الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ضوابط توحيد الألوهية
فنحن مع عقيدة المسلم قواعد وضوابط ضوابط في العقيدة الإسلامية، ومع توحيد الألوهية:
الضابط الأول: العبادة هي الغاية من خلق الخلق
والقاعدة الأولى فيه: العبادة هي الغاية من خلق الخلق، عبادة الله تعالى هي الغاية المحبوبة والمرضية التي خلق الله لأجلها الخلق، كما ذكر في قوله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
وبهذا أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[الأعراف: 59].
وكما قال هود وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء لأقوامهم، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل: 36].
وجعل الله هذا لازمًا لرسوله ﷺ إلى الموت، كما قال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
ووصف ملائكته وأنبياءه بهذا فقال: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ[الأنبياء: 19]، يعني: لا يعيون ولا يتعبون يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[الأنبياء: 20]، لا يكلون، ولا يملون، وقال ذامًا المستكبرين عن هذا: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر:60].
الضابط الثاني: لا تكون العبادة عبادة إلا بكمال الحب، وكمال الخضوع
الضابط الثاني أو القاعدة الثانية: لا تكون العبادة عبادة إلا بكمال الحب، وكمال الخضوع، فالعبادة روحها وحقيقتها وتحقيقها الحب والخضوع لله، وهذه حقيقة العبادة، فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو أحدهما فليست عبادة؛ لأنها حقيقتها الذل والانكسار لله، ولا يكون ذلك إلا مع محبته التامة التي تتبعها المحاب كلها، وتتقيد بها، والحب الخالي عن الذل، والذل الخالي عن الحب لا يكون عبادة، فالعبادة لا بدّ أن تجمع الأمرين كمال الحب وكمال الذل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل بغاية المحبة له سبحانه"، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له، كما قد يحب ولده وصديقه، وكذلك قد يخضع لسلطان وهو يبغضه.
قال شيخ الإسلام: "ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء، بل لا يستحق المحبة، والذل التام إلا الله". [العبودية لابن تيمية: 1/5]. انتهى.
وقد قال في شأن المحبة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ[التوبة: 24].
قال ابن القيم رحمه الله: "والعبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول طريق معبد أي: مذلل، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له، حتى تكون محبًا خاضعًا" [مدارج السالكين: 1/74].
الضابط الثالث: لا تقبل العبادة إلا بالإخلاص والمتابعة
القاعدة الثالثة: لا تقبل العبادة إلا بإخلاص ومتابعة، ولا يقبل العمل أو العبادة إلا إذا توفر فيه هذان الشرطان: الإخلاص لله وحده، والمتابعة لرسوله ﷺ، والموافقة لشريعة رب العالمين، كما قال سبحانه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف: 110]، ما هو العمل الصالح؟ الذي جمع هذين الأمرين: الإخلاص، والموافقة لشرع الله، وقوله : فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا[الكهف: 110] أي صوابًا: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف: 110] أي خالصًا، فهذان ركنا العمل المتقبل لا بدّ أن يكون خالصًا لله صوابًا على شريعة الله، وقال : وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء: 125]، فلا عبرة بالعمل ما لم يكن خالصًا لله، صوابًا على سنة رسول الله ﷺ.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك: 2]، قال: "أخلصه وأصوبه" قالوا: يا أبا علي وما أخلصه؟ وما أصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، انتهى كلامه رحمه الله [حلية الأولياء: 3/394].
وإذا كان ليس على السنة فهو مردود؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[مسلم: 1718]، وإذا كان موافقًا للشريعة، وعلى السنة في الصورة الظاهرة، ولم يخلص صاحبه لله فهو مردود أيضاً، وهذا حال المنافقين والمرائين، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء: 142].
والنبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال، فما عملت بها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، لكنك قاتلت لأن يقال: جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم الحديث [مسلم: 1905].
الضابط الرابع: لا تكون العبادة عبادة إلا بكمال الحب، وكمال الخضوع
القاعدة الرابعة: كل ما ثبت أنه عبادة فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك، فهذا يعني أن العبادة لا بدّ أن تصرف لله وحده، وهذا هو التوحيد الذي لأجله خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئًا فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئًا من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين.
ثم قال: "حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شيء، وهو التوحيد في الأفعال، وهذه حال مشركي العرب الذين بعث الرسول إليهم ابتداء، وأنزل القرآن ببيان شركهم، ودعاهم إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له، فإنهم كانوا يقرون بأن الله وحده هو الذي خلق السماوات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في القرآن" [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعمهم الكلامية: 1/478].
