الأحد 23 جمادى الأولى 1446 هـ :: 24 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

27- آداب الجوار


عناصر المادة
معنى الجوار لغة وإصلاحًا
حد الجار والجوار 
أنواع الجار 
الأحاديث الواردة في الجار 
وصية جبريل للرسول ﷺ بالجار 
وصية الرسول لأبي ذر 
الوصية بالسماح للجار بالاستفادة من جاره 
حرمة إيذاء الجار والأمر بالإحسان إليه 
تعوذ النبي ﷺ من جار السوء 
إعانة الجار من علامات الإيمان 
من سعادة المسلم الجار الصالح 
وصية النبي ﷺ لأبي هريرة  
أذية الجار من أسباب دخول النار 
حال جيران النبي ﷺ والصحابة 
حاجة الجيران إلى بعضهم بعضاً 
حقوق الجار في الإسلام 
حفظ دار الجار في غيبته 
غض البصر عن نساء الجار 
نصيحة الجار وتعليمه أمور الدين 
احتمال أذى الجار 
عدم إزعاج الجار بالأصوات العالية 
دعوة الجار إلى الخير 
الجار في الشعر العربي 
أناس عرفوا قيمة الجار 
من أحكام الجوار 
تعلق التزكية بالجوار 
إسكان الزوجة بين جيران صالحين 
عظم إثم الزنا بزوجة الجار 
أحقية الجار المحتاج بالصدقة 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعــد:
فستحدث في هذه المجموعة الثانية من الآداب الشرعية عن "أدب الجوار".

معنى الجوار لغة وإصلاحًا

00:00:18

والجِوار بكسر الجيم، مصدر جاور، يقال: جاور جواراً ومجاورة.
ومن معاني الجوار: المساكنة والملاصقة.
وأيضاً تطلق على الاعتكاف في المسجد والمجاورة في الحرمين.
وكذلك أيضاً الجوار فيها معنى على العهد والأمان.
ومن الجوار الجار، ويطلق على معان؛ منها: المجاور في المسكن، والشريك في العقار أو التجارة، والزوج أو الزوجة، والضرة يطلق عليها جارة؛ كما جاء في حديث: لا يغرنكِ إن كانت جارتك أوضأ[رواه البخاري: 5191، ومسلم: 3768].
وكذلك يطلق على الحليف والناصر.
وقال الشافعي -رحمه الله-: "كل من قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار" [الأم: 7/110].
وبناءً على ذلك؛ فإن المجاور على مقاعد الدراسة في فصل المدرسة، وصفوف الجامعة، يعتبر جارًا، ويدخل فيه حقوق الجوار.
وقال الراغب -رحمه الله-: الجار من يقرب مسكنه منك، وهو من الأسماء المتضايفة، فإن الجار لا يكون جاراً لغيره إلا وذلك الغير جار له، كالأخ والصديق [المفردات في غريب القرآن، ص: 211].
والمعنى الاصطلاحي للجوار، هو: الملاصقة في السكن، أو نحوه.
ولما نقول: "ونحوه" يدخل فيها الأشياء المتقدمة -كما ذكرنا-، ويدخل فيه الدكاكين والمحلات، هذا جار هذا، المكاتب -مثلًا- الشركات والمؤسسات، هذا المكتب جار هذا المكتب، الذي له هذا المكتب جار المكتب الذي بجانبه، وهكذا.

حد الجار والجوار 

00:02:19

وحد الجار؛ كما ذهب الشافعية والحنابلة أربعون دارًا من كل جانب، من الأمام والخلف، واليمين والشمال، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا[رواه أبو يعلى: 10/385، رقم: 5982، والبيهقي في السنن الكبرى: 12391، وضعفه الألباني في إرواء الغليل: 6/100].
وبعضهم ضيق، فقال: الجار هو الملاصق من جميع الجهات، أو المقابل له، بينهما شارع ضيق، لا يفصل بينهما نهر متسع، أو سوق كبير، ونحو ذلك.
وبعضهم عرفه بأنه: ما يجمعهما مسجد أو مسجدان متقاربان.
وبعضهم قال: إن العرف هو الذي يضبط قضية الجوار، وحملوا حديث الأربعين على التكرمة والاحترام، ككف الأذى، ودفع الضرر، والبشر في الوجه، والإهداء، وإلى غير ذلك.
ولا شك أن الملاصق أولى الناس بأن يطلق عليه اسم الجار.
ويقال حتى للساكن معك في المدينة: جاوره فيها؛ كما قال الله -تعالى-: ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً[الأحزاب:60].
ولما استعظم حق الجار عقلاً وشرعاً، عُبر عن كل من يعظم حقه بالجار؛ كما قال تعالى: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى[النساء: 36].
وقد تُصور من الجار معنى القرب، فقيل لمن يقرب من غيره: جاره، وجاوره، وتجاور معه.
ثم إن جمع جار؛ جيران، والاسم هو الجوار، ويقال للمشارك في العقار والمقاسم: جار أيضًا.
وأما بالنسبة لحقه، فإن حقه عظيم جدًا، وقد قال الله : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً[النساء: 36].
وإذا أردنا أن نضبط الجار بالعدد؛ فإن أقرب التعريفات التي مرت معنا التي يسندها الدليل: أربعين جاراً من كل جانب من الجوانب.

أنواع الجار 

00:05:15

في الآية التي ذكرناه قبل قليل: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ[النساء: 36] ما هو الفرق بين هذا وهذا؟
أما صاحب القربى، فالقربى معروفة.
وأما بالنسبة للجُنُب، أي: البعيد الذي لا قرابة له، فلما ذكر جار القربى ذكر النوع الآخر من الجيران، وهو الجار الذي ليس له قرابة.
والجيران عمومًا ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد.
فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق، فهو: الجار المسلم صاحب القربى، فله: حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإسلام.
وأما الجار الذي له حقان، فجارك المسلم غير القريب، فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
وإذا كان لك جار كافر فله حق واحد، وهو: حق الجوار.
وبعض من فسر الآية أدخل في قوله تعالى: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء: 36] كل من جاورك في صناعة، أو دراسة، أو سفر، فالذي يجلس بجانبك في مقعد الطائرة -مثلاً-، أو السيارة، فإن ذلك يعتبر جاراً، والمرأة جار للرجل الزوج، والزوج جار لها؛ لأجل الاشتراك الحاصل، والقرب الشديد الذي يكون بينهما.

