الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تقدم في كتاب الشمائل المحمدية للترمذي -رحمه الله- ذكر بعض الأبواب التي فيها ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه من الزهد في الدنيا، والتقلل منها، ولا يظنن ظان أن هذا من باب تحريم الطيبات، وأن النبي ﷺ لا يأكل لحمًا، أو لا يأكل مشويًّا؛ بل كان ﷺ يفعل ذلك، ولكن ما حال أكثر أوقاته؟ أنه كان متقللاً من الطعام، وكان في المدة الطويلة لا يرى طعامًا مطبوخًا، ولا يوقد في بيته نار.
وأورد الترمذي -رحمه الله- أمثلة على أنه ﷺ كان يأكل من الطيبات، وكان ربما يحضره الطعام النفيس فيأكل منه، وأن ذلك ليس بمحرم، ولكن هذا لا ينافي زهده في الدنيا، فإن الحكم للأعم الأغلب، وهذه أبواب تبين أنه ﷺ إذا دُعي، أو حضره طعام من اللحم أو غيره، فإنه كان يأكل منه.
في باب ما جاء في إدام النبي ﷺ حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي ﷺ يحب الحلواء والعسل" [رواه البخاري: 5431، ومسلم: 1474].
والحلواء: اسم لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، فهو طعمه حلو لكنه مصنوع، وليس الشيء الطبيعي كبعض الثمار حلوة الطعم، وإنما المقصود بالحلواء ما صنع؛ مثل هذه الحلويات التي تعارف عليها الناس اليوم، فإنها مصنوعة.
قال النووي -رحمه الله-: "والمراد بالحلواء هنا كل شيء حلو، وذكر العسل بعدها تنبيهًا على شرافته ومزيته، وهذا من ذكر الخاص بعد العام" [شرح النووي على مسلم: 10/77].
إذن النووي -رحمه الله- يفهم أن الحلواء كل شيء حلو، والخطابي -رحمه الله- قال: "لا يقع إلا على المصنوع، وقال الخطابي: لم يكن حبه ﷺ على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزع النفس إليها، وإنما ينال منها إذا أحضرت إليه نيلاً صالحًا، فيعلم بذلك أنها تعجبه".
فهو كونه يحبها لا يعني أنه يحرص عليها ولابد أن توجد على مائدته، وأنه يقضي الوقت في البحث عنها وجلبها ويتكلف لذلك كلا، كان يحبها إذا وجدت أكل، وإذا ما وجدت فإنه لا يتكلف.
والحلواء والعسل من جملة الطيبات المذكورة في قوله تعالى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون: 51].
وقال الحافظ -رحمه الله-: "وفيه تقوية لقول من قال المراد به المستلذ من المباحات" [فتح الباري لابن حجر: 9/557].
ودخل في معنى هذا كل ما يشابه الحلواء والعسل من أنواع المآكل اللذيذة، وهذا يقرر ما تقدم من أن الإنسان لا يؤاخذ على أكل الطيبات ولا يأثم على ذلك.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قرّبت إلى رسول الله ﷺ جنبًا مشويًّا، فأكل منه ثم قام إلى الصلاة وما توضأ"، رواه الترمذي. [رواه الترمذي: 1829، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 138].
والمقصود بالجنب كما قال ابن سيّده: "جنب الشاة شقها، وجنب الإنسان شقه، وفي النهاية: القطعة من الشيء يكون معظمه أو شيئًا كثيرًا منه" [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 1/223].
وقوله: "جنبًا مشويًّا فأكل منه"، لا يعارض حديث أنس المتقدم من "أنه ﷺ ما أكل خبزًا مرققًا ولا شاة مسموطة حتى لقي الله" [رواه البخاري: 5385]، وقلنا: "الشاة المسموطة": التي أزيل شعرها بالماء الساخن وشوي بجلده، أو طبخت بجلدها، والفرق بين هذا وهذا واضح، لكن يمكن أن يقال أيضًا إن الشاة لم تسمط كاملة هنا، أو أن أنسًا أخبر بما علم، وخفي عليه أنه ﷺ في بعض الأحيان القليلة أكل من شاة مشوية وأنه رآها، ومن علم حجة على من لم يعلم، وأيضًا فإن الذي يثبت مقدم على الذي ينفي، خاصة أن مثل هذه الأمور مما يختص به أهل بيته ﷺ أي بمعرفته، وأم سلمة أعلم من أنس بأحواله ﷺ البيتية، ولذلك لما سأل بعض التابعين عائشة -رضي الله عنها- عن مسألة تختص بالسفر مع النبي ﷺ لم تجبه وأحالته على من؟ على علي وقالت: إنه كان كثير السفر مع النبي ﷺ، فأُم سلمة أعرف من أنس بأحواله ﷺ البيتية، لأنها كانت أكثر ملازمة للنبي ﷺ داخل بيته.
