الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
الغاية من التَّوحيد
فتحدثنا في الدرس الماضي عن توحيد الرُّبوبية، وإنَّ هذا التَّوحيد حقٌّ لا ريب فيه، ولكنَّه ليس هو الغاية من التَّوحيد؛ لأنَّ عندنا توحيد الأُلوهية، توحيد الأسماء والصِّفات، وتوحيد الرُّبوبية لا يصح إيمان عبدٍ إلَّا بالإقرار بذلك وهو الأساس، ولكن ذهب كثير من أهل النَّظر والكلام وطائفة من الصُّوفية إلى اعتباره الغاية في التَّوحيد، هناك مشكلة وهو أنَّ كثير من النَّاس والدُّعاة الذين يذهبون إلى الخارج يفاجَأون بأنَّ كثير من المسلمين هناك لا يعرفون من التَّوحيد إلا توحيد الرُّبوبية فقط، ولذلك يطوفون بالقبور والأوثان والأصنام، ويُشركون في الأولياء مع الله ، وتجد منهم من يُأوِّل الصَّفات ويُحرِّف فيها؛ لأنَّ عندهم التَّوحيد هو توحيد الربوبية، ويعتبرونه هو الغاية في التَّوحيد وأنَّه هو الذي دعت إليه الرسل، وبه نزلت الكتب، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وذلك أنهم يفسِّرون "أشهد أن لا إله": لا ربُّ إلا الله، وهذا توحيد الرٌّبوبية، وهذا خطأ من وجوه:
أولاً: أنَّ المشركين قد أقرُّوا به، فلم يُدخِلهم في الإسلام؛ لماذا قاتلهم مُحمَّد بن عبد الله ﷺ، إذا كانوا يُقرِّون بتوحيد الرُّبوبية، وتوحيد الرُّبوبية هو كل شيء وهو الغاية؟
ثانياً: إنَّه أمرٌ قد فُطِر عليه البَشر وهو توحيد الربوبية، فلو كان هو الغاية لم يكن هناك حاجة إلى إنزال الكتب وإرسال الرُّسل.
ثالثاً: أنَّ لا إله إلا الله ليس معناها لا ربُّ إلا الله، بل معناها لا معبود بحق إلا الله، فالمسألة مسألة عبودية: أشهد أن لا إله إلا الله، ليس المقصود لا ربَّ إلا هو، فهناك أربابٌ لكن زائفون أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[يوسف:39]. إذاً: معنى لا إله إلا الله لا مَعبود بحقٍ إلا الله كما سيأتي.
رابعاً: أنَّهم أَغفَلوا توحيد الألوهية وهو الغاية في التوحيد.
موقف الطَّوائِف من تَوحيد الرُّبوبية
أما موقف الطوائف من توحيد الربوبية بالاستقراء يتبين أنهم ثلاثة:
الطَّائفة الأولى: من يُقِرُّ بتوحيد الرُّبيوبية باطناً وظاهراً وهم أكثرُ النَّاس.
الطائفة الثانية: من يُقرُّ به باطناً لا ظاهراً، ويجحده في الظاهر مثل فرعون والدَّهرية، وكذلك الماووين من الشِّيوعيين وغيرهم.
الطَّائفة الثالثة: من يُقرُّ به ويُشرِك فيه مثل المجوس والنَّصارى، ولم يعرف عن أحد من الطَّوائف في العالم إنكار توحيد الربوبية إلا شُذَّاذ من البشر، ومن هؤلاء الدَّهريَّة، والطَّبائعيون:
الطَّائفة الأولى: الدَّهريَّة الذين أنكروا الرُّب والمعاد، وقالوا إنَّ العالم يسير بنفسه، وقالوا: إنَّما هي بطون تدفع وأرض تبلع، وقال الله عنهم: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ[الجاثية: 24]. وهذا رد عليهم، وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ[الجاثية: 24]. بنوا كلامهم على جهلٍ وظَنٍّ، ولا ميزان له أمام العلم.
طائفة الطَّبائعيين
الطَّائفة الثانية: الطَّبائعيون يقولون إنَّ العالم وجد نتيجة للطَّبيعة، ويُفسِّرون الطَّبيعة بأمرين، هذه طائفة الطَّبائعيين لابُّد من التَّركيز عليها؛ لأنَّ كثيراً من المكتشفين وعلماء الفلك وعلماء الطبيعة موجودين في بلاد الكفار: النَّصارى والأمريكيين والأُوروبيين ضمن هذه الطَّائفة، لابد من معرِفَة دين ومذهب هذه الطائفة، الذين يقولون: إن العَالَم وُجد نتيجةً للطَّبيعة، ويُفسِّرون الطَّبيعة بأحد أمرين:
الأول: أنَّها ذات الأشياء، فالخالق هو الطَّبيعة، وإذا سألتهم: ما هي الطَّبيعة؟ يقولون هذه السَّماء والأرض والجبال هي الطَّبيعة، وهل الكائِنات هذه هي التي أوجَدت نفسها؟ لا، لا يمكن، ومنهم من يقول: إنَّ خصائص الأشياء هي الطَّبيعة كالحرارة والبرودة، والرُّطوبة، والخُشونة، والملاسة، والحركة والسُّكون، والاغتذاء، والتزاوج والتوالد، هذه هي الطَّبيعة، وهل هذه هي التي أوجدت الأشياء؟ لا يمكن، وهذا مذهبٌ ظاهر البُطلان، ويلزم من التَّفسير الأوَّل للطَّبيعة أن تكون ذات الأشياء هي الخالقة وهي المخلوقة، إذا ما قلنا: ما الطبيعة؟ قالوا السَّموات والأرض والجبال والهواء، فنقول: هذه هي الخالقة وهي المخلوقة في الوقت نفسه، فالأرض خَلقت الأرض، والسَّماءُ خلقت السَّماء! هذا كلام لا يعقل، هذا محال، قال الله تعالى رداً عليهم: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[الطور: 35].
