الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فرحة الصائم عند فطره وعند لقاء ربه
عباد الله: وهكذا مضى رمضان؛ كما قال الله: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] وكل معدود ينقضي، فانقضى رمضان ومر، وفي آخره عند الفطر: فرحات عظيمة؛ لأن النبي ﷺ قال: للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه [1].
فإذا أتم الله النعمة عليك -يا عبد الله-، وأتممت رمضان، فإن في ذلك فرحة عظيمة لك؛ أن مكنك الله من صيام شهره، وقضاء فرضه، وكثيرون لم يتمكنوا من ذلك، ممن اخترمتهم المنية، فجاءهم الموت، ومنهم من صار مريضًا لا يستطيع، وكثيرون في الأرض من أهل الكفر لا يدرون عنه ولا يفعلونه؛ فإذا مكنك الله من القيام به، والصيام لله، فاعلم أنها نعمة عظيمة تستحق الفرحة حقًا إذا أتممته كما أمر الله.
ثم إذا لقي ربه فرح بصومه أيضاً؛ لأن لهذه العبادة العظيمة أجر خاص ينبعث أثره عند الموت، ولقاء الله -تعالى-، وإذا لقي ربه فرح بصومه.
الفرحة بالعيد
ثم تأتي فرح العيد، وبذلك أمرنا، وأن هذا الموسم العظيم الذي فيه ذكر لله، واجتماع المسلمين بعد الفراغ من عبادة الصيام؛ شكرًا لله، بالصلاة له في ذلك المشهد العظيم.
وهذا العيد فرحة للمسلمين، ولتعلم يهود أن في ديننا فسحة، فما يكون فيه من إظهار البهجة والتوسعة على العيال، وصلة الأرحام، والقيام لله -تعالى- شكرًا بعد تكبيره، إنها فرحة أخرى عظيمة.
مفهوم الفرح في الإسلام
وهذا يقودنا -يا عباد الله- إلى قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [سورة يونس:58].
حتى يكون فرحنا شرعيًا نثاب عليه، لا بدّ من منطلق وأساس، فعلى أي شيء نفرح؟ ولأجل أي شيء نفرح؟ ومم نفرح؟ وما هو مبتغانا من هذه الفرحة؟ هل هي فرحة الأشر والبطر؟ هل هي فرحة قارون الذي خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [سورة القصص:79]، فقال له الناصحون: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76]. فرحة الأشر والبطر، والفرحة بما عنده من الدنيا، أم ماذا؟
كلا -والله-.
هل هي فرحة العاصي بأن وجد شهوته المحرمة أو المال الذي سرقه؟
كلا -والله-، لكنها الفرحة بنعمة الله وفضله.
وهذا المفهوم للفرح، مفهوم عظيم في صميم العبودية: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ اللام لام الأمر: هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58].
الفرح بتعلم العلم الشرعي
إذًا، الفرحة الشرعية ليست بجمع الأموال ولا بحطام الدنيا، الفرحة الشرعية بفضل الله وبرحمته، قالوا: إن إبلاً أتي بها من الفتوحات لعمر إلى بيت المال فجعل يعدها هو ومولاه، فإذا هي أكثر من التي قيل له عن عددها، فقال له مولاه فرحًا: يا أمير المؤمنين قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ قال عمر : لا، لكنه الفرح بالقرآن، بدين الله، بشرع الله، بسنة نبي الله ﷺ.
فإذا تعلمت حكمًا لم تكن قد تعلمته من قبل من دين الله؛ فلتفرح، وإذا فتح عليك بفهم في كتاب الله لم تكن أدركته من قبل؛ فبذلك فلتفرح، وإذا تعلمت سنة جديدة من سنن رسول الله ﷺ لم تكن مرت بك من قبل؛ فبذلك فلتفرح، وإذا قرأت حديثًا من أحاديث النبي ﷺ الصحيحة لم تطلع عليه من قبل؛ فبذلك فلتفرح، وإذا قرأت القرآن، أو قمت بعبادة، وإذا حفظت ما يشرع لك حفظه من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ أو حصل ذلك لولدك، أو أحد من أهلك؛ فبذلك فلتفرح، هذه الفرحة الشرعية، وإذا أتممت شهرك، وإذا قمت بالعبادة، وإذا حججت بيت الله؛ فبذلك فلتفرح: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هذا المعنى العظيم للفرح الذي هو الفرح الشرعي الذي يزيد الإيمان، ولا يقود إلى أشر ولا بطر.