الأحاديث الواردة في الجار 

00:06:58

وأما بالنسبة للأحاديث الواردة في الجار؛ فإنها كثيرة جدًا.

وصية جبريل للرسول ﷺ بالجار 

00:07:07

ومن ذلك: قوله ﷺ: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه متفق عليه. [رواه البخاري: 6015، ومسلم: 6854].
ومعنى: يوصيني به، يعني بالاعتناء به، والاحتفاء بشأنه، وأن تكون دائماً مهتماً بشأنه.
وقوله: حتى ظننت يعني من شدة الإيصاء أنه سيورثه فيكون من أسباب الإرث الجوار.

أسباب ميراث الورى ثلاثة كل يفيد ربه الوراثة
وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب

فكاد أن يكون أسباب الميراث الورى أربعة: نكاح، وولاء، ونسب، وجوار.
وقد كان في بداية الإسلام من أسباب الميراث: التعاهد والتناصر، يعني الإخوة في الدين لها دخل بالميراث، ثم نسخت بآية المواريث: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ[الأنفال: 75].

وصية الرسول لأبي ذر 

00:08:24

وقال ﷺ موصياً أبا ذر: يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك[رواه مسلم: 6855].
وهذه الوصية من النبي ﷺ لأبي ذر في مسألة طبخ المرقة، يعني طبخ اللحم، ما فيه لحم، ونحوه، المرق قد يحوي لحماً، وقد يحوي أشياء أخرى، فالنبي ﷺ أوصى أبا ذر أن يكثر المرق إذا طبخ شيئاً بإدام، أو بشيء بمرقة، أن يكثر، ويرسل إلى جاره.
وقوله: فأكثر ماءها ليكثر الإدام، وهو ما يؤتدم به، حتى يلين الخبز ويسيغه.
وتعاهد جيرانك وهذا الأمر للندب، وأكد عليه، أي: بالإحسان إليهم، وفعل البر معهم، بإشراكهم في الطعام الذي طبخته.
وقد جاء عند ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: إذا طبختم لحماً؛ فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران[رواه أحمد: 15072، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 677].
فهذا حث على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها.
وقد يتأذى الجار بقتار قدر جاره.
وقتار القدر، ريح الطبخ، فقد يتأذى الجيران منه، فلا أقل من أن يعطوا مما شموا رائحته، أو تأذوا منه، أو وصل إليهم دخانه -مثلاً-.

وقد تتهيج عند صغارهم الشهوة إلى الطعام مما شموا من الجار، وتشتد الحسرة والألم عند الفقير الذي لا يجد مثلما عند جاره، عندما يشتم رائحة طعامه، وربما يكون المجاور يتيماً، أو أرملة، فتكون المشقة أعظم، وتشتد الحسرة عند الصغير.
ولذلك جعل تشريكه في شيء من الطبخ نوعاً من المواساة، لما اشتموا من هذه الرائحة؛ فلا أقبح من منع الشيء اليسير للمحتاج، أما إذا كان إرسال مرقة دون شيء يفهمه الجار على أنه استهانة به -مثلاً-، فلا يفعل الإنسان ما يؤدي إلى استياء جاره منه، أو شعوره بعدم التقدير له.
قال الصحابي أبو ذر: إن خليلي ﷺ أوصاني، وقال: إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك؛ فأصبهم منها بمعروف[رواه مسلم: 6856].
-طبعاً-: منها يعود على المرق.
وبمعروفهذه اللفظة، إيماء إلى أن المرسَل إلى الجيران ينبغي أن يكون شيئاً نافعاً، ولو كان قليلاً، والنبي ﷺ قال: لا تحقرن من المعروف شيئاً[رواه مسلم: 6857]، ولا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة[رواه البخاري: 6017، ومسلم: 2426].
والنبي ﷺ قد قال أيضاً: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه متفق عليه [رواه البخاري: 6016، ومسلم: 181].
لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه هذه رواية.
فإما بالنسبة للبوائق فهي الغوائل والشرور.
ومعنى: لا يدخل الجنة يعني لا يدخل الجنة ناجياً، يعني إلا يصيبه شيء من العذاب، أو لا يكون أول الداخلين، فهذا المسيء إلى جاره لا تتوقع أن يكون أول الداخلين، أو من أوائل الداخلين، أو أنه يدخل دون حساب ولا عذاب، فلا بد أن يصيبه شيء من جراء ما آذى جيرانه.

ونظراً؛ لأن النساء كثيرات المكث في المنزل أكثر من الرجال، واحتكاك الجارة بجارتها أكثر من احتكاك الجار بجاره، حيث أن الرجال خروجهم من البيت أكثر من النساء، كان لا بد من وصية خاصة إلى الجارات ببعضهن البعض، وهذا حديث النبي ﷺ: لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاةمتفق عليه [رواه البخاري: 6017، ومسلم: 2426].
لما قال: يا نساء المسلمات يعني يا نساء الجماعة المسلمات: لا تحقرن جارة لجارتها يعني شيئاً من المعروف ولو فرسن شاة وهو الشيء اليسير جداً.