ثم هذه الأشياء كانت فاقِدة للوُجود، فكيف تستطيع أن تَهبَ الوجودَ لنفسها؟ ومعلوم أنَّ فاقد الشَّيء لا يُعطيه، وأمَّا على التَّفسير الثَّاني للطَّبيعة بأنَّها خصائص الأشياء: فإنّه باطل؛ لأنَّ الأشياء إذا عَجزت عن إيجاد نفسها فَمِن باب أَولى أن تَعجز صفاتها عن إيجادها؛ لأنَّ الذَّات أقوى من الصِّفات، والصِّفة تابعة للمَوصُوف، فكيف تخلقه وهي تابعة له؟ ثم هذه الطَّبيعة فإنَّها لا شعور لها، فهي عبارة عن آلة محضَة، فكيف تصدر عنها الأشياء، ويكون فيها دقة وإبداع وإتقان؟ ثم نقول: إن المُستَقر في الفِطَر أنَّ الأشياء قسمين: خالقٌ ومخلوقٌ، فكيف يكون الخالق مخلوقاً والمخلوق خالقاً ؟ فهذا لا يكون.
مذهب القائلين بالصُّدفَة
مذهب المنكرين للرُّبوبيَّة، وهم القائلون بالصدفة، حيث يقولون: إنَّ هذه الكَائِنات نَشأت عن طريق المصادفة، بمعنى: أن تجمع الذَّوات والجزئيات عن طريق المصادفة أدى إلى ظهور الحياة بلا تدبير من الخالق ولا حكمة، وكثير من علماء الغرب على هذا المذهب القائلون بالصدفة، وهذه نظرية تُدَرَّس في جامعات الغرب في أمريكا وأوروبا، أنَّ الكون حدث نتيجةَ انفجارٍ عظيم، فطلعت الكائنات، وطلعت الأشجار والنباتات والحيوانات، نتيجة هذا الإنفجار الهائل، والآن يبحثون عن تاريخ الانفجار هذا متى حدث وكيف حدث؟ ويضعون نظريَّات بناءً عليه، ولذلك مَن يُدرِّس كتبَ الغربيين في بلاد المسلمين يمكن يُدرِّس الكفر الأكبر الذي ما بعده كفر، لمَّا يُدرِّس نَظرية الصُّدَف أن العالم جاء نتيجة انفجار أو نتيجة صدفة، وهذا كلام تَرُدُّه العقول والفطر، فإنَّ هذا الكون المنَظَّم بأفلاكه وأرضه وسماواته وسائر مخلوقاته، بهذه الدِّقة العجيبة كيف يمكن أن يكون قد جاء نتيجة صدفة؟! هذا ما جاء إلا من خالق مُدَبِّر حكيم خبير، ونقول لهم مثال: لو قِيل أنَّ هُناك انفجار حدث في مطبعة أدى إلى وجود مجلد من خمسمائة صفحة في أصول وأبواب عناوين جانبيه، وفهرس ومُقَدِّمة وكلام مرتب، هل ممكن يحدث ذلك؟ هذا كلام لا يقول به إلا مخبول مجنون، والغريب أن هؤلاء الأذكياء الدَّكاترة أهل الشَّهادات العُليا عندهم يقولون بهذا الكلام التَّافه.
فرعون وتوحيد الرُّبوبيَّة
وكذلك ممن تجاهل توحيد الرُّبوبيَّة فِرعون لعنَه الله، تظاهر بإنكاره وكان مُستَيقناً به في البَاطن، ولذلك قال له موسى، وهذا من الأشياء الجميلة في الدَّعوة أنَّ الدَّاعية إذا عرف أنَّ المدعُوّ يوقِن بالشَّيء الذي يتظاهر بإنكاره أن يقول له موقفاً يوقفه عند الحقيقة التي يَقِرُّ بها في الداخل، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا[الإسراء: 102].
فموسى قال أوقف فِرعَون على الشَّيء الذي ينكره، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[الإسراء: 102]. ولكنَّهم وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا[النمل: 14].
تَّوحيد الرُّبوبية عند الثَّانوية والمانويَّة
والطَّوائف التي أشركت في الرُّبوبية لم يقولوا بخالقين متماثلين، والإشراك في الرُّبوبيَّة مذهب نادر لكنَّه وُجِد، لكنَّ هؤلاء الذين قالوا بالإشراك في الرُّبوبية لم يَقولوا بخالقين متماثلين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد ذكر أربابُ المقالات ما جمعوا من مقالات الأوليين والآخرين في الملل والنحل، والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له من جميع الصفات، وأعظم ما نقلوا -الكُتَّاب أو الباحثون في الملل والنحل- قول الثانوية والمانوية والمجوس وكذلك النصارى" [مجموع الفتاوى: 3/96].
لكن حين تتأمل مقالات هؤلاء لا تجدهم يثبتون خالقين متماثلين وإن كانوا يشركون في الرُّبوبية، فالمجوس والثانوية والمانوية كما قال أبو عيسى الوراق، وكان مجوسياً فأسلم وهو عارف بمذهبهم يقول: "المجوس قالوا بالأصلين النور والظلمة، وقالوا إن النور أزلي والظلمة محدثة" [الملل والنحل: 1/243].
هؤلاء المجوس يقولون بإلهين: إله النُّور وإله الظُّلمة، ومع ذلك يقولون إله النُّور أزليٌ، وإله الظُّلمة حادثٌ، فلا يقولون بإلهين متساويين من جميع الوجوه، والثانوية أصحاب الإثنين الأزليين يزعمون أنَّ النُّور والظُّلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس، لكن قالوا إنَّهما يختلفان في الجوهر والطَّبع والمكان والأبدان والأرواح، ولم يقولوا بتماثلهما في الصِّفات والأفعال تماماً، وإن قالوا بتساويهما في القِدم.
