الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران 102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب 70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمن يجيب المضطر إذا دعاه
إخواني: حديثنا اليوم عن موضوع من مواضيع الإيمان، موضوع من مواضيع أعمال القلوب، التي لا يستشعرها، ولا يعيش لحظاتها، إلا من أوقد الله قلبه بحرارة الإيمان، وعمّره برياض ذكر الله ، والإقبال عليه، وخشيته بالسر والعلانية، إنه موضوع فيه احتساب للأجر، وفيه صبر لله تعالى، وفي ذات الله ، وصبر على أقدار الله سبحانه، يقول الله في محكم تنزيله: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ سورة النمل 62. فمن الذي يجيب المضطر إذا رفع يديه لله يطلب منه المدد؟ ومن الذي يجيب المسلم في لحظات الكرب والشدة، وهي يهتف داعياً ربه منيباً إليه، طالباً منه العون وتفريج تلك الهموم؟ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًاسورة الشرح 5-6. فهذا العسر معرفة وهذا اليسر نكرة في الآية، ولذلك قال ابن عيينة رحمه الله: "أي أن مع ذلك العسر يسراً آخر" كقوله سبحانه: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِسورة التوبة 52. وقال رسول الله ﷺ: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره [رواه ابن ماجه 181].
إن العباد إذا نزلت بهم الشدائد فإنهم سرعان ما يقنطون، والله جعل لكل أجل كتاباً، وجعل لهذا الهم نهاية، ولهذا الكرب تفريجاً، ولكن العباد يستعجلون، والله سبحانه يعجب ويضحك من قنوطهم ومن قرب فرجه، وكتب عمر إلى أبي عبيدة يقول: "مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين".
كيف كان حال الأنبياء والصالحين في الفرج والشدة ؟
وتأمل في أحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم: هذا يوسف لما صار في ظلامة الجب، ثم في ضيق السجن، كرباً على كرب، وهماً على هم، فماذا حصل بعد ذلك؟ تداركته رحمة الله ، وهي قريب من المحسنين، فأخرجته من ظلامة الجب، ومن ضيق السجن إلى سعة الملك، وبسط في العيش، وجمع بأهله في حال الرخاء بعد الشدة، وهذا يعقوب ﷺ: عمي من كثرة البكاء والحزن على فقد ولديه، وابيضت عيناه فهو كظيم، تداركته رحمة الله بعد سنوات من الشدة، ومفارقة الأولاد الأحباء إلى نفسه، فجمعهم الله سبحانه بهما على غير ميعاد منهم، وهذا يونس في بطن الحوت: لما نزل به البلاء دعا ربه في مكان ما دعا به أحد من الناس ربه، في جوف البطن المظلم، فاستجاب الله دعاءه، وهذه سيرة نبينا محمد ﷺ فيها شدائد، وأهوال، وكرب، وهموم، ومنها شدائد المواطن التي نصره الله بها في معاركه ضد المشركين، وهذه عائشة رضي الله عنها: لما نزل بها من الضيق الشديد عندما اتهمها المنافقون، وردد ذلك معهم الذين لم يعوا الأمور من المسلمين، ولم يتثبتوا فيها، فاتهموا تلك المسلمة العفيفة، زوجة رسول الله ﷺ، بأنها قد وقعت في الفاحشة وهي منها بريئة، فصار رسول الله ﷺ يدخل عليها فلا يكلمها، ولا يتلطف معها كما كان يتلطف، واشتعلت الفتنة من حولها، والألسن تلوك في عرضها وهي البريئة، حتى بكت الدموع أياماً متواصلة، حتى انقطع دمعها، وكان لا يأتيها النوم، ثم جاءها فرج الله بتبرئتها من فوق السبع الطباق، وفرج الله همها، وأذهب كربها، وهؤلاء الثلاثة من أصحاب رسول الله ﷺ: الذين خلفوا، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بعد أن عزلهم الرسول ﷺ عن المجتمع المسلم، ونهى الناس عن تكليمهم، فصاروا غرباء في أهلهم وذويهم، حتى وصل الحال إلى أن أمر زوجاتهم بفراقهم، فصاروا كالمبتوتين من المدينة، الذين لا يتصل بهم أحد، ولا يكلمهم أحد، حتى نزل فرج الله بالتوبة عليهم، فوسع الله عليهم بعد أن كانوا في ضيق، ونفس عنهم بعد أن كانوا في كربة، وهؤلاء الثلاثة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الغار فانطبقت عليهم الصخرة: فرج الله عليهم بعد أن أيقنوا