الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
وإنك لعلى خلق عظيم
فإن دين الإسلام قد جاء بالأخلاق الحسنة الفاضلة، ونهى عن الأخلاق الذميمة السيئة، ومن سنة النبي ﷺ نضرب مثلين لذاك، ومثلاً لهذا، لنرى كيف كان النبي ﷺ يتمثل الأخلاق الحسنة في سيرته، وعلاقته مع أصحابه، وكيف كان يحارب الأخلاق الذميمة البغيضة؟.
روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى النبي ﷺ ببردة، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه -لقد نسجتها بيدها وجاءت إلى النبي ﷺ لتهبه هذه البردة- فأخذها النبي ﷺ محتاجاً إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها، قال: نعم فلما قام النبي ﷺ لامه أصحابه، أي: لاموا هذا الذي طلب اللباس من النبي ﷺ، وقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي ﷺ أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه؟! فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي ﷺ لعلي أكفن فيها، قال سهل -راوي الحديث-: فكانت كفنه. [رواه البخاري 6036].
لقد أحب أصحاب النبي ﷺ نبيهم، وكانوا يهدون إليه من علامات محبتهم له، وكان يقبل الهدية من حسن خلقه، ويثيب عليها بأحسن منها إذا قدر، جاءت هذه المرأة بهذا اللباس للنبي ﷺ دليلاً على تفاعل جميع طبقات المجتمع مع هذه العبادة العظيمة، وهي محبة النبي ﷺ، التي ضرب الرجال والنساء والصبيان بالسهام الوافرة فيها، وعبروا عن محبتهم له ﷺ بأمور كثيرة، ابتداء: من افتداءه بأنفسهم، وأن يقف الواحد منهم في طريقه يتقي سهام وضربات السلاح التي تناله ﷺ التي يتلقاها من الأعداء، وانتهاءً بأبسط الأمور التي تدل على محبةٍ في قلوب أصحابها لذلك النبي الكريم، هذه امرأة نسجت بردة، فجاءت إلى النبي ﷺ تخصه بها، وتهديه إياها، فلبسها جديدة محتاجاً إليها، فكانت عليه وهو بهذه الحاجة لهذه البردة، فرآها عليه ذلك الرجل من الصحابة، فقال: ما أحسنها! فاكسنيها يا رسول الله، طلبها منه طلباً مباشراً، والنبي ﷺ يتمتع بخلق الإيثار وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم 4. فآثر الذي طلب البردة على نفسه، وأعطاه وهو محتاج إليها، خلعها وطواها وأعطاه إياها وهو محتاج إليها ﷺ، فهو خطيب القوم والتجمل للجمعة سنة، وهو يستقبل الوفود والتجمل للوفود سنة، وهو النبي بينهم يحتاج ما يتجمل به، فهو مقصود الناس يأتون إليه، ومع ذلك فإنه ﷺ برغم حاجته إليها آثر بها، فهذا هو الخلق الكريم الذي كان لذلك النبي الكريم، وهو صاحب الجود يعطي ما يسأل، ولا يرد سائلاً ﷺ، فجاء ذلك الصحابي ليسألها واستحسنها، وفيه: جواز استحسان الإنسان لما يراه على غيره؛ ليعرفه قدره، أو يعرّض بطلبه عند الحاجة، ونحو ذلك، لقد أخذها لتكون كفناً له، لم يأخذها حرماناً للنبي ﷺ منها فقط، وإنما أراد أن تكون بركة ملابسة وملامسة ومباشرة هذه البردة لجسد النبي ﷺ، أن تكون هذه البركة نافعة له بعد موته، وأن يكفن فيها، فكانت فعلاً كفناً لذلك الصحابي، ولام الصحابة صاحبهم كيف يفعل ذلك، فأخبرهم بالسبب، وفيه: إذا جانب إنسان طريق الأدب ولو لم يقع في محرم أن يُنكر عليه مجانبته الأدب في فعله، ولذلك لاموه أنه لم يفعل حراماً، لكن لأجل مقام النبي ﷺ، ولمخالفة هذا الصحابي للأدب في نظرهم، فأخبرهم عن نيته وكانت كذلك فعلاً.