المانوية أصحاب ماني بن فاتح قالوا: إن العَالم مصنوعٌ من أصلين قديمين، ولكن قالوا باختلافهما في النَّفس والصُّورة والعقل والتَّدبير، ووضع الشهرستاني جدولاً لبيان الحروف عندهم بين النور والظلمة. [الملل والنحل: 1/235- 243]. فهؤلاء المشركون في عقيدة الرُّبوبية.
ولا بد نعرف أنَّ بعض الذين نأتي بهم في العمالة والخدم والسَّائقين من المجوس أو المانوية أو الثَّانوية الذين يقولون بهذه المقالات مشركون في الرُّبوبية، فالنصارى الذين يقولون بالتثليث لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض حتى تتبيَّن المقالة، وإنما يتَّفِقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون عنه الأب والابن وروح القدس، وأنَّه إلهٌ واحدٌ بالذَّات، ثلاثة بالأقنون؛ والأقانين يُفسِّرونها تارةً بالخواص، وتارةً بالصِّفات، وتارةً بالأشخاص، وهؤلاء مُتناقضون في أنفسهم ومضطربون في أفهامهم.
توحيد الرُّثبوبية عند القدريَّة، والصَّابئة
القَدَريَّة ما وجه إشراكهم في الربوبية؟ يرون أنَّ الإنسان يخلق أفعاله، وأنَّ أفعال الإنسان لا يخلقها الله ، فمعناها أنَّه صار عندنا خالقِين بعدد الأعمال وبعدد الناس، هذا وجه إشراك القدريَّة في الرُّبوبيَّة، أنَّهم يقولون أنَّ العَقل يخلق فعله بنفسه، فصار عندنا خالقِين كُثُر غير الله ، عند هؤلاء القَدريَّة.
الفلاسفة الصَّابئة يعتقدون أنَّ الكَواكِب والنُّجوم تَخُلق، وكان منهم مدير جامعة بغداد سابقاً وهم طائفة معروفة في العراق إلى الآن موجودة، الصابئة عبَّاد النُّجوم والكَواكِب، وكثير من مشركي العرب أيضاً كانوا يعتقدون بآلهتهم أشياء من النَّفع والضُّرّ، لايقولون هُبل يَخُلُق لكن يعتقدون أنَّه ينفع ويَضرُّ، وهذا من وجه يعتبر شِركٌ في الربوبية، لأنَّه ليس مُشكلة العرب فقط يشركون في الأُلوهية، حتى في الربوبية عندهم مصائب؛ لأننا قلنا توحيد الرُّبوبية هو توحيد الله بأفعاله وأنَّ تعتقد تفرُّد الله بالإحياء والإماتة والضر والنَّفع والرِّزق وإنزال المطر، فإذا قال قائل: إنَّ هذا الصَّنم يضُرُّ وينفع، اعتقاداً، هذا متعلق بالرُّبوبيَّة، وأمَّا غُلاة الصُّوفية يقولون إنَّ الأولياء ينفعون ويضُرُّون ويتصرَّفون في الكون، ويعتقد بعض الصُّوفية أنَّ الأولياء يجتمعون في غار حراء ليلة سبعة وعشرين رمضان مع القُطب الأعظم والغوث الأكبر، فالتيجانية يقولون: أحمد التِّيجاني، والرِّفاعية يقولون: أحمد الرِّفاعي، هو القُطب الأعظم، وأنَّهم يُدَبِّرون مقاليد السموات والأرض ويُوَزِّعون أرزاق الخلق في تلك السَّنَة، فهذا شِرك في الرُّبوبية.
وأمَّا الرَّوافض فيقولون إنَّ الدُّنيا والآخرة للإمام المعصوم يضعهما كيف يشاء، وعندما يعتقِدون أنَّ تُراب الحُسين شِفاءٌ، ومن توحيد الرُّبوبية أن تعتقد أنَّ الذي يشفي هو الله الذي خلقني، كما قال إبراهيم : الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80].
فإذاً هذا الشِّفاء من الله، فيقولون: إذا اعتقدت أن تُراب الحُسين شِفَاءٌ من كلِّ داء وأمان من كل خوف، فدخلوا في شِرك الرُّبوبية، ولما كان هذا الشِّرك في الرُّبوبية موجوداً بين النَّاس بَيَّن الله بطلانه فقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 91].
القسم الثَّاني من أقسام التَّوحيد: توحيد الأُلوهية
سننتقل إلى النوع الثَّاني: وهو توحيد الأُلوهيَّة، فتوحيد الأُلوهية مشتقٌ من كلمة إله بمعنى المعبود المطاع، وهو يُطلق على المعبود بحقٍّ، كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255].
ويطلق على المعبود بالباطل، كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]. ولكنه غلب في الاستعمال على إلهِ الحقِّ وصار معناه حينئذٍ، إذاً فتعريف الإله الحقِّ: هو مِن تألَّه القلوب حباً وتعظيماً وإجلالاً.
تعريف توحيد الألوهية
وعرَّف العلماء توحيد الأُلوهية بتعريفات متقاربة، فمن تلك التعريفات قالوا: إفراد الله بأفعال العباد، وقالوا: هو إفراد الله بالعبادة، وقالوا: هو إفراد الله بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولاً وعملاً، ومن أدلَّة هذا التَّوحيد قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. والعبادة تُطلَق على أمرين: تُطلَق على الفعل، وتُطلَق على المفعول، فتُطلَق على الفعل الذي هو ذات التَّعبُّد، فمثلاً قال ابن كثير رحمه الله: "العبادة طاعةُ الله سُبحانَه بفعل المأمور وترك المحذور"[ تيسير العزيز الحميد: 1/31].
