الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

29- الشفاعة 1


عناصر المادة
حقيقة الشفاعة
أدلة ثبوت الشفاعة
المقام المحمود
مقام شفاعة النبي ﷺ ليريح الناس مما هم فيه
الذين يستحقون الشفاعة
الشفاعة في أهل الموقف من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام
متى تكون الشفاعة
أنواع الشفاعة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن من قضايا اليوم الآخر الكبرى ومما يحدث للعباد في عرصات القيامة، ومن قضايا العقيدة الكبار مسألة الشفاعة.

حقيقة الشفاعة

00:00:27

والشفاعة في اللغة الطلب، الشافع الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب، واسم الطالب شفيع، شفع لي فلان إلى فلان شفاعة، طلبه إليه في قضاء حاجته، وإنما قيل للشافع شفيع أو قيل للشفيع شفيع وشافع؛ لأنه ثنى المستشفع به فصار له شفعاً، فكان ذو الحاجة قبل استشفاعه به في حاجته فرداً فصار صاحبه له فيها شافعاً وطلبه في حاجته شفاعة، والشفاعة كما قال الراغب -رحمه الله-: "الانضمام إلى آخر ناصراً له، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في يوم القيامة". [تاج العروس: 1/5348].

أدلة ثبوت الشفاعة

00:01:36

والشفاعة في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، ولم يخالف فيها إلا شرذمة من أهل البدع القائلين بخلود أهل المعاصي في النار.
فالذين يقولون بخلود أهل المعاصي في النار لا يؤمنون بالشفاعة؛ لأن الشفاعة من مقتضياتها: إخراج ناس من أهل التوحيد من النار بعد أن عذبوا فيها ما شاء الله يخرجون بالشفاعة.
فالذي يقول: بأن أصحاب الكبائر، أو العصاة يخلدون في النار لن يؤمن بالشفاعة، ولهذا البدعة إذا حصلت يترتب عليها بدع أخرى، فانظر الآن هذه المسألة، وهي قضية اعتقاد تخليد العصاة في النار، وهذا خلاف الحق يترتب عليه بدعة أخرى، وإنكار الشفاعة؛ لأنه سيلزمه أن يقول بهذا.
والشفاعة ثابتة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإنما خالف في بعض أنواعها أهل البدع القائلين بخلود أهل المعاصي في النار.
وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً ووجوبها سمعاً لصريح قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109].
وكذلك بقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء: 28]. وأمثال هذه الآيات.
"وكذلك بخبر الصادق المصدوق ﷺ وقد جاءت الآثار -التي بلغت بمجموعها التواتر- بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف، ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار". [إكمال المعلم: 1/367].
وقول بعض العلماء من أهل السنة في إثبات الشفاعة، أو في الشفاعة إنها جائزة -يقصدون بقولهم جائزة أنها ممكن من جهة العقل الصحيح يقبل الشفاعة، والعقل الصحيح لا ينكر الشفاعة- وتعبيرهم بأنها واجبة يريدون بها أنها محققة الوقوع من جهة الشرع؛ لأنه ثبت وجوبها أو وجودها في الشرع، إذاً قولهم جائزة يقصدون عقلاً، وقولهم واجبة يقصدون شرعاً.
وقال القرطبي -رحمه الله-: "والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين، من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين.
وقد أجمع السلف على ذلك، ولم يبدوا من أحد منهم في عصر من العصور نكير، فظهور رواية الأحاديث وارتباطهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة". [الجامع لأحكام القرآن: 1/378].

المقام المحمود

00:05:03

ومقام الشفاعة هو المقام المحمود الذي وعد الله -تعالى- نبيه محمداً ﷺ بأن يبعثه إياه يوم القيامة كما قال وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء: 79].
وهذا الكلام لمحمد ﷺ لكرامته على الله أن جعل وظيفته أكثر من غيره، ولذلك أوجب عليه قيام الليل، وعلى الأمة قيام الليل مستحب؛ ليكثر ثوابه، وينال بذلك المرتبة العظيمة العالية، وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهو الشفاعة العظمى عندما يتشفع الخلائق بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم عيسى، وكلهم يعتذر ويتأخر عنها، حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم محمد ﷺ ليرحمهم الله من هول الموقف وكربه، فشفع لهم عند ربه، فيشفعه ويقيمه مقاماً يغبطه عليه الأولون والآخرون، وتكون له المنة على جميع الخلق.
قال الطبري -رحمه الله- في قوله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، "وتأويل الكلام أقم الصلاة المفروضة يا محمد، في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضاً فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم  القيامة مقاماً، تقوم فيه محموداً تغبط فيه، ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم" انتهى كلامه رحمه الله. [جامع البيان: 9/248].
وقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي ﷺ: إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد ﷺ فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم[رواه البخاري: 1475].


وقد ثبت بيان أن هذا المقام المحمود الذي يحمد الخلق نبينا ﷺ عليه هو مقام الشفاعة، فروى البخاري -رحمه الله- من حديث أنس عن النبي ﷺ: فيدعني ما يشاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع يا محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشفع، وسل تعط، قال: فارفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يُعلمنيه، قال: ثم اشفع فيحد لي حداً فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حسبه القرآن، أي: وجب عليه الخلود، قال: ثم تلا هذه الآية: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، قال: وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم ﷺ [رواه البخاري: 7440].
من الذين حبسهم القرآن؟ من الذي وجب عليه الخلود؟ أهل الشرك، أهل الشرك والكفار هؤلاء حبسهم القرآن؛ لأنهم لا يخرجون من النار، وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48].
بقية العصاة وأهل الكبائر والمذنبين، هؤلاء يعذبون ما شاء الله أن يعذبون، كل واحد على حسب كبائره وأعماله وذنوبه، ثم يخرجون يوماً من الأيام، يخرجون من النار، فإخراجهم من النار بشفاعة محمد ﷺ وهناك أناس يخرجهم رب العالمين تفضلاً منه بعد أن يشفع كل الناس، كل الشافعين يشفعون وشفع الأنبياء، وشفعت الملائكة، وشفع المؤمنون، فبقية رحمة أرحم الرحمين.