وقوله في الحديث: "قام إلى الصلاة ولم يتوضأ"، فيه دليل على ترك الوضوء مما مسته النار، وهذه مسألة فقهية: هل يجب الوضوء مما مسته النار؟ يعني الطعام المطبوخ الذي تعرض للنار، الذي طبخ بالنار، هل يجب الوضوء منه إذا أكله الإنسان؟ كان هذا في الحقيقة حكمًا معمولاً به في فترة من الزمن في العهد النبوي حتى جاء نسخ ذلك، فكان الوضوء مما مست النار واجبًا، ثم نزل التخفيف وصار الوضوء مما مسته النار مستحبًا إلا لحم ماذا؟ الجزور والجمل لحم الإبل، فإنه يجب الوضوء منه، وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى ترك الوضوء مما مسته النار، وأن الوضوء مما مسته النار مستحب وليس بواجب، وقد قال جابر : "كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مسّته النار" [رواه أبو داود: 192، والنسائي: 185، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 192].
قال النووي: "وهو حديث صحيح" [شرح النووي على مسلم: 4/43].
والحديث يدل على: ترك الوضوء لكل صلاة، يعني أنه لا يجب الوضوء لكل صلاة، فإن النبي ﷺ لما حضر وقت الصلاة قام وصلى ولم يتوضأ، معناها يجوز أن يصلي المسلم صلاتين وثلاثًا وأربعًا بوضوء واحد ما لم ينقضه.
وفي الحديث: خدمة المرأة لزوجها حيث أعدّت له الطعام وقرّبته له، وهذا يرجح قول من قال بخدمة المرأة لزوجها، على أن الخلاف هو في الوجوب هل يجب عليها أو لا يجب؟ والراجح: الوجوب من مثلها لمثله بالمعروف، وفي الحديث جواز أكل أحسن الأطعمة وأن هذا لا يعارض الزهد، والنبي ﷺ إمام الزاهدين ومع ذلك أكل، ولم يقل لا آكل من هذا أبدًا؛ لأن هذا طعام فاخر، لا آكل منه أبدًا، كلا، فأكل ﷺ أحسن الأطعمة كاللحم المشوي وشرب من العسل، وهذا يدل على أنه لم يكن يتكلف ﷺ، فإذا حضره شيء أكل منه ولو كان طعامًا فاخرًا، وإلا لم يتكلفه، ولم يسأل عنه، ولم يطلبه.
قال: وعن جزء الزبيدي قال: "أكلنا مع رسول الله ﷺ شواء في المسجد" والحديث صححه الألباني. [رواه الترمذي في الشمائل: 166، وصححه الألباني في المختصر: 139].
وهذا يؤيد ما تقدم من أنه ﷺ أكل اللحم المشوي، والحديث فيه ابن لهيعة؛ وهو سيئ الحفظ وبعضهم لم يصححه، لكن لعل الشيخ -رحمه الله- صححه لروايات أخرى وردت في الموضوع نفسه.
وفي الحديث: جواز الأكل في المسجد، وهذا لا ينافي تعظيم المسجد؛ لكن مشروط بما إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، وإلا فإن العلماء نصُّوا على أن المساجد لا تحول إلى مطاعم وفنادق وأنها تصبح للناس منامات ينامون فيها ويأكلون فيها، لكن مثل هذا مثلاً في الاعتكاف مثلاً المعتكف يأكل في المسجد لا حرج عليه من الأكل في المسجد، وربما تصبح مناسبة مثلاً أهل الصفة، أهل الصفة ما كان لهم بيوت، ما كان لهم منازل ودور، ما كان لهم من يستضيفهم في بيته، فأين ينامون؟ أين يعيشون؟ أين يسكنون؟ بالمسجد، إذن هذا للحاجة، وبالطبع فإنه يوضع لهم الأكل في المسجد، وكان بعض الصحابة يأتيهم بالعذوق من الرطب ومن البسر تعلق ويأكلون منها.