بالموت والهلاك، وهذا إبراهيم وسارة: نجاهما الله من الجبار الكافر الذي أراد أن يأخذهما، بل إن رحمة الله واسعة تشمل الكافر لو كان في كربة عندما تنزل به إذا شاء ربك أن يفرج عنه، روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها: أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم، فجاءت إلى رسول الله ﷺ فأسلمت، فكانت لها خباء في المسجد، أو حفش: وهو البيت الصغير في ناحية من نواحي المسجد، قالت عائشة: "فكانت تأتيني وتتحدث عندي، فلا تجلس مجلساً عندي إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا | ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني |
فقلت لها: ما شأنك، لا تقعدين معي مقعداً إلا قلت هذا؟" قالت: خرجت جويرية – يعني صبية – لبعض أهلي، وعليها وشاح من أدم، هذه القصة في الجاهلية، قبل أن تسلم هذه المرأة، كانت خادمة معهم، فخرجت صبية من أهلي، من الأهل الذين كانت تعيش معهم هذه الخادمة، وخرجت معها خادمتها، وكانت لهذه الصبية، كان عليها وشاح من أدم – من جلد – وفي طريق من أنه أحمر من سيور، فوضعته هذه الصبية أو وقع منها، فمرت به حديات، -الحدأة- فحسبته لحماً، فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، جاء أهل البنت الصغيرة فبحثوا عن الوشاح فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به -اتهموا هذه الخادمة- فطفقوا يفتشون، فعذبوني، حتى بلغ من أمرهم أنهم طلبوا في قبلي، -فتشوا قبلها- قالت: والله إني لقائمة معهم وأنا في كربي إذ مرت الحديات حتى وازت برؤوسنا فألقته، قال: فوقع بينهم فأخذوه، قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم، وأنا منه بريئة [رواه البخاري 3835]. وهو ذا هو، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما كان من إسلامها، فتأمل حال تلك المرأة المسكينة، ولو كانت كافرة، كيف لما نزل بها الكرب فعذبت، تداركتها رحمة الله بحادثة عجيبة ليست بمعهودة أن يأتي ذلك الطائر فيلقي بالقطعة التي خطفها.
والله لطيف بعباده، لطفه واسع، ورحمته واسعة، فإنه ينقذ العباد من الضيق، ولو كان في أعتى صوره، ولا يتخلى سبحانه عن المخلوقين، وهذه القصة التي نسوقها ذكرها القاضي بهاء الدين بن شداد رحمه الله، في كتابه: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، -وهو كتاب يحكي تاريخ معارك المسلمين بقيادة صلاح الدين مع النصارى- قال رحمه الله: في وقعة الرمل الذي على جانب عكا، يقول: "ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوكاً كان للسلطان يدعى سرا سنقر وهو من المسلمين، وكان شجاعاً، قد قتل من أعداء الله خلقاً عظيماً، وفتك فيهم، فأخذوا في قلوبهم من نكايته فيهم، فمكروا به، وتجمعوا له وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم وتراءوا له يستدرجونه، ليخرج من عسكر المسلمين ليقاتلهم، فحمل عليهم، وكان شجاعاً لا يخاف، حتى صار بينهم فوقع في الكمين، ووثبوا عليه من سائر جوانبه فأمسكوه، وأخذ واحد من النصارى بشعره، وضرب الآخر رقبته بسيفه، واحد من النصارى أمسك بشعر المسلم، وهم يحيطون به من كل جانب، والآخر رفع سيفه فضرب رقبة المسلم، فإنه كان قتل له قريباً؛ لأن هذا المسلم كان قد قتل قريباً لهذا الكافر، فرفع سيفه ليضربه، ماذا تظن يا أخي المستمع، ماذا تظن أن يفعل الله في تلك اللحظات؟ ماذا تظن وتحسب أن يحدث؟ وكيف ينقذ الله رجلاً في هذا الموقف؟ يقول: فوقعت الضربة في يد الماسك بشعره، فقطعت يده، وخلى عن شعر المسلم، فاشتد هارباً حتى عاد إلى أصحابه، وأعداء الله يشتدون عدواً خلفه، فلم يلحقه منهم أحد وعاد سالماً ولله الحمد وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًاسورة الأحزاب 25. فتأمل لطف الله الذي أوقع ضربة الكافر على يد الماسك شعر المسلم حتى قطعت، فاستطاع أن يفلت منهم، وهؤلاء الذين يركبون البحر فيسافرون كان لهم في الماضي شأن عجيب، وكانت تحل بهم النكبات والعواصف، فتكاد أن تغرقهم، يقول العلامة صديق حسن خان رحمه الله، في كتابه رحلة الصديق إلى البيت العتيق: ولما سار المركب من الحديدة سكن الهواء إلى ثلاثة أيام، ولم يتحرك المركب خطوة من محل القيام، وبعد ذلك هبت الريح الأزيز، وجاء الغيم والمطر بالليل، ورجع المركب إلى عقبه، وسار إلى غير صوبه، فمكثنا بهذه الحالة في البحر إلى أيام آيسين من الوصول إلى المأمول، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، من طول الركوب ومخالفة الهواء، وقلة المطعوم والمشروب، وبلغت الأنفس التراقي، وكانت الأيدي إلى السماء مرفوعة، ثم سمع الله دعاء الآيسين، وهبت لنا ريح طيبة من رب العالمين إلى يومين، وكانت ضعيفة، ولكنها أخرجت المركب من مجمع الجبال المستغرقة في الماء إلى ساحل النجاة، ولما قربنا من جدة، قرب المركب ليلاً إلى جبل في الماء، ومن أخطر الأمور أن يقترب المركب إلى جبل في الماء، فاضطرب له المعلم اضطراباً شديداً، وربط أشرع السفينة، وعمل كل تدبير خطر له بالبال، وأنزل الملاحون أقرب -قوارب السفينة- وسعوا إلى جوانبه، وعلموا أن المركب لو سارت قليلاً لتصادم بالجبال، فمضى هذا الليل في غاية الاضطراب، وتمت تلك الليلة بالاستغفار، وإخلاص النية، والتوبة، وكلمة الشهادة على الألسن، وسلموا أنفسهم للموت، وكان رحمة الله علينا بالسلامة حتى طلع الفجر، وشاهدنا ذلك الجبل في ضوء النهار.
فوائد الشدائد والمصائب في حياة المسلم
وهذه الشدائد التي تصيب المسلم في حياته بشتى الصور، هذه أيها الإخوة لا بد لها من فوائد، إن للشدائد فوائد بالرغم من أنها مكروهة للنفس، فمنها: أن الله يكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، ويدفع الكربُ المكروبَ إلى التوبة، ويلجأ إلى الله، وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من كثير من العبادات، أن ينكسر المخلوق لله سبحانه، وأن يشعر بذله أمام الله، وأن يشعر بحاجته إلى ربه، وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد، ويتنقى من أدران الشرك بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه.
وكان رسول الله ﷺ قد علمنا أدعية إذا نزل بنا الكرب، واشتدت الأمور، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، علمنا ماذا نقول، في الصحيحين عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم[رواه البخاري 6346 ومسلم 2730]. وكان ﷺ إذا حزبه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث[رواه الترمذي 3524]. وقال لأسماء بنت عميس: ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً[رواه أبو داود 1525]. وقال : من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له كشف ذلك عنه[رواه الطبراني في الكبير 396]. وعن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال: دعوة المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت[رواه أبو داود 5090]. وقال رسول الله ﷺ: دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له[رواه الترمذي 3505].
وهذه ألطاف الله قد تخفى على الكثيرين.
وكم لله من لطف خفيٍ | يدق خفاه عن فهم الذكي |
وكم من يسر أتى من بعد عسر | وفرج لوعة القلب الشجي |
وكم من هم تساء به صباحاً | فتعقبه المسرة بالعشي |
إذا ضاقت بك الأسباب يوماً | فثق بالواحد الأحد العلي |
وقال أبو الحاكم السجستاني رحمه الله:
إذا اشتملت على اليأس القلوب | وضاق بنا به الصدر الرحيب |
وأوطأت المكارم واطمأنت | وأرست في أماكنها الخطوب |
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً | ولا أغنى بحيلته الأريب |
أتاك على قنوط منك غوث | يمن به اللطيف المستجيب |
وكل الحادثات إذا تلاهت | فموصول بها فرج قريب |
اللهم فرج كرباتنا، وفرج همومنا وأحزاننا، اللهم واجعل لنا من رحمتك نصيباً موفوراً، اللهم واجعلنا من عبادك الصلحاء الأتقياء الأخفياء.