إذاً لا يكفي أن يقول: أنا أعتقد وأقر أن الله وحده خالق كل شيء، نقول: حتى تصرف العبادة له وحده لا شريك له، أما مجرد أن تقر أن الله خلق السماوات والأرض؛ أقر بذلك كفار قريش لكنهم ما عبدوا الله وحده لا شريك له، عبدوا الله وعبدوا معه غيره، أو عبدوا غيره، أشركوا مع الله في العبادة.
وقال في درأ تعارض العقل والنقل: "أن الرجل أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحدًا، بل ولا مؤمنًا، حتى يشهد ألا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له" انتهى [درء تعارض العقل والنقل: 1/151].
فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد، وإيمان، وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر.
قال العلامة السعدي رحمه الله: "فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء. [القول السديد: 1/54].
الضابط الخامس: من دعا غير الله بشيء لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك
الضابط الخامس والقاعدة الخامسة في توحيد الألوهية: من دعا غير الله بشيء لا يقدر عليه إلا الله سواء كان المدعو حيًا أو ميتًا فقد أشرك؛ كمن دعا الأموات والغائبين، أو سأل الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، أو سأل الحي حاجة لا يقدر عليها، كشفاء مريض، ومغفرة ذنب، ونحو ذلك فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة، لماذا لأن الدعاء عبادة لا تصرف إلا لله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر: 60].
ودعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، دعاء لهم على وجه لا يليق إلا بالله -تعالى-، قال موبخًا الذي يقع في هذا النوع من الشرك دعاء الأموات: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ[الأحقاف: 5]، خلاص هو الآن مشغول بالبرزخ وما صار إليه غافل عنك، ويوم القيامة سيتبرأ ممن ناداه هذا النداء الشركي، كما قال سبحانه: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ[الأحقاف: 6]، فإذاً الذين يستغيثون بالأموات فيقول: مدد يا سيدي، مدد، وكما قال بعضهم في مولد البدوي: نحن نحتفل بالسيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر أو البحر أجاب، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، وكذلك الرافضة الذين يدعون عليًا والحسين ليل نهار، حتى لو نزل الطلق بامرأة منهم تركت دعاء الله، وقالت: يا علي أغثني، خلصني، الحقني.
ماذا لو سأل الحي القادر من الإنس حاجة؟
الجواب: لا بأس بذلك لو سأل حيًا حاضر قادرًا أن يقضي له حاجة، فلا بأس بذلك، ولا إشكال في ذلك، كما لو قال لشخص عنده طعام: أطعمني مما رزقك الله، لا حرج، خلص لي هذه المعاملة، أقرضني هذا المال، لكن يأتي الشرك عندما يدعو ميتًا، أو يدعو حيًا بما لا يقدر عليه، فلو قال: يا دكتور اشف المريض شرك؛ لأنه لا طبيب ولا غيره لا يقدر على الشفاء، لأن الشفاء خاص بالله تعالى، لكن لو قال: يا دكتور عالج مريضي لا مانع؛ لأن العلاج يستطيعه الطبيب، وكذلك لو أنه شب في بيته نار فقال للجار: الحقني أغثني، لم يكن في ذلك بأس، لكن لو قال: لميت أو غائب الحقني كان ذلك من الشرك، لأن هذا الميت أو الحي الغائب لا يقدر على إغاثته، فيكون دعاؤه كدعاء الله هنا؛ لأنه في هذا الموضع لا يمكن أن ينفعه أحد إلا الله، فلو نادى غير الله في موضع لا ينفعه أحد إلا الله، كان من الشرك.
إذاً لو سأل الميت شرك، لو سأل الحي الغائب شرك، لو سأل الحي الحاضر ما لا يقدر عليه شرك، لو سأل الحي الحاضر القادر شيئًا يستطيعه فلا إشكال في صحة ذلك.
الضابط السادس: تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله شرك أكبر
الضابط السادس: تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله شرك أكبر، وهذه التسوية قد تكون في الربوبية، تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الربوبية، مثل الإحياء، الإماتة، الرزق، الضر، النفع، ونحو ذلك من سوى غير الله بالله في الربوبية فقد أشرك بربوبيته سبحانه، قال تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ[فاطر: 3].
وقد تكون التسوية في الأسماء والصفات، تسوية غير الله بالله في اسم من الأسماء أو صفة من الصفات، كما أسرج بعضهم قبرًا، وزينه وبنى عليه، ورفعه، ثم بخره وطيبه، فلما دخل عليه بعض الجهلة من المسافرين، قال: أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين، من هو أرحم الراحمين؟ الله ، أو قال لشخص: يا ملك الملوك، أنت ملوك الملوك، أشرك بالله في أسمائه وصفاته، أو وصف شخصًا بأنه الرزاق، أو المحيي، الميت، فهذا أشرك بالربوبية من جهة، وبالأسماء والصفات من جهة أخرى.
