الثلاثاء 15 شوّال 1445 هـ :: 23 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

21- ما جاء في إدام رسول الله 4


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان النبيﷺ يأتيني فيقول: أعندك غداء، فأقول: لا، فيقول:  إني صائم ، قالت: فأتاني يومًا، فقلت: يا رسول الله إنه قد أُهديت لنا هدية، قال: وما هي؟  قالت: قلتُ: حَيس، قال: أما إني قد أصبحتُ صائمًا ، قالت: ثم أكل"، متفق عليه. [رواه الترمذي: 734، وصححه الألباني في صحيح وضعيف أبي داود: 734].

والغداء: هو ما يؤكل قبل الزوال، وهذا بخلاف العشاء، كما كان عندهم وجبتان في اليوم، غداء وعشاء، وقولها: حيس، وهو ما يتخذ من السمن والأقط والتمر يخلط معًا.

وفي الحديث: استحباب قبول الهدية؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- قبّلتها، وأقرّها النبي ﷺ على ذلك، وفيها فضل عائشة وغيرها من زوجات النبي ﷺ حيث أنهن صبرن معه على الشدة، ولما خيرهن بين الدنيا وبين الله ورسوله اخترن الله ورسوله.

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:  يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا  [الأحزاب: 28 - 29].

"وهذا أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله ﷺ بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا -يعني من الأغنياء والكبراء- وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن -رضي الله عنهن وأرضاهن- الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بين الدار الآخرة سعادة وبين حسن الدنيا".

وروى الإمام أحمد عن جابر قال: "أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله ﷺ والناس ببابه جلوس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا، والنبي ﷺ جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر : لأكلمنّ النبي ﷺ لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت بنت زيد -امرأة عمر-، فسألتني النفقة آنفًا، فوجأت عنقها، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه، قال:  هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان رسول الله ﷺ ما ليس عنده"؛ لأنهن كن يسألنه نفقة، والنبي ﷺ ليس عنده شيء، فأراد أبو كل واحدة منهما أن يقوم فيعاقبها، كيف تسأل رسول الله ﷺ شيئًا ليس عنده، "فنهاهما رسول الله ﷺ، فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله ﷺ بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار" وهو هذه الآية العظيمة:  يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً [الأحزاب: 28]، فراق فراق، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا  [الأحزاب: 29]، هذا أمر من الله لنبيه أن يخير زوجاته بين الطلاق أو البقاء مع الصبر، فبدأ النبي ﷺ بعائشة، فقال: " إني أريد أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ... الآية ، قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال:  إن الله لم يبعثني معنّفًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " [رواه أحمد: 14515، وقال محققه أحمد شاكر: إسناده صحيح].   

وهذا فيه ما كان ﷺ مع زوجاته من ضيق العيش، مع أنه لو أراد أن يكون له مثل ملك من ملوك الدنيا لكان له ذلك.

في هذا الحديث: جواز قطع صوم النافلة، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم، لكن قالوا يكره إلا لعذر، قال بعضهم يحرم قطع صوم النفل إلا لعذر، ولكن الراجح أنه لا يحرم.

وفي الحديث: أنه لا يشترط لصوم النفل تبييت النية من الليل، أي حديث؟ حديث الباب الأصلي الذي فيه أن النبي ﷺ كان يأتي عائشة يقول:  عندكم غداء؟ ، عندك غداء، تقول: لا. [رواه النسائي: 2324، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: 2324].

قال: إني صائم ، متى قال: عندكم غداء ، قال لها في النهار: عندك غداء في النهار بعد ما طلع الفجر، فإذن عندما قال:  إني صائم ، قرر الصيام في النهار، إذن ما نوى من الليل، هل يجوز؟ هل يُحسب صيام نافلة بدون نية من الليل؟ وحديث: لا صيام لمن لم يفرضه من الليل  [رواه ماجة: 1700، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7516].

 لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ، هذا خاص بصوم الفرض، أما صوم النفل فلا يلزم ذلك، كما دلّ عليه الحديث.