مواقف فرح فيها النبي ﷺ، وأصحابه .
عباد الله:
لما جاء عدي بن حاتم زعيم المشركين في طيء، وابن زعيمهم حاتم الطائي، جاء مسلمًا، قام ﷺ فرح فرحًا عظيمًا، لما وضع عدي يده في يده، وأعلن إسلامه وبايعه.
فرح أبو هريرة فرحًا عظيمًا جداً لما كانت أمه مستعصية على الإسلام، وأسمعته في النبي ﷺ ما يكره، وذهب إلى النبي ﷺ باكيًا، وقال: "إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله لأم أبي هريرة؟ فدعا النبي ﷺ لها أن يهديها الله، فرجع أبو هريرة إلى بيته، فطرق الباب، فأمرته أن ينتظر فسمع صوت الماء في المخضب وهي تغتسل، ثم خرجت إليه، تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، عند ذلك بكى أبو هريرة من شدة الفرح[2].
الموقف نفسه ذكرته عائشة -رضي الله عنها عن أبيها- أنه بكى من شدة الفرح، وأنها لأول مرة ترى إنسانًا يبكي من شدة الفرح، رجع من عند النبي ﷺ يأمرها وأهل البيت بالتجهز للهجرة؛ لأن النبي ﷺ أخبره أنه سيكون صاحبه ورفيقه في الهجرة، فبكى أبو بكر من شدة الفرح.
شدة الفرح التي كانت في المسلمين، لما أسلم عمر ؛ لأن النبي ﷺ قال: اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب وأبي جهل، وكان أحبهما إليه تعالى: عمر ؛ كما جاء في سنن الترمذي[3].
كم فرح المسلمون بإسلام عمر ، فقد كان إسلامه عزاً.
الفرح بنصرة الله ورسوله والبذل والتضحية في ذلك
فرح النبي ﷺ فرحًا عظيمًا لما سمع الكلمات التي تدل على الاستعداد لنصرة الله ورسوله، والبذل والتضحية لأجل ذلك، عندما خرج بالمسلمين في بدر، وكانت المعاهدة بينه وبين الأنصار على أن يمنعوه في المدينة ممن يمنعون منه نساءهم وأولادهم، فالآن يا ترى إذا صارت المواجهة خارج المدينة فهل الأوس والخزرج على شيء هم؟ لما سمع من المقداد بن الأسود من زعمائهم تلك المقالة العظيمة: "لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]. ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن أمامك ومن خلفك"[4] لو خضت بنا البحر لخضناه، عند ذلك فرح ﷺ فرحًا عظيمًا.
فرح أُبي بن كعب
تلك الفرحة الإيمانية -يا عباد الله- لا يعرفها إلا من ذاقها في مثل هذه الحالات: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [سورة يونس:58]. أبي بن كعب أقرأ الأمة، أعلمهم بالقراءة، قراءة القرآن، لما قال له النبي ﷺ مرة: إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا؟ قال: وذكرني لك؟ ذكرني باسمي؟ قال: نعم فبكى أبي من شدة الفرح[5]، أن الله ذكر اسمه بالنص، للنبي ﷺ، ذكره لنبيه ﷺ بالنص، فبكى أبي من شدة الفرح، أن الله في عليائه ذكر اسم هذا العبد من عبيده، وهذا فيه تنويه عظيم، وشرف كبير، ورفعة بالغة.
فرح عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عند موته بتمسكه بالسنة وثباته عليها
عبد الله بن عمر وهو يطوي تلك المراحل من حياته، ورأى بداية خروج الأهواء والبدع من القدرية والخوارج، وغيرهم، أخبر في خاتمة المطاف بفرحه؛ أن قلبه لم يخالطه شيء من تلك الأهواء، وأنه يمضي إلى الله على السنة، ويغادر الدنيا ولم ينتكس ويرتكس بشيء من هذه البدع، وأنه لقي الله بقلب سليم من الشبهة والبدعة، لم يخالط قلبي شيء من تلك الأهواء.