وفي الترمذي والمسند عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ في قوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، سأل عنها؟ قال: هي الشفاعة، [رواه الترمذي: 3137، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2639].
وكذلك جاء في المسند عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: المقام المحمود الشفاعة [رواه أحمد: 10203، وحسنه الألباني السلسلة الصحيحة: 2369]، وهو حديث صحيح، وقال الصرصري -رحمه الله-:

وذلك يوم فيه نور نبينا لرفع لواء الحمد يعلو ويسطعُ
ويظهر فيه جاهه بشفاعة إليها بكرب الموقف الخلق يُهرعُ

[ذيل مرآة الزمان لليونيني: 1/116].
وقد نبه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- على حديث رواه النسائي بإسناد صحيح عن حذيفة قال: "يجتمع الناس في صعيد واحد، فأول مدعو محمد فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، المهدي من هديت، عبدك وابن عبديك، وبك وإليك، ولا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، فهذا قوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [سنن النسائي الكبرى: 11294]، والحديث صححه الحاكم [المستدرك: 3384]، ولا منافاة بنيه وبين حديث ابن عمر في باب الشفاعة؛ لأن هذا الكلام كأنه مقدمة للشفاعة. [فتح الباري: 8/400].

مقام شفاعة النبي ﷺ ليريح الناس مما هم فيه

00:11:15

مقام شفاعة النبي ﷺ ليريح الناس مما هم فيه، وماذا في الناس؟
قلنا: يوم القيامة الناس في كرب عظيم؛ لأنهم يقومون أربعين سنة في العرق، والعرق متفاوت بحسب أعمال العباد، ومنهم من يكون إلى قدميه، وأنصاف ساقيه، وركبتيه، وحقويه، وصدره، ويلجمه إلجاماً، ومنهم من يغطيه، الناس في حر شديد؛ لأن جهنم قُربت، والشمس دنت، وهم في الزحام ليس للإنسان إلا موضع قدميه، وأنفاس العباد مع الزحام، ثم الهول، وما يفرزه الإنسان من العرق نتيجة الخوف العظيم، هذا الموقف الناس يريدون الفكاك منه بأي طريقة، فيسألون يطوفون على الأنبياء واحداً واحداً، ألا ترون ما قد بلغنا، ألا ترون ما نحن فيه، ولذلك يكون الفكاك من هذا الموقف نعمة عظيمة جداً، ويكون الفكاك على يد نبينا محمد ﷺ، هذا مقام ادخره الله له المقام المحمود.
وكان بالإمكان أن ينتهي هذا المشهد من الله مباشرة بدون تدخل وسؤال وشفاعة من أحد، لكن الله ادخرها لنبينا ﷺ ليشفع عند الله بالفكاك من هذه الأزمة العظيمة، فيقبل الله شفاعته، فيحدث الفرج للناس لينصرفوا ليبدأ الحساب، الناس تريد أن يبدأ الحساب حتى لربما الكافر أن يتمنى الانصراف ولو إلى النار، المهم أن تنفك الأزمة هذه، عندهم من شدتها في ذلك الموقف، فيكون هذا المقام لنبينا ﷺ.

الذين يستحقون الشفاعة

00:13:18

وقد روى الترمذي وأحمد عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله ﷺ: أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً [رواه الترمذي:2441]، وهو حديث صحيح. [صححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 56].
الحديث هذا يتحدث عن نوع آخر من الشفاعة، إذاً الآن بدأنا نميز أن الشفاعة أكثر من نوع، في شفاعة لفصل القضاء لينفك الموقف الذي سبق ذكره هذا الموقف المتأزم من الحر الشديد والعرق لينفك القيام الطويل، وإخراج المذنبين من النار شفاعة، إدخال ناس الجنة فيها شفاعة، في عدة شفاعات.
الحديث هذا فيه أن النبي ﷺ خُيَّر بين أن يدخل الله نصف أمته الجنة وبين الشفاعة، فاختار الشفاعة، معنى ذلك أن الشفاعة تعطي نتيجة بالنسبة لهذه الأمة في دخولهم الجنة أكثر من النصف، ولذلك اختارها، وقوله: أتاني آت من عند ربي، يعني: أتاني ملك من عند ربي برسالة من الله.
أن يدخل نصف أمتي المقصود بها أمة الإجابة، وهنا ملحظ مهم جداً أمة محمد ﷺ تنقسم إلى قسمين: أمة دعوة، وأمة إجابة.
فأمة محمد ﷺ أمة الدعوة كل من أرسل إليهم من الجن والإنس وأهل الكتاب والمشركين، كل الناس، من يوم أن بُعث إلى آخر الزمان، كل البشر الذين وجودوا، والجن والإنس الذين وجودوا من يوم أن بُعث إلى قيام الساعة، هؤلاء البشر كلهم صينيهم، وأوربيهم، وأمريكيهم، وأفريقيهم، كلهم أمة محمد ﷺ باعتبار أنه أرسل إليهم، فهؤلاء أمة الدعوة، طبعاً أمة الدعوة هذه كثير منهم سيخلدون في النار؛ لأنهم كذبوا به، وعصوه ولم يسلموا ممن حبسهم القرآن.
أمة الإجابة الذين آمنوا بمحمد ﷺ، فلو قال واحد: من هم أمة الإجابة؟ فنقول: الذين آمنوا بمحمد ﷺ، منهم المطيع، ومنهم العاصي، ومنهم صاحب الكبائر، ومنهم أصحاب الصغائر، ومصرين على الذنوب، لكن آمنوا بمحمد ﷺ هؤلاء أمة الإجابة، هؤلاء أمة الإجابة شفاعته لهم.


فقوله: أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، قصد بالأمة أمة الإجابة، قال في الحديث عن الشفاعة: وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً.
وفي رواية للبخاري عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: أتاني آت من ربي فأخبرني أو قال: بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق[رواه البخاري: 1237، ومسلم: 94].
يدخل الجنة لا يعني أنه لا يدخل قبلها النار، فقد يدخل قبلها النار فيُعذب ما شاء الله، ثم يدخل الجنة، واختيار النبي ﷺ للشفاعة يدل على أن مقام الشفاعة أنفع للأمة وأوسع، وأن الله يمن على هذه الأمة بشفاعة نبيهم ﷺ فيدخل منهم الجنة ببركة هذه الشفاعة أكثر من نصف الأمة، ورحمته سبقت غضبه.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: "غزونا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره فعرس بنا" -يعني: نزل بنا للراحة والنوم- "رسول الله ﷺ فانتهيت بعض الليل إلى مناخ رسول الله ﷺ أطلبه فلم أجده، قال: فخرجت بارزاً أطلبه، وإذا رجل من أصحاب رسول الله ﷺ يطلب ما أطلب، فبينا نحن كذلك إذا اتجه إلينا رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله! أنت بأرض حرب، ولا نأمن عليك، فلولا إذا بدت لك الحاجة قلت لبعض أصحابك فقام معك" -يعني: مرافق، أنت الآن في مكان خطير- فقال رسول الله ﷺ: إني سمعت هزيزاً كهزيز الرحى، أو حنيناً كحنين النحل، وأتاني آت من ربي فخيرني أن يدخل شطر أمتي الجنة وبين شفاعتي لهم، فاخترت شفاعتي لهم، وعلمت أنها أوسع لهم، فخيرني بأن يدخل ثلث أمتي الجنة وبين الشفاعة لهم، فاخترت لهم شفاعتي، وعلمت أنها أوسع لهم فقال: يا رسول الله! ادع الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل شفاعتك، فدعا لهم، ثم إنهما نبها أصحاب رسول الله ﷺ وأخبروهم بقول رسول الله ﷺ" -ألحقوا في دعوة عظيمة، أكسبوا دعوة أن تكونوا من أهل شفاعته، والصحابة يحبون الخير بعضهم لبعض، وما يقول واحد: خلاص أخذنا هذا والناس كلهم في ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً، هذا شعار جهلاء الأعراب.


