا وكذا، وأن مشتراهم كذا وكذا، وأن ربحهم كذا وكذا، وهم مع ذلك غير صادقين، بل إن المسألة -أيها الإخوة- قد تطورت حتى صار الحلف بالله بالأمور المهانة والحقيرة، فترى كثيراً من اللاعبين يقول: والله هذا هدف، والآخر يقول: والله ليس بهدف وهكذا.
وإذا حللت معي -يا أخي المسلم- الأسباب التي أدت إلى انتشار الحلف بالله -تعالى-، والاستهانة بهذه القضية الخطيرة عند الناس اليوم لوجدت لها عدة أسباب منها:
أولاً: أن عظمة الله -تعالى- في نفوس كثير من المسلمين قد تلاشت أو قاربت، أصبح الله ليس له مهابة في قلوب كثير من المسلمين، فهم يحلفون به في أي ساعة من ساعات الليل والنهار سواء كان الأمر يستأهل الحلف أو لا يستاهل الحلف، وهذه قضية خطيرة لها مساس مباشر بالعقيدة الإسلامية، إن من أسماء الله -تعالى- أنه العظيم، هذا الاسم العظيم الذي جهلته قلوب كثير من المسلمين، هذا الجهل هو الدافع لانطلاق الحلف على ألسنة الناس.
ثانياً: انعدام ثقة الناس بعضهم ببعض، ومن أسبابه فشو الكذب بين الناس، فترى هذا لا يصدق هذا إلا بالحلف، ويقول له إذا قال له الخبر بقضية عادية بأسلوب عادي: تقسم بالله أن هذا صحيح؟ لأن الثقة بين الناس قد انعدمت، وفشى الكذب حتى لم يميز الصادق من الكاذب، والأمين من الخائن، ومع انتشار القسم صار حتى القسم شيئاً عادياً، لا يصدق بمن يقسم.
هذه المسألة الخطيرة -أيها الإخوة- تحتاج إلى علاج، وتحتاج إلى تبيين شيء من أحكامها؛ لعل الله -تعالى- يوقض تلك الأفئدة النائمة، وتلك العقول الخامدة التي سيطر عليها تبلد الإحساس، وانعدمت عظمة الله -تعالى- بين جنبتي نفوس كثير من الناس.
واعلموا -يا أخواني- أن الإفراط في الحلف أصلاً مذموم لأن الله -تعالى- قال في القرآن العظيم: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ القلم: 10وحلاف صيغة مبالغة، وهو الرجل الذي يحلف كثيرا، حلاف مهين، وقال : وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْالبقرة: 224، وقال -تعالى-: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْالمائدة: 89، لا تقسم عند أي شيء، أحفظ اليمين، ادخر اليمين للأمر العظيم، لا تجعله ألعوبة كما جعله اليوم كثيراً من المسلمين.
وأعلموا -يا إخواني- بأن اليمين ثلاثة أنواع فمنه من اليمين من القسم:
ما يجري على ألسنة الناس دون قصد، فترى أحدهم يقول يسأل: فلان موجود؟ فيقول له بعض الناس: والله غير موجود، هذا النوع من القسم لا يعتبر قسماً، ولا تنعقد به اليمين، ولا تجب بحنثه الكفارة، لماذا؟ لأن المتكلم ما قصد الحلف، وإنما جرى على لسانه بغير قصد، وهذا هو معنى قول الله -تعالى-: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ البقرة: 225، هذا هو معنى اللغو في اليمين، وهذه اليمين غير منعقدة.
أما النوع الثاني من اليمين: اليمين الغموس الكاذبة، هذه اليمين الذي يراد منها اقتطاع مال امرأ مسلم، أو أخذ حقه والاستيلاء عليه ظلماً وعدوانا ، اليمين الكاذبة التي قال العلماء بالإجماع: إنه ليس لها كفارة مطلقاً؛ لأنها أعظم في الذنب لأنها عظيمة جداّ ذنبها عظيم لا يكفره كفارة مادية، اليمين الغموس الكاذبة هي في العظمة في عظمة ذنبها أكبر من أن تكفرها أية كفارة؛ فلذلك قال العلماء: إنه لا كفارة لها مطلقاً، من أنواع الكفارات المادية، ولا يكفرها إلا التوبة والاستغفار، استغفار الله تعالى من هذا الجرم العظيم، وكذلك هي التي قال الله -تعالى- أنها من صفات المنافقين أنهم الذين قال الله عنهم: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ المجادلة: 14، يحلف على الكذب وهو يعلم أن يمينه كذب، وهذه الخصلة صارت خلقاً لكثير من المسلمين اليوم.