والحديث يدل على: حسن معاشرته ﷺ لأصحابه فإنه خالطهم في طعامهم، وأكل معهم؛ لا كما يفعله بعض الناس من أنهم لا يأكلون مع الآخرين، وإذا صار له منصب عالي اعتزل الناس وصار له حياة خاصة وله حجاب، ولا يأكل مع أهل الحاجات، ويعمل لنفسه منزلة بزعمه في كونه لا يخالط الناس.
والحديث فيه: نشر العلم؛ لأن الصحابي أخبر من وراءه أنهم أكلوا في المسجد مع النبي ﷺ لئلا يتحرج من هذا.
وعن المغيرة بن شعبة قال: ضِفتُ مع رسول الله ﷺ ذات ليلة فأتي بجنب مشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز فحز لي بها منه، قال: فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى الشفرة فقال: ما له تربت يداه ، قال: وكان شاربه قد وفى، فقال له: أقصه لك على سواك، أو قال قصه على سواك" [رواه الترمذي: 140، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 140].
ومعنى "ضِفت" أي: نزلت عليه ضيفًا، قال الجوهري: "ضفت الرجل ضيافة إذا نزلت عليه ضيفًا" [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 1/223] ، وفي بعض طرق الحديث: "بتُ"، و"الشفرة": السكين العظيمة، وقال ابن الأثير: "السكين العريضة، وجمعها شفار" [تهذيب اللغة: 11/240]، ومعنى "يحز": احتزّ وحزّ أي: قطع، ومعنى "يؤذنه" يعني: يعلمه ويخبره، وقوله ﷺ: ما له ، أي ما لبلال عجل ولم ينتظر إلى أن أفرغ من أكل طعامي، وقوله: تربت يداه ، من باب الملاطفة وليس المراد معنى هذا اللفظ؛ لأن معناه الحقيقي تربت يداه يعني: لصقت بالتراب من الفقر، وبالتأكيد النبي ﷺ لا يريد الدعاء على أصحابه بهذا، لكنها كلمة تقولها العرب ولا تريد معناها، مثل: ثكلتك أمك، يعني في اللغة معناها: فقدتك هذا في الأصل، لكن يقولونها ولا يريدون معناها.
وقال الخطابي: "تربت يداه كلمة تقولها العرب عند اللوم" [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 1/224].
وقوله:" وكان شاربه"، وفي رواية: "أو كان شاربي وفى"، يعني: كثر وطال، فقال: "أقصه لك على سواك"، من الذي قال: شاربي وفى؟ راوي الحديث هو المغيرة بن شعبة هو الذي قال: "ضفت مع رسول الله ﷺ ذات ليلة"، يعني: نزلت عليه ضيفًا، وهو الذي وفى شاربه، وهو الذي قال له: "أقصه لك على سواك". وفي رواية للبيهقي: "فوضع السواك تحت الشارب وقصّه".
ومن فوائد هذا الحديث جواز قطع اللحم بالسكين، وأما حديث: لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهسوه فإنه أهنأ وأمرأ [رواه أبو داود: 3778، وضعفه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6256].
وفي لفظ: وانهشوا بدلاً من: وانهسوه ، قال أبو داود: "ليس بالقوي"، يعني: هذا حديث ليس بالقوي.
قال شيخنا في شرح الترمذي، من هو شيخه الذي شرح الترمذي؟
من هو آخر الصحابة وفاة؟ أبو الطفيل عامر بن واثلة، هذا جواب السؤال الماضي.
قال ابن حجر: "قال شيخنا في شرح الترمذي، أي: الحافظ العراقي -رحمه الله-، قال شيخنا في شرح الترمذي: "ولم يثبت النهي عن قطع اللحم بالسكين" [فتح الباري لابن حجر: 9/545].
وفي الحديث: ضيافة المتبوع للتابع؛ وخصوصًا إذا كان حديث عهد بإسلام أو فيه استقامة ودين، وخصوصًا إذا كان حديث عهد بإسلام أو حديث عهد باستقامة، فيكون من باب تأليف قلبه أن يدعى وأن يضيف.
والحديث فيه: حسن عشرة النبي ﷺ لضيوفه.
وفيه: أن من السنة أن لا تقام الصلاة حتى يراسل الإما،م وهذه سنة مهجورة، لكن الحمد لله في مسجدنا هذا أحمد المؤذن يتصل علي ويطبق السنة، أن من السنة أن لا تقام الصلاة حتى يراسل الإمام، وهذه سنة مهجورة، فإذا كان يعلم يمكن إعلام الإمام فيراسل الإمام، ما هو الدليل؟ من أين أخذنا هذا؟ قال: "فجاء بلال يؤذِنه بالصلاة"، يعني يقول الصلاة اقتربت، الإقامة، لا أن يقيم ويضعه أمام الأمر الواقع، لا، هو يؤذنه بالصلاة أولاً.