فالصحابة يحب الخير لبعضهم البعض، ولذلك ذهبوا يخبروهم، فبدأ الناس يأتونه، جعلوا يأتون النبي ﷺ ويقولون: يا رسول الله، ادعوا الله تعالى أن يجعلنا من شفاعتك، فيدعو لهم، "فلما أضب عليه القوم –كثروا- قال رسول الله ﷺ: إنها لمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله [رواه أحمد: 19739].
الحديث له شواهد، وأصله ثابت من حديث أبو موسى وصححه الألباني، [صحيح الجامع الصغير: 3335].
على أية حال الشفاعة لأهل التوحيد حق، يعني: كل مسلم ما عنده شرك موحد وهذا من فضل التوحيد، وأن الإنسان ينقي نفسه من أنواع الشرك الخفي الأكبر الأصغر ينقي نفسه من الشرك تماماً حتى يكون من الذين تنالهم الشفاعة، وإنما كان اختيار الشفاعة أنفع للأمة؛ لأنها تنال كل من مات على التوحيد من أمته ﷺ، وهذا أكثر من نصف الأمة والحمد لله.
وهذا الحديث يتضمن كرامة النبي ﷺ وشفقته على قومه، ولذلك اختار الشفاعة.

الشفاعة في أهل الموقف من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام

00:20:44

وشفاعته ﷺ في أهل الموقف ليقضي الله بينهم، ويأمر فيهم سبحانه بما يشاء من خصائصه، ومن آيات كرامته، وهي المقام الشريف.
والدليل على خصوصية النبي ﷺ ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر أن النبي ﷺ قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي ما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلي، من قبل لا بد يصلي الناس في أماكن معينة، ولا بد أن الواحد يستصحب معه الطهور، وما يستطيع أن يتيمم، هذه الأمة صارت تخفيف لها بحمد لله، قال: وأحلت لي المغانم، ولا تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي ﷺ إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة [رواه البخاري: 438].
فنحن نستطيع أن نصلي في أي مكان إلا ما جاء النهي عنه خصيصاً كالمقبرة إلا صلاة الجنازة مسموح بها، كذلك الحمام، ومواضع النجاسات ما نصلي فيها، موضع الخسف والعذاب، أماكن معينة محصورة جداً، والباقي نصلي فيه، ولذلك الذين يذهبون إلى الخارج ويقولون: ما في مكان نصلي فنحن نجمع، نقول: كيف تقول: ما في مكان تصلي والدنيا كل الأرض مكان للصلاة، سألت أحد المسلمين الأمريكيين: أين تصلي إذا أنت أدركت الصلاة في شارع في بلدك؟ قال: في محطة بنزين في مواقف سيارات، يعني: الواحد يجد أماكن يصلي فيها كثيرة والحمد لله.


وأعطيت الشفاعة، المقصود بها الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل يعني يسأل ربه، وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان يعني من النار.
قال الحافظ -رحمه الله-: "والذي يظهر لي أن هذه مرادة مع الأولى؛ لأنه يتبعها بها، كما سيأتي في حديث الشفاعة"، إذاً الفكاك من الموقف وإخراج الموحدين من النار، هاتان الشفاعتان أعظم شفاعة النبي ﷺ.
وجاء في المسند أيضاً من حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: أُعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ولا أقولهن فخراً، أنا ما أتعالى وأتكبر بهذا لكن أتحدث بنعمة الله عليّ، قال فيه: وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً، وفي تحقيق المسند حديث حسن [رواه أحمد: 2742].
قال ابن حجر: "فالظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث إخراج من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مختص أيضاً بالشفاعة الأولى لكن جاء التنويه بذكر هذه لأنها غاية المطلوب من تلك لقتضاءها الراحة المستمرة" [فتح الباري: 1/439].
ولأجل ما اختص به النبي ﷺ من مقام الشفاعة العظمى ليقضي الله -تعالى- بين الخلائق تدافعها الأنبياء جميعاً لعلمهم أنها ليست لهم، ولكمال علمهم بربهم، ولإجلالهم له لا يتقدمون بالشفاعة، وليس مأذون لهم فيها، بل يردونها إلى أهلها، وهو محمد ﷺ، وقد ورد ذكر هذين المقامين العظيمين من مقامات الشفاعة، الشفاعة في أهل الموقف، والشفاعة في الموحدين ليدخلوا الجنة، ورد ذكرهما معاً في غير حديث الشفاعة الطويل، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ أوتي بلحم فرُفع إليه الذراع وكان يحب الذراع"، أحب ما في الشاة إليه الذراع، "وكانت تعجبه فنهش أو نهس منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، طبعاً تكلم العلماء في العلاقة بين نهش الذراع، وبين أنا سيد ولد آدم، ما هي العلاقة؟ قالوا: إن النهش نهش اللحم من الذراع ليس من عادات المتكبرين، أن المتكبرين ما يفعلونه، لا ينهشون اللحم من العظم، سكين وشوكة، لا ينهشون اللحم من العظم، فلما رفع العظم ونهشه دليلاً على أنه ليس من أهل التكبر، وأنه في طعامه من المتواضعين يأكل بما تيسر له الأكل منه.