وفيه: أنه لا نوى من النهار صحّ صومه بشرط: أن لا يكون قد أتى بما ينافيه كالأكل والشرب والجماع، فلا يصلح أن الإنسان يبدأ نهاره فيأكل أو يجامع، ثم يقول إني أريد الصوم، فمتى يصح الصوم وهو ما نوى من الليل؟ يصح الصوم إذا نواه من النهار بشرط أن لا يكون قد أكل أو شرب أو نكح قبله، إذا لم يأت بما ينافي الصوم، وهذا قول أكثر أهل العلم، وحملوا حديث حفصة أن النبي ﷺ قال: من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له  [رواه النسائي: 2334، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6535]. حملوه على صوم الفريضة، والنافلة تختلف عن الفريضة ويتسامح في النفل ما لا يتسامح في الفرض، هذه مثل القاعدة يتسامح في النفل ما لا يتسامح في الفرض، ومما يدل على هذا أن القيام في الصلاة ركن من أركانها، لا تصح الصلاة إلا به، لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ  [البقرة: 238]، الأصل أن هذا يشمل الفرض والنفل، وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ؛ لكن لما جاء الإذن بالصلاة قاعدًا في النفل لمن أراد، وأنه ﷺ صلى النافلة على راحلته، دل ذلك على جواز أن لا يقوم الإنسان في النافلة، وعليه تكون النافلة مخصوصة من الأمر بالقيام، إذن القاعدة ما هي؟ يتسامح في النفل ما لا يتسامح في الفرض، وكذلك فإن النية من النهار في صيام النفل، النية من النهار في صيام النفل إلى أي وقت؟

فبعضهم قال: لا تصح النية بعد الزوال، وحتى يصح صيام النفل لابد أن ينوي قبل الزوال، قالوا: لأن النية لم تصحب معظم العبادة، فلذلك لا تصح إذا نوى بعد الزوال لابد أن تصحب أكثر العبادة، إذن ينوي قبل الزوال.

القول الثاني: أنها تصح ولو نوى بعد الزوال، وهذا هو الراجح؛ لأن له حافز أن يستمر إلى الغروب، فلو أن إنسانًا مثلاً قام مستعجلاً في الصباح فلم يفطر وذهب إلى عمله، وكان العمل متواصل، ولم ينتبه إلا بعد الظهر، وقال: ما باقي كثير على اليوم، لماذا لا أصوم، ونوى من بعد الظهر، من بعد الزوال، فيصح صومه على الراجح ما دام لم يأت بما ينافي الصوم من بعد الفجر إلى هذا الوقت، ما دام لم يأت بما ينافي الصوم من أكل أو شرب أو غيره، فهذا بالنسبة لمن نوى النفل بعد الزوال، ولو أنه نام ولم يستيقظ إلا بعد الزوال، فكذلك له أن يصوم نافلة بقية اليوم، لكن أجره من متى؟ هل أجره من الفجر إلى المغرب؟ أو يكون أجره من وقت ما نوى إلى المغرب، فالراجح أن أجره يكون من وقت ما نوى إلى المغرب، الذين قالوا لابد من النية قبل الزوال، قالوا أجره من الفجر، له أجر اليوم كاملاً، الذين قالوا يجوز أن ينوي بعد الزوال ويجوز أن ينوي قبل الزوال قالوا إن أجره يكون من وقت ما نوى، "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".

قال: وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: "رأيت النبي ﷺ أخذ كسرة من خبز الشعير فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه وأكل" [رواه الترمذي في الشمائل: 174، وضعفه الألباني في المختصر: 156]. لكن هذا الحديث فيه ضعف، وهو يدل على أية حال على قناعة النبي ﷺ بعيشه وتقلُّله منه.

وعن أنس بن مالك: "أن رسول الله ﷺ كان يعجبه الثُّفْل" [رواه الترمذي في الشمائل: 157، وصححه الألباني في المختصر: 157]. قال عبد الله: "ما بقي من الطعام"، وصححه الألباني.

والثُّفْل: ما يرسب من كل شيء، أو ما يبقى من بعد العصر، من بعد العصر المقصود به بعد ما يعصر، بعد عصر الشيء، وقيل ما بقي من الطعام، وقيل ما بقي في القدر وهذا هو المشهور عند أهل الحديث، ولعل وجه إعجابه به ﷺ أنه يكون منضوجًا غاية النضج، وقريب من الهضم، فهو أهنأ وأمرأ الذي يكون في سفل القدر يعجبه إذا طبخت الطبخة يعجبه الثفل ما يكون في أسفل القدر، لأنه يكون أنضج شيء وأهنأه وأمرأه.

وكذلك فإنه يدل على أنه ﷺ إذن من جهة أخرى على تواضعه، فإنه يأكل ما بقي ولو كان في آخر القدر يأكل ما بقي، وأمر بلعق الأصابع؛ ولأنه لا يدرى في أي الطعام البركة، وأنه إذا سقطت اللقمة الواحد لا يتركها بل يأخذها.

وفي الحديث: إشارة إلى التواضع والقناعة، ورد على كثير من أغبياء الأغنياء الذين يتكبرون ويأنفون من أكل الثفل، ويصبونه ويرمونه يرمونه، الذي في آخر القدر هذا للرمي، مع أن النبي ﷺ كان يأكله، والطعام الذي عند الإنسان لا يدرى البركة أين هي منه؟ هل هي فيما أكله، أو فيما بقي أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة أو فيما علق من الأصابع؟ ولذلك يحرص عليه لتحصل البركة.