الوصية بالسماح للجار بالاستفادة من جاره 

00:13:50

وكذلك، فإن بين الجيران مرافق مشتركة؛ كالجدران، والأسوار، ونحوها، وربما احتاج الجار أن يضع خشبة على الجدار المشترك، أو على جدار الجار، ليستفيد منه، فقد يمنعه، ويقول: هذا حائطي -مثلاً-، ونحو ذلك، فقال ﷺ: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم" متفق عليه [رواه البخاري: 2463، ومسلم: 4215].
فقوله: لا يمنعن نهي أن يمنع من ذلك أن يُغرز في ملكه، ولو كان في ملكه.
وقوله: أن يغرز خشبة في جداره الضمير في جداره يعود على جدار المانع الذي يمنع، فإذا كان المقصود جداره هو، فهذا لا يحتاج إلى وصية، لكن قال: لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره جدار الجار الآخر؛ لا يمنعه من غزره في جدار نفسه؛ لأن ذلك شيء يسير، وينبغي أن يتسامح به، ويتساهل فيه.
ثم قال أبو هريرة راوي الحديث: "مالي أراكم عنها" يعني عن هذه الخصلة؛ السماح للجار أن يغرز خشبة عنده "مالي أراكم عنها معرضين؟!" هل استغربتم الكلام، أو أعرضتم عنه بقلوبكم، أو نفرتم منه، أو لا تفعلونه في الواقع؟ "والله لأرمين بها" يعني بهذه السنة التي جاءت في الحديث "بين أكتافكم" أي سأبلغكم إياها، وألقيها على مسامعكم، وأودعكم تقريعاً مما فيها، كما يضرب الإنسان الآخر، ويرميه بالشيء بين كتفيه.
وكذلك فإنه ﷺ لما أوصى بهذه الوصية أراد أن يكون هناك اشتراك في المرافق، أو الشيء الذي بينك وبينه، لا تمنعه الاستفادة منه، إذا أراد أن يضرب مسماراً، أو يشد حبلاً -مثلاً-، أو يضع سورًا أو جزءاً من خشب أو ساتر، ونحو ذلك، يعني من هذه الأشياء المفيدة التي تفيده ولا تضرك، فلا تمنعه من الارتفاق بها، والاستفادة منها.

وهذا الحديث يمكن أن يفهم منه الوجوب، ولذلك اختلف العلماء في هذا حكم تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره، هل يجب أن يمكنه، ويأثم لو منعه؟
قال بذلك بعض العلماء، وهما قولان للشافعي، والإيجاب قال به أحمد رحمه الله وأبو ثور، وأصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث، والمعظم للسنة يقتضي أن يأخذ بهذا.
وكلام أبي هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين؟!" يدل على شيء من هذا.
وكأن أبا هريرة لاحظ أنهم استغربوا الكلام، أو أنهم توقفوا عن العمل -مثلاً-، فقال: "مالي أراكم عنها معرضين؟!" لا تريدون هذا.

حرمة إيذاء الجار والأمر بالإحسان إليه 

00:17:38

وقال ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره[رواه البخاري: 6018]، والإيذاء أنواعه كثيرة، وإيذاء الجار حرام، وسنأتي على بعض أنواع الإيذاء.
وكذلك فإنه ﷺ قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره[رواه مسلم: 185].
فذكر الإحسان، وذكر أيضاً عدم الإيذاء، حتى تكتمل القضية من طرفين: إحسان، وعدم إيذاء؛ لأن عدم الإيذاء لا يتضمن الإحسان، يعني أنت ممكن لا تؤذيه، لكن لا تحسن إليه، فليس هذا هو  المطلوب، ما هو فقط أنك لا تؤذيه، بل تحسن أيضاً.
أما الإحسان ينافي الإيذاء، يعني إذا قال: أحسن، فواضح أنه لا تؤذيه، لكن لما قال: لا تؤذي، أكد على هذا الجانب؛ لأنه يحصل أذية من الجيران لبعضهم، أكد عليه، لكن عدم الإيذاء لا يعني وجوب الإحسان، ولذلك أكد عليه من جهتين: الإحسان، وعدم الإيذاء.
وكذلك فإنه ﷺ لما سألته عائشة رضي الله عنها وقالت له: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً[رواه البخاري: 2259].

ولما أمر بإكرام الجار عملت عائشة رضي الله عنها، وقد كان الزاد عندهم قليلاً، وكانوا في ضيق، ليسوا على سعة من العيش، وكان أيام كثيرة لا يوقد في بيت النبي ﷺ نار، ولا  يطبخ شيء، وأرسل مرة ضيفه فلم يجد إلا الماء، وأحياناً يأتي لبن من هنا، أو شيء من هنا، مما يهدى إلى النبي ﷺ، وإلا فكانوا من جهة العيش ليسوا في سعة، فلما كان هذا، وربما يحضر عند عائشة القليل، والجيران كثر، قلنا: أربعين من كل جانب، فما الذي يسع هؤلاء الجيران الكثر؟ فلذلك سألته قالت: "إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ حيث أن الشيء ما يتسع للجميع، ما يتسع حتى للاثنين، فقال ﷺ: إلى أقربهما منك باباً [رواه البخاري: 2259].
وهذا أحد الأقوال في تفسير: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء: 36]، على أحد الأقوال، ولكن القول الأشهر: القربى، صاحب القرابة النسبية.
وقال ﷺ: خير الجيران عند الله خيرهم لجاره [رواه الترمذي: 1944، وقال: "حديث حسن غريب"، وأحمد: 6566، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:  2568].
و خيرهم لجاره يعني في النفع والدفع، فهو ينفعه، ويدفع عنه ما يؤذيه، فهذا خير الناس، وأكثرهم ثواباً، وأكرمهم منزلة عند الله .

تعوذ النبي ﷺ من جار السوء 

00:21:02

وقد ذكر ﷺ أحاديث متعددة في مسألة الجار، ومن ذلك: أنه ﷺ كان يستعيذ من عظم أثر الجار، يقول: اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول[رواه ابن حبان: 1033، وأبو يعلى: 6536، والحاكم: 1951،، والأدب المفرد: 117، وصححه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2556، وفي صحيح المفرد: 86].
فجار البادية -مثلاً- أنت ذاهب إلى البحر، فجاء جنبك جار سوء، فهذا مهما طول، مهما مكث، لا يطيل، لكن في البلد، وبالذات إذا كان بيتك بيت ملك، وليس مستأجر، حتى تغير، أصلا حتى لو كان مستأجراً، فالنقل من البيت عذاب: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ[الحشر: 3] الجلاء عن البيت، وعن الديار عذاب، ولولا أن كتب الله عليهم هذا النوع من العذاب لعذبهم بعذاب آخر، هذا معنى الآية.
فجار السوء في دار المقامة؛ هذا مصيبة؛ خصوصاً إذا كان بيتاً لا تجد له بديلاً، فهذا من أكبر المصائب، ولذلك فإنه ﷺ استعاذ منه، قال: اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول[رواه ابن حبان: 1033، وأبو يعلى: 6536، والحاكم: 1951،، والأدب المفرد: 117، وصححه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2556، وفي صحيح المفرد: 86].