قال: أنا سيد ولد آدم وعبر بالفعل بالتواضع وبالقول أنا سيد ولد آدم حتى لا يُظن أنه يقولوها كبراً، فقال الكلمةأنا سيد ولد آدم في هذا الموضع، لما نهش من اللحم حتى يُبعد عن الذهن أن المقصود بها فخر أو خيلاء فقال: أنا سيد ولد آدم، يعني: ولا فخر، وهذا فعلي فعل المتواضعين آكل مثل ما يأكل الناس متواضعاً في الأكل، ويأكل من العظم، وما المانع أن يأكل اللحم من العظم أو ينهشه بأسنانه عن العظم.
قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مما ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقونه، ولا يحتملون، فيقول الناس، يعني: يقول الناس لبعضهم البعض يوم القيامة: ألا ترون ما قد بلغكم! ألا تنظرون على من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم فيقولون له: أنت أبو البشر، يقولون لآدم أنت أبونا، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، هذه غضبة الله يوم القيامة ما لها مثيل، ولذلك حتى الرسل يقولون: نفسي نفسي اللهم سلم سلم، حتى الرسل خافوا من غضب الجبار في ذلك اليوم؛ لأنه يوم الانتقام لأنه ينتقم الله فيه من الكفرة، والمجرمين، والظلمة، والمتكبرين، فلذلك هذا اليوم الذي خوف الله وأنذر الأمم المكذبة كلها هذه، والتي أهلكت في الدنيا، الرسل كانت تنذر أقوامها هذا اليوم، وكانت الأمم تستهزئ، وتقول: هات العذاب إن كنت صادقاً، هات العذاب، اليوم جاء العذاب.
ولذلك يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضاً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، يقول آدم: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح، إنك أنت أول رسل الله إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي يعني: بأن يهلكهم الله جميعاً، ولا يجعل في الأرض منهم دياراً.


يقول: إني لست بهذا المقام الذي أطلب فيه الشفاعة، وأنا دعوت على قومي دعوة، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات -مع أنها كذبات مباحة، وفي سبيل الله، لكن قال مقامي نزل ليس بمستوى أن أطلب الشفاعة- اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته، وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أُومَرْ بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى بن مريم، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبياً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول عيسى: إن ربي - قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنباً، عيسى ما ذكر أنه ارتكب ذنباً، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمداً ﷺ، فيأتون محمداً ﷺ فيقولون: يا محمد ﷺ أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق، فأتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي ثم يفتح الله عليّ من محامده، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي.
يعني: نحن نعرف الآن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان لله عدد خلقه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، هناك محامد كثيرة، وأذكار لكن هذا المقام الله يعلم- نبيه محامد ما يعرفها أحد، ولا خطرت على بال أحد، ولا سبق أن قالها أحد، يفتح الله عليه بمحامد خاصة لهذا الموقف ليقولها وهو ساجد.


والمحامد هذه الثناء على الله قبل الطلب؛ لأن هذا من آداب الدعاء، فيعلمه ثناءات ومحامد يحمد بها ربه ويثني بها عليه قبل أن يطلب الشفاعة، ثم يطلب الشفاعة.
حمد قبل الطلب، هذه من آداب الدعاء، فلا يزال النبي ﷺ ساجداً يقول المحامد قبل أن يطلب طلب واحد، لا زال يحمد بما علمه الله من هذه المحامد، وهو ساجد إلى أن يشاء الله، ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، بلغ الثناء الذي يريده الله منه في هذا الموضع، ارفع رأسك، وسل تطعه، واشفع تُشفع.
الآن أذن له الآن يبدأ الطلب قبل كلها محامد وهو ساجد ما في سؤال محامد،  فارفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! أمتي يا رب!، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة: 128].
العنت والمشقة والشدة شدتكم، يعني: شديدة عليه أيضاً، ويريد أن يريحكم حريص عليكم، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، إذاً الباب الأيمن هذا مخصص لأمة محمد ﷺ وندخل من الأبواب الأخرى مع بقية الأمم، من الموحدين الذين يدخلون الجنة، الطائفة الأولى الذين لا حساب عليهم أول ناس يدخلون الجنة، الدفعة الأولى.


ثم قال: والذي نفسي بيده إنما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، حمير في اليمن، ومكة في الحجاز، وكم المسافة بينهما؟ كم كيلو؟ هذا عرض باب واحد من أبواب الجنة، أو قال: كما بين مكة وبُصرى [رواه البخاري: 4712].
بُصرى في الشام، ومكة في الحجاز كم المسافة بينهما؟ عرض باب من أبواب الجنة، ومع ذلك يجي يوم الباب وهو كَظِيظٌ من الزحام، زحمة من كثرة الداخلين، طبعاً هذا من سعة رحمة رب العالمين، لكن الدفعة الأولى هذه الذين لا حساب عليهم، والذين يدخلون الباب الأيمن من أبواب الجنة يدخلون بشفاعة محمد ﷺ، حتى الذين لا حساب عليهم، وهذا من ارتفاع منزلته عند ربه.
وقوله ﷺ: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر [رواه الترمذي: 3148 ، وصححه الألباني صحيح الترغيب والترهيب: 3543]، لا أقولها فخراً وكبراً هذه نعمة ربي عليّ.
قال النووي -رحمه الله-: "إنما قال هذا ﷺ تحدثاً بنعمة الله، وقد أمر الله تعالى بهذا" [شرح النووي على مسلم: 3/66]، ومعرفتنا بحق نبينا ﷺ مهمة.
قال القاضي -رحمه الله-: "قيل السيد الذي يفوق قومه ويُفزع إليه في الشدائد، والنبي ﷺ سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة". [شرح النووي على مسلم: 3/66].
فالآن سيد قبيلة كذا، وسيد بني فلان هذا الذي يفزعون إليه إذا صارت شدة، فالنبي ﷺ سيد ولد آدم، طبعاً يُفزع إليه في شيء يقدر عليه، أما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يُسأل غير الله فيه أبداً، ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يسأله غير الله أبداً، فلا يجوز أن تقول لأي مخلوق اشف مريضي، أو ارزقني، أو اغفر ذنبي؛ لأن هذا ما يقدر هذا من شأن الله -تعالى-، اختص الله به لا يقدر عليه إلا الله، أما أن يقال للحي يوم القيامة -والأنبياء بكامل حياتهم والناس بكامل حياتهم يوم القيامة- أن يقول الحي للنبي ﷺ الحي: اشفع لنا إلى ربك، يسألونه شيئاً يعرفون أنه يقدر عليه، وأنه مأذون له فيه، فهذا الطلب منه في الآخرة وهو حي، أما نحن الآن في الدنيا ما نطلب منه شيئاً في قبره، ونقول: يا رسول الله، افعل لنا كذا، وافعل لنا كذا، وهو في قبره، لا يجوز.