قال: وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خرج من الخلاء فقرب إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ قال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمتُ إلى الصلاة ، وهذا الحديث؛ حديث ابن عباس أن الرسول ﷺ خرج من الخلاء فقرب إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوَضوء، بفتح الواو ما يتوضأ به، الماء الذي يتوضأ به، الوُضوء بضم الواو عملية الوضوء الأفعال نفسها، ألا نأتيك بوَضوء؟ قال:  إنما أُمرت بالوضوء إذا قمتُ إلى الصلاة ، وقد خرج ﷺ من الخلاء موضع قضاء الحاجة، فقالوا له ألا نأتيك بوضوء، فالسؤال الآن هذا الحديث جواب على سؤال: هل يجب الوضوء بعد الخروج من الخلاء مباشرة؟ هل يشترط كل ما دخل الإنسان الخلاء أن يتوضأ، يجب عليه؟ هذا الحديث يجيب على هذا السؤال، خرج من الخلاء فقرب إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء؟ قال:  إنما أُمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة  [رواه الترمذي: 1847، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 158].

فإذن إذا أردت القيام للصلاة يجب الوضوء، أما الوضوء بعد كل ما يخرج من الخلاء مباشرة، بعد خروجه من الخلاء مباشرة فلا، كذلك لو أنه قضى حاجته ثم أراد أن يأكل هل يلزمه أن يتوضأ؟ الجواب أيضًا: لا، إذن متى يلزمه أن يتوضأ؟ لكل عبادة يجب لها الوضوء مثل الصلاة، ومس المصحف عند جمهور العلماء، والطواف مثلاً، وسجود التلاوة عند من يوجب الوضوء لسجود التلاوة وهكذا، وكأنه ﷺ علم من السائل أنه اعتقد أن الوضوء الشرعي واجب مأمور به، فأجابه على ما في ذهنه وما قام في نفسه.

ولو قال قائل: ألا يستحب؟ نقول: نعم، الاستحباب نعم،  لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن  [رواه ابن ماجة: 3940، وابن حبان: 1037، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 1037].  إذا واحد كلما دخل الخلاء توضأ فهذا أفضل لاشك، كلما خرج من الخلاء توضأ هذا أفضل، كلما قضى حاجته توضأ هذا أفضل، يكون دائمًا على طهارة.

طيب بعض العلماء قالوا: المقصود هنا بالوضوء الوضوء اللغوي وهو غسل الكفين، ولكن الأكثر قالوا المقصود الوضوء الشرعي، وهل يستحب الوضوء لأشياء غير العبادات، يعني غير الصلاة وغير مس المصحف وغير الطواف، نعم يستحب، عند النوم مثلاً، وكذلك إذا أجنب ولا يريد أن يغتسل فإنه على الأقل يتوضأ، كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي ﷺ كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جُنُب توضأ" [رواه أبوداود: 224، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 224]، واحد عليه جنابة يريد أن يأكل؟ واحد عليه جنابة يريد أن ينام؟ يتوضأ على الأقل، يُستحب له ذلك، لا يريد أن يغتسل يريد أن يؤخّر الغسل شيئًا ما، إذن يتوضأ، وقد جاء في حديث عمار بن ياسر: "أن النبي ﷺ رخّص للجُنُب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ" [رواه الترمذي: 613، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 426]. يعني ينام بدون غسل جنابة.

وقال: وعن ابن عباس  قال: "خرج رسول الله ﷺ من الغائط فأتي بطعام فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: أأصلي فأتوضأ؟ [رواه مسلم: 374]. يعني: لا يلزمني الوضوء إلا إذا قمت إلى الصلاة.

وعن سلمان قال: "قرأت في التوراة: أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرتُ ذلك للنبي ﷺ وأخبرته بما قرأتُ في التوراة، فقال رسول الله ﷺ:  بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ، ولكن هذا الحديث ضعيف، وسلمان اطّلع على بعض ما في كتب المتقدمين، وكان له رحلة وانتقال من عالم المجوس إلى دين النصارى، قبل أن يأتي إلى أرض العرب ويُسلِم في المدينة.

إذن، حديث: بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ضعيف لا يثبت. [رواه أبو داود: 3761، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل: 159].

ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله- الحاشية في حاشية على سنن أبي داود لما ذُكر مسألة الوضوء قبل الطعام، وغسل اليدين قبل الطعام، ما حكمه؟ قال: "والصحيح أنه لا يُستحب" [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 10/168].