الإيثار نوعان أهمها إيثار الخالق على المخلوق
الإيثار أيها الإخوة نوعان: أن تؤثر الخلق على نفسك، وأن تؤثر الخالق على الخلق، وإيثار ما عند الله، وإيثار طاعة الله، وإيثار رضاه على رضى غيره وإن عظمة المحن: دليل الإيمان، تقديم طاعة الله، إيثارها على طاعة المخلوقين، ولو كانت المشقات كثيرة، والتكليفات والتضحيات عظيمة، فإن القضية عظيمة تستأهل أن يضحي الإنسان برضى غير الله لأجل رضى الله، وأن يؤثر ما يحبه الله تعالى من الأقوال والأفعال، ولو غضب الخلق، ولو لاموه، ولو اجتمعوا عليه، وكان كذلك النبي ﷺ الذي قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة القريب والبعيد في ذات الله، وآثر رضى الله على رضى الخلق، وبلغ رسالات ربه، وأعلى كلمة الله، وجاهد أعداءه حتى قامت الحجة على العالمين، وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضات الخلق على مرضاته تعالى: أنه يسخط عليه، وأنه يخذله، ويجعل محنته على أيدي الخلق، فيعود حامده ذاماً له، وأما من آثر مرضات الله واختارها فإن الله ينصره ولو بعد حين.
فليتك تحلوا والحياة مريرة | وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الذي بيني وبينك عامر | وبيني وبين العالمين خراب |
إذا صح منك الود فالكل هين | وكل الذي فوق التراب تراب |
إن إيثار الله على المخلوقين هو الذي يجعل الإنسان يستقيم في حياته، وانظر الآن في هذه الأعراس التي يعملها الناس، ويصادف فيها أطراف القضية من الزوج والزوجة الأمور العظيمة، إذا هم عارضوا ما عليه الخلق، ورفضوا ما يريدونه من المعاصي، كم من الضغوط تكون عليهم؟ ولكن الذي يؤثر طاعة الله، فلا يدخل على النساء مجتمعات، والتي تؤثر طاعة الله فترفض لباساً فيه تشبه محرم، أو فعلاً من الأفعال التي فيها مشابهة للكفار، فإن الله يعقب هؤلاء حلاوة في قلوبهم تنسيهم المرارة التي يرونها، ويلمسونها من أذى الخلق.
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
وأما إيثار الخلق على النفس، إيثار المسلمين على نفسك، فإنه من الأخلاق العظيمة، كما دل عليه الحديث السابق، والإنسان يؤثر إخوانه ولو كان محتاجاً إلى الشيء، كما قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ سورة الحشر 9. ويقدم حاجة إخوانه على حاجته، وراحة إخوانه على راحته، ولذلك فإن للإيثار أجراً عظيماً يوم الدين؛ لأنه تنازل عن شيء للإنسان، وعن حق له من أجل غيره، وفيه تضحية، وبعض الناس ترى أكثر ماله لغيره لا لنفسه، من كثرة ما يجود على الخلق ويؤثرهم، من الأقارب والمحتاجين، فليعلم بأن له أجراً عظيماً، وأن النبي ﷺ أخبرنا عن ربنا أنه ضحك وعجب من رجل آثر ضيفه بطعامه وطعام زوجته وأولاده، وعجب من صنيعه في تلك الليلة، وأنزل آية تتلى إلى يوم الدين، في شأن هذا الأنصاري وزوجته رضي الله عنهما وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
لكن هل يؤثر الإنسان بكل شيء؟ هل يضحي الإنسان بكل شيء لأجل الآخرين أم لا؟
الجواب: قال العلماء: أن تؤثر الخلق على نفسك بما لا يضيع عليك وقتاً، ولا يفسد عليك حالاًَ، ولا يهضم لك ديناً، ولا يسد عليك طريقاً حسناً، فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك فإيثار نفسك عليهم أولى؛ لأنك لا تضحي بنصيبك من الله، فإن الرجل المسلم من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان.