إعانة الجار من علامات الإيمان 

00:22:46

ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً إذا بات شبعان وجاره جائع؛ كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات: ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به [رواه الطبراني: 750، وإسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 5505، وصحيح الترغيب والترهيب: 2561].
وهو يعلم به؛ لأن بعض الجيران قد لا يعلم بحقيقة جاره، ولذلك إذا وصل إليك علم عن جارك، فقد قامت عليك الحجة في مساعدته.

من سعادة المسلم الجار الصالح 

00:23:30

ومن سعادة الإنسان في المقابل الجار الصالح؛ كما جاء ذلك عن النبي ﷺ في قوله: من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع[رواه أحمد: 15409، والبخاري في الأدب المفرد: 116، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 85].
وقال: أربع من السعادة وذكر: الجار الصالح وأربع من الشقاء: الجار السوء فإذا للإنسان ملك جار صالح هذا من أسباب سعادته في الدنيا، وهناء عيشه، أن يكون عنده جار  صالح.

وصية النبي ﷺ لأبي هريرة  

00:24:07

وكذلك فإنه ﷺ أوصى وصية لأحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لأبي هريرة وجه الكلام للجميع، فقال: من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن، أو يعلِّم من يعمل بهن؟ قال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعد خمساً، قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحبه لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب[أخرجه الترمذي: 2305، وأحمد: 8081، وقال الألباني: "حسن لغيره"، كما في صحيح الترغيب والترهيب:  2349، وقال محقق جامع الأصول: "حديث حسن"].
إذاً، أحسن إلى جارك تكن مؤمناً.

أذية الجار من أسباب دخول النار 

00:25:09

كذلك فإنه ﷺ قد أخبر عن امرأة: أنها من أهل النار، مع صلاتها وصدقتها وصيامها، لماذا؟ لأنها كانت تؤذي جيرانها، والحديث رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد"، ورواه ابن أبي شيبة، قال رجل: "يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها" باللسان قال: هي في النار قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط" الأثوار هي قطع، والأقط هو اللبن المجفف، وهو من الشيء الزهيد "ولا تؤذي جيرانها؟ قال: هي في الجنة [رواه أحمد: 9673، وابن ماجه:7304، والحاكم: 7304، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2560].
فما نفع تلك كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها؛ لأنها تؤذي جيرانها، وهذه نفعها الإحسان، وعدم إيذاء الجار، فأخبر ﷺ أنها في الجنة.
فهذه من الأدلة على خطورة هذا الموضوع، وأنه لا بد من الاهتمام به.

حال جيران النبي ﷺ والصحابة 

00:26:31

وقد كان النبيﷺ وأصحابه يطبقون ذلك عملياً، فكان جيرانه عليه الصلاة والسلام يهدون إليه، ولذلك مرة لما جاع أبو هريرة؛ وأرسل للنبي ﷺ قدحاً من لبن؛ فأشرك أهل الصفة فيه. [رواه البخاري: 6452].
ولما كانت أسماء امرأة الزبير رضي الله تعالى عنهما جاؤوا من مكة إلى المدينة؛ في الهجرة، وحالتهم صعبة، وإنشاء بيت جديد وأسرة في مكان غريب، ليس الأمر سهلاً، مع قلة ذات يدهم، فقد خرجوا بلا مال مهاجرين إلى الله ورسوله، فتقول أسماء مما سهل عليها المعيشة: أنه كان لها جارات صدق يخبزن لها، يساعدنها في الخبز والعجن، فقالت: "جيران من الأنصار نسوة صدق" [رواه البخاري: 5224، ومسلم: 5821] كن يساعدنها.

حاجة الجيران إلى بعضهم بعضاً 

00:27:43

والإنسان لا يزال محتاجاً إلى جاره؛ لأن هناك طوارئ كثيرة يمكن ما ينقذها  إلا الجار، حلالات من أمور المحرجة ما ينقذ فيها الإنسان إلا جاره، ولذلك رأى أبو بكر الصديق ولده عبد الرحمن وهو يناصي جاراً له، فقال: "لا تناص جارك، فإن هذا يبقى والناس يذهبون". [إحياء علوم الدين: 2/214].
ناصى جاره، يعني أخذ بناصيته، وصار بينهما أمر فيه شدة.
وكذلك فإن رجلاً جاء إلى ابن مسعود فقال: "إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي؟ قال: اذهب فإن هو عصى الله فيك، فأطع الله فيه". [إحياء علوم الدين: 2/212].
وكذلك فإن الحسن البصري رحمه الله من شدة حق الجار كان لا يرى بأساً أن يطعم الإنسان جاره اليهودي، أو النصراني من أضحيته.
وجاء الحسن بن عيسى النيسابوري إلى عبد الله بن المبارك، فقال: الرجل الجار المجاور يأتيني، فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً، والغلام ينكره، فأكره أن أضربه، ولعله بريء؟ أضرب غلامي يمكن الغلام بريء؟ أسكت يمكن الجار صادق وغلامي غلطان؟ فكيف أصنع؟ قال: إن غلامك لعله أن  يحدث حدثاً يستوجب فيه الأدب، فاحفظ عليه. الآن هذا يحتاج إلى مراقبة، وأن تحسب عليه تصرفاته. فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث، فتكون قد أرضيت جارك، وأدبته على ذلك الحدث. يعني يقول: هذا الغلام الذي عندك لا يخلو أن يخطئ، ما هو ضروري حق الجار، ما راح يخطئ خطأ آخر، يهمل، فيكسر شيئاً -مثلاً-؛ فأنت الآن جارك يشتكي على الغلام، والغلام ينكر، وأنت لا تعلم أهذا الغلام صادق أم الجار؟ فماذا تعمل؟ قال: عدَّ على هذا الغلام مواقفه، فإذا جاء خطأ أخطأ فيه؛ فعاقبه بعلم جارك، فيظن الجار أنك عاقبته من أجله، والغلام يعلم أن العقوبة من أجل خطئه، فما ظلمت، وأرضيت الجار، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين.