أما النوع الثالث: في اليمين الشرعية التي يحلف بها الإنسان بالله على أمر مباح أو مشروع أو غير محرم، هذه اليمين يشرع استخدام جزء منها -أيها الإخوة- كما كان ﷺ يستخدمها مثلاً للتأكيد على الحقائق الإيمانية من خلال الدعوة إلى الله ، الداعية أحياناً يحتاج لكي يقوي أسلوب العرض، ويؤكد ويجزم بما يقول إلى الحلف بالله بأن هذا الأمر حق، كعذاب القبر مثلاً أو الصراط أو المحشر إلى غير ذلك من أمور العقيد، أو الحساب، الحلف بهذا في أثناء دعوة الناس إلى الإسلام بعرض حقائق الإيمان عليهم لا حرج فيه؛ لأنه ﷺ قد استخدمه.
حكم الحلف بغير الله
00:10:10
واعلموا -أيها الإخوة- أنه لا يجوز الحلف إلا بالله وصفاته، فإذا حلفت بالله، أو بعلم الله، أو قدرة الله، أو عزة الله، أو عهد الله تعالى لأن العهد من كلامه ، وقال الله -تعالى-: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ يس:60، أو حلفت بآيات الله تعالى فإن الحلف بها جائز، لماذا؟ لأن آيات الله هي كلامه، والكلام صفة من صفاته، والحلف بالله أو بصفاته جائز.
أما الحلف بالمخلوقات فإنه لا يجوز مطلقا كالحلف بالكعبة مثلاً، أو الحلف بالأب أو الحلف بالأمانة، فرسول الله ﷺ يقول: من حلف بالأمانة فليس منا، حديث صحيح، كثير من الناس تجده يقول: والأمانة، وأقسم بأمانتي، أو لأقسم بالأمانة أنه كذا، يقول : من حلف بالأمانة فليس منا.
وبعض الناس تتطور بهم أمور خطيرة تؤدي إلى الشرك والعياذ بالله، عندما تجد أحدهم يقسم بالولي الفلاني، أو العبد الفلاني، وهؤلاء -أيها الإخوة- استحوذ عليهم الشيطان لدرجة أن أحدهم عندما تقول لهم: احلف لي بالله، يحلف لك بالله كاذباً، لكن إذا قلت له: احلف بحياة شيخك فلان، أو أحلف برأس البدوي، أو غيره من الأولياء، فإنك تجده لا يحلف بالولي إلا إن كان صادقا، هذا شائع في بعض أمصار المسلمين، -نسأل الله السلامة-، والبراءة من الشرك، فإذا حلف إنسان بمخلوق من المخلوقات كما يجري على ألسنة كثير من المسلمين اليوم الذين يقولون في حلفهم: والنبي مثلاً، والنبي ﷺ مخلوق من المخلوقات التي خلقها الله، فالحلف به لا يجوز مع عظم منزلته التي أنزله الله إياها، إلا أن الحلف -أيها الإخوة- عبادة لا يجوز صرفها إلا لله، لا يجوز القسم إلا بالله، الله يقسم بما شاء من مخلوقاته، يقسم فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ الواقعة: 75، لكن العبيد لا يجوز لهم أن يقسموا إلا بالله، فإذا أقسم إنسان بغير الله فإن قسمه لا ينعقد، لا يعتبر يمينه يميناً، ولو حنثت به لا تجب الكفارة، أما اليمين الشرعية فهي التي لا يحلف فيها إلا بالله، ويؤكد ﷺ خطورة هذا الأمر فيقول: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، حديث صحيح.