وكذلك يكون الشرك في الألوهية، وهو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الألوهية كالصلاة، والصيام، والدعاء، والاستغاثة، والذبح، والنذر، ونحو ذلك فمن قال مثلاً أذبح ذبيحة لله وذبيحة للولي، هذا أشرك مع الله في الألوهية، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ[البقرة: 165]، وقال تعالى عن الكفار المشركين: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ[الأنعام: 1]، يعدلون يسوون، فالكفار يجعلون لله عديلاً، والعدل هو التسوية، يقال عدل الشيء بالشيء، إذا سواه به.
قال ابن القيم رحمه الله: "أي يجعلون له عدلاً في العبادة، والمحبة، والتعظيم، وهذه التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وآلهتهم، تعالى الله عن فعلهم، وسيعترفون في النار يوم القيامة أن هذا ضلال، الذي فعلوه، فيقولون لآلهتهم وهم في النار معهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ[الشعراء: 97-98]، "ومعلوم -كما يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان- أنهم ما سووهم به في الذات، ما قالوا: ذات اللات هي ذات الله، أو مثل ذات الله، ما سووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السماوات والأرض، وأنها تحيي الموتى، إذاً أين الشرك قال ابن القيم: وإنما سووها بها في محبتهم لها، وتعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، كأن ينذروا لها، أو يدعونها، أو يذبحون لها، أو يستغيثون بها، ونحو ذلك إذاً هذا شرك في الإلهية [إغاثة اللهفان: 1/61].
الضابط السابع: تسوية غير الله بالله في اللفظ فقط شرك أصغر
الضابط السابع: تسوية غير الله بالله في اللفظ فقط شرك أصغر، إذاً ليس فيما هو من خصائص الربوبية، ولا الأسماء والصفات، ولا الألوهية يصرفون لهم عبادة، أو يسوونه، ويسوون هذه المشاركات يسونها بالله بالعبادة، الآن نتكلم عن تسوية غير الله بالله في اللفظ فقط، وهو ما يعرف بشرك الألفاظ، وهو ما يجري على ألسنة بعض الناس، بجهل، أو بغير قصد، وكثير ما لا يقصد القائل تشريك غير الله مع الله، أو تعظيم غير الله مع الله، لكن يجب عليه أن يغير؛ لأنه منكر، وأن ينتبه، وأن يتوقى، وهذا النوع من الشرك هو الشرك الأصغر الذي لا يخرج صاحبه عن الملة باتفاق العلماء، لأنه لم يصرف عبادة لغير الله ، ولم يشرك مع الله في ربوبيته أو أسمائه وصفاته، ولكن هذا الشرك الأصغر محرم، يجب الانتهاء عنه، والتوبة منه، ومن شرك الألفاظ التي ورد الشرع بالنهي عنها، قول: ما شاء الله وشئت، عن قتيلة أن يهوديًا أتي النبي ﷺ فقال: "إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت" وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" [المستدرك: 7815، وصححه السلسلة الصحيحة: 1166].
والسبب أن هذا القائل جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية، وهو الواو، وأما ثم فإنها تدل على الترتيب والتراخي، وقد قال تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة: 22].
وشرك الألفاظ له أمثلة كثيرة:
كقول القائل: لولا الله وفلان، والواجب عليه أن يقول: لولا الله ثم فلان، لا تجعل الخالق والمخلوق بمنزلة واحدة، لا تعطف هذا على هذا في مثل قضية المشيئة، والاعتماد، ونحو ذلك.
فمن الألفاظ الشركية قول القائل: أنا في حسب الله وحسبك، ما لي إلا الله وأنت، هذا من الله ومنك، هذا من بركات الله، وبركاتك الله لي في السماء، وأنت لي في الأرض عليّ نذر لله، ولفلان أنا تائب لله ولفلان، أرجو الله وأرجوك، بسم الله والوطن، بسم الله والشعب فهذه كلها ألفاظ شركية؛ لأنه جرى فيها التسوية بين الخالق والمخلوق، وعطف الخالق على المخلوق، ولو قال القائل: أنا لا أقصد أن مشيئة المخلوق مثل مشيئة الخالق، أنا لا أقصد الاعتماد على المخلوق كالاعتماد على الخالق، نقول: لو اعتقدت هذا شرك أكبر مخرج عن الملة، لكن تسويتك به باطلة، وشرك في اللفظ، وإن لم يخرج عن الملة لكنه حرام، ويجب عليك أن تتوقاه، وقد حذر منه النبي ﷺ، وقال للقائل: أجعلتني لله نداً؟النسائي في الكبرى: 10825، والسلسلة الصحيحة: 139].