والإيثار المحمود الذي أثنى الله على أهله لا يدخل فيه الإيثار بالدين، والتضحية بالدين، أو بالوقت فيما يعود عليه صلاح الإنسان، وإنما هو إيثار في الدنيا، أن تؤثر بمالك فتضحي به، أو بجزء منه، أو بثوبك، أو براحتك، أو بنومك، ونحو ذلك، وأما أن تؤثر بدينك، لا، ولا بوقت عبادتك، ترفض الشواغل، وترفض أن تقضي حاجات للخلق في وقت عبادة الله، فلا تضحي بعبادة، لا تضحي بنصيبك من الله لأجل أشياء من الخلق، وهذا الخلل في الميزان الذي حصل عند بعض المتعبدة؛ فأورثهم الحيرة والاضطراب، وقد قال الله : وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ سورة آل عمران 133. أمر بالمسارعة في أعمال البر، ولم يقل آثر غيرك بأعمال البر، واتركها للناس، وتنازل عن الصدقات وهم يتصدقون، وتنازل عن الطاعات وهم يطيعون، لا، قال في أعمال البر: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ سورة المطففين 26. وقد قال ﷺ: لو تعلمون - أو يعلمون - ما في الصف المقدم لكانت قرعة[رواه مسلم 439]. والقرعة تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار، فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل جعلها محلاً للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاء: لا يستحب الإيثار بالقربات، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن الرجل يقدم أباه على نفسه في فرجة في الصف الأول ويؤثره بها قال: "لا يعجبني، هو يستطيع أن يبر أباه بغير ذلك" ولذلك لا إيثار في القرب، وفيها بعض التفصيل: فإن الإنسان قد يتنازل عن شيء من ذلك؛ لدرء مفسدة أكبر، أو تحصيل مصلحة شرعية أكبر، لكن القاعدة والأصل: أن الطاعات يتنافس فيها العباد، وكل منهم يتسابق إليها، ولا يترك الراية، وضرب العدو، وتقديم المال، والصف الأول لغيره، لكن لا يؤدي ذلك إلى تشاحن، وإلى تباغض، وإلى تعادي، وهذا شيء من معنى ما تقدم من مراعاة مفسدة أكبر، أو مصلحة أكبر، ولذلك فإن النبي ﷺ حث على التنافس في الخيرات، وحث أصحابه على أن يتنافسوا فيها، وإنما يقدم الإنسان الدنيا، كما فعل ذلكم النفر في يوم اليرموك، قال حذيفة العدوي: ذهبت أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي إليّ أن انطلق به، أي: بالماء إليه، إلى ذلك الرجل، فجئته فإذا هشام ابن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال: آه، فأشار هشام انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. [رواه البيهقي في شعب الإيمان 3208].رحمة الله عليهم أجمعين، فهؤلاء الذين يؤثرون بالدنيا، بالماء، بالعطشة، بروي العطشة التي كانوا يحتاجون إليها، يؤثرون غيرهم حتى الممات، هذا خلقهم حتى عند الممات، رضوان الله تعالى عليهم.
عباد الله:
إننا ينبغي علينا أن نعرف متى نضع الإيثار في موضعه؟ ومتى نكون في هذا الخلق العظيم حالاً حسناً، وميزاناً عدلاً، وشيئاً نتقرب به إلى ربنا ؟.
المداراة خلق المؤمنين والمداهنة خلق المنافقين
وأما بالنسبة للخلق الثاني: وهو المداراة، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أنه استأذن على النبي ﷺ رجل، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام، وفي رواية: تطلّق النبي ﷺ في وجهه، وانبسط إليه[رواه البخاري 6032]. فقلت له يا رسول الله: قلت ما قلت ثم ألنت له القول! فقال: أي عائشة إن شر الناس منزلةً عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه [رواه البخاري 6054]. لقد كان النبي ﷺ من حسن خلقه يستعمل المداراة مع الكفار، والفساق، والظلمة؛ تأليفاً لقلوبهم، فماذا كان يفعل؟ ما معنى المداراة؟ يلين في الكلام، يبتسم لهم، ينبسط إليهم، يعطيهم الأعطيات، هذه مداراة لماذا؟ لتأليف قلوبهم على الدين، أو لتثبيتهم عليه، فإنه أعطى كفاراً ليسلموا، وأعطى حدثاء عهد بالإسلام ليثبتوا عليه، وأعطى أناساً لكف أذاهم، وقطع لسانهم، وصيانة العرض منهم، فأعطى مداراة للخلق، لكن هل ترك النصح لهم؟ هل أقرهم على باطل؟ هل مدحهم على الكفر؟ أبداً، لم يقل باطلاً ﷺ، يقول أبو الدرداء : "إنا لنكشر في وجه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم" ما هو هذا الخلق؟ مداراة، ننبسط في وجوه الأقوام، معنى التكشير: الابتسامة، والانبساط، لا ما يفهمه كثير من الناس، من العامة، وإن قلوبنا لتلعنهم لما هم عليه من الفسق، والمعصية، والظلم، أو الكفر، هذا الحديث المذكور: جمع علماً، وأدباً، والنبي ﷺ كان نصيحاً مشفقاً على الأمة، قد جبل على الكرم، وأعطي من حسن الخلق ما يظهر به البشاشة حتى لأناس ممن في قلوبهم بغض له، وكراهية، ولكنه ﷺ كان يسوس الناس، كان يعاملهم بما فيه مصلحتهم، وبما يؤدي إلى حصول المنفعة لهم، ﷺ، وهناك خلط يقع عند الناس بين المدارة والمداهنة، فما هو الفرق بينهما؟
المداهنة أيها الإخوة: فيها تنازل عن الحق، المداهنة فيها إقرار بباطل، المداهنة فيها جلوس في مكان المنكر دون تغيير، المداهنة فيها سكوت عن الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس، المداهنة أن تقول للمسيء أنت محسن، المداهنة أن تقول لصاحب المنكر أنت صالح، المداهنة أن تقول للفاسق أنت مؤمن، هذه مداهنة مذمومة، وخلق سيء وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ سورة القلم 9. المداهنة تنازل عن الحق، وإقرار بالباطل، ونطق به، وأما المداراة ليس فيها نطق بالباطل، ولا سكوت عن منكر، المداراة استعمال الأسلوب الحسن واللطيف والهدية والكلام والابتسامة؛ لأجل استجلاب قلوبهم، مع أنك تبغضهم، وهذا ليس نوعاً من النفاق الاجتماعي، هذا نوع من السياسة الشرعية مع الخلق، واستقطابهم، واستجلاب قلوبهم وتأليفها.