حقوق الجار في الإسلام 

00:31:00

وكذلك فإن حقوق الجار متعددة -إذا أردنا أن نتحدث عن حقوق الجار-، فإنها كثيرة، ومما ذكره العلماء في حقوق الجار: إذا استعانك فأعنه، وإذا استقرضك فأقرضه، وإذا افتقر عد إليه، وإذا مرض فعده، وإذا أصابه خير فهنئه، وإذا أصابته مصيبة فعزه، وإذا مات فاتبع جنازته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً؛ لأن من الإيذاء الإيذاء النفسي، فهذا يرى جاره يدخل الكراتين، وهو ليس عنده شيء، ما عنده كيلو، ولا حبة من الفواكه، فإذا لم ترد أن تعطيه منها فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، فهذا ولده يخرج وفي يده الحبة الكبيرة، وولد ذاك مسكين ليس عنده شيء، فلا تجعل ولدك يغيظ ولد جارك، بأن يخرج إليه بشيء لا يملك مثله، فيتألم الغلام الآخر.
وكذلك من الحقوق: إيصال الخير إليه بكل الطرق، مثل كف الضرر عنه بكل طريقة، ثم البداءة  بالسلام؛ لأنك لا يخلو أن تلقاه على باب البيت كثيراً، هو يدخل ويخرج، وأنت تدخل وتخرج، فابدأه بالسلام، ولا تطل معه الكلام بحيث تضايقه، ولا تجمع له الزلات، ثم تحاسبه عليها كما تحاسب موظفاً عندك، أو سائقاً، أو خادماً، وأظهر السرور بما أسره، واصفح عن زلاته، ولا تطلع على السطح على عوراته، ولا تضايقه بوضع الجذع على جداره، ولا تطرح القمامة أمام بابه، ولا تضيق عليه الطريق، ولا تقف  أمام باب "الكراج" في هذه الأيام، أو تأخذ مكان سيارته المظلل الذي أمام بيته؛ لأنه الآن هناك مواقف قد تكون مخصصة، يعين كل عمارة -مثلاً- لك شقة تخصص موقفاً للسيارة، أو يأخذ المكان الذي أمام البيت بالضبط، أو يسد عليه مكان الخروج، واستر ما انكشف من عوراته.

حفظ دار الجار في غيبته 

00:34:23

ولا تغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، فقد يسافر ويرجع، ويجد البيت كله مسروقاً، كيف؟ قال: والله رأينا سيارة شركة جاءت وحملت، فقلنا: يمكن أنك نقلت! والمشكلة الآن أنهم لا يدرون عن أحوال بعضهم، فهذا ينقل من المنطقة ولا تدري عنه أنه سينتقل من البيت، هذا تقصير، ثم بعد ذلك يقول: فكرنا أنك نقلت من البيت، وهذا ما هو إلا حرامي محترف، أتى بسيارة شركة، وقال: عندي بيت، ومن الشركة التي تتأكد أن هذا بيت ملك فلان؟ خلاص عرف أن هذا البيت قد غاب صاحبه، فجاب شركة، حرامي، فتح الباب، وجاب بشركة، وقال: انقلوا الأثاث، وهو من بعيد لو وقع شيء لهرب، وإذا لم يقع شيء أخذ الأثاث، وهذا جاره، يقول: لا أدري، ظننتك نقلت، الجار نقل، خبر كبير، كيف لا يدرى عنه؟! فلذلك إذا سافر الجار؛ من حق الجار عليه: أن يلاحظ داره في غيبته، ولو رأى شيئاً أمام بيت الجار ، وأناس غرباء واقفين، ماذا عندكم؟ ماذا تريدون؟ لا بد أن تعتبر بيته مثل بيتك.
ولا تسمع كلاماً فيه بدون دليل، وتسمح لأحد أن يوغر صدرك عليه.

غض البصر عن نساء الجار 

00:36:06

وغض بصرك عن نسائه؛ لأن الجار لا يخلو أن تخرج نساء بيته، أو بناته نساء بيته من الدار، إذا خرجن فربما تكون المرأة  لتوها لم تعدل ملابسها بعد، فبعض النساء تخرج وتعدل على الطريق، من قلة الدين، تجد بعض النساء، وهي طالعة تكمل لبس العباءة، وهي قد صارت في الشارع، ومن المفترض أنها قبل أن تخرج من بيتها أن يكتمل الحجاب كله، لكن مع الأسف بعض النساء لا تكمل لبس حجابها إلا في الشارع، هي خارج إلى الشارع، وتكمل اللبس، فهنا ماذا يفعل الجار؟ الشكوى لله، والنصيحة، وأن يغض بصره.
كذلك تقف السيارة -مثلاً- أمام باب الجار، فينزل منها نساؤه، والمرأة إذا نزلت لا تخلو إذا دلت ساقها من السيارة لتنزل أن تنكشف ساقها -مثلاً-، فغض البصر عن نساء الجيران، وهن يدخلن ويخرجن، وهن ينزلن من المركبة، وهن يصعدن إليها، لا بدّ من غض النظر.
كذلك بعض الخادمات -الآن- تخرج لرمي القمامة مشمرة عن العمل، فلابد من نصح الجار أن الخادمة التي عنده لا بد أن تحتشم، وخروجها لإلقاء القمامة في البرميل، لا بد أن يكون بحشمة وحجاب، وإذا لم تحتشم، فإنه يمنعها من الخروج، ويجعل السائق، أو هو بنفسه يخرج القمامة، فإذا خرجت الخادمة غض بصره لحق الجار؛ لأن هذه خادمة الجار، وبعض الناس يقول لك: خادمة الجار ليس لها قيمة، لو أننا عبثنا معها، يعني أصلاً سيرلانكية! وإذا كانت سيرلانكية! هل يعني سقط؟ هذا فمن حقوق الجار أن تحترم حتى حرمة خادمته، أن تحترم الحقوق، وتقوم بالنصيحة.