وصل اللهم على نبينا محمد، أستغفر الله لي ولكم.
وأرجو أن تتقدموا قليلاً حتى يدخل إخوانكم الواقفون في الشمس.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، وهو المتنعم على عباده بأفضاله، أشهد أن لا إله إلا هو سبحانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وصايا للباحث عن الحق وطالب العلم والداعية
كيف نستفيد من هذا الموضوع في حياتنا العملية؟ وما هي الجوانب التي قد تحدث لنا فيها الكروب؟ وماذا يكون موقفنا فيها؟
يا أخي طالب الحق الباحث عنه: قد يتعبك البحث، وتمضي عليك الأوقات والأحداث، وأنت لم تصل بعد إلى ما تطمئن إليه نفسك، لا تيأس، واصل البحث، واسأل الله: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادكم فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، لا يزال هذا ديدنك وأنت تدعو ربك، حتى يكشف الله لك الحق، ويضيء لك الطريق الذي تسير فيه.
أخي طالب العلم: قد يطول بك البحث في مسألة حتى يكاد صبرك ينفذ، وتحس بالضيق، إن بعد الهم فرجاً، وكان شيخ الإسلام إذا استعصت عليه المسألة يكثر من ذكره لربه جداً، ويقول: "يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني". حتى ينبلج له فجر الصواب في تلك المسألة، فلا تضق يا طالب العلم، لا تضق إذا ضاقت بك الأحوال في بداية طلبك، فتشعر أنك تقرأ بلا فائدة ولا مردود، وتشعر بالسآمة والملل يدفعانك لترك القراءة، وإغلاق الكتاب، اصبر، فلا تلبث المعلومات أن تأخذ مكانها في ذاكرتك، وتتلاقى أطراف المسائل في ذهنك، فيبدأ عطاؤك بإذن الله كالغيث نافعاً مباركاً، ينفع الله به نفسك والعباد.
أخي الداعية إلى الله: قد توصد بعض قلوب المدعوين أبوابها في وجهك، وقد تحاول وتحاول دونما فائدة، فتصاب بضيق شديد، وإحباط كبير، لا تحزن، إن الله معك ما دمت تدعو إلى سبيله، وذلك ما استقمت على الجادة، وتذكر صبر نوح على قومه، ينوع عليهم وسائل الدعوة ليلاً ونهاراً، تسعمائة وخمسون عاماً وهو يدعوهم إلى الله.
أخي يا من تحاول أن تكون ربانياً تربي الناس بصغار العلم قبل كباره: قد تستغلق عليك بعض الأذهان، ولا تفهم المراد، ولا تعي المطلوب، أو يذهب ما تريد أن ترسخه سريعاً، وقد تقع الأخطاء المخالفة لبعض أساسيات المنهج، والتصور الصحيح في نفوس من تعاشرهم، وقد تواجه حالات من الاستعصاء في الانقياد، وتتكرر الأخطاء في مسائل طال عليها التنبيه وتكرر، فتحس باليأس، وأن لا جدوى، لا يركبنك الهم، واعلم أن مع العسر يسراً، وأن فرج الفهم والتطبيق قريب، وتذكر موقف رسول الله ﷺ في قصة حاطب وكعب.
وصايا للتاجر والعامل والموظف
أخي التاجر: قد تحل بك خسارة في تجارتك، أو كساد في بضاعتك، وتتراكم عليك الديون، ويطالبك التجار الآخرون، وينزل بك من الهموم والأحزان الخطوب الجسام، والخسارة تلو الخسارة، ولا تدري أين تذهب بوجهك من الديّانة، لا تحزن إن صبرت واتقيت سيفرج الله همك، ويذهب حزنك وغمك، ويجعل لك من الضيق مخرجاً، ويبدل حالتك بعد العسر يسراً.