والحديث هذا فيه: ترك الأكل والقيام إلى الصلاة، يعني أن هذا لا بأس به، ألا يخالف هذا حديث: إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ، قالوا في الجمع بينهما عدة أقوال: أولاً أن هذا الحديث محمول على من تاقت نفسه للطعام، أي حديث؟ إذا حضر العشاء إذا حضر العِشاء أو العَشاء؟ إذا حضر العَشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعَشاء [رواه مسلم: 557] لأنك لو قلت إذا حضر العِشاء ابدءوا بالعِشاء انعكس المعنى عكست المعنى، إذا حضر العَشاء وأقيمت الصلاة فابدوا بالعَشاء ، هذا يحمل على من تاقت نفسه إلى الطعام، ويؤيد هذا ما رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس أنهما كانا يأكلان طعامًا وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال له ابن عباس: لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء، لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء؛ لأن اللحم إذا كان في تنور للشواء النفس تتطلع إليه، فلو أقيمت الصلاة سيصلي وفي نفسه الشوق إلى الطعام.
يمكن أيضًا أن يحمل الحديث هذا أنه ترك الأكل ترك اللحم وقام إلى الصلاة يحمل على أنه غير محتاج إليه، وحديث إذا حضر العشاء يحمل على ما إذا كان محتاجًا للطعام، وحمل البخاري قوله: إذا حضر العشاء أن الأمر بتقديم العشاء على الصلاة أن هذا خاص بغير الإمام الراتب، والمعنى أن غير الإمام له أن يتأخر إذا حضر طعامه في وقت الصلاة، أما الإمام يبادر إلى الصلاة، والإمام المستحب في حقه المسارعة لفعلهﷺ، وقال بعضهم: يقدم الأكل على الصلاة مطلقًا سواء كان إمامًا أو مأمومًا، لأن الحديث عام يتناول الجميع، حتى لو كان إمامًا، وسواء تاقت نفسه إلى الطعام أو لا، لما تقدم من الحديث، ولقوله ﷺ: لا صلاة بحضرة طعام [رواه مسلم: 560].
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "ولو كان الطعام حاضرًا ولكنه شبعان ولا يهتم به فليصل ولا كراهة في حقه، ولو أن الإنسان صلى وهو جائع ونفسه تتوق للطعام لا شك أنه سيحصل له تشوش في الصلاة وأن خشوعه سيكون مختلاً.
الحديث يدل على: كراهة إبقاء الشارب، وأن هؤلاء الذين يفتلون شواربهم يجعلونها تنزل على الشفه أن هذا ليس من فعل المسلمين، وأن النبيﷺ أمر قال: جزوا الشوارب، حفوا الشوارب، انهكوا الشوارب [رواه البخاري: 5893].
أقصه لك على سواك : قصّ ما طال عن الشفة العليا.
فإذن ليس من السنة أن يكون الشارب كثيفًا فضلاً عن أن يكون نازلاً على الشفة، فإن هذا ليس من فعل أهل السنة الذين يتبعون السنة، وفيه دليل على أن الشارب يقص بالمقص، ولا يحلق بالموس.
وعن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ أُتي بلحم فرُفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة" [رواه الترمذي في الشمائل: 168، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 141] .
والحديث عند البخاري أيضًا، وكان ﷺ يحب الذراع، هل محبّته للذراع سنة، فنحن نؤجر إذا أحببنا الذراع وأكلنا منها، لا هذا شيء جبلي، هو كان يحبه بطبيعته، على أن لحم الذراع لحم بالنسبة لبقية اللحم خفيف طري لين أطرى من مثلاً لحم الفخذ، فإذن كانت تعجبه الذراع.
وقال النووي -رحمه الله-: "محبته للذراع لنضجها، وسرعة استمرائها، مع زيادة لذتها، وحلاوة مذاقها، وبُعدها عن مواقع الأذى"، فإنها ليست مجاورة لما يخرج من الشاة ونحوها، وكذلك لا تلابسها ما في كرش هذه الذبيحة مثلاً، وأيضًا فإن النبي ﷺ نهش منها، والنهش: هو القبض على اللحم بالفم، وإزالته عن العظم، فإذا قبض على اللحم بأسنانه وفمه ونزع عن العظم فهذا يسمى نهشًا، وفي بعض الطرق: "فنهس" بالسين.