هذه فرحات -يا عباد الله- فرحات حقيقية عظيمة، وفرحة الداعية إلى الله لما يرى استجابة الناس، وكذلك المربي والمعلم فيهم، النبي ﷺ كان يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، جاءه قوم فقراء مرة، ظهرت أجسادهم، لا يكاد يوجد عليها ثياب، فتمعر وجه النبي ﷺ، ودعا الناس إلى الصدقة، فاستجابوا استجابة عظيمة، وجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عن حملها، بل قد عجزت، وتتابع الناس على إثر ذلك، وفتح الباب للصدقات، فلما اجتمع عند النبي ﷺ كومان في المسجد من طعام وثياب، كوم من طعام، وكوم من ثياب، ورأى استجابة المسلمين لدعوته للصدقة، وأنهم جاؤوا بما عندهم، قال الراوي: رأيت وجه النبي ﷺ يتهلل، وكأن ﷺ إذا سُر استنار وجهه، كأنه مذهبة[6] كأنه صفيحة من ذهب، هذا الفرح أي فرح؟
فرح رؤية استجابة الناس للدعوة إلى الله.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الفرحين بذكرك، ومن الفرحين بشرعك، ومن الفرحين بأحكامك، لا تجعل فرحنا أشرًا ولا بطرًا، يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن العزيز، الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة للعالمين، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على سنته، واتبع أثره.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أزواجه وذريته الطيبين، وخلفائه الميامن، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، اللهم أوردنا حوضه، واسقنا منه يا رب العالمين، واجعلنا من أهل شفاعته، ومن أصحابه يوم الدين.
الفرح بانتصار المسلمين على الكفار
عباد الله: هذه الفرحة العظيمة تكون أيضاً بظهور الحق على الباطل، تكون أيضاً بانتصار المسلمين على الكفار، تكون بهلاك عظيم من عظماء الكفر، وهذه تستحق سجدة شكر؛ كما فعل النبي ﷺ، وكما فعل أصحابه، وكما فعل الصديق، وكما فعل علي يوم النهروان.
عباد الله: كان أسامة بن زيد أسود مثل الفحم، وكان أبوه زيد بن ثابت أبيض مثل القطن، المنافقون حريصون على إيذاء النبي ﷺ بأي طريقة، ويعلمون مكانة أسامة بن زيد وأبيه زيد بن حارثة في نفس النبي ﷺ، وأنهما من أحب الناس إليه، فانتهزوا هذا وطعنوا في نسب أسامة من أبيه، وقالوا: كيف يخرج هذا من هذا؟ كان أسامة بن زيد وزيد بن حارثة نائمين مرة عند النبي ﷺ، قد تغطيا، ولم تظهر إلا أقدامهما، من تحت اللحاف، أو الغطاء، دخل واحد من خبراء القيافة عند العرب، قائف مشهور جداً، وعالم بالنسب، وعالم بالأثر والأقدام، وآثار الأقدام والأشكال، وهذا علم معروف، فنظر إلى هذه الأقدام الأربعة من تحت الغطاء قد ظهرت بدون أن يسأله أحد، ولا يستنطقه أحد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسمع ذلك النبي ﷺ فتهلل وجهه فرحًا، ودخل على زوجته، يقول: ألم تري أن مجززًا المدلجي يقول كذا وكذا[7] لما ظهر من شهادة هذا الذي يسكت كل الكذبة الطاعنين.
الفرح بانتشار الإسلام وشعائره
النبي ﷺ كان فرحه بأخبار انتشار الإسلام في البوادي، وكان إذا جاء الأعرابي يسأله: كيف الإسلام عندكم؟ كيف انتشاره لديكم؟ كيف الناس في الصلاة؟ كيف حدبهم على الصلاة؟ كما جاء في الحديث، ولما تقال له الأخبار: الإسلام انتشر، والقبائل أقبلت، والصلاة قد فشت، وتقام فيهم، وهناك أئمة، وصلوات الجماعة، كان وجهه عليه الصلاة والسلام يتهلل فرحًا مما يسمع من الأخبار السارة في انتشار الإسلام.
