الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
آثار الصلاة والحج والخشية
عباد الله، نحن عبيد لله، وعبادته سبحانه هي وظيفتنا في هذه الحياة، وهذه العبودية أعمال للقلب والجوارح يقوم بها المسلم لربه، تدور على القلب كالمحبة والرجاء والخوف، والحياء والتوكل، وعلى الجوارح كذكر اللسان، وأفعال الأعضاء من اليدين والقدمين والركبتين في الصلاة، وكذلك أفعاله في حجه لربه، طوافًا وسعيًا، رميًا ونحرًا، وقوفًا، وهكذا من أعمال الجوارح.
هذه العبادات لها أثر على هذه الجوارح، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ [سورة الفتح:29]، "السيما" هي العلامة، والمقصود بقوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم يعني: أثر الطاعة، أثر الصلاة، أثر السجود أثر العبادة، قال مجاهد رحمه الله: إنها ليست ندب التراب -ليست هذه الخدوش في الجبين-، ولكن نور الطاعة وبهاؤها، قال مجاهد رحمه الله: ولكنه الخشوع والوقار والتواضع، هذه السيما السمت الحسن في الدنيا، أما في الآخرة: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ، فهو النور الذي يكون في مواضع السجود، وكذلك البياض والنور الذي يكون في مواضع الوضوء كما قال النبي ﷺ: غرًا محجلين [1]، هذه آثار الطاعة والعبادة.
وقال ربنا: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ [سورة البقرة:273]، ما معنى تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ؟ التخشع، وأثر الحاجة، العبادة لها أثر على الأعضاء، حياة القلب له أثر على الوجه، النور الداخلي يظهر في الخارج بهاءً، وسمتًا حسنًا، ونورًا وجلالًا يكسوه الله للعابد، كان ﷺ يقوم الليل حتى تتفطر قدماه -يعني تتشقق-، فتقول عائشة: لم تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا[2]، وهكذا كان أصحابه يقومون، وهكذا كان السلف، كان مسروق يقوم حتى تتورم قدماه، فتجلس امرأته خلفه تبكي رحمة له، وكان شعبة والسلف يقومون، وآثار القيام في أقدامهم، وسفيان يقوم طويلًا، ثم يستلقي، ويرفع رجليه على الجدار ليعود الدم من طول قيامه، والأسود ابن زيد من سادات التابعين، كان يصوم حتى يصفر لونه، فيقولون له: تعذب نفسك، فيقول: راحتها أريد.
والحسين بن يزيد الضمري كان يلقب بالقوي لقوته في العبادة، قدم مكة فطاف في يوم واحد سبعين أسبوعًا، يعني سبعين طوافًا كل طواف بسبعة أشواط، ومثله محمد بن طارق المكي وغيرهم، قال الفضيل: فكسَّرت ذلك -يعني: قدرت المسافة التي قطعها في سبعين طوافًا-، فإذا هي سبعة فراسخ، فهي قرابة أربعين كيلو مترًا، قطعها في يوم وليلة، في الحج يباهي الملائكة بماذا؟ بمن يباهيهم؟ بأهل عرفة، بأي شيء في أهل عرفة؟ قال: انظروا إلى عبادي؛ أتوني شعثًا غبرًا[3] هذه أثر العبادة، جباههم متغيرة، جلودهم متغيرة، ثيابهم متغيرة، شعورهم متغيرة، أثر العبادة، غبار الطريق.
آثار الجهاد في سبيل الله
وقال الله: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [سورة آل عمران:172] يعني: في الجهاد في سبيل الله، والقرح: هو الجراح، أثر على الجلد من خارج.
أنس بن النضر وجد وبه بضع وثمانون ضربة من سيف وطعنة برمح، ورمية بسهم، فما عرفته أخته إلا ببنانه، بطرف الأصبع.
وقال خالد بن الوليد : لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صحيفة يمانية، ولما نزل به الموت بكى، وقال: لقيت كذا وكذا زحفًا، وما من جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم.
وفي رواية أنه قال: وإن ببدني بضعًا وثمانين ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير -وهذا من تواضعه قال: فلا نامت أعين الجبناء -يدعو على الجبناء-.
قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك، فقال: إن شددت كذبتم -تركتموني-، قالوا: لا نفعل، فحمل على الروم، فشق صفوفهم حتى جاوزهم إلى الطرف الآخر، وما معه أحد، ثم رجع، فأخذوا بلجامه، فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر، صارت ثلاثًا، قال عروة بن الزبير -يعني بعد ذلك، اندملت الجراح، وبقيت الآثار في الكتف-، قال عروة: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب بها وأنا صغير، هذه آثار العبادة في أجساد الصحابة.
أبو عبيدة لما دخلت حلقتا المغفر في وجنة النبي ﷺ جاء أبو عبيدة يعدو لينزعهما، فلم يجد إلا أن يعض بأسنانه على الحلقة الأولى، فيجذبها بقوة حتى وقع على ظهره، وخرجت الحلقة ومعها ثنيته، ثم فعل مثل ذلك في الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيته الثانية، والذي سقطت ثنيتاه يقال له في اللغة: أهتم، قالوا: فما رؤي أهتمٌ أجمل من أبي عبيدة.
طلحة بن عبيد الله صد عن النبي ﷺ ضربات وسهامًا كثيرة حتى لم يجد في أحد السهام إلا أن يمد يده فيقي النبي ﷺ ذلك السهم، فقطع السهم أصابعه، قال قيس بن حازم رحمه الله: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي ﷺ وقد شلت.
وأحد المسلمين في معركة ضرب مشركًا، وضربه المشرك، اختلفا ضربتين، فقتل المشرك، ووقعت ضربة المشرك في كتف المسلم، ثم إن هذا المسلم تزوج ابنة ذلك المشرك بعدها، فكانا في المداعبة تقول له: لا عدمت رجلًا وشحك هذا الوشاح، فأقول لها: لا عدمتي رجلًا عجل أباك إلى النار.
أبو سفيان فقئت عينه في حنين، والعين الأخرى يوم اليرموك، وممن فُقئت أعينهم في الجهاد هاشم بن عتيبة بن أبي وقاص -سعد عمه-، فقئت يوم اليرموك، فأرسله عمر إلى القادسية، فأبلى فيها بلاءً حسنًا عظيمًا، ومسروق رحمه الله شلت يده يوم القادسية، وأصابته آمة -وهي الشجَّة التي تبلغ أم الرأس، وجلدة الدماغ-.
والبراء بن مالك، وما أدراك ما البراء، جُرح يوم اليمامة في حرب مسيلمة بضعة وثمانين، وعمار بن ياسر قطعت أذنه في يوم اليمامة أيضًا.
جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان رحمه الله ورضي عنه وهو يحدث الأحاديث عن النبي ﷺ، وكانت يد زيد قد أصيبت يوم نهاوند -قطعت-، فالأعرابي هذا من قلة فهمه تكلم، فقال لزيد الشيخ المحدث: إن حديثك ليعجبني، ولكن يدك تريبني -كأنه يلمح إلى أن يدك قطعت في السرقة-، يقول: يا شيخ حديثك جميل يعجبني، لكن يدك تريبني، فقال زيد: وما يريبك؟ إنها الشمال -لماذا تشك؟! المقطوعة هذه اليد الشمال، وليست اليمين-، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد صدق الله: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ [سورة التوبة:97].
إذن أيها الأحباب، أيها الإخوة والأصحاب، كانت آثار العبادة على أجساد الصحابة ظاهرة، كانت آثار هذه الطاعات واضحة وبينة؛ صلاة صيامًا، حجًا ذكرًا جهادًا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، سبحانه خلق فسوى، وقدر فهدى، وهو ذو الجلال والإكرام، يفعل ما يشاء، الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وذريته، وأصحابه وأزواجه، وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
آثار العلم والبكاء من خشية الله
عباد الله: لقد كان من أصحاب النبي ﷺ، من في وجهه أثر البكاء من خشية الله.