خص الله -تعالى- نبيه يوم القيامة بالذكر في هذا الموضوع لتظهر سيادته وشرفه، والأنبياء كلهم تحت لوائه، وكل العالم يحتاجون إليه جناً وإنساً، يحتاجون إليه؛ لكي يسأل لهم الشفاعة، الشفاعة يشفع لهم عند الله، والنبي ﷺ لما قال: وهل تدرون مما ذاك، يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، الصعيد: الأرض المستوية وقد علمناها، ينفذهم البصر يحيط بهم الناظر لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض، وهذا أولى من قول من قال إنه يأتي عليه بصر الرحمن -تعالى-؛ وذلك لأن الله يحيط بهم ولا يغيبون عنه، لكن المقصود ينفذهم البصر يعني بصر الناظر إليهم؛ لأن الناس في صعيد واحد فلو نظر إليهم شخص رآهم؛ لأن الأرض لا تُخفي أحداً، فالناظر يستطيع أن يراهم جميعاً، فلذلك قال: يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون.
هذا الحديث: ما لا يطيقون ولا يحتملون، وفي رواية إسحاق: وتدنوا الشمس من رؤوسهم، فيشتد عليهم حرها، ويشق عليهم دنوها، فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيه [مسند إسحاق بن راهويه: 154].
وفي صحيح مسلم: فيقوم المؤمنون حتى تُزلف لهم الجنة فيأتون آدم [رواه مسلم: 195]، وفي الترمذي: فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم [رواه الترمذي: 3148].
قال القرطبي في الثلث الفزعات هذه: "كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم فإذا زفرت فزع الناس حينئذ وجثوا على ركبهم" [فتح الباري: 11/433].


إذا زفرت سمعوا لها تغيظاً وزفيرا، إذا زفرت أسقط ما في أيدي الناس، وجثوا على ركبهم من هول الموقف، فقد اجتمع على أهل الموقف كرب القيامة وشدته، ودنو الشمس من الرؤوس ثم يزيد الأمر تقريب جهنم إلى الكفار والفجار، وتقريب الجنة للمتقين فالمؤمنين يريدون أيضاً الخلاص من الموقف؛ لأنهم يشتاقون الآن إلى الجنة، حتى لو كانوا في الظل فيريدون انتهاء الموقف هذا حتى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء: 90]، شوقاً إليها.
وأما الجحيم فقد قال الله تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ[الشعراء: 91]، قال في الحديث: فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم، وفي الصحيحين من حديث أنس: يقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا [رواه البخاري: 6565، ومسلم: 193]، وفي حديث ابن مسعود عند ابن حبان: إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب ارحني ولو إلى النار [صحيح ابن حبان: 7335، وضعفها الألباني السلسلة الضعيفة: 3042].
لكن هذه الرواية فيها ضعف، لكن بعض العلماء ذكر هذا قال: "إن الكفار يتمنون في ذلك الموقف أن ينفكوا ولو إلى النار لأن الذي لا يطيق شيئاً لا يأبه لا يفكر كثيراً بما بعده من الهول الذي هو فيه"، فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه فيقولون له: يا آدم، أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا، وأسكنك الجنة، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا، وجاء في المسند: اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا  [رواه أحمد: 2546].


وفي رواية لمسلم: فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة  [رواه مسلم: 195]، بعض الناس يسألون الفكاك من الموقف، بعضهم يقولون: استفتح لنا الجنة، فلعل ذلك باختلاف أحوال الناس، فالمؤمنون إذا رأوا الجنة أُزلفت اشتاقوا إليها فيكون همهم الآن الانتهاء من هذا الموقف لكي يدخلوها، والناس الآخرين يعني همهم الآن فك الموقف هذا، الشدة ولو بإفنائهم وأن يكونوا تراباً، ولو بأن يُقضى عليهم، لكن هيهات.
وفي المسند عن أنس قال: حدثني نبي الله ﷺ: إني لقائم انتظر أمتي تعبر على الصراط إذ جاءني عيسى فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون أو قال: يجتمعون إليك، ويدعون الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء الله لغم ما هم فيه، والخلق ملجمون في العرق، وأما المؤمن فهو عليه كالزكمة وأما الكافر فيتغشاه الموت [رواه أحمد: 12847].
يعني: ذلك الموقف الشديد الذي ذكرناه ووصفناه الآن على المؤمن كالزكمة هكذا ورد في الحديث، وصححه الألباني [صحيح الترغيب: 3639]. والحديث في مسند أحمد.
والكافر كأنما يتغشاه الموت، فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي.


وفي رواية لمسلم: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم[رواه مسلم: 195]، وفي الصحيحين: ويذكر ذنبه فيستحي من ربه، وفيه أيضاً: ولست هناكٌ [رواه البخاري: 4476، ومسلم: 193]، كناية أن منزلته دون المنزلة المطلوبة، فيقول ذلك تواضعاً لله، وإكباراً لما يسألونه، اذهبوا إلى نوح، نوح يقولون له: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وآدم يقول لهم: اذهبوا إلى أبيكم بعد أبيكم نوح؛ لأن كل البشرية بعد نوح من ذرية نوح، يعني: الذين كانوا مع نوح ما عاش لهم ذرية؛ لأن الله قال: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ[الصافات: 77].
فنوح أبو البشرية الثاني، ولذلك آدم لما يصرفهم عنه يقول: اذهبوا إلى أبيكم بعد أبيكم نوح، أتوا عبداً شاكراً [رواه أحمد: 15، وحسنه الألباني صحيح الترغيب: 3641]، لأن الله أخبر عن شكره لربه، وصححه الألباني في تخريج السنة.
وقال الله عن نوح: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء: 3]، وكون نوح أول الرسل آدم أول نبي لكن نوح أول رسول؛ لأنه ما حصل شرك قبل نوح، حصل الشرك في قوم نوح، فكان أول رسول من الله للبشرية لإنقاذهم من الشرك الذي وقعوا فيه هو نوح ، فآدم أرسل إلى بنيه أما نوح أرسل إلى أهل الأرض في ذلك الوقت الذين وقعوا في الشرك، وكان قبله عشرة قرون كلهم على التوحيد، كما قال ابن عباس : "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد". [مستدرك الحاكم:3654، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة:3289]،