وأن تتلطف مع أولاده؛ لأن بعض الناس من المشكلات الكبيرة أنه يعتبر أن له الأحقية في معاقبة أولاد الجيران، فتجده يأخذ راحته في ضرب ولد الجار، الولد يلعب رمى بالكرة، وهو ولد من طبيعته اللعب، فالأشياء العادية تحتمل، وإذا كان قد زودها تحتمل أنت، وإذا أصبح الأمر لا يطاق كلم أباه، لكن أن تعطي لنفسك الأحقية بضرب ولد الجار فوراً بدون إعلام، ولا إخبار أبيه، فهذا غير صحيح، والإنسان المطلوب منه أن يتحمل.
والآن حق الجار أن يتحمل أذاه، وليس أن يرصد له تحركاته.
جاء واحد من الإخوان، قال: يا أخي والله أنا لا استريح لهذا الجار، كلما نظرت لا أجدهم إلا يحركون الستارة، وإذا نظرت لهم يسكرون الستارة، طول الوقت، يكشفون الستارة، وينظرون إلى مدخل البيت، وإلى شبابيك البيت، فهذا في الحقيقة قلة دين، وقلة مروءة ، وضعف أخلاق.

نصيحة الجار وتعليمه أمور الدين 

00:39:45

ثم إن من حقوق الجار: أن تعلمه أمر دينه، وأن ينصح في الأشياء التي فيها واجبات -مثلًا- ينصح صلاة الجماعة، ويزار، ويكلم، ويناصح، ويوعظ.
وكذلك إذا جعل منكراً في بيته ينصح بإزالته، وهذه المسألة من المسائل التي فيها كلام للعلماء، وهي قضية إنكار منكر الجار، نقل عن مهنا الأنباري رحمه الله عن أحمد: أنه سمع صوت طبل في جواره، فقام إليهم من مجلسه، فأرسل إليهم، ونهاهم، يرسل إليهم الولد، يقول: لو سمحتم، لا تشغلوا هذا المنكر في البيت، ترى أذاه وصل إلينا، اتقوا الله.
وأما بالنسبة للمنكرات التي في قعر بيت الجار، فهذه لها تعامل خاص، جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية محمد بن أبي حرب في الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه، قال: يأمره، فإن لم يقبل جمع عليه الجيران، ويهول عليه، يقول: يا فلان بيتك فيه كذا، ويخرج منه كذا، ويدخل إليه كذا، نحن الآن في شارع وحي واحد، وأنت نساء أجنبيات من أشكال وألوان مختلفة، داخلات، خارجات، إما أنك ترى لك حلاً، وإلا نرفع بك إلى المحكمة، فإذا صار بيت الجار موضع اشتباه، يوعظ، ويخوف بالله، وإذا ما اتعظ يجمع عليه الجيران، ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ويذهبون معه؛ لأنه قد لا يخاف من الواحد لكن يخاف من المجموعة، فإن لم؛ هدده، فيقول: أشتكي، وأرفع الأمر إلى القاضي، لأن مصلحة الجار في الحقيقة أن يكف عن المنكر، إذا أردت أن ترحمه؛ فعليك أن تسعى لمنعه من المنكر الذي يعذب بسببه في الآخرة، وتدرأ عنه عذاب الآخرة بنصيحته.

وأما بالنسبة لقضية التجسس، لو قال واحد: جاري أخاف أن يكون عنده بلاء، أريد أن أتجسس؟ نقول: لا يجوز المسلم الذي ظاهره العدالة لا يجوز التجسس عليه، لا يوجد هناك قرائن على الفساد، ولا رأيت مناظر، وأشياء مريبة، فلا يجوز أن تقول: يمكن أن هناك شيئاً وأنا لا أدري، ما الذي أدخلك في الموضوع؟ لا يجوز لك أن تتجسس مطلقاً في هذا الجانب؛ لقول ابن مسعود: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به". [الآداب الشرعية: 1/279].

احتمال أذى الجار 

00:43:02

وكذلك من حقوق الجار: ليس كف الأذى، وإنما احتمال الأذى، وقد تقدم، فأنت تكف أذاك، وتحتمل أذاه، وأن تبتدئ معه بالخير، وأن تحذر من إتباع النظر إليه فيما يحمله إلى داره، وتحذر من الاستماع إلى كلامه.
والآن بسبب تقارب هذه البيوت، ووجود هذه الشقق، يعني بعض الجيران عندهم أخبار الجيران كلها بالتفصيل، كل شيء، والخصومات التي بينه وبين زوجته بالتفصيل، والخصومات التي بين زوجة الجار والخادمة بالتفصيل، وكل الأشياء، فما هو الذي ينبغي على الإنسان، إذا -مثلاً-: افرض هذه غرفة يصل إليك منها الصوت، وصار عندهم كلام خاص، حتى لو كان مشكلة بين الرجل وزوجته من الجيران، اخرج إلى غرفة أخرى لكيلا تستمع الكلام.
ولو سمعت شيئاً لا تنقله في المجالس، فتقول: عندنا جارنا فلان، يقول لزوجته كذا، وهي ترد عليه كذا، وتنقل الحوارات الخاصة؛ لأن هذه من أسرار البيوت في الحقيقة، فينبغي حفظ سره، وقضاء حاجات أهل الجار إذا غاب.
ماذا يحتاج أهله من الأشياء تقضي لهم ذلك؟