هذه هي العبادة، هي طاعة الله بفعل المأمور وترك المحذور، كما تُطلَق العِبادة على المفعول أي المتعبد به، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العبادة اسم جامع لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة". [العبودية: 1/44].
لو أخذنا الصَّلاة وطبَّقنا عليها التعريفين، ففعل الصلاة عبادة، وهو تعبُّد، وذات الصَّلاة عبادةٌ وهو المُتَعبَّد به، وقد أخطأ أهل الكلام عندما قالوا: الإله هو القادر على الاختراع والإيجاد، لو سألنا لأشاعرة: ما تعريف الإله لديكم؟ فقالوا: هو القادر على الاختراع والإيجاد، فهل معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله؟ هذا خطأ من وجهين:
أولاً: أنَّ الإله لم يأت في لغة العَرب ولا في كتاب الله تعالى بمعنى المخترع، ولم يقل أحد من أئمَّة اللُّغة المعروفين أنَّ الإله هو القادر على الاختراع، وإنَّما أتى القرآن بالإله بمعنى المعبود بحق أو المعبود بالباطل.
الثاني: أنَّ المشركين كانوا مُقرِّين بأنَّ الله هو الذي خلق السَّموات والأرض، قلنا: أنَّ المشركين كانوا مقرِّين، فأين خبر أنَّ؟ جملة "كانوا مقرين"؛ لأنَّ الله هو الذي خلق السَّموات والأرض، وأنَّه لا يَقدِر على الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة إلا الله، فكانوا مُقرِّين بذلك، قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25].
ومع ذلك لم يصيروا مُوحدِّين بل كانوا مشركين مع إقرارهم، فإذا قلت: أنَّ الأُلوهيَّة وتعريف الإله هو القادر على الاختراع، فالمشركون كانوا يُقرُّون أنَّه هو القادر على الاختراع.
توحيد الأُلوهية يُطلق عليه أحياناً توحيد العبادة؛ لاعتبار إضافته للعبد، ويُطلق عليه توحيد الألوهية باعتبار إضافته إلى الله، ويُطلق عليه توحيد الإرادة والقصد؛ لأنَّه يتضمَّن الإخلاص، ويُطلق عليه التوحيد الطَّلبي لأنَّه يتضمَّن الطَّلب والدُّعاء لله، ويُطلَق عليه التَّوحيد الفعلي لتَضَمُّنه لأفعال القلوب وأفعال الجوارح للعباد، فإذاً كل هذا الأسماء واحد، والمقصود توحيد الأُلوهية.
تعريف العبادة
ما هي العبادة؟ لما نقول توحيد العبادة، فالعبادة في لغة العرب هي الذُّل والخضوع، فيقال: بعيرٌ معَبَّد أي: مُذَلّل، وطريق مُعَبَّد إذا كان مُذللاً وطئته الأقدام.
أمَّا تعريفها شرعاً فقد تقدَّم تعريف العبادة، وهي: اسم جامع لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
أركان العبادة
أمَّا العبادة فإن لها ركنين:
الأول: كمال الحُبِّ الذي هو غايته ومنتهاه، فغاية العبودية: الحُبِّ، ولا يكون إلَّا لله وحده فإنَّه وحده هو المحبوب لذاته، وما عداه يُحَبُّ لعِللٍ وأغراضٍ، فلو قلت: أحب فلاناً، وأحب الطَّعام، وأحب كذا، تُحبَّه لعللٍ وأغراضٍ، لكن الذي يُحبُّ لذاته فقط هو الله ، وصفاته وأسماؤه لا شك نثبتها له: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[البقرة: 165].
وقال عليه الصلاة والسلام: ثلاث من وجدهن وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء العبد إلا لله [رواه البخاري: 16، ومسلم: 43]. متفق عليه، هذا الركن الأول للعبودية.
الركن الثاني للعبودي: الذلُّ والخضوع، والمراد به غاية ومنتهى الذلِّ والخضوع، مثل المحبة، إذا قلنا العبودية التي هي المحبة لا نقصد أول درجات المحبة، بل نقصد غاية المحبة ومنتهاها.
وهذا لا يكون إلا الله ، فمنتهى المحبَّة أي لايَصحُّ صرفها إلا لله، ومنتهى الذلِّ والخضوع لا يمكن صرفه إلا لله، ولذلك لا يُقدَّم شيئاً على الله تعالى، وإذا تعارض مراد الله مع مراد نفسك أو مراد هواك قُدِّم مراد الله تعالى، قال الله : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65].
بعض العلماء يجعل للعِبادة أربعة أركان: الأول: الحب، الثاني: التعظيم، الثالث: الخوف، الرَّابع: الرَّجاء، لكن لا تعارض، فبالحُبِّ، والخوف يكون من جرَّاء التَّعظيم، والرَّجاء يحصل من الحُبِّ، فترجوه لأنَّك تُحبه، وتخافه لأنَّك تُعظِّمه، فإذاً الخوف نشأ من التعظيم والرَّجاء نشأ من الحُبِّ، وبالتالي ليس هناك تعارض.
أيهما يغلَّب: جانب الخوف أو جانب والرَّجاء:
ولو قال قائل: أيُّهما أفضل أن نُغلِّب: جانب الخوف الذي نشأ من التعظيم أو جانب الرَّجاء الذي نشأ من الحبِّ؟ قيل: أن يُغلِّب الإنسان جانب الخوف ليحمله ذلك على فعل الطاعة وترك المعصية، فدائماً يُذّكِّر نفسه بعذاب الله ووعيده، ويستحضر الخوف من أنَّ الله أكبر من كلِّ شيء، ويستحضر الخوف من الله، وقيل: في فعل الطَّاعات يُغلِّب جانب الطَّاعات لينبعث عنها العمل، وفي فعل المعصية يُغلِّب جانب الخوف؛ لأجل أن يمنعه ذلك من المعصية، وقيل: يُغلِّب جانب الرَّجاء ليكون متفائلاً، بعكس الأول، والرَّسول ﷺ كان يعجبه الفأل[رواه البخاري: 5756، ومسلم: 2224].