وقال بعضهم: إن النهس غير النهش، والنهس: أن يتناوله بمقدم الفم، وقيل: القبض على اللحم عند الأكل، والفرق بين أن يحزّه بالسكين وأن ينهشه بأسنانه: الصحيح أن كلاهما مباح، هذا مباح وهذا مباح، لكن أيهما أبعد عن فعل المتكبرين؟ النهش؛ لأن أصحاب الإتكيت اليوم لا يمكن النهش هذه غير وارد، سكين وشوكة، لابد من أدوات، قال المباركفوري -رحمه الله-: "استُحب النهش للتواضع وعدم التكبُّر؛ ولأنه أهنأ وأمرأ كما جاء في حديث صفوان: انهشوا اللحم نهشًا فإنه أهنأ وأمرأ [تحفة الأحوذي: 5/463]. وهذا الحديث ما سبق، ولكن قد حسّنه الحافظ -رحمه الله- بشواهده.
وقيل: إن محل الاستحباب إذا كان عند أناس لا يتقذرون بهذا، فإذا كان عند أناس يتقذرون بهذا فإنه لا يفعله، وليس المقصود أنه يأخذ ينهش ينهش ثم يردها في الصحفة في طعام الناس، لا، فإن كثيرًا من الناس يتقذرون بهذا، ومعروف أن النهش يعلق بالمنهوش من لعاب الناهش، فربما يكون هذا فيما إلى إذا كان مع أهله وأولاده ونحو ذلك، وإذا وجد أن الضيوف بعضهم يتقذر من هذا فإنه يتركه مراعاة لهم.
وعن ابن مسعود ، قال: "كان النبي ﷺ يعجبه الذراع"، قال: "وسُمَّ في الذراع وكان يرى أن اليهود سمُّوه" [رواه الترمذي: 159، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 142].
اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- لأنهم يعلمون أن النبي ﷺ يحب الذراع لما أتوه بالشاة المسمومة في خيبر وضعوا السُّم في كل الشاة، وأكثروا من السُّم في الذراع؛ لأنهم يعلمون أنه يحب الذراع، فانظر إلى جمع اليهود للمعلومات، أن عندهم رصد، رصد ومتابعة، يعلمون النبي ﷺ يحب الذراع فأكثروا السُّم في الذراع، والمرأة اليهودية هي التي سمت هذا، وقيل إنها سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ قيل لها: الذراع، فأكثرت فيه من السُّم، وكان يرى أن اليهود سموه.
وجاء في حديث أبي هريرة: أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله ﷺ شاة مسمومة فاعتل فقال لأصحابه: أمسكوا فإنها مسمومة ، لكن بعد ما أكل منها ﷺ وأكل بعض الصحابة، قال لها: " ما حملك على ذلك؟ قالت: أردتُ إن كنتَ نبيًا فيطلعك الله -انظر الخبيثة- وإن كنتَ كاذبًا فأريح الناس منك، فما عرض لها"، هذه رواية البيهقي. [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 16007، وضعّفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 4509].
لكن لما مات بعض أصحابه من الأكل -وهو بِشْر بن البراء- قتلها قصاصًا، فأولاً لما قالت له، لما قيل لها: لماذا فعلت ذلك؟ لماذا وضعت السُّم؟ قالت: إن كنت صادقًا نبيًا يأتيك الخبر، وإن كنت كاذبًا أريح الناس منك تركها، ما أحبّ أن ينتقم لنفسه ﷺ، لما مات من الذين أكلوا معه بشر بن البراء بسبب الشاة المسمومة قتلها قصاصًا، وهذه المرأة اليهودية اسمها زينب بنت الحارث، والحقيقة أن النبي ﷺ تأثر من هذه الشاة المسمومة، وبقي يعتاده وجع والحمى تأتيه دوريًا من وراء هذا السم، حتى كانت وفاته بسببه، فإذا قال لك قائل: إنه ﷺ مات مسمومًا فهذا صحيح؛ لأنه مات من نتيجة سُّم اليهودية، وإذا قالوا لك إن النبي ﷺ مات بمؤامرة يهودية فهذا صحيح مات ﷺ نتيجة السم؛ لأن الأكلة لا زالت تعاوده حتى جاءت النوبة التي فيها قضاء انقضاء أجله ﷺ، وسنعود إلى هذا الحديث بمشيئة الله تعالى في الدرس القادم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.