فالأكمل أن يقول: ما شاء الله وحده، والجائز ما شاء الله ثم شئت، الأكمل أن يقول: اعتمدت على الله، والجائز أن يقول: أعتمد على الله ثم عليك.
ولكن إذا كان الفعل لا يجوز إلا لله وبالله، فلا يجوز أن يذكر مع الله غيره حتى بثم، كقول القائل: أعبد ثم أعبدك، لا يجوز، حرام توكلت على الله ثم عليك؛ لأن التوكل اعتماد كلي بالقلب، فلا يتأتى للمخلوق حتى بثم.
ومن الألفاظ التي ظاهرها التشريك "ملك الأملاك، وقاضي القضاة" قال عليه الصلاة والسلام: إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك[البخاري:6205] قال سفيان يعبر بالفارسية: مثل شاهان شاه، بالفارسية ملك الملوك، شاه يعني: ملك، وقوله عليه الصلاة والسلام: أخنعيعني أوضع، أحقر، أذل، أسوأ.
وقال النبي ﷺ: أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثهم وأغيظه عليه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله[مسلم: 2143].
لأنه عندما يلقب نفسه ملك الملوك، أو ملك الأملاك، فهو يريد أن يشارك الله فيما تفرد به سبحانه؛ لأنه هو فقط ملك الملوك، وإليه الملك، وكل سلطان فان إلا سلطانه، وكل ملك ذاهب إلا ملكه ، وترى في الواقع أحيانًا كيف يلحق هذا الذل والخنوع من تسمى بذلك، فهذا شاه إيران السابق كان يلقب نفسه به، ولا تزال نشرات أخبار إذاعته وقنواته فيما سبق تلقبه بهذا اللقب شاهان شاه، فماذا حصل خلع من ملكه، وصار ذليلاً، وأصيب بالسرطان، وطيف به في الأجواء يطلب النزول للعلاج في البلدان المتقدمة طبيًا، فلا يؤذن حتى عاد خائبًا إلى بلد من البلدان، لينزل فيها، فيموت بما يسمى بدول العالم الثالث، وهذه آية من آيات الله، كيف أذله قبل أن يموت، تسمى ملك الأملاك فأذله الله ، وقاضي القضاة قريب من ذلك، فإن القضاء المطلق لله ، وهو الذي يقضي بين العباد، كما يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، فإذاً هذه الألفاظ إذا اعتقد صاحبها بها وأن هذا مثل الله فهذا شرك أكبر، وإذا ما اعتقد وإنما جرت على لسانه بغير اعتقاد فهذا شرك أصغر محرم، يجب عليه الامتناع عنه، وبعض القبوريين إذا قيل له: احلف بالله حلف بالله كاذبًا، وإذا قيل: احلف بالولي لم يحلف إلا صادقًا، كأنه يخشى أن ينتقم منه الولي في قبره.
ماذا لو قال القائل: أنا بالله وبك؟ كذلك حرام لا يجوز، وما حكمها؟ هل هي شرك أكبر أو شرك أصغر؟
على حسب عقيدة صاحبها.
الضابط الثامن: أعمال القلوب لا تكون شركاً إلا إذا اقترنت بالخضوع والتعظيم
الضابط الثامن: الخوف، والرجاء، والحب، وغيرها من أعمال القلوب لا تكون شركًا إلا إذا اقترنت بالخضوع والتعظيم، فالخوف الشركي هو أن يخاف من مخلوق خوفًا مقترنًا بالتعظيم والخضوع والمحبة، ومن ذلك الخوف من صنم، أو من ميت خوفًا مقرونًا بتعظيم ومحبة، فيخاف أن يصيبه بمكروه بمشيئته وقدرته، يخاف أن يصيبه بمرض، بآفة في ماله، يغضب عليه، ويسلبه النعمة، هذا من الشرك الأكبر؛ لأنه صرف عبادة الخوف والتعظيم لغير الله، واعتقد النفع والضر في غير الله، قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ[التوبة:18].
قال ابن عطية المالكي الأندلسي رحمه الله: "يريد -يعني في الآية- خشية التعظيم، والعبادة، والطاعة". [المحرر الوجيز: 3/18].