وقيل: يُغلَّب جانب الخوف في الصَّحة وجانب الرَّجاء في المرض، وقيل: هما كجناحي طائر فالمسلم يسير إلى الله بجناحين هما الرَّجاء والخوف فإذا استويا تم طيرانه، وإذا ذهب أحدهما وقع فيه النَّقص، وإذا ذهبا صار الطائر هالكاً، وقيل: تختلف المسألة هذه باختلاف حال الأشخاص والأحوال، ولذلك بعض العلماء يقولون: إذا كان في حال عمل طاعة يغلب الرَّجاء أن تُقبل، وفي حال عمل معصية يُغلَّب الخوف لكي يتوب، وفي حال نزول الموت يغلب الرَّجاء ليحسن ظنه بالله تعالى، فلذلك قالوا يختلف باختلاف الأحوال، أما اختلافه باختلاف الأشخاص فبعض النَّاس إذا كلمته عن الرَّجاء اندفع في العمل، عُبَّادٌ ليس همهم المعاصي إلا ما ندر، فيحتاجون إلى مزيد من التَّشجيع ليزيدوا في العبادة، يحتسبوا أجرها، يرجوا رحمة الله، وبعضهم عصاة إذا لم يُذَّكروا باستمرارٍ بجانب الخوف والوعيد والعذاب فلا يزدجروا.
شُروط العبادة
وأما شُروط العبادة فإنها على ثلاث:
فالأول: صدق العزيمة، ومعناه ترك التَّكاسل والتَّواني في امتثال الأمر والنهي، وبذل الجهد في أن يكون فعله مُصَدِّقاً لقوله، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 3].
الشرط الثاني: إخلاص النِّية لله، وتجريدها عما سواه؛ لئلا يعبد إلا الله ولا يخضع إلا له، فيكون عمله كُلُّه لله، كما قال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162]. وقال جل شأنه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[البينة: 5].
والشرط الثالث موافقة الشرع، بأن تكون الأقوال والأعمال الظَّاهرة والباطنة التي ذكرناها في تعريف العبادة موافقة لما أمر الله به ورسوله: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد [رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718]. أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21].
فإن قال قائل: المعروف أنَّ للعبادة شرطين هما: الإخلاص والمتابعة؟ نحن ذكرنا الإخلاص والمتابعة هي موافقة الشَّرع، فهذان الشَّرطان للقبول، أما الأول الذي ذكرناه صدق العزيمة لوجود العبادة، والشرطان الثاني والثالث لقبول العبادة.
الأُصول التي تقوم عليها العبادة
الأصل الأول: محبَّة الله ورسوله، المتضمنة تَقدِيم مراد الله على مراد النَّفس، ومراد رسول الله ﷺ على مراد النَّفس، وعلى ما سواهما عموماً، ولابُّد للعبد في المحبة من ثلاث مقامات:
أولاً: التَّكميل، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، فلا يكفي أصل ومبتدأ الحب، بل لابُّد من غاية الحب وكماله، وأن نصل بالحبِّ إلى نهايته في عبادة الله وليس إلى أوله؛ لأنَّ الذي يصل إلى أول الحبِّ لا يُقدِّم محبة الله على كل شيء، ولذلك يعمل معاصي، فإذا وصل الإنسان بمجاهدة نفسه إلى أن جعل حبَّ الله أكثر من أي شيء آخر فإنَّه إن دعى داعي المعصية لا يستجيب؛ لأن محبَّة الله أكثر من محبة الشهوة، أو المعصية التي دعته نفسه إليها.
ثانياً: التَّفريق، أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يُفَرِّق بين ما يُحبُّه لله وبين ما يُحبُّه لغير الله، وبين ما يكرهه لله وما يكرهه لغير الله، هذا جهة، من جهة أخرى أن يتَبيَّن له التَّفريق بين ما هو الذي يُحبُّه الله وما هو الذي يكرهه؛ لأنَّ عدداً من النَّاس من جهله لا يُفَرِّق بين ما يُحبُّه الله وما يكرهه، فإذاً في المحبة لابد أن تُفَرِّق بين ما يُحبُّه وما يكرهه الله من الأقوال والأفعال والأعمال والأشخاص.
ثالثاً: مقام دفع الضِّد، أن تكره أن ترجع إلى الكفر بعد إذ أنقذك الله منه كما تكره أن تقذف في النار، فإذاً هو الأصل الأول وهو المحبة، كما قلنا: العبادة تقوم على أصول ثلاثة: المحبة، وهذه مقاماتها.
ثانياً: الخوف، ويُرَاد منه غايته وكماله، فلا يكفي فقط أن يخاف الله خوفاً ضعيفاً، أو أول درجات الخوف، بل لابُّد أن يخاف الله غاية الخوف ونهايته، بحيث لا يخاف من شيء آخر كائناً ما كان أعظمَّ من خوفه من الله، قال الله تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. ما هو ضد الخوف من الله؟ الآمن من مكر الله، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99].
وقد أثنى الله تعالى على أنبياءه لأنَّهم كانوا يخافونه إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء: 90].
وإذا نقص الخوف من الله في نَفس العبد فذلك لنقص معرفته بالله، فإنَّ أعرفَ النَّاس بالله هم أخشاهم له وأخوفهم منه ، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: إني أعلمكم بالله وأشدُّكم له خشية [رواه البخاري: 6101، ومسلم: 2356، بلفظ: "أني أعلمهم بالله وأشدُّهم له خشية"].