وهكذا -يا عباد الله- يرى اليوم المسلمون بالرغم من كل الضربات التي تكال للإسلام وأهله في اجتماع المسلمين مثلاً في اجتماع المسلمين في صلاة عيد الأضحى في أنحاء العالم، شوارع سدت حتى الملاعب امتلأت بالمصلين في أماكن ومساجد في الساحات الخارجية، في الإقبال العظيم، فرحة عظيمة، وإغاظة لأعداء الله؛ لأنهم يرون أنهم بالرغم من كل ما فعلوه من المذابح، والضربات المتلاحقة، وكل ما فعلوه من نشر الشكوك والشبهات والفساد، لكن هناك أناس تقبل على الدين، وهناك مشاهد لله معمورة بهذه الصلوات، صلاة العيد، المشهد العظيم، شيء يفرح المسلمين، ويغيظ المشركين والكافرين.
الفرح بنيل الشهادة في سبيل الله، وبحسن الخاتمة
الفرح بنيل الشهادة هذا شيء آخر من ألوان الفرح الشرعي، وحرام بن ملحان صحابي جليل لما ذهب مع إخوانه للدعوة إلى الله في ذلك الحي من أحياء العرب، الذين غدروا بهم، وطلبوا من النبي ﷺ من يرسل إليهم ليعلمهم، فلما أرسل إليهم أحاطوا بهم، وقتلوهم، لما طعنوه نفذ الرمح في جسده، قال: "فزت ورب الكعبة"[8] فزت ورب الكعبة، وقتل ، هذه الكلمة علقت في نفس وسمع واحد من المشركين، واحد يقتل ويقول: فزت كيف هذا؟ أين الفوز وقد قتل؟ وذهب هو وأصحابه، حصدوا جميعًا؟ ثم كان ذلك سببًا في إسلامه، وعرف ما معنى: "فزت ورب الكعبة".
وبأي شيء هو الفوز الحقيقي؟ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [سورة آل عمران:185].
الفرح الحقيقي أن تلقى الله وأنت ثابت على دينك، الفرح الحقيقي أن تموت وقلبك سليم؛ لأنه لا ينجو عند الله إلا من لقيه بقلب سليم.
نسأل الله حسن الخاتمة.
عبد الله بن المبارك الرجل الصالح المجاهد الكريم المتصدق العالم المحسن في كل أبواب الخير، هذا يعني ذكر من معه بالصحابة، قالوا: لا يعرف له نظير إلا أن يكون في الصحابة، ولكنهم فاقوه بأجر الصحبة، لكن بالأعمال عبد الله بن المبارك يشبههم، لما نزل به الموت، وأغمض عينيه، فتحهما فجأة، وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [سورة الصافات: 1]. ثم مات -رحمه الله-.
بلال قبل ذلك لما نزل به الموت قالت زوجته: يا حزناه! قال: بل وافرحاه! غدًا نلقى الأحبة محمدًا وصحبه.
وكذلك ابن عقيل -رحمه الله- العالم المفتي الكبير الفقيه، خمسين سنة كان يفتي الناس، لما نزل به الموت بكى نساء أهل بيته من حوله، فقال لهن: "لقد وقعت عنه"؛ لأن المفتي يوقع عن رب العالمين الفتوى، ولذلك قال ابن القيم: "إعلام الموقعين عن رب العالمين": "لقد وقعت عنه خمسين سنة فدعوني أتهنأ بلقائه" اتركوا عني حزنكم وبكاءكم، ودعوني أتهنأ بلقائه.
وعبد الغني المقدسي نزل به الموت يقول له ولده: ماذا تشتهي آت لك؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه ربي[9].
وهكذا مضوا، البخاري -رحمه الله- كان راميًا، فرمى مرة وتدًا لشخص، فانشق فاغتم البخاري، أن يكون قد شق وتد إنسان، فأرسل يطلب أن يخبره عن العوض كي يعوضه، فلما علم حميد الأخضر أن البخاري هو الذي شقه، قال: أنا وما أملك وكلي لك يا أبا عبد الله، ففرح البخاري فرحًا عظيمًا، أن حلله إنسان من شيء قد أتلفه له، فحدثهم في ذلك اليوم بخمسمائة حديث، وتصدق بثلاثمائة درهم، من فرحه.
هذا الفرح بانزياح حمل وهم شيء شرعي، الآن فليتحلل منه قبل أن يكون يوم لا دينار ولا درهم.
الثبات على الطاعات بعد رمضان
عباد لله: هذا ما نتذكره في ختام شهرنا، والقيام بصلاة عيدنا، الفرح بفضل الله ورحمته، إنه معنى عظيم، والله العظيم.