وكذلك -أيها الإخوة- فإنك إن سألتني عن هذا الحالف بغير الله كالذي يحلف بالنبي ﷺ مثلاً ما حاله؟ هل هو مشرك كافر خارج عن ملة الإسلام، أم هو باق على إسلامه؟ فأقول لك: إن الجواب في هذا فيه تفصيل: فإن هذا الحالف إن قصد أن النبي أو هذا الذي يحلف به كمن يحلف بالكعبة، أو حلف بأبيه، أو حلف بشرفه، إن قصد بأن هذه المحلوفات أعظم من الله، أو مساوية لله في العظمة، أو ما شابه ذلك؛ فهو كافر، مرتد، مشرك، خارج عن ملة الإسلام، وإن لم يقصد هذا، وإنما حلف بها لجهله، أو سبق لسانه لأن مجتمعه كان متعود عليها، فهذا لا نخرجه عن ملة الإسلام، ولا يعتبر كافراً.
ولكن من حلف بغير الله فله كفارة، ماهي الكفارة؟ يقول ﷺ: من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله فمن حلف بولي من ولي من الأولياء، أو بالشرف، أو بالأمانة، أو بصنم، أو بما سوى ذلك مما يسبق على لسانه ويدري، فيقول: لا إله إلا الله، من قال: والنبي، ماهي كفارة هذا الحلف المحرم؟ أن يقول بعد أن يتذكر مباشرة: لا إله إلا الله، كما ورد في الحديث الصحيح.
وكذلك -أيها الإخوة- وقد كان ﷺ: يحلف بالله وصفاته، ومن صفات الله أنه يقلب القلوب، فكان -عليه والسلام- يقول: لا ومقلب القلوب، وكان يقول: والذي نفسي بيده، وكان يقول: وأيم الله، وهكذا من صفات الله -تعالى- وأسمائه.
أحكام فقهية تتعلق بالحلف
00:15:42
وبعض الناس -أيها الإخوة- يقع عندهم إشكال فيما إذا حلفوا على أمر ليس من البر، فأحيان يحلف إنسان فيقول: والله لا أدخل بيتك، والله لا أطأ عتبة دارك، والله لا آكل من طعامك، أو أشرب من شرابك، والله لا آخذ منك قرشاً، أو والله لا أعطيك قرشاً، كمن يحلف ويقول: لزوجته والله لا أعطيك ريالاً أو فلساً، أو يقول لولده: والله لا أعطيك بعد الآن ريالاً واحداً، هذا الحلف -أيها الإخوة- إذا جئت تنصح الحالف، وتقول له: اتق الله في أهلك أنفق عليهم، أعطي أولادك النقود التي يحتاجونها، أُدخل بيت فلان هذا، كيف تقطعه وتقطع صلته؟ فبعض الناس يقولون: ولكنني حلفت، إنني حلفت أن لا أفعل هذا الأمر، كيف أفعله الآن وقد أخذت ميثاقاً غليظاً على نفسي، وأقسمت بالله أن لا أفعله؟
هذا الإشكال حله بسيط مع التنبيه إلى أن الحلف أصلاً بمثل هذه الأشياء لا يرضاه الله -تعالى-، كيف تقسم أن تمنع النفقة عن زوجتك؟ وكيف تقسم أن لا تدخل بيت جارك؟ كيف تفعل هذا؟ هو أصلاً لا يرضاه الله، لكن أما وقد حدث فلا تقل إذا دعيت إلي الخير والبر: والله أنا أقسمت، والموضوع خرج من يدي، ماذا أفعل؟ يقول الله -تعالى-: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِالبقرة: 224، الآية، المعنى الذي قصد بهذه الآية يعني: إذا دعيت إلى دخول بيت أنت حلفت على عدم دخوله فلا تجعل الله -تعالى- ذريعة، لا تجعل الحلف بالله هو عذر أو ذريعة لعدم دخول البيت، وتحتج، وتقول: أنا حلفت، ما هو الحل؟ أن تكفر عن يمينك، وتدخل هذا البيت، وتكفر عن يمينك، وتعطي المال للزوجة والولد، وما شابه ذلك، لقوله ﷺ: والله، لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله، آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه متفق عليه، يعني تمادي الإنسان في الحلف من هذا النوع، الحلف على ألا يفعل شيئاً من الخير، تماديه في الحلف، وإصراره عليه آثم له عند الله من إخراج الكفارة، وكسر اليمين، وإخراج الكفارة، وفعل هذا الخير الذي منع نفسه منه بالحلف، تماديه في اليمين آثم عند الله كما يقول ﷺ.