ما هي المحبة الشركية؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ[البقرة: 165].
الجواب: أن يحب مخلوقًا محبة مقترنة بالخضوع والتعظيم؛ لأن هذه هي محبة العبودية، والتي لا يجوز صرفها لغير الله فمن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك الأكبر.
الضابط التاسع: ما يقدح في أصل التوحيد شرك أكبر، وما يقدح في كماله شرك أصغر
الضابط التاسع: ما يقدح في أصل التوحيد شرك أكبر، وما يقدح في كماله شرك أصغر، فالشرك الأكبر والشرك الأصغر يجتمعان في إرادة غير الله سبحانه، لكن الشرك الأكبر إرادة تامة لغير الله ، يقدح في أصل التوحيد، والشرك الأصغر إرادة لغير الله لكنها غير تامة، فهو يقدح في كمال التوحيد، لا في أصله، فالشرك الأكبر صرف عبادة محضة لغير الله، يدعو غير الله، يستغيث بغير الله، يذبح لغير الله، يصلي لغير الله، يسجد لغير الله، يحب غير الله محبة تامة محبة خضوع وتعظيم، محبة تأليه، أو يخاف خوف السر من غير الله تعالى، فهذا فلان بعيد عنه، ولا يدري به، وهو يخاف أن يضره كما يخاف أن يفعل الله به سوءًا، هذا فلان من البشر ميت، بعيد، غائب، ليس له أي سلطة عليه، وهو يخاف أن يفعل به سوءًا، كما يخاف أن يمسه الله بسوء، هذا خوف شركي، المخلوق هذا غير قادر، ولا يدري عنه أصلًا، لكن هذا شعوره خوف من ذاك، وأنه يمسه بسوء، وأنه يضره، وكذلك إذا توكل على غير الله التوكل التام، وكل ذلك شرك أكبر مخرج عن الملة، صاحبه كافر خالد في النار، عقيدته شركية.
أما الشرك الأصغر الذي ليس فيه صرف عبادة لغير الله، فهو وسيلة من وسائل الشرك؛ لأنه ليس عبادة محضة، لكن وسيلة مفضية إلى الشرك، فهو حرام، ويجب الامتناع عنه، ويجب توقيه، لكن لا يكفر صاحبه كفرًا أكبر، ولا يخرج عن الملة.
فما هو ضابطه؟ كل ما كان ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه، ونهى عنه الشرع، فهو شرك أصغر.
الضابط العاشر: من اتخذ سببًا لم يثبت بالشرع ولا بالتجربة فقد أشرك شركًا أصغر
الضابط العاشر: من اتخذ سببًا لم يثبت بالشرع ولا بالتجربة كونه سببًا فقد أشرك شركًا أصغر، لأن الأسباب التي تأتي بضر أو تجلب نفعًا: إما أن تكون شرعية، أو تكون حسية:
فالسبب الشرعي: ما جعله الله سببًا في الشرع، بنص آية، أو حديث، مثل الدعاء، الرقية الشرعية، فهذا سبب شرعي، لجلب الخير للعبد، أو دفع الضر عنه بإذن الله تعالى الذي شرع هذه الرقية، والذي أنزل هذه الآيات التي يستشفى بها، أو يدفع بها الضر بإذنه، سبب شرعي لدفع الضر أو جلب الخير أذن به الله.
وأما السبب الحسي: فهو كل ما ثبت بالتجربة، والعلم الدنيوي هذا، أو حتى ثبت من طريق الشرع، أنه يدفع الضر أو يجلب النفع، مثل: الحبة السوداء، مثل العسل، مثل السنا، العود الهندي، القسط البحري.
ما هي الأسباب الطبيعية الحسية في جلب منفعة أو دفع مضرة؟ مثلاً: شرب الماء سبب لإزالة العطش، أكل الطعام سبب لإزالة الجوع، التدثر باللباس سبب في الوقاية من البرد، وهذه الأدوية المجربة مضاد حيوي، خافض حرارة، مسكن آلام، ثبت بالتجربة، الله جعل في الدنيا أدوية: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله[أحمد: 3578، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 451].
هذه الأسباب الأشياء التي عرفت، واكتشفت، وجربت، وثبت نفعها استعمالها على اعتقاد أنها تنفع إذا شاء الله، وإذا لم يشأ لم تنفع، استعمالها صحيح مباح لا حرج فيه، وإذا شاء ربك سلب الخاصية، كخاصية الإحراق عن النار التي ألقي فيها إبراهيم ، لكن من اتخذ شيئًا لم يثبت أنه سبب ليدفع به أو يجلب به، فهذا شرك، مثال تعليق التمائم لدفع العين مثلاً، أو جلب الخير والبركة، هذه خطيرة.
عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك [رواه أبو داود: 3883]، وهو حديث صحيح. [السلسلة الصحيحة: 331].
قوله: التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم ليتقون بها العين بزعمهم.
والتولة نوع من الخرز يوضع، فتحبب به المرأة إلى زوجها، والعكس على زعمهم.
قال هذه شرك لأنه لم يثبت، ولا جاء في الشرع أنها تفعل هذا الفعل، ولا تؤثر هذا التأثير.
وعن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله ﷺ أقبل إليه رهط فبايع تسعة، وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة، وتركت هذا.
قال: إن عليه تميمة، فأدخلها، فقطعها، فبايعه، وقال: من علق تميمة فقد أشركرواه أحمد، وهو حديث صحيح [أحمد: 17458، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 492].
فمن علق التمائم، الخرز، الودع، الأساور من أي نوع كان يعتقد أنها تجلب نفعًا أو تدفع ضرًا، فهذا الإنسان عمل عملاً شركيًا، وكذلك من طلب البركة في أشياء لم تثبت في الشرع بركتها؛ فقد أتى بفعل شركي، فمن تمسح بمقام إبراهيم، أو مدخل جبل النور، أو غار جراء، أو ثياب الصالحين، وبيوت الصالحين، فقد وقع في الشرك، لماذا؟ لأن الشرع لم يأت بأن التمسح بهذه الصخور والأحجار يجلب البركة، فالتمست البركة من شيء لم تثبت البركة فيه، بخلاف ما لو شرب ماء زمزم تبركًا، ورجاء للبركة التي جعلها الله في ماء زمزم، فاغتسل به، ومسح به وجهه، وتوضأ به، وشربه.
وكذلك من استعمل الرقية نفثًا، أو قرأ في ماء وشرب يلتمس بركة القرآن، وقد جعل الله فيه بركة، فنقول: لإخواننا وأخواتنا من الذين يعلقون اليوم أنواعًا من الأساور، وأنواع من هذه المعلقات في الأعناق، أو يربطونها على العضد، أو يضعونها حول البطن، أو الخصر، نقول: فعلكم فعل شركي من شرك الأسباب؛ لأنكم علقتم أشياء التمستم بها جلب منفعة أو دفع مضرة، ولم يثبت ذلك في الشرع، وبناء عليه ففعلكم فعل شركي، هذه بعض الضوابط في توحيد الألوهية، أو في مسائل تتعلق بالتوحيد.
ضوابط في باب التوسل
ننتقل الآن إلى ضوابط في باب التوسل، وهذا الباب أيضاً من أبواب العقيدة، التوسل هو تقرب العبد إلى ربه جل وعلا بالطاعات والأعمال الصالحة، والقرب، هذه الأشياء التي يتوسل تسمى وسيلة، وقد ذكرها الله في كتابه: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ[الإسراء: 57].
فالوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، وهي شرعًا الطاعات والأعمال الصالحة، لأن هناك وسائل شركية، وهناك وسيلة شرعية، فما هي الوسيلة يتوصل بها إلى المطلوب؟ إلى المقصود؟ فيدخل في التوسل جملة الدين، وكل ما جاء به النبي ﷺ من أصول الدين وفروعه التي يتقرب بها العبد إلى ربه ومولاه كل هذه وسائل مشروعة، تتقرب إلى الله، تتوسل إليه بالصلاة، ببر الوالدين أفعل.
أنواع التوسل:
التوسل نوعان:
توسل مطلق: وتوسل مقيد.
ما هو التوسل المطلق؟ جميع الأعمال الصالحة من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وصلة الرحم، يتوسل بها إلى مرضاة الله، الجنة، الثواب.
وأيضاً ممكن يتوصل بها إلى أشياء في الدنيا، مثل تفريج كربة في الدنيا، سعة الرزق، طول العمر، حصول بركة في المال، ونحو ذلك.
إذاً التوسل المطلق جميع الأعمال الصالحة التي تكون وسيلة إلى خير في الدنيا والآخرة.
المقيد هو دعاء الله تحديدًا، وسؤاله، والتوسل إليه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة وبالطاعات، وبدعاء العبد الصالح لإجابة الدعاء، وهذا هو التوسل المقصود عند الإطلاق، وهو الذي سنتكلم في ضوابطه؛ لأن التوسل المطلق أي عمل صالح أنت تعمل لله، هذا نوع توسل، لكن التوسل الذي نريد الحديث عنه، هو التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، أو بدعاء العبد الصالح، هذا التوسل المشروع.