عدم إزعاج الجار بالأصوات العالية 

00:44:54

وكذلك الحذر من إزعاجه بالأصوات؛ فإن بعض الناس يشغل أقصى ما يمكن من صوت المسجل، ونحوه، ويؤذي جاره، وهذا مشاهد وكثير، وبعض أنواع البيوت قد تكون أسقفها مشتركة، فالصوت يصل بسرعة للاشتراك في السقف أو البناء، فيكون ما يشغله من أصوات في بيته واصل إلى الجار، سواءً كان طاعة أو كان معصية، أو كان شيئًا مباحًا، فلا يجوز الإزعاج به مطلقاً، قد يكون في وقت القيلولة، وقد يكون في وقت الليل، وقت نومه وراحته.
وكم من جيران يرمون قماماتهم أمام أبواب جيرانهم؟ وكم من جيران يستعيرون بعض المتاع من جيرانهم ثم لا يردونه؟ وكم من جيران لا أمانة لهم على أموال جيرانهم؟ وكم من رجل فاضل هجر داره من أجل جاره المؤذي؟ وربما توسط الإنسان وسائط لكي يكف الجار أذاه؟ يحتاج إلى إدخال واسطة لكي يكف الجار أذاه؟

دعوة الجار إلى الخير 

00:46:21

وكذلك فإن من حقوق الجار أيضًا: أن الإنسان يدعوه إلى الخير، افرض زارك شيخاً أو عالماً، أو إمام مسجد، تذكره بالخير في دعوته ليحضر معك في هذا، فتوصل إليه نفعاً -مثلاً-، أهل الحي لهم مجلس يأتون فيه بأمور من الخير.
فإذاً ينبغي عليك أن تدعو جارك ليستفيد من الخير، ولو غاب وقد تناقلوا فيما بينهم كتاباً مفيداً، أو شريطاً إسلامياً نافعاً، فخذ نسخة لجارك، تقول: فلان غائب نصيبه عندي، وحصته عندي، من الوفاء له أن تتذكره في غيبته لتأخذ له ما يستفيد منه.
والإنسان أحياناً إذا آذاه جاره لا يستطيع أن يرد الأذى بالأذى، لكن قضية تأليب الناس الآخرين عليه كعامل ضغط -الذي سبقت الإشارة- بأن يجمع الجيران -مثلاً-، هذا العامل من الضغط قد نبه إليه النبي ﷺ رجلاً قد آذاه جاره، والحديث عند أبي داود وهو حديث صحيح، أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ يشكو جاره، قال: اطرح متاعك على الطريق يقول للمُؤْذَى الذي أُوذي: نزل عفشك على الرصيف، فهذا الرجل امتثل لأمر النبي ﷺونزل متاعه على الرصيف، فجعل الناس يمرون به، لما طرح متاعه على الطريق، ويسألونه: لماذا وضعت متاعك على الطريق؟ يقول: جاري ما تحمل، هذا مؤذ، ما أتحمله، فجعل الناس يلعنون هذا الجار، يقولون: فعل الله به، وفعل الله به، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه. ارجع، يكفي فضائح، خلاص، تبنا.

فبعض الناس لا يخافون من الله، ولكن يخافون من الرأي العام، ومن عموم الناس، ومن ضغط المجتمع إذا اجتمع عليهم الناس.
وهذا الذي نبه إليه ﷺ هذا الرجل ليتخلص من أذية جاره.
وكذلك فإن الجيران يختلفون في الأحوال من جهة الصلاح وعدمه، قال ابن حجر -رحمه الله-: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح، وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له، إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى، على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه، والترغيب فيه برفق، ويعظ الجار الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً، ويستر عليه زللـه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فيه وإلا فيهجره، قاصداً تأديبه [انظر: فتح الباري: 10/442].

الجار في الشعر العربي 

00:50:10

وقد كان الشعراء المسلمون يتمدحون بكيفية كف الأذى عن جيرانهم، فيقول أبو جعفر العدوي:

شراء جارتي ستراً فضول لأنني جعلتُ جفوني ما حييت لها سترا
وما جارتي إلا كأمي وإنني لأحفظها سراً وأحفظها جهرا
بعثت إليها أنعمي وتنعمي فلست محلاً منك وجهاً ولا شعرا

[المنتقى من مكارم الأخلاق: 60].
لا أنظر إلى الوجه ولا إلى الشعر.
وقال حاتم الطائي في القديم:

ناري ونار الجار واسحدة وإليه قبلي تنزل القدر

 أي: قبل ما ينزل قدري لطعامي يكون قدر الجار نزل.

ما ضر جاراً لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر

 حتى إذا ما له باب لا يتضرر مني.

أغضي إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر

 [الآداب الشرعية: 2/18، والمنتقى من مكارم الأخلاق: 60].
وقال أحمد بن علي الحراني:

والجار لا تذكر كريمة بيته واغضب لابن الجار إن هو أغضبا
احفظ أمانته وكن عزاً له أبداً وعما ساءه متجنبا
كن ليناً للجار واحفظ حقه كرماً ولا تك للمجاور عقربا

[المنتقى من مكارم الأخلاق: 58].

أناس عرفوا قيمة الجار 

00:51:49

ويروى أن جاراً لـابن المقفع أراد بيع داره في دين ركبه، وكان  يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدمًا، فدفع إليه ثمن الدار، وقال: لا تبعها [إحياء علوم الدين: 2/213].
وكذلك يروى: أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار؟ قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص. سعيد بن العاص -رحمه الله وأكرمه.
من سادات المسلمين، جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي، وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمائة ألف درهم [انظر: وفيات الأعيان: 2/535].
فكان الجار يباع قبل الدار، قالت امرأة فرعون: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً[التحريم:11] عندك أولاً. أين هؤلاء من أكثر جيران زماننا، الذي لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجراتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولاداً؟!
قال بعض من بلي بجار السوء:

ألا من يشتري جاراً نؤوماً بجار لا ينام ولا ينيم
ويلبس بالنهار ثياب نسك وشطر الليل شيطان رجيم

يقول: أريد جاراً ينام، فأنا جاري لا ينام، بل يسعى في الشر.
قال علي بن أبي طالب للعباس: ما بقي من كرم إخوانك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
وقال بعضهم:

سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني
إذا تأملت من أخلاقهم خلقاً علمت أنهم من حلية الزمن

[الآداب الشرعية: 2/18].
فالجيران خصوصاً في بلد الغربة، مثل هؤلاء الجيران الذين جاؤوا من بلدان أخرى للعمل في هذه البلاد، -مثلا- ناس جاؤوا من مصر والشام واليمن وأفريقيا وباكستان والهند، فما الذي يهون عليهم المعيشة في بلد الغربة؟
أهم شيء -في الحقيقة- يهون عليهم: الجار، إذا كان جاره طيباً ظن كأنه في وطنه؛ كما قال هذا الرجل:

سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني

 كأني صرت في وطني، بل يمكن صرت أحسن، مما رأى من الخير صار مثل وطنه أو أحسن.