فالحل إذاً -يا أخي المسلم- أن تكفر عن يمينك، ثم تفعل هذا الشيء الذي منعت نفسك منه، وقال ﷺ في الحديث الصحيح: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرهاخلاف اليمين الذي حلفت عليه خيراً منها فأتي الذي هو خير وكفر عن يمينك.
وكذلك -أيها الإخوة- لو أن إنساناً حلف بالله أن لا يفعل أمراً ثم فعله ناسياً هل تجب عليه الكفارة؟ الجواب: لا، لا تجب عليه الكفارة؛ لأن رسول الله ﷺ يقول: إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
وكذلك لو أن إنساناً أقسم بالله على إنسان آخر على أن يفعل أمراً ما، فقال إنسان مثلاً: أقسمت بالله عليك أن لا تخرج من بيتي، أقسمت بالله عليك أن تتغدى عندي، هذا يعتبر يميناً، لو أن الرجل الآخر خرج من بيتك، أو لم يتغدى عندك فيجب عليك الكفارة.
لو قلت: أقسمت بالله عليك يا فلان أن لا ترفع هذا الشيء فرفعه وخالف أمرك، فيجب عليك أنت الحالف الذي أقسمت بالله يجب عليك الكفارة، ولذلك أوصى رسول الله ﷺ بإبرار المقسم، لو أن أخاك أقسم بالله عليك في أمر ما، قال: أقسمت عليك بالله، وحلفت عليك بالله يا فلان أن تفعل كذا، فالسنة والمستحب في حقك كواجب من واجبات الأخوة الإسلامية أن تبر بقسم أخيك، ولا تحرجه ولا تجعله يقع في الحنث الذي يوجب الكفارة، ولكن إن حصل الأمر، وخالف المحلوف عليه، فإنه يجب على الحالف الكفارة.
وكذلك لو أن إنساناً حلف بالله وأسمائه وصفاته على شيء واحد هل يعتبر أكثر من قسم أو يعتبر قسماً واحداً؟ لو قال إنسان: أقسم بالله، وآياته، وعزته، وأنفه، وقدرته، وعلمه أنني لن أفعل كذا، ثم أنه فعل، فإن هذا الحلف يعتبر يميناً واحداً، تجب فيه كفارة واحدة، لماذا؟ لأن موضوع الحلف واحد، وتلك إنما جاءت من باب التأكيد فمهما أتبع القسم بالله أو آياته وصفاته وحلف على شيء واحد فإنه يعتبر يميناً واحداً، إذا حلف به تجب فيه كفارة واحدة، أو كرر اليمين على شيء معين، فقال: والله ثم والله ثم والله أنني لن أفعل كذا، ثم فعله فيجب فيه كفارة واحدة، ولكن إن كان الأمر أنه حلف على أشياء مختلفة على أشياء مختلفة فإن كان حلف يميناً واحدة على أشياء مختلفة كأن قال: والله لا أدخل بيتك، ولا آكل من أكلك، ولا أقعد عندك، ثم إنه دخل البيت فتجب كفارة، أكل من الطعام تجب كفارتان، قعد في البيت تجب ثلاث كفارات؛ لأنه أقسم على أشياء مختلفة، فإن فعل شيئاً منها صارت كفارة، فإن فعل شيئين تجب كفارتان وهكذا، لو حلف يميناً واحدة على أشياء مختلفة، فقال: والله لا آكل، ولا أشرب، ولا أدخل بيتك، ثم فعلها كلها يعني: قال: والله مرة واحدة، لو قال: والله مرة واحدة، فإنها تجب كفارة واحدة حتى لو كانت عدة أشياء، أما لو قال: والله لا أدخل بيتك، والله لا آكل من طعامك، والله لا أقعد في بيتك، لو صار اليمين والله متعدد في العبارات فعند ذلك تجب الكفارة في كل حنثة، أما لو أقسم يميناً واحداً على عدة أشياء فإنه لو فعلها كلها فتجب فيه كفارة واحدة، -أعيد حتى لا يحدث الالتباس- لو أنه أقسم بيمين واحدة على عدة أشياء فقال: والله لا آكل في بيتك، ولا أشرب، ولا أقعد، فإن حنث بها كلها فقعد، وأكل، وشرب ما دام قال: والله مرة واحدة، كان مبتدأ الحلف، بداية الحلف مرة واحدة فعليه كفارة واحدة، أما لو قال: والله لا آكل في بيتك، والله لا أدخل بيتك، والله لا أقعد في بيتك، فعلى كل واحدة منها كفارة، فلو حنث بها كلها فتجب عليها ثلاث كفارات.