الأصل في التوسل التوقف والمنع إلا بدليل شرعي
فالقاعدة الأولى، والضابط الأول: الأصل في التوسل التوقف والمنع إلا بدليل شرعي، يعني: أي توسل ممنوع إلا إذا ثبت شرعًا صحة هذا التوسل، فالوسيلة الدينية هي كل وسيلة دل على مشروعيتها دليل ثابت من الكتاب والسنة، فالتوسل دعاء، والدعاء عبادة، وقال: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر:60].
ودلت الأدلة على أن الأصل في العبادات المنع حتى يأتي الدليل على مشروعيتها، ولذلك لا يجوز لأحد يخترع عبادة ويقول: الأصل في الأشياء الإباحة، نقول: الأصل في الأشياء الإباحة، هذا في الأشياء الدنيوية: صواريخ، إشارات مرور، مركبات فضائية، أنظمة اخترع، ابتدع ما شئت، لكن في أمور الدين الأصل المنع، فكل توسل لم تدل على مشروعيته النصوص الشرعية فهو توسل محرم، ومبتدع.
التوسل المشروع
الضابط الثاني: التوسل المشروع هو التوسل بأسماء الله وصفاته، بالعمل الصالح الذي عمله الداعي، بدعاء الرجل الصالح، هذا هو التوسل المشروع باستقراء النصوص، وكل توسل قام به سلف الأمة ما يخرج عن هذه الثلاثة.
فإما أن يكون قد توسل بأسماء الله وصفاته، أو بعمل صالح، كأن يقول: اللهم أسألك ببري لوالدي، أسألك بصلاتي على نبيك، أسألك بتلاوتي وحفظي لكتابك، أسألك بصدقتي الفلانية، فهذا توسل إلى الله بعبادة قام بها له، كما أنه يتوسل إلى الله باسم من أسمائه تعالى.
النوع الأول: كما في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف:180]، يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث [الترمذي: 3524، صححه الألباني السلسلة الصحيحة: 227]، اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخير أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي[المستدرك: 1923، وصححه الألباني صحيح الجامع: 1301]، اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك [البخاري: 1162]، الدعاء الآخر: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك [أحمد: 3712، وصحيح الترغيب: 1822] الحديث.
نريد دليلاً من القرآن على النوع الثاني أن قومًا من الصالحين أو أحد الصالحين ذكره الله في القرآن؟ أو ذكرهم الله في القرآن توسلوا إليه سبحانه بعمل صالح؟ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[آل عمران: 16]، فتوسلوا إلى الله بإيمانهم به أن يقيهم عذاب النار: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا[آل عمران:193].
فتوسلوا بإيمانهم إلى الله أن يغفر لهم ذنوبهم، قصة أصحاب الغار الثلاثة معروفة، واحد توسل إلى الله ببر والديه، وواحد توسل إلى الله بإعراضه عن الزنا، وواحد توسل إلى الله بإعطاء الأجير حقه كله وزاد.
النوع الثالث: التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح، أو المرأة الصالحة، الصالح الحي، بحيث يدعو هذا الصالح ربه لمن طلب منه الدعاء، والأصل فيه حديث البخاري في قصة أنس أن أعرابيًا جاء إلى النبي ﷺ قال: هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، ودعا، والأسبوع الذي بعده دعا أن يمسك ما أغرق الناس، وبعد انتقال النبي ﷺ ماذا فعل عمر توسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح من قرابة النبي ﷺ، وهو العباس في طلب السقيا من الله.
كل توسل خرج عن الأقسام الثلاثة المشروعة، فهو توسل ممنوع
الضابط الثالث: كل توسل خرج عن الأقسام الثلاثة المشروعة، فهو توسل ممنوع مبتدع لا يجوز أن يقوم به إنسان.
والضابط: أنه إن تضمن شركًا كدعاء الموتى فهو من الشرك ،وإن لم يتضمن شركًا فهو حرام وبدعه، مثل التوسل بجاه الأنبياء والصالحين، إذاً لو توسل إلى الله بجاه الأنبياء والصالحين، نقول: بدعة محرمة، وإن لم يكن شركًا أكبر.
من أمثلة التوسل المحرم المبتدع:
التوسل إلى الله بسؤال الأموات، أو طلب الدعاء منهم بعد وفاتهم، ما حكم هذا التوسل إلى الله بسؤال الأموات ودعائهم أو طلب الدعاء منهم بعد وفاتهم؟ شرك أكبر.