والتفصيل أقرب؛ فإن كانت اليد ملوثة فيُستحب غسلها؛ لأنه سيأكل بها وما يدخل من الطعام إلى جوفه يكون نظيفًا، وإذا لم يكن يريد أن يأكل فلا وضوء في هذه الحالة، بعد الانتهاء هل هناك وضوء من جهة الاستحباب؟ لا، ما ثبت الدليل، لكن غسل اليدين.

قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: "ويستحب غسلُ اليدين قبل الطعام وبعده وإن كان على وضوء".

قال المروذي: "رأيت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - يغسل يديه قبل الطعام وبعده، وإن كان على وضوء"، فهذا من أجل ما يعلق باليد ما يصيبها من الزهومة والدهن والدسم والغمر، ولذلك فإنه يغسلها.

باب: ما جاء في قول رسول الله ﷺ قبل الطعام وبعد ما يفرغ منه.

وذكر فيه حديث أبي أيوب وهو ضعيف، ثم قال: وعن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ:  إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر اسم الله -تعالى- على طعامه فليقل: بسم الله أوله وآخره .

 نسي أن يذكر اسم الله  يعني: نسي أن يقول بسم الله، ماذا يقول؟ بسم الله أوله وآخره،  إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر اسم الله تعالى على طعامه فليقل: بسم الله أوله وآخره .

 بسم الله في أوله وفي آخره ، يعني: في جميع أجزائه، ويمكن أن يقال بأوله نصفه الأول، وبآخره نصفه الثاني.

وفي الحديث: استحباب التسمية في ابتداء الطعام، وكذلك الشراب، وفي كل أمر ذي بال، ويستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره ويذكره بها، ولو ترك التسمية في أول الطعام عامدًا أو ناسيًا أو جاهلاً أو مكرهًا أو عاجزًا، ثم تمكن في أثناء الأكل استحب له أن يسمي ويقول: بسم الله أوله وآخره [رواه أبو داود: 398، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 161].

هل التسمية قبل الطعام واجبة؟

قال ابن القيم -رحمه الله-: "والصحيح وجوب التسمية على الأكل، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد وأحاديث الأمر بها صريحة لا معارض لها، وتاركها -يعني تارك التسمية قبل الطعام- شاركه الشيطان في طعامه وشرابه".

والحكمة من التسمية قبل الطعام: هي منع الشيطان من أن يأكل مع الإنسان فتنزع البركة منه، فيكون الطعام الذي يظن أنه يكفيه لا يكفيه، ويدل على هذا حديث حذيفة أن النبي ﷺ قال: إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه [رواه مسلم: 2017]، فإذا لم يذكر اسم الله عليه استطاع الشيطان أن ينال منه، معنى هذا أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح كما قال:  وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ  [الإسراء: 64]، يشاركهم في وطء زوجاتهم إلا إذا سمى فإنه إذا سمى الله؛ إذا أتى أهله قال: بسم الله فقُدِّر بينهما شيء لم يضره الشيطان، ومعنى يستحل الطعام يعني: يتمكن من أكله، وهذا الحديث ونحوه في أكل الشيطان محمول على ظاهره، وأنه يأكل حقيقة.

وعن عمر بن أبي سلمة أنه دخل على رسول الله ﷺ وعنده طعام قال:  ادنُ يا بني، وسمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك [رواه الترمذي: 1857، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1184]. 

 ادنُ : اقترب،  سمّ الله : هذا أمر ظاهره الوجوب،  كل بيمينك : وذلك لأنه رآه تطيش يده في الصحفة فأراد أن يعلمه الطعام بكلام مختصر يناسب حال الغلام وسن هذا الصبي، ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد على الأكل بالشمال.

وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال:  كل بيمينك ، قال: لا أستطيع، قال:  لا استطعت [رواه مسلم: 2021]. ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلا فيه"؛ شُلّت، لأنه عصى النبي ﷺ وقال لا أستطيع وهو كاذب يستطيع شلت، ما رفعها بعد ذلك.

وقد ثبت النهي عن الأكل بالشمال وأنه من عمل الشيطان، وقولهﷺ: إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله [رواه مسلم: 2020]. مقتضى هذا تحريم الأكل بالشمال؛ لأن التشبه بالشيطان لا يجوز، ولو كان الأكل بالشمال جائزًا ما دعا على الذي رفض أن يأكل بيمينه.

وقوله:  مما يليك يعني: مما هو قريب منك، السنة الثابتة الأكل مما يليه؛ لأن الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك المروءة، وقد يتقذر صاحبه من ذلك، وقلنا سابقًا إن الطعام إذا كان صنفًا واحدًا فإنه يأكل مما يليه، وإذا كان الطبق فيه أصناف مختلفة جاز له أن يمد يدّه إلى المكان الذي يريد أن يأخذ منه، فهذا بعض ما كان يقوله النبي ﷺ ويرشد إليه في الطعام، والله تعالى أعلم.