قال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء، وهكذا كان عمر يمرض إذا سمع تخويفًا بالله، ويسقط في بيته، ويعاد، وهو مريض هذا أثر جسدي للخوف من الله والخشية منه .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت عمر نشج -يعني في بكائه- حتى اختلفت أضلاعه، وهكذا كان ابن عباس أيضًا من البكَّائين من خشية الله ، حتى أن تحت عينه كالشراك البالي، كأن الدموع قد خدَّت الأخاديد في تلك الخدود.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله كذلك، وأما ابن عباس فإنه ترجمان القرآن، يبكي من تلاوة آيات الكتاب العزيز حتى ذهب بصره في آخر عمره، فهو الذي قال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما | ففي فؤادي وقلبي منهما نور |
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج | وفي فمي صارم كالسيف مشهور |
قال الحسن بن عرفة: رأيت يزيد بن هارون بواسط وهو أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه، فقلت: يا أبا خالد، ما فعلت العينان الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
عباد الله، هذا غيض من فيض، وإلا فالبكاؤون من خشية الله في تاريخ الأمة لا يحصون من الرجال والنساء، وكانت آثار طلب العلم سهرًا وسفرًا لائحة بادية على أجساد المحدثين، والرُّحَلَة في طلب العلم.
ومات البخاري فلم يخلف بخرسان مثل أبي عيسى الترمذي في العلم والحفظ، والورع والزهد، بكى حتى عمي، وبقي ضريرًا سنين، فكان الترمذي رحمه الله تعالى ضريرًا.
وفي المقابل كانت آثار العلم والفقه والعبادة في الوجه نضارة، كما قال ﷺ داعيًا: نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره[4]، والنضارة هي النعمة والبهجة، والزينة والجمال والنعيم، كما قال الله: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [سورة الإنسان:11].
عباد الله: العبادة وأثرها في الأجساد، عبادة القلب، وعبادة الجوارح، فماذا قدمت من جسدك لله؟ وبأي شيء تأثر بدنك من طاعته ؟ ليس المطلوب أن يتعمد الإنسان الإضرار بجسده؛ لأن الجسد له حق، ولكن هذه أشياء من طول الممارسة تظهر، هذه أشياء من طول العمل تظهر.
آثار العبادة على النبي ﷺ
فلم يتعمد النبي ﷺ أن يشقق قدميه من مرة، لكن مع كثرة القيام تشققت قدماه، تورمت الأقدام من طول العبادة سنين في طاعة الله، والنبي ﷺ نفسه نظر إليه بعض الصحابة في آخر عمره، فرآه وقد حطمه الناس، يعني ظهرت على البدن الشريف آثار الإعياء والتعب في آخر عمره ﷺ لكثرة من حطمه من الناس؛ يأتونه في حاجاتهم، في أسئلتهم، يأتونه في مشكلاتهم، يأتونه ليذهب معهم في حاجاتهم، كم غزوة ركبها، كم سفرة سافر فيها في حج وعمرة وجهاد؟ كم وكم من الأعمال الشريفة قام بها ﷺ، وظهرت آثار ذلك في النهاية على بدنه الشريف، فرآه الصحابي وقد حطمه الناس، فرأى ذلك الجسد الشريف، وقد تأثر بكثرة الطاعات والعبادات، وهذا كله نور ونضرة، ونعيم وراحة يوم القيامة.
نسأل الله أن يجعلنا ممن أفنوا حياتهم وأعمارهم وأبدانهم في سبيله، اللهم إنا نسألك أن ترزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا ممن يعبدونك حتى يأتيهم اليقين.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا، ولا مفتونين، ارحم موتانا، واشف مرضانا، واهد ضالنا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا، وبارك لنا فيما آتيتنا، وسع لنا في دورنا وأرزاقنا، اللهم ارزقنا ورثة تقر بهم أعيننا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة، ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لنا ولوالدينا يوم يقوم الحساب.
اللهم إنا نسألك النصر للمستضعفين بالشام وسائر الأرض يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم نصرك وسكينتك وصبرك يا أرحم الراحمين، ثبت أقدامهم، وأفرغ عليهم صبرًا، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، فرق شملهم، وشتت جمعهم، وعجل هزيمتهم وأخذهم إنك على كل شيء قدير يا قوي يا جبار.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، واجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وسائر بلاد المسلمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.