وكذلك -أيها الإخوة- لو أن إنساناً حلف بالله -تعالى- أن لا يفعل أمراً، أو حلف أن يفعل أمراً ما، فهل يجوز له إخراج الكفارة قبل الحنث أم لا؟ لو قال: والله لا أدخل بيت فلان، هل يجوز أن يخرج الكفارة قبل أن يدخل، وقرر أن يدخل، ورجع إلى نفسه، وقرر أن يدخل، هل يخرج الكفارة قبل أو بعد الدخول؟ قبل الحنث أو بعده؟
الجواب: كلاهما مشروع، وكلاهما صحيح، فيجوز أن يخرج الكفارة قبل أن يحنث باليمين إذا كان يريد أن يحنث، أو بعد أن يحنث فيه.
وكذلك فإن حلف إنسان وقال في حلفه: إن شاء الله، فإن اليمين لا تنعقد، يعني لو قال: والله لا أفعل الشيء الفلاني -إن شاء الله-، فإن أتبع الحلف مباشرة بقوله: إن شاء الله فإنها لا تعتبر يمين، ولا تجب فيها الكفارة، هذا خاص بما إذا كان قد أتبع الحلف مباشرة بـ إن شاء الله، أما لو أحداً قال: والله لا أفعل كذا، وبعد ساعتين أو بعد يومين قال: إن شاء الله، فهذه لا تؤثر ويعتبر يميناً لو حنث فيه وخالف ما أقسم عليه تجب عليه الكفارة، ما هو الدليل على هذا الكلام قول الرسول ﷺ: من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى، فلاحظوا أنه ﷺ قال: من حلف فقال: الفاء تقتضي المباشرة من حلف فقال: إن شاء الله، وكان الخليفة أبو جعفر المنصور يأخذ برأي ابن عباس بأن الإنسان لو قال بعد سنة يكفي، فقال له أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين، أترضى أن يبايعك الناس ويعاهدوك على الخلافة، ثم إذا خرجوا من عندك قال الإنسان: -إن شاء الله- منهم، فلا يلزمهم شيء، فرجع أبو جعفر عن رأيه لما رأى عظم الأمر.
فهذا -أيها الإخوة- خلاصة بعض الأحكام المتعلقة باليمين قصد منها ومن عرضها تنبيه الناس إلى خطورة هذا الأمر، وأن فيه الكفارة كما سنفصل -إن شاء الله- في الخطبة الثانية، وصلى الله على نبينا محمد.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم.
كفارة اليمين وشروطها
00:27:48
ولما كان أمر الحلف بالله عظيم فقد شرع الله صيانة لجنابه واحتراماً للحلف به أوجب الكفارة على من يخالف في الأمر الذي حلف عليه ويحنث في يمينه، فقال -تعالى-: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ المائدة: 89، كلها في منزلة واحدة، أنت مخير بين الإطعام أو الكسوة أو عتق رقبة، فمن لم يستطع الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة، فينتقل إلى الدرجة الثانية من الكفارة، وهي صيام ثلاثة أيام، وهو مخير إن شاء أطعم وإن شاء كسا، فإن طعم خمسة وكسى خمسة أجزء ذلك باتفاق العلماء.
ويشترط لمن يطعمهم أو يكسوهم:
أن يكونوا أولاً فقراء، فلا يجوز إعطاء الطعام لغني، أو كسوة غني، والفقير هو الذي لا يجد حاجته، ولا يجد ما يسد خلته وعوزه.
ثانياً: أن يكون من المسلمين بعض الناس يخرج كفارة فيقابل له أقرب عامل بلديه مثلاً في الشارع ويعطيه، وهو لا يعرف إن كان هذا الرجل بوذياً، أو هندوسياً، أو مسلماً، أو نصرانياً، فلا بد أن يتحرى لمن يعطي الكفارة، يجب إعطاءها للمسلمين.