ثم حدث الشرك أول شرك وانحراف في البشرية في قوم نوح، فأرسل الله إليهم أول رسول وهو نوح ، ورسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحدون ليعلمهم شريعته، يعني: حتى الأخ الذي قتل آخاه من ابني آدم كان موحداً، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد، لما يأتون إلى نوح ويقولون: يا نوح، إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك فنوح يقول كما قال آدم، ويقول: قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، الدعوة التي دعاها على قومه صحيحة.
والله أخبره أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فإذا دعا على الباقين، فدعائه عليهم صحيح: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26].
وهو يرى بعينيه عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً فيهم ما يخرج جيل إلا هو أسوء من الجيل الذي قبله، ولذلك قال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا  [نوح: 27]، ما في فائدة، فنوح يخشى أن الدعوة المستجابة قد حصلت له، فهو الآن ليس بأهل أن يطلب دعوة من هذا النوع وليست بمقدوره، وأن دعوته ذهبت في قومه، واستوفاها بدعائه عليهم، عندما يأتون إبراهيم ويقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا عند ربك، ويقول لهم: إني كذبت ثلاث كذبات، الكذبة في اللغة: أن تقول ما لا يعتقده السامع، ولكن إذا حققت ما فعله إبراهيم وجدنا أنها من المعاريض وهو معذور فيها تماماً، يأتون موسى يقولون له فيقول: قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، وفي رواية لمسلم: ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها [رواه مسلم: 195].
فيقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى بن مريم، عيسى لا يذكر ذنباً لكنه يقول أيضاً كما ورد في المسند إنه لا يهمني اليوم إلا نفسي، ثم يقول عيسى لهم: أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد خُتم عليه، أكان يُقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟ ، يمكن تطلع من داخل الوعاء بدون أن تكسر الختم؟ قالوا: لا، فيقول: إن محمداً ﷺ خاتم النبيين قد حضر اليوم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، الحديث في مسند أحمد [2546] قال محققوه طبعة دار الرسالة: حسن لغيره.


يقول الحافظ -رحمه الله-: "ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا ﷺ هذا ومن قول موسى فيما تقدم إني قتلت نفساً بغير نفسي وإني إن يُغفر لي اليوم حسبي، حسبي أن يغفر لي النفس التي قتلتها، مع أنه قتل كافراً يعني، لكن هذا من خشية الأنبياء لربهم، الله غفر له ما حصل منه، موسى مع وقوع المغفرة لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة، ورأى في نفسه تقصيراً في مقام الشفاعة، أما النبي ﷺ فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولذلك معناه في حق نبينا أن عنده خبر من الله أن الله لن يؤاخذه بذنب لو وقع منه" [فتح الباري: 11/436].
يأتون محمداً ﷺ يقولون: أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، في رواية أنس في المسند عن النبي ﷺ: إني لقائم انتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاءني عيسى فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون أو قال يجتمعون إليك ويدعون الله أن يفرق مع الأمم إلى حيث يشاء الله، يعني: إلى الجنة أو إلى النار نخلص من الموقف، قال: لعيسى انتظر حتى أرجع إليك، فذهب نبينا ﷺ حتى قام تحت العرش فلقي ما لم يلقى ملك مصطفى ولا نبي مرسل فأوحى الله إلى جبريل اذهب إلى محمد فقل له: ارفع رأسك وسل تعطه [رواه أحمد: 12847].
الحديث صححه الألباني. [صحيح الترغيب: 3639]، هذا الحديث في مسند أحمد يبين أن النبي ﷺ عندما تكون المداولات في قضية من الذي يشفع، ويذكر الواحد والثاني من الأنبياء يكون هو عند الصراط يكون أصلاً ينتظر أمته لكي تأتي تعبر الصراط، وتقع المداولات وبين الأمم والأنبياء، ثم يذهب عيسى إلى مكان النبي ﷺ ليقول له: الناس والأنبياء كلهم يطلبون منك الناس والأنبياء، فيقول: انتظر، ثم يذهب تحت العرش يسجد يستأذن على ربه، فيأذن له فيسجد تحت العرش، ثم يؤذن له بالشفاعة.
في صحيح مسلم عن أُبي بن كعب عن النبي ﷺ قال له: يا أُبي أُرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين إلى أن قال: اقرأه على سبعة حرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم ﷺ [رواه مسلم: 820].
حتى إبراهيم يطلب من محمد ﷺ، فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي ...، الحديث.
والحديث هذا فيه تفضيل محمد ﷺ على جميع الخلق؛ لأن الرسل والأنبياء والملائكة كلهم ما أحد نال هذا المقام، وكذلك فيه تفضيل أولوا العزم من الرسل هؤلاء مع آدم ؛ لأن الناس يفزعون إليهم دون غيرهم، وكذلك فإن في الحديث أن من طلب من كبير أمراً مهماً أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته، وأشرف مزاياه، يعني: سواء طلب الناس من الأنبياء لما يقولون: يا آدم أنت أبو البشر قد خلقك الله بيده، نوح يقولون: أنت أول رسل أهل الأرض، إبراهيم أنت خليل الله، موسىأنت كليم الله، عيسى، فيذكرون مناقب ومنزلة كل واحد قبل ما يطلب منهم، وهذا طبعاً مع الله أوكد وأوجب، أن يسأل الله بأسمائه وصفاته، ويستشير بعضهم بعضاً، ويجمعون على الشيء المطلوب، ولعل الله -تعالى- جعلهم يترددون من نبي إلى نبي لإظهار فضل نبينا ﷺ في النهاية، وقد كان بالإمكان أن يذهبوا إلى محمد ﷺ مباشرة لكن الله يجعل الناس يوم القيامة يفكرون أول شيء في آدم، ثم آدم يردهم إلى من بعده إلى من بعده حتى يظهر فضله عليه الصلاة والسلام على سائر الناس.


إذاً تعجيل الحساب، وفك الناس من الموقف هذا مكسب عظيم يناله الناس بالشفاعة، وأما رواية المسند حديث: إني لقائم أنتظر أمتي تعبر على الصراط إذا جاءني عيسى. [رواه أحمد: 12824]
قال ابن حجر -رحمه الله-: "أفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي ﷺ حينئذ وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار" [فتح الباري: 11/436].
ولهذا وقعت شفاعته في إدخال المؤمنين الجنة كما في آخر الحديث المذكور، وإخراج من كان منهم في النار، كما في الصحيحين"،  فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حسبه القرآن ووجب عليه الخلود.
قال النبي ﷺ: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، ومن كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، ومن كان في قلبه من الخير ما يزن بره، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، ومن كان في قلبه من الخير ما يزن ذرة [رواه البخاري: 7410]، وهؤلاء آخر الناس خروجاً من النار من الموحدين.