ينشأ الخوف من الله من ثلاثة أشياء:
أولاً: معرفة العبد بجنايته وقبحها وتقصيره في حق رَبِّه.
ثانياً: تَصديقُه وإيمانه بوعيد الله وعذابه، وأنَّ الله رَتَّب العقوبات على المعاصي.
ثالثاً: أن يَعلم أنَّه ربما حيل بينه وبين التَّوبة، وبحسب قوة ذلك تكون قوة الخوف وضعفه، والخوف يوجب الهروب إلى الله، والسُّكون إليه، ولذلك فهو مقرونٌ بحلاوةٍ وطمأنينةٍ وسكينةٍ، بخلاف خوفٍ العِباد، الذي إذا خفته هربت منه، إلا الله فإنَّك إذا خفته هربت إليه، هذه ميزة عظيمة في العبودية، فأي شيء أنت تخاف منه تهرب منه، إذا خفت من ظالم تهرب، إذا خفت من أفعى أو عقرب تهرب، أي شيء مخلوق إذا خفته تهرب منه، إلا الله فإنَّك إذا خفته هربت إليه، وأين ستهرب منه وتذهب؟ وهو يُدرِكُك في كل مكان؟.
فإن قال قائل: ما هو الفرق بين الخوف والحبِّ؟ فالجواب: أن متعلق الحبِّ هو الذَّات والصِّفات، وأما الخوف فإنَّه متعلقٌ بذنب العبد وعقوبة الله، ولا شكَّ أنَّ لله أسماءً تُخوِّف العبد كالجبار مثلاً، وكذلك إذا عرَف أنَّه شديد العقاب، لكن بالنسبة للمحبَّة تتعلق بالذَّات والصِّفات، والخوف ليس مرجعه الذَّات وإنما بطش الله وذنوب العبد، وعاقبتها وهي مفعولات الله تعالى، العذاب التعذيب بالنار ونحو ذلك، والحب سببه الكمال والخوف سببه توقع المكروه.
الرجاء
ذكرنا أنّ العبادة لها ثلاثة أصول: المحبة، والخوف وذكرنا ما يتعلق بهما، وبقي لدينا الرجاء.
عند بعضهم يقول العبودية ثلاث مقامات: المحبة والخوف والرجاء، وهذه لاعتبار آخر، فقد ذَكرنا اثنين اقسام، وأربعة أقسام وتطرقنا الآن إلى ثلاثة أقسام، والمسألة واسعة؛ لأنَّ بعضها يؤدي إلى بعض، لكن أحياناً يكون الفرع كبير فتضطر أنَّ تُفصلَه بشيءٍ مستقلٍ، أو لأهميته، وإلا فهو متفَرِّع من غيره، كالرجاء فهو مُتَفرِّع من المحبة، والخوف مُتفرِّع من التَّعظيم، فقال بعضهم: محبة وتعظيم، وبعضهم قال: محبة ورجاء وخوف وتعظيم، ولو قال قائل: السائر إلى الله بمنزلة الطَّير، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فجعلها ثلاثة، فلا بأس؛لأنَّها داخلةٌ في بعضها البعض.
فأمَّا الرَّجاء: هو طَلَب ما عند الله بلا يأسٍ ولا قُنوط، هذا تعريفه، والمطلوب أيضاً في الرَّجاء كماله وغايته، يكون عندنا أقصى وأكثر شيء شيء في الرَّجاء، فترجو ما عند الله كمالَ الرجاء، ولا يَصلُح أن يكون هذا إلا لله، يجوز أن ترجوا من المخلوق شيئاً، لكن لا يجوز أن تجعل أقصى درجات الرجاء لمخلوقٍ، كا أنَّه لا يجوز أن تجعل أقصى درجات المحبة لمخلوق، وهذا يمكن أن يفهمنا المحبة الشِّركية والمحبة الجائزة، والخوف الشِّركي والخوف الجائز، والرَّجاء الشِّركي والرجاء الجائز، فأقصى الدرجات إن صارت لغير الله صارت شركاً، قال الله تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا[الأنبياء:90]. ورغباً هو: رجاءً ما عند الله من كل فضل، فهو واهبُه وكل نعمة فهو مُعطيها.
وضِدُّ الرجاء: اليَأَس من رَّوح الله والقُنوط من رحمة الله، وقد قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[الحجر: 56].
بأيِّ شيء يحصل الرجاء؟ ونحن نتَكلَّم في العبودية، وتوحيد الأُلوهية، وتوحيد العبادة، فبأيِّ شيءٍ يحصُل الرَّجاء؟ يحصل بأن تَشهد كرمه وإنعامه وإحسانه إلى عباده، وهذا موجود في الواقع، فإذا شهدت ذلك فيحصل لك من الرَّجاء ما يحصل.
ثانياً: صدق الرَّغبة بما عنده من الثَّواب والنَّعيم، ولا شك إذا كان عندك علم بتفاصيل ما في الجنَّة وتفاصيل الثَّواب يزداد رجاءك.
ثالثاً: التَّسلُّح بصالح الأعمال والمسابقة بالخيرات، إذ يتحقق الرجاء، للذي عنده رصيدٌ يرجوا عليه أجراً وثواباً، فالَّذي ليس عنده أعمال فلابُّد من بَذل أسباب وعمل طاعات يرجوا عليها القَبُول والثَّواب، ومضاعفة الأجر، فلابُّد من اجتماع عبادة الخوف والمحبة والرجاء في قلب العبد؛ لأنَّ الاختلال يُوَلِّد شيئاً خطيراً، فلو يعبده بالحُبِّ وحده فهو زنديق، والذي يعبده بالخوف وحده فهو من الخوارج، والذي يعبده بالرجاء واحده فهذا من المتواكلين العاجزين، فلا يمكن أن يكون هناك عبادة صحيحة إلا بهذه الثلاثة، ولذلك قال بعض السلف: "من عبد الله بالحُبِّ وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو خارجي، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد"[العبودية: 112].