أيها الإخوة:
إن الذي لا ينزل الأشياء منازلها يقع في الأخطاء العظيمة، فالنبي ﷺ فعل ما فعل وهو يعرف هذا الفقه في التعامل، ولذلك يقول زيد ابن طلحان: إذا لقيت المؤمن فخالطه، يقول صعصعة لزيد ابن طلحان: إذا لقيت المؤمن فخالطه، وإذا لقيت المنافق فخالقه، يحتاج إلى مداراة لأجل أن يأتي على الشيء الذي يصلحه، وقد ضرب ابن القيم رحمه الله مثلاً في هذا في الفرق بين المدراة والمداهنة فقال: مثل المداري كالطبيب الذي يأتي إلى القرحة -وهذا الالتهاب المؤلم- فيتعرف حالها، ثم يأخذ في تليينها، حتى إذا نضجت أخذ في بطها برفق وسهولة لاستخراج ما فيها من القيح والصديد، ثم وضع على مكانها الدواء والمرهم، ما يمنع من الفساد ويقطع مادة القيح والصديد، ثم تابع عليها المراهم التي تنبت اللحم، ثم ذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها، ثم شد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، والمداهن: الذين يقول لصاحب هذه القرحة لا بأس عليك منها، وهذا لا شيء، غطها فقط، واستر عيبها، والْهُ عنها، انشغل عنها، فلا تزال تقوى وتستحكم حتى يعظم فسادها في البدن، فهذا مثل من تأمله عرف الفرق بين المداهنة والمداراة.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يتخلقون بأخلاق القرآن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين.
كيف حارب النبي ﷺ سوء الظن بين الناس؟
عباد الله:
إن نبيكم ﷺ قد جاء بمعالي الأمور، ونهى عن سفاسفها، وذم الأخلاق السيئة وحاربها، وكان يتتبعها في نفوس أصحابه، وهو المربي الناصح المشفق، فمن ذلك: ما روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة أن أعرابياً أتى رسول الله ﷺ فقال: "إن امرأتي ولدت غلاماً أسود وإني أنكرته، فقال له رسول الله ﷺ: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال يا رسول الله: عرق نزعها، قال: ولعل هذا عرق نزعه ولم يرخص له في الانتفاء منه. [رواه البخاري 7314]. لقد جاء هذا الأعرابي إلى النبي ﷺ وهو يقول معرضاً لنفي الولد: إني أبيض اللون، وقد جاءني غلام أسود، فكيف يكون مني؟ هذا هو المعنى، وكلام الرجل خطير؛ لأنه ينطوي على اتهام لزوجته بالزنى، ما معنى هذا الكلام؟ جاءني ولد أنكرته، أنا أبيض وجاءني ولد أسود وإني أنكرته، ينطوي الكلام على قضية خطيرة، فيه إساءة ظن، وهذا هو الخلق الذميم، إساءة ظن بزوجته، فالنبي ﷺ أراد أن يقرب لذلك الرجل بمثال يقنعه من بيئته، ومما يعرفه، ولم يأتِ له بمثال من الشرق أو الغرب، لم يُبعِد ﷺ لإقناع الرجل، هذا أعرابي عنده إبل، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ يعني: أغبر، يميل لونه إلى الأغبر، قال: نعم فيها ورق، فيها من هذا اللون، بعضها فيه هذا غير الأحمر، السائد فيها الأحمر، وهناك بعض قليل ورق مغبرّة اللون قال: فأنى ذلك؟ من أين أتاها اللون الذي خالفها؟ بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها؟! أو لأمر آخر؟! فقال الأعرابي: لعله نزعه عرق، كان في أصولها في أجدادها واحد من هذا اللون فظهرت صفته في هذا الجيل الذي عندي، قال: ولعل ابنك هذا نزعه عرق، مثلاً بمثل، فافهم وقس الأمور، ولعل ابنك هذا نزعه عرق، وجاء في بضع الروايات أنهم بحثوا فوجدوا جدة لذلك الصبي كانت أمة سوداء، فيما مضى تزوج أحد أجداده فظهرت الصفة الوراثية في هذا الولد، الآن في هذا الجيل وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ سورة القصص 68. قال: ولعل ابنك هذا نزعه عرق.