متى تكون الشفاعة

00:58:15

لكن استشكل ذلك بأن أول الحديث وارد في استشفاع أهل الموقف لإراحتهم من هوله وكربه، ولذلك فإن القضية الآن فيها إشكال هل هذا بعد ما تساقط الكفار في النار، أو أن هذا الطلب عيسى يذهب إليه عند الصراط يطلب منه لأجل الناس كلهم الذين في أرض المحشر؟ ولذلك أجاب العلماء بإجابات:
فمنها: أشاروا للحديث الذي في صحيح مسلم بعد قوله: فيأتون محمداً فيقوم ويؤذن له، يعني: في الشفاعة، وتُرسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يميناً وشمالاً أولكم كالبرق [رواه مسلم: 195]. الحديث.
قال عياض -رحمه الله-: "فبهذا يتصل الكلام؛ لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج"، فإذاً هنا شفاعتان: شفاعة لإنهاء كرب الموقف، وشفاعة لإخراج الموحدين من النار الذين دخلوها بذنوبهم، وقد وقع في حديث أبي هريرة الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، إذاً: تسلسل الأحداث.
قال: "فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها"، قال ابن حجر: "فظهر منه أنه ﷺ أول ما يشفع ليقضى بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار بعد أن سقط تقع بعد ذلك". [فتح الباري: 11/438].
وقد وقع صريحاً في البخاري من حديث ابن عمر: إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأُذُنِ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد ﷺ، وفي طريق عبد الله بن صالح: فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم [رواه البخاري: 1475].


إذاً: أولاً الناس في كربات القيامة، وفي الزحام، والعرق، والشدة، فتكون الشفاعة لإنهاء هذا الموقف العصيب الذي يستمر أربعين سنة، بعد ذلك ماذا سيحدث؟ يقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع الذين يعبدون الشمس الشمس، ويتبع الذين يعبدون القمر القمر، ويتبع الذين يعبدون الصليب الصليب، يقعون كلهم في النار هم ومعبوداتهم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98].
ثم ينصب الصراط على متن جهنم، ويقال للأمم أعبروا، عند العبور يكون هناك تمييز بين المنافقين والمؤمنين، فيؤخذ المنافقين ليقعوا في النار بخدعة، وسيأتي الكلام عليها، التي يخدع الله بها المنافقين يوم القيامة، ويتساقطون في النار مع الكفار، ثم يعبر الموحدون الصراط على جهنم، فيتساقط من الصراط من يتساقط من أصحاب الكبائر، والمصرين، والعصاة المذنبين الذين لم يشأ الله لهم السلامة من النار فيقعون، وينجو من ينجو من النار، هنا يكون الطلب على شفاعة ثانية، وهي إخراج من وقع في النار، فتكون القضية الطلب الآن يكون من النبي ﷺ بأن يُخرج من وقع في النار من الموحدين، فهذه الشفاعة الأخرى، الآن إذاً سنرتب الشفاعة.

أنواع الشفاعة

01:02:34

أنواع الشفاعات يوم القيامة، لقد تضمنت النصوص الشرعية الواردة في القرآن والسنة عدة شفاعات للنبي ﷺ، وأيضاً لغيره من الشفعاء.
فالشفاعة الأولى لأهل الموقف بأن يقضي الله بينهم ويريحهم من كربه، وقد مر معنا ذلك، ومرت أهل الموقف والأنبياء.
ثانياً: الشفاعة في قوم من أمته ﷺ أن يدخلوا الجنة بغير حساب، وجاء في حديث أبي هريرة السابق: فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب.
وحديث عكاشة بن محصن في هذا معروف، وقد جاء عند أحمد والترمذي وابن ماجه حديث أبي أُمامه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب مع كل ألف سبعون ألفاً [رواه الترمذي: 2437، وابن ماجه: 4286 ، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة:2179].
هذه مزيد من الإكرام، وزيادة من الله وفضل مع كل ألف من السبعين ألف سبعون ألفاً، فإذا أردنا العدد سنضرب سبعين ألف في سبعين ونزيد عليهم السبعين ألف الأولى، هذا إذا أردنا أن نعرف عدد الذين يدخلون الجنة بغير حساب على هذه الحسبة، وإلا منهم من قال أن فضل الله واسع، وأن هذه الأرقام لبيان فضل الله، وإلا ممكن يكون الداخل أكثر من ذلك من غير حساب، لكن الله وعد نبيه حسب هذا الحديث أن يدخل من أمته الجنة سبعين ألف بلا حساب ومع كل ألف من السبعين سبعين ألف، فيكون العدد على هذه الحسبة: سبعين ضرب سبعين ألف زائد سبعين ألف، والدليل على أن هناك زيادة على هذا، هذا حديث يبين فضل الله العظيم، الله كريم رحيم، قال: وعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفاً الجنة بلا حساب، ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي ، كل حثية كم فيها؟ الحديث رواه الترمذي [2437] وصححه الألباني[صحيح الجامع الصغير:2430].


وهذا ببركة شفاعة النبي ﷺ، والدليل ما جاء عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: سألت الله الشفاعة لأمتي، فقال لي: لك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فقلت: يا الله زدني؟ فقال: فإن لك هكذا فحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله [شرح السنة للبغوي 15/ 164، وصححه الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1879]، يعني: ثلاث حثيات من حثيات ربي، رواه البغوي، قال ابن حجر: وإسناده جيد، وصححه الألباني، فتأملوا كيف فضل الله وكرمه -سبحانه-، نسأل الله أن يجعلنا في هؤلاء.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وهاتان الشفاعتان خاصتان له للنبي ﷺ" [العقيدة الواسطية:20]، الشفاعة في ماذا؟ في الموقف لإنهاء كرب الموقف، ودخول سبعين ألف مع هؤلاء من لا حساب عليهم الجنة، دخول ناس الجنة بلا حساب.
إذاً المقام المحمود الشفاعة في فك شدة الموقف هذه واحد، والثانية إدخال ناس الجنة بلا حساب، هاتان الشفاعتان خاصتان بالنبي ﷺ؛ لأن شفاعة إخراج ناس من الموحدين من النار يدخل فيها بقية الأنبياء يشفعون والملائكة والمؤمنون يشفعون، يناشدون الله يقولون: ربنا إخواننا كانوا معنا في الدنيا ويصلون معنا  [رواه أحمد: 11096، وقال محققو المسند: أسناده حسن] والآن وقعوا في النار، فالله يخرجهم من أجلهم، فشفاعة إخراج موحدين من النار فيها يشترك فيها ناس غير النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن شفاعة الموقف الشفاعة العظمى وإدخال ناس الجنة بلا حساب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هاتان الشفاعتان خاصتان بالنبي ﷺ".
النوع الثالث: شفاعته ﷺ في فتح باب الجنة لأهلها، في رواية مسلم في حديث الشفاعة الطويل قال رسول الله ﷺ: يجمع الله -تبارك وتعالى- الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة، يريدون الآن أن يدخلوا، وأصحاب الأعمال الصالحة، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم، لست بصاحب ذلك [رواه مسلم: 195]، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، أكثر أمة تابعت نبيها أمة محمد ﷺ، قال: وأنا أول من يقرع باب الجنة [رواه مسلم: 196]، وفي صحيح مسلم عن أنس أيضاً: قال ﷺ: آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا افتح لأحد قبلك [رواه مسلم: 197]، هذا النوع الثالث من الشفاعة.
النوع الرابع: شفاعة النبي ﷺ في أقوام من المؤمنين في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم عما كان يقتضيه ثواب أعمالهم، يزادون من أجله.


قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذا قد يُستدل له بدعاء النبي ﷺ لأبي سلمه وقوله: اللهم اغفر لأبي سلمه، وارفع درجته في المهديين [رواه مسلم: 920].
وكذلك في قصة أبي موسى لما أخبر النبي ﷺ باستشهاد أبي عامر عمه، أبو عامر عم أبي موسى، قتله أحد الكفار أصابه بسهم فمات منه، فقال ﷺ لما بلغه الخبر: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك [حاشية ابن القيم على سنن أبي داود:  13/56].
فلما رأى أبو موسى الأدعية هذه "قال: يا رسول الله ولي ولي فاستغفر، قال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس، وهذا اسم أبي موسى الأشعري، اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مُدخلاً كريماً [رواه البخاري: 4323، ومسلم: 2498] ، إذاً: هذه الأدعية مما يُستأنس به في قضية أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يشفع لقوم أن يزادوا فوق حسناتهم وأن يُرفعوا فوق درجاتهم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ويبقى نوعان يذكرهما كثير من الناس، أحدهما في قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم أن لا يدخلوها"، يعني: قبل أن يدخلوها يشفع لهم أن لا يدخلوها، هم استوجبوا النار حقت عليهم النار، الآن محكوم عليهم بدخول النار فيشفع لهم أن لا يدخلوها، هذه واحدة، "والثانية شفاعته ﷺ لقوم من المؤمنين في زيادة الثواب ورفعة الدرجات وقد مضى قبل قليل" [حاشية ابن القيم على سنن أبي داود:  13/55].


وقد ذكر بعض العلماء هذا النوع من الشفاعة الخامسة للنبي ﷺ في قوم استوجبوا النار فشفع فيهم أن لا يدخلوها، وهذا قد جاء في حديث لكن في سنده شيء، ولذلك فإن الأمر فيه محتمل يحتمل، الأمر يحتمل أن يكون كذلك فورد في حديث عن عبد الله بن الحارث رواه ابن أبي الدنيا في أن النبي ﷺ يرى قوماً، قال: ويبقى قوم فيدخلون النار فيعيرهم أهل النار فيقولون: أنتم كنتم تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً أدخلكم النار فيبعث الله ملك بكف من ماء فينضح بها في النار ويغبطهم أهل النار، ثم يخرجون ويدخلون الجنة فيقال لهم: انطلقوا ويسمون المحررين [النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير: 1/493، وقال الشيخ مقبل: "يحتمل أن يكون عبدالله ابن الحارث سمعه من أبي هريرة، ويحتمل أن يكون أرسله، والله أعلم" الشفاعة للوادعي: 1/95].
طبعاً هذا الحديث قلنا في ثبوته شيء، ولذلك من جهة الشفاعة لقوم استوجبوا النار أن لا يدخلوها تبقى المسألة فيها احتمال، لكن أن ناس دخلوا النار فيشفع لهم ليخرجوا منها هذا ثابت، والنبي ﷺ قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي [رواه أبو داود: 4739، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 3649].
فالحديث هذا لوضع السيئات، والعفو عن الكبائر، والشفاعة التي تنجي الهالكين مختصة بأهل الكبائر، فالشفاعة التي تكون للنبي ﷺ في إخراج من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان لناس احترقوا في النار وامتحشوا فيها قد جاء الحديث: يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ﷺ فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين [رواه البخاري: 6566].


وقد جاء في المسند: ويكتب بين أعينهم هؤلاء عتقاء الله فيذهب بهم فيدخلون الجنة فيقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون، فيقول الجبار: بل هؤلاء عتقاء الجبار  [رواه أحمد: 12491]، قال الألباني في تخريج السنة: صحيح لغيره [844].
الذين خرجوا من النار بعد ما احترقوا فيها ما شاء الله ثم خرجوا وتغيرت هيئتهم وبدلت جلودهم ورجعوا إلى الحياة وأدخلوا الجنة ويسمون بالجهنميين ورد حديث في تغيير اسمهم.
قال الحافظ: "وفي حديث حذيفة عند البيهقي في البحث من رواية حماد بن أبي سليمان عن ربعي عنه يقال لهم الجهنميين: "فذكر لي أنهم استعفوا الله من ذلك الاسم فأعفاهم" [فتح الباري: 11/430].
يعني: بعد ما يدخلون الجنة، ويقال أهل الجنة يعرفونهم يقولون: هؤلاء الجهنميون، لأنهم كانوا في جهنم ثم خرجوا، فيزيل الله عنهم هذا الاسم ليزدادوا بذلك نعيماً، وحتى لا يخدش فيهم شيء، خلاص الآن دخلوا الجنة، فحتى الاسم لا ينالهم منه شيء.
وجاء في البخاري من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: يُحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، وذكر فيه الحديث: فأرفع رأسي فأثني على ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة.


فهذا بيان أنه ﷺ له هذه الشفاعة وهي إخراج ناس من النار وإدخالهم الجنة، ثم أعود الثانية فاستأذن فيحد لي حداً فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرج فأدخلهم الجنةهكذا قال: حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن [رواه البخاري: 7439].
يعني: وجب عليه الخلود لكفره وشركه؛ لأن المشرك والكافر لا تنفعه شفاعة محمد ﷺ ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا شفاعة أي أحد، الذي في قلبه مثقال ذرة من إيمان يخرج في النهاية، لكن الذي ليس في قلبه إيمان والمشرك والكافر هذا لا يستفيد شيئاً، طبعاً ورد أن النبي ﷺ أيضاً من خصائصه بدعوته يخفف عن عمه أبي طالب في النار، أبو طالب مشرك ومات على الشرك من أجل النبي -عليه الصلاة والسلام- يُجعل في ضحضاح من النار، [رواه البخاري: 3885].
يعني: النار بس له شراكان من النار نعلين من نار ضحضاح من النار، فكيف بمن تغطيه، هذا يعلي منهما دماغه، فإذاً: خُفف عن أبي طالب في النار وهو مخلد فيها ولن يخرج من النار؛ لأنه مشرك ومات على الشرك، والتخفيف بسبب محمد ﷺ.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل شفاعته، وأن يوردنا حوضه، وأن يجمعنا به في جنات النعيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.