العبادات أربعة أقسام
والعبادات على كثرتها وانتشارها إذا نظرنا فيها وجدنا أنها تنقسم إلى أربعة أنواع:
أولاً: العبادات القلبية: وهي التي ترجع إلى عمل القلب وحده، وتُعتَبر أساساً لما وراءها من العبادات القوليَّة والعمليَّة.
ثانياً: العبادات القولية، ونعني بها: العبادات التي تَتَعلُّق باللِّسان، وهي كثيرة جداً مثل الحمدلة والحوقلة والشهادة والذكر والاستغفار والاستغاثة والدعاء والتسمية ونحو ذلك.
ثالثاً: العبادات البَدنيَّة، وهي التي تَتَعلُّق بالجوارح، كالصَّلاة والصِّيام والحج والجهاد بالنفس والسجود والركوع، فكلُّ عبادة يفعلها البدن أو عضو من البدن فهو داخل في هذا النوع من العبادات.
رابعاً: العبادات الماليَّة، وهي التي نَعبُد الله بها بأموالنا من الصدقات والذبائح والنذور والزكاة على رأسها، والنَّذر ليس بواجب ابتداء وقد ورد النَّهي عنه لكن إذا نذر لزمه الوفاء بشروط معروفة.
هذا ما يتعلق بالعبادة والعبودية وتوحيد العبودية، فما فضل توحيد العبودية وتوحيد الأُلوهية، وتوحيد القصد؟
فضل تَّوحيد الأُلوهية
أما فضله فإنه أولاً: أعظَم نعمةٍ أنعمها على عباده حيث هداهم إليه، والله جعل نعمة التَّوحيد فوق كل نعمة، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ[النحل: 2].
وثانياً: أنَّه الغاية من خلق الجنِّ والإنس وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
ثالثاً: أنه الغاية من إنزال الكُتُب ومنها القرآن الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ[هود: 2].
رابعاً: أنَّه أول واجب دعت إليه الرَّسل، أول دعوة الرسل وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ[النحل: 36].
خامساً: أنَّه أولُّ واجب على المكلَّف.
سادساً: أنَّه السَّبب الأعظم لتفريج الكربات.
سابعاً: من حقَّقَه دخل الجنَّة بغير حساب ولا عذاب.
ثامناً: أنَّه يمنع من الخلود في النَّار، وهذا فائدة عظيمة، فالمُوحِّد إذا حقق التَّوحيد حتى لو كان عاصياً يمتنع من الخلود في النَّار. وإذا كمُل التَّوحيد في القلب مُنِع من دخول النَّار بالكُّليَّة.
تاسعاً: أنَّ جميع الأعمال متوقِّفة في القبول على التَّوحيد.
عاشراً: أنَّ الشَّارع احتاط له أعظم الحيطة في الأقوال والأفعال والنيات، وجعل الوسائل إليه ممنوعة، فقد حرَّم الشَّارع الحَلفَ بغير الله، وحرَّم الرِّياء، وحرَّم الطِّيَرة، وحرم بناء المساجد على القبور، والصلاة في المقابر، كلُّ ذلك سدَّ طُرق الشِّرك، والسِّجود لغير الله، حتى سجود التَّحيَّة كان في شرع يوسف مسموحٌ وفي شرعنا ممنوع، وهذه الشريعة أكمل الشَّرائع، سددت الطُّرق الموصلة إلى الشِّرك.
أساليب القرآن في تحقيق توحيد الأُلوهية
وقد جاء القرآن بتحقيق توحيد الألوهية بأساليب كثيرة، فمن ذلك:
الاستدلال بالمقدِّمات عليه، ومن أدلتها توحيد الرُّبوبية، وهو من المقدِّمات الضَّروريَّة المتَفق عليها، وتؤدي إلى توحيد الأُلوهية أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ[النحل: 17].
فلا يمكن لشخص يُوحِّد تَوحيدَ الأُلوهيَّة إلا إذا كان مُقرَّاً بتوحيد الرُّبوبية، فمن أفرد اللهَ بالإحياء والإماتة والرِّزق والبَعث وإنزال المطر والضُّر والنَّفع، واعتقد أنَّه هو المحيي الميت المبدئ الذي يبدأ الخلق فيجب عليه الخطوة التي تليها وهي أن يعبدَه، وهكذا جاءت الآيات، تجد أنَّ الله ذَكرَ في سورة الرُّوم وسورة النمل وسورة الأنعام فيها آيات كثيرة، فالنَّحل التي هي سورة النِّعم فيها آيات كثيرة في ذكر ربوبيته ومِنَّته على عباده، حتى يعرفوا أنَّه لابُّد من عبادته، فقرَّر الله توحيد الأُلوهية بتوحيد الرُّبوبية، وأعطانا مُقَدِّمةً من توحيد الرُّبوبية توصل إلى توحيد الأُلوهية.
ثانياً: الأقيس الإضمارية، ولا حرج من استعمال مثل هذه الأسماء، فالأقيس التي تُحذف فيها إحدى المقدِّمات، مثال يوضح المقصود: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ[آل عمران: 60].