سوء الظن بالمسلمين من الكبائر
أيها الإخوة:
إن سوء الظن خلق ذميم، إن سوء الظن بالمسلم من الكبائر الباطنة، إن سوء الظن مبني على أن يفكر الإنسان بالشر في المسلمين، ودون قرائن ولا أدلة، متى يكون سوء ظن؟ عندما يخلوا من القرائن والأدلة، هل رأى مع ذلك المرأة رجلاً أجنبياً؟ كلا، هل هي متهمة عنده بشيء من قبل؟ هل لاحظ عليها أي شيء مخل؟ كلا، إذن فكيف يجوز أن يقول هذا الكلام، لكن أحياناً يكون عدم الانتباه غفلة وغباء، عندما يرى الإنسان الأدلة أمامه ويقول لا أسيء الظن، فهذه قضية أخرى ولذلك فرق العلماء بين سوء الظن والظن الذي هو وهم، وبين الظن الغالب القائم على القرائن والأدلة، قال ابن قدامة رحمه الله: ليس لك أن تظن بالمسلم شراً إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل، إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل، وهكذا متى خطر لك خاطر سوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعوا له بالخير فإن ذلك يغيض الشيطان، ويدفعه عنك، وإذا تحققت هفوة مسلم فانصحه في السر واعلم أن من ثمرات سوء الظن التجسس فإن القلب لا يقنع بالظن بل يطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس فيضاف إلى المنكر الأول الذي هو سوء الظن منكر ثاني وهو التجسس، ولذلك فإن سوء الظن ينبغي مجاهدته، وطرده من الذهن، فهذا غير ما قام على الأدلة والبينات والقرائن القوية، أما مجرد الأوهام والوساوس، وتقول: لعل هذا كذا، لعل هذا كذا، وليس هناك عندك أي قرينة، أو دليل، أو بينة، أو سبب شرعي لقول هذا، أو هذا الظن، فاعلم أنه من إبليس، فينبغي أن تجاهد نفسك وأن ترده.
وسوء الظن إذا لم يتعدى إلى القول والفعل فأمره أهون، لكن إذا تعدى إلى قول أو فعل يأثم الإنسان عليه إثماً عظيماً.
أيها الإخوة:
وإن من الناس من يسيء الظن بربه، وأنه لا ينصره، ولا يرزقه، ولا يعطيه الولد، ولا يفعل له الخير، ولا يقدر له ذلك من سوء ظنه بربه، وهؤلاء تتجلى بعض سوء ظنونهم بربهم بقضية لوم القدر، فتش نفسك في هذه القضية.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة | وإلا فإني لا إخا لك ناجيا |
فسوء الظن برب العالمين خطير جداً على التوحيد، ومن ظن أن الله لا ينصر المسلمين، ولا ينصر دينه، ولا ينصر سنة نبيه ﷺ، فهو سيء الظن بربه، وهذه قضية خطيرة ينبغي علينا أن نجاهد أنفسنا، وأن نعتقد حسن الظن بربنا، وإذا فعلنا خيراً ظننا بربنا خيراً، أنه سيقبله، هذا ظننا به، وأنه سيكافئنا عليه، هذا ظننا به، والرب عند ظن عبده به فليظن العبد ما شاء.
اللهم إنا نسألك النصر للمسلمين، اللهم انصر المسلمين في مقدونيا، والشيشان، وكشمير، وفلسطين، وسائر الأرض، يا رب العالمين! اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، اللهم اجعل قلوبنا عامرة بذكرك، وحسن الظن بك، يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك عيشة سوية، وميتت طيبة نقية، اللهم إنا نسألك أن تورثنا الجنة، يا أرحم الراحمين!.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.