التوسل إلى الله بذوات المخلوقين، أو جاه المخلوقين، أو حق المخلوقين، أو حرمة المخلوقين، هذا توسل مبتدع محرم.
فلو قال: أسألك بذات أبينا آدم، أسألك بجاه نبينا محمد ﷺ، ونحو ذلك، لماذا أليس له جاه؟ أليس له مكانة؟ نقول: بلى له جاه عظيم عند الله، وله مكانة عظيمة عند الله، لكن الله لم يشرع لنا أن نسأله بجاه نبيه، فهذا توسل لكن بدعي محرم، صحيح ما هو شرك أكبر، ولا يخرج عن الملة، ولا بد أن نزن الأمور بموازينها، وفائدة الضوابط كما علمنا أنها تمنع من الغلو، مثلاً نكفر من لا يكفر، لكن في ذات الوقت ما تجعلنا نميع الأمور، ويكون الشيء بدعي.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به". [الدر المختار: 2/630]، يعني: بالله، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف: 180].
وقال شيخ الإسلام: فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم، وبطاعتهم"، يعني: لو قال قائل: اللهم إني أسألك بمحبتي لنبيك، بصلاتي على نبيك، بموالاتي لنبيك، حكم هذا صحيح مشروع.
قال شيخ الإسلام: وأما نفس ذواتهم، يعني: أسألك بذات نبيك، بجاه نبيك، بحرمة نبيك، "فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد" [إقامة الدليل على إبطال التحليل: 3/5].
يعني: أسألك بذاته، لكن هذه تؤدي إلى حصول مطلوب العبد، هذا عمل صالح أنت تتقرب به إلى الله ليحصل لك مطلوب، لكن تتقرب إلى الله بذات نبيك، أين الشيء الذي يؤدي إلى حصول المطلوب؟ هل ذات النبي بذاته فقط ذاته تؤدي إلى حصول المطلوب؟ لا، لكن سؤال الله باتباعك له، بتأسيك بنيك، بمحبة بنبيك هو عبادة تؤدي إلى حصول المطلوب.
قال شيخ الإسلام، "وليس في ذلك" يعني في السؤال بذاته، أو جاهه، ما يقتضي إجابة دعاء غيرهم، إلا أن يكون بسبب منه إليه كالإيمان بهم، والطاعة لهم، يعني مثلاً: أسألك بطاعتي لنبيك، بإيماني بنبيك، أو بسبب منهم إليه كدعائهم له، وشفاعتهم فيه أيضاً.
"وأما الإقسام بالمخلوق فلا، وما يذكره بعض العامة -يقول ابن تيمية- "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم" حديث مكذوب موضوع [إقامة الدليل على إبطال التحليل: 3/5].
وقال العلامة سليمان بن عبد الله: "التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله بدعة منكرة، لم تأتي عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه والتابعين بإحسان، ولا الأئمة الأربعة، ونحوهم من أئمة الدين" [تيسر العزيز الحميد:1/ 198].
وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري رحمه الله: التوسل بحق النبي، أو الولي، أو بجاهه، أو بركته، أو بحق قبره، أو قبته قال: هذا مذموم منهي عنه بلا نزاع" القوال الجلي في حكم التوسل بالنبي والولي.
ومن العجيب أنك ترى بعض الناس يعرضون عن التوسل المشروع، تقول: يا أخي توسل بأسماء الله، يا أخي توصل بصفات الله، يا أخي توسل بمحبتك لرسول الله ﷺ، يا أخي توسل بأعمالك الصالح، ببرك لوالديك، وبصدقاتك، يقول: لا، أريد أتوسل بجاهه، أتوسل بذاته، وأتوسل بحرمته، طيب ما هو مشروع، ما عليه دليل، ما ورد أن التوسل بذاته يحصل به المطلوب من تفريج كربة مثلاً، ما ورد فيعمدون إلى الأدعية المخترعة، والتوسلات المبتدعة، وما لم يأت عن الله, ولا عن رسوله ﷺ، ويتوسلون به بالأمور المبتدعة، فما أجدرهم بقوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ[البقرة: 61].
ومن الشواهد كلام التابعي جسان بن عطية المحاربي رحمه الله قال: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة" رواه الإمام الدارمي بإسناد صحيح [سنن الدارمي: 98، وصححه الألباني مشكاة المصابيح: 188]، بهذا نكون قد انتهينا من ضوابط التوسل وضوابط في توحيد الإلهية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
-
خالد
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته الحقيقة انني استفدت كثير من هذا الدرس لاني كنت اقع كثير في الشرك الاصغر ، بارك الله فيكم و جزاكم الله عنا كل خير