من أحكام الجوار 

00:55:23

تعلق التزكية بالجوار 

00:55:23

وكذلك فإن مما يتعلق بالجوار من الأحكام: أن التزكية عند العلماء غير الشهادة، فالتزكية لها شروط، إذا أردت أن تزكي شخصاً، وانتبه لهؤلاء الذين يذهبون للمحكمة، يقول: احضر لنا شهوداً، وجب لنا مزكين، فما أسهل التساهل بقضية المزكين؟!
يقول أهل العلم في التزكية: لا بد للتزكية من أمرين، المزكي يشترط فيه ما يشترط في الشاهد، يعني بالعقل والعدل والضبط، وإلى آخره، بالإضافة إلى شروط التي الشاهد.
يشترط في المزكي أمران: أحدهما: معرفة أسباب الجرح والتعديل؛ لأنه يشهد بهما.
والأمر الثاني: خبرة باطن من يعدله، أو يجرحه، بصحبة، أو جوار، أو معاملة. القاضي الذكي الفاهم إذا جاءته قضية تزكية -والتزكية مهمة- قال: هات لي أناساً من جيرانك يزكونك.
ولكن انظر الآن في المحكمة، يأتي بعض الناس في طرقات المحكمة، يقول: ماذا تريد؟ يقول: أريد مزكياً، يقول: وأنا أريد شاهداً، تعال أزكيك وأنت اشهد لي، سبحان الله! ما يعرفه، كيف يزكيه؟! لا يجوز، لا بد أن يكون قد عايشه، ورافقه، وجاوره، وسافر معه، وأمضى معه وقتاً طويلاً، وشاركه في مال، أو في شيء، كيف يزكي شخصاً لا يعرف حقيقته؟! لا يجوز ذلك مطلقًا.

إسكان الزوجة بين جيران صالحين 

00:57:10

وكذلك مما ذكر أيضاً في موضوع إسكان الزوجة، قالوا: إن من شروط شرعية المسكن الزوجي أن يقع بين جيران صالحين، تأمن فيه الزوجة على نفسها، يعني لو أن الزوج أسكن زوجته وسط أناس سيئين؛ فإن لها الحق أن تذهب إلى القاضي، وتقول: ما سكني السكنى الشرعية، السكنى الشرعية يجب أن تكون بين ناس صالحين، هذا سكني وسط أناس سيئين، أنا لا آمن على نفسي، هذا زوجي إذا ذهب إلى العمل يضربون عليَّ الباب، والهاتف، وهذا يناديني من الشباك، -طبعاً- إذا كانوا أهل فسق، وهكذا.

عظم إثم الزنا بزوجة الجار 

00:57:54

ولذلك كان الزنا بزوجة الجار من أعظم الكبائر عند الله، ويتفاوت إثم الزنا، ويعظم جرمه، بحسب موارده، فالزنا بذات المحرم، أو بذات الزوج، أعظم من الزنا بأجنبية، أو بمن لا زوج لها؛ لأن فيه انتهاكاً لحرمة الزوج، وإفساداً لفراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه، يدخل عليه ولد وليس من أولاده، سيضاف إلى نسبه.
وهذا أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل والأجنبية، فإن كان زوجها جاراً انظم له سوء الجوار، وإيذاء الجار، بأعلى أنواع الأذى، وذلك من أعظم البوائق، فلو كان الجار أخاً أو قريباً من الأقارب، انظم إليه قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه[رواه مسلم: 181]، ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأة الجار.

فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كالعبادة وطلب العلم والحج، والجهاد؛ تضاعف الإثم، حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله، يوقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، قال رسول الله ﷺ: حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟[رواه مسلم: 5017].
أي: ما ظنكم أن يترك له من حسناته؟ يمكن يأخذها كلها؛ لأنه يقال: خذ ما تريد من حسناته، والناس محتاجون إلى حسنة واحدة.

أحقية الجار المحتاج بالصدقة 

00:59:44

ثم إن الجار المحتاج أولى بالصدقة، نصوا  على ذلك، ثم أيضًا قالوا في مسألة الصلاة في المساجد: المسجد المجاور لك أولى لحرمة الجوار.
ثم قالوا في مسألة انتشار الحريق إلى بيت الجار: إذا انتقل بتفريط، واحد أوقد شرارة في يوم عاصف، وهو يعلم أن الريح تنقل الشرر، فاحترق بيت الجار، يضمن ذلك.
ثم من أثر الجيرة في مسألة القرض، أن الإنسان المقرض لا يجوز له أن يقبل هدية من المقترض في فترة القرض، إلا إذا جرت العادة من قبل القرض بهدايا بينهما، وذكروا مثالاً للجيران، يعني  يهدونا طعاماً، نهديهم طعاماً، أنا اقترضت من جاري فأهديته، فيجوز أن يقبل هديتي؛ لأن بيننا علاقات سابقة في الهدايا، لكن إذا ما كانت هناك علاقات سابقة ولا جوار، فلا يجوز أن يقبل أصلاً هدية، ولا أن يأخذ المقرض من المقترض هدية، في وقت القرض.
هذا ما تيسر ذكره مما يتعلق بالجيران.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بحقوق جيراننا، وأن يهدينا سبل السلام، ويخرجنا من الظلمات إلى النور.
وصلى الله على نبينا محمد.