ثالثاً: أن يكون هؤلاء قد أكلوا الطعام، ما معنى أكلوا الطعام؟ يعني ظن في سن يأكلون فيه الطعام، فمثلاً لو وجدت عائلة فيها عشرة أشخاص كبار فقراء يجوز إعطاءهم الكفارة، لكن لو كان واحد منهم رضيع طفل صغير عمره شهر لا يأكل الطعام، وإنما يرضع فعند ذلك تكون قد أعطيت الكفارة لتسعة فقط، والعاشر لابد أن تبحث عنه حتى تكمل العشرة، فلا بد أن يكونوا قد أكلوا الطعام؛ لأن الله يقول: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ المائدة: 89.
وكذلك يتصدق الإنسان بحاجة الفقير ما يشبعه غداء أو عشاء، ما يشبع شخصاً واحداً، يتصدق على عشرة أشخاص بما يشبعهم، ليست صدقة وإنما كفارة، يعطي كفارة -تجب عليه وجوباً، ليس مخيراً فيها.
أو في عدة عوائل -هؤلاء العشرة-، ويستحب طبخ الطعام لهم حتى لا نجد عناء في طبخه.
ويجوز إعطاء الفقير الواحد حظه من كفارتين، لكن لا يجوز إعطاء طعام العشرة لشخص واحد أو لخمسة أشخاص، الكفارة الواحدة يجب أن تصرف لعشرة مختلفين، لكن لو كان عندك ثلاث كفارات يجوز أن تعطي فقير واحداً ثلاثة أنصبه: الأولى عن الكفارة الأولى، والطعام الثاني على الكفارة الثانية، والطعام الثالث على الكفارة الثالثة لشخص واحد، أما لو كانت كفارة واحدة فيجب أن تبحث عن عشرة مختلفين لتعطيهم، لا يجوز أن تعطي الواحد أكثر من نصيب من الكفارة الواحدة.
وكذلك فإنه لا يجوز إعطاءهم نقداً، وإنما يجب إطعامهم طعاماً لأن الله نص عليه، فقال في القرآن: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ المائدة: 89، ما قال: التصدق على عشرة مساكين، وإنما قال: إِطْعَامُ، فلا بد من الالتزام بالنص، والوقوف عنده، وإعطاءه طعاماً، وقد يكون رب الأسرة بخيلاً فيأخذ المال إليه، ويحرم عياله من الأكل، أما عندما يكون طعاماً مطبوخ فما يفعل به؟ لا بد أن يطعمهم إياه، ثم أن الله جعل مصارف أخرى وهي الزكاة فلا حاجة لجعل كفارة اليمين نقداً، وقد جعل الله أبواباً أخرى فيها النقد، وهي زكاة الأموال.
وكذلك -أيها الإخوة- لا يجوز الانتقال من الإطعام إلى الصيام إلا بعد العجز عن الإطعام، فبعض الناس يقول: أنا أريد أن أوفر على نفسي، ليش أخرج طعام لعشرة أشخاص بمائة ريال كل واحد أشتري له طعام بعشرة ريالات مثلاً تكلفني مائة ريال، لا أصوم ثلاثة أيام أرخص لي، هذا لا يجوز لأن الله قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍالمائدة: 89، فعلق الصيام على عدم الوجود، سواء عدم وجود الفقير، أو عدم وجود المال الذي تشتري، أو عدم وجود الطعام لديك، فكثير من الناس يصوم ثلاثة أيام وهو يستطيع أن يطعم، هذا غير جائز ومحرم، ولا تقبل كفارته، لابد أن يعيدها، فإن عجز فعند ذلك ينتقل إلى الصيام.
انظروا -أيها الإخوة- هذه الآلاف الأيمان التي تنطلق من الناس يوميا ليست سهلة، وإنما فيها أحكام كثيرة، وفيها كفارة، تصور اليوم كم من المسلمين يؤمنون في هذه القضية العظيمة: وكم من الآثام تتراكم فوق ظهورهم، وهم يحلفون بالله مستهينين به ليلاً ونهاراً، في الأمور الحقيرة وغيرها، وفقنا الله وإياكم لهدي كتابه، والالتزام بسنة رسوله ﷺ، والوقوف عند حدوده ، وتعظيمه حق العظمة التي هو لها أهل ، واعذروني في إطالتي -أيها الإخوة-، ولكن انتشار الموضوع عند الناس اليوم وخطورته تستوجب ما قلنا وأكثر من هذا.
نسأل الله المغفرة في التقصير، وصلى الله على نبينا محمد.