هذه الآية فيها دليل قويٌ في مسألة مُهمَّة في الرَّد على النَّصارى، سننطلق من مُقدِّمة ونأتي بعدها بنتيجة، فما هي المقدِّمة؟ فالمقدِّمة إثبات مماثلة آدم لعيسى،إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ولكن لم يَذكر أيَّ مُقدِّمة أخرى، لكن لو نظرت إلى النَّتيجة مثل آدم عند الله كمثل عيسى خلقه من غير أبٍ، وهو ردٌ على النَّصارى الذين قالوا هذا ابن الله، نقول: عيسى ليس له أبٌ؟ فآدم أيضاً ليس له أب، فهو لم يَذكُر كلَّ المقدِّمات إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ فالمقدِّمات الأخرى التي لم تُذكَر مثلاً: إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من غير أبٍ، كما خلق آدم من غير أبٍ، فلو كان عيسى أبناً لله لكان آدم أبناً لله من بابِ أولى، وبما أنَّكم لا تقولون أنَّ آدم ابن لله إذاً عيسى ليس ابن لله، هذا نوع من الحوار والإقناع، فاستخدم هذا الحوار مع أي نصراني زعم ذلك في عيسى ابن مريم، إضافةً إلى أن آدم ليس له أمٌّ فهو الأجدر إن يكون ابن الله، لكن لا هذا ولا هذا ولده.
وأما قِياس الخُلف: وهو الذي يتَّجه فيه المتكلِّم إلى إثبات المطلوب بإبطال نقيضه، لكن إذا أثبتَ لا يذكر المطلوب مباشرةً، بل إذا أبطل النَّقيض أثبتَ المطلوب، طريقة أخرى في الإقناع، مثلاً: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا[الأنبياء: 22].
فما هو الشيء الممتنع؟ وجود أكثر من إله، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22]. فأبطل النَّقيض، والمطلوب هو التَّوحيد أنَّه إلهٌ واحدٌ، والنقيض أنَّه يوجد أكثر من إلهٍ، فمن طُرق الإقناع والإثبات لتَوحيد الأُلوهية إنَّك إذا أبطلت أنَّه يوجد أكثر من إلهٍ أثبت تلقائياً أنَّ الإله واحد، فهذه من طرق القرآن، هم يُسمُّونه قياس الخُلف، وسمها ما شئت، لكن لابُّد أن تفهم الذِّكرى كيف أن الله أبطل النَّقيض الذي هو وجود أكثر من إله؟ قال: لَفَسَدَتَا، لو كان في أكثر من إله فكل سيكون له رأياً، فهذا يقول: أنا أُحرِّكه، وهذا وهذا يقول أنا أُسكَّنه، وذاك يقول: أنا أحييه، والاخر يقول أنا أميته، أو يقول: أنا أُنزل المطر، يرد الآخر بل أنا أنزل المطر، فإذاً تفسد الأرض وتتحطم وتزول إذاً وجود أكثر من إلهٍ، فلا حل إذاً إلا أن يكون إله واحد.
وسلك القرآن كذلك في تقرير توحيد الأُلوهية أيضاً بالقصص، وهي من الأساليب العظيمة في الإقناع والتفكير، وقد جاء في ذلك عددٌ منها في القرآن الكريم، مثل قصة إبراهيم مع أبيه في إثبات توحيد الأُلوهية، وهذا أسلوب التَّشويق والجذب للأفهام، وقد يكون أكثر تأثيراً في القلوب.
وقد أمر الله بعبادته وترك ما سواه وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا[النساء: 36]. وكذلك أخبر أنَّه أرسل جميع الرُّسل بتوحيد الأُلوهية، وخلق الخلق لعبادته كما تقدَّم.
والاستدلال على وجوب عبادته سبحانه بانفراده بصفات الكمال فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[مريم: 65]. إذا كان ليس له سمياً ولا نظيراً ولا شبيهاً ولا أحداً في مثل أسمائه وصفاته فهل يستحق أحد أن يُعبد غيره؟ فهذه من طُرق القرآن في تقرير توحيد الألوهية.
وكذلك تعجيز آلهة المشركين قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا[الإسراء: 56]. ادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فتعجيز الآلهة الأخرى تقرير لتوحيد الألوهية.
ومنها تَسفيه المشركين الذين عبدوا غير الله قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[الأنبياء: 67].
ومن الأساليب كذلك بيان عاقبة المشركين الذين يُشركون في توحيد الأُلوهية وبيان مآلهم وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ[البقرة:166]. وهؤلاء عندهم شرك في المحبة؛ لأنَّ الله قال في التي قبلها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ[البقرة: 165]. إذاً: شرك المحبة، هو شرك في الأُلوهية، فهذه إذاً قضية الشِّرك في توحيد الأُلوهية.
ورود توحيد الأُلوهية والرُّبوبية في القرآن والسُّنَّة
تأتي مسألة توحيد الألوهية والربوبية من جهة الوُرود في القرآن والسُّنَّة، مثلاً: تَرد أحياناً الأُلوهية والرُّبوبية غير داخلة فيها، وقد تَرد الرُّبوبية والأُلوهية غير داخلة فيها، حتى نعرف الفرق بين التَّوحيدين، لأنَّنا ذكرنا في أول الدرس أنَّ مشكلة كثير من المسلمين أنَّهم يؤمنون بتوحيد الرُّبوبية فقط، ويقولون هذا هو التَّوحيد، فلا تنكر علينا أنَّنا ذهبنا إلى وليٍّ، وإلى قبرٍ واستغثنا، يقول: نحن اعترفنا أنَّه مخترع الوجود، وهو الذي خلق السموات والأرض، وهذا هو التوحيد، وكوننا نذهب إلى الولي ونستغيث وننذر فهذه أشياء أخرى، لاتمسُّ جناب التَّوحيد، وكلٌّ على مذهبه، أنت مذهبك حنبليٌّ وأنا حنفيٌّ وهكذا، فلا إنكار مادام أننا متفقون، مثل قضية تقارب الأديان فبعض المشركين يعملون في الصُّوفية والبعض يعملون مع الموَحِّدين، ومع ا