ما العيد إلا أن نعود لديننا | حتى يعود نعيمنا المفقود |
ما العيد إن أن يرى قرآننا | بين الأنام لقاءه معقود |
واعلموا -يا عباد الله-: أنكم قد اعتدتم عبادات، وانتظمتم في طاعات، في شهركم الذي فات، فأروا الله من أنفسكم خيرًا: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [سورة النحل:92]. فلا رجوع إلى المعصية بعد الطاعة، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، والنقصان بعد الزيادة، ونعوذ بالله أن نرد على أعقابنا، بل إننا نستقبل ما يأتي من حياتنا، نستقبلها بطاعة الله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [سورة النحل:92]. فكانت تنسج وبعدما تتم النسج تكر عليه كله وتخربه، فلا يبق منه شيء، فضرب الله لهذا العمل مثلًا، بمن إذا فعل الطاعة قام يكر بالسيئات على الحسنات، والسيئات بعد الحسنات مصيبة.
فنسأل الله أن يتقبل منا وأن يوفقنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ [سورة هود:112]. إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت:30]. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [سورة الحجر:99].
فنستعين بالله، ونثبت على طاعة الله، ونأخذ مما حصل من الرصيد في رمضان زادًا ومنطلقًا كي نستزيد من عبادة الله بعد رمضان.
فضل صيام الست من شوال وكيفية ذلك
وتأملوا في هذه الست التي جعلها الشرع بعد رمضان كالسنة البعدية بعد الصلاة، الست هذه بصيام شهرين ذلك؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، وستة شوال بستين، أي شهران تمام السنة.
إن شئت صمها بعد العيد مباشرة، أو بعده بمدة، متتابعة أو متفرقة، لكن لا بدّ لك من نية قبل الفجر، حتى يكتمل الأجر.
واعلم أن أحب الأعمال إلى الله الفرائض، ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه[10]، فإذا كان عليك شيء من الواجب فاقضه قبل الدخول بالمستحب.
وحتى النساء تقضي ولو انتهى شوال، وتدخل في ذي القعدة بالست.
وقيل: تصومها في عشر ذي الحجة، ولها الأجر من الله ولذلك فإن الست النافلة بعد الفريضة والانتهاء من الفريضة، إذ لا يجوز الجمع بنية واحدة بين فريضة ونافلة في هذه الحالة، فلا يحصل الأجر إلا بإتمام الفريضة، ثم بصيام الست.
ولا صحة لتسميته بعيد الأبرار، ولا صحة للتشاؤم بشوال، بل إن عائشة -رضوان الله عليها- كانت تدخل نساءها في شوال إبطالاً لعادة أهل الجاهلية في التشاؤم بالزواج فيه.
نسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، اللهم اغفر لنا أجمعين، واعتقنا من النار، واغفر لنا ذنوبنا يا غفار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، اللهم اقض ديوننا، وفرج همومنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واهد ضالنا، واجمع على الحق كلمتنا، أخرجنا من الظلمات إلى النور، يا ربنا، اهدنا سبل السلام.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تعجل الفرج لأمة محمد ﷺ، أزل الغمة، واكشف الغمة، يا رب العالمين، عجل الفرج، واكشف الضر، وأزل البأس، يا أكرم الأكرمين، اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، تقبل صيامنا، وقيامنا يا رب العالمين، وأحسن خاتمتنا.
اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان لبلدنا هذا، من أراد العبث بإيماننا وأمننا، فاقطع دابره، واجعل كيده في نحره، واجعل بلدًا هذا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [سورة العنكبوت:45].
- ^ رواه البخاري: (1904)، ومسلم: (2762)، واللفظ لمسلم.
- ^ الحديث رواه مسلم: (6551).
- ^ سنن الترمذي: (3681)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2907).
- ^ رواه البخاري: (3952).
- ^ رواه البخاري: (3809)، ومسلم: (1901).
- ^ رواه مسلم: (2398).
- ^ رواه البخاري: (6771)، ومسلم: (3691).
- ^ رواه البخاري: (2801)، ومسلم: (5026).
- ^ ينظر: سير أعلام النبلاء: (21/ 467).
- ^ رواه البخاري: (6502).