وقال الشافعي رحمه الله:
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجَ | من راقب الله في الأمور نجا |
أخي أيها العامل أو الموظف: قد تمر بك ساعات شدة، قد تفصل من عملك، أو تفقد وظيفتك، فينزل بك الكرب، ويركبك الهم، أين تذهب؟ وماذا ستفعل؟ وكيف تعيش؟ ومن أين تكسب اللقمة التي تضعها في أفواه أولادك؟ ما مصيرهم؟ ولكن اعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه يرزق الطير في جوها، والنمل في جحرها، وأن الله لا يضيع عباده، واتق الله في جميع أمورك، حتى يجعل الله لك فرجاً، ويرزقك من حيث لا تحتسب.
وإني أنبه هنا أيها الإخوة: إلى أن بعض الناس الذين تركوا أعمالاً محرمة، مثل بعض أعمال البنوك ووظائفها لم يعثروا على وظائف، وبقوا فترات طويلة بدون عمل حتى وقع بهم الشك والحيرة، أين قول الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُسورة الطلاق 2-3. ويقول: أنا اتقيت الله فخرجت من العمل المحرم ولكني لم أجد عملاً؟ يا أخي إنك اتقيت الله في عمل واحد من أعمال حياتك، وهو خروجك من العمل المحرم، ولكنك ربما لا تزال مقيماً على أعمال كثيرة محرمة، ربما أنك تمشي إلى معصية الله، وتنظر إلى معصية الله، وتسمع معصية الله، فكيف بعد ذلك تقول: إن الله يقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وأنا ما جعل الله لي مخرجاً؟ أنت لم تتق الله إلا في شيء واحد، أين تقوى الله في بقية الأشياء؟ إذن أخلص لله واترك جميع المعاصي، والله لا بد أن يجعل لك مخرجاً وفرجاً؛ لأنه وعد في الآية، لكن تقوى الله واسعة عامة.
أخي يا أيها الشاب: الذي تتعرض للفتن من كل جانب، وتلقى العنت والمشاق في الصبر على الشهوات، وأنت تصبر عن الحرام، وتدافع تلك الخطرات، يحيط بك هم العثور على الفتاة المستقيمة، وهم توفير المهر والزينة، اصبر فإن الله مع المحسنين، وكما فرج الله لغيرك، فسيفرج لك، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة النــور 32.
أخي يا من اضطر لطلاق زوجته في ذات الله وإرضاءً لله، قد يجتمع عليك جيش الهموم، فهم يحيط بك مما خسرت وتكلفت في ذلك الزواج، وهم يحيط بك هل ستجد امرأة صالحة أخرى تتزوجها؟ وهم يحيط بك إن كانت المطلقة قد خلفت لك أولاداً من يعتني بهم، وهم يحيط بك من موقفك أمام الناس، وإذا هم همزوك ولمزوك وأساؤوا القول في جانبك، لا تحزن ما دمت قد فعلت ذلك إرضاءً لله، فإن الله يقول في سورة الطلاق في نهايات الآيات: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًاسورة الطلاق 1. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًاسورة الطلاق 7. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُسورة الطلاق 2-3.قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًاسورة الطلاق 3. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًاسورة الطلاق 4. نهايات عجيبة تنتهي بها آيات الطلاق، لماذا؟ لأن الطلاق شيء كبير، وفيه هم عظيم لمن اتخذ ذلك القرار إرضاءً لله ، إن الله سيجزيه على عمله ذلك ويعوضه خيراً.
أخي يا من وقعت في ورطة، فلم تعرف كيف الخلاص، وحاولت الفكاك، ولكن لات حين مناص، تذكر في لحظاتك هذه قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَسورة الأنبياء 87-88.
أخي يا من ابتلاه الله في جسده فهو يئن تحت وطأة المرض، ويتلوى من الوجع على فراش الإصابة، تحيط بك هموم الآلام بأنواعها، ويا من ابتلاه الله في حبيبه، أو ولده، فهو يحس حرارة الابتلاء في كبده، لا تيأس، فإن فرج الله بالشفاء لآت، وإن لم يكن، وإن لم يحصل الشفاء، فهو ابتلاء ترفع فيه الدرجات في الجنات، وتضاعف الحسنات وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَسورة الأنبياء 83-84. ومن رحمة الله أن جعل طعم البلاء يخف على الإنسان كلما امتد زمن البلاء، فأنت ترى المريض المزمن في مرضه، اللحظات التي يعيشها الآن أهون عليه من اللحظات التي كانت عندما بدأ المرض؛ لأنه قد تعود، مع أن المرض لم يخف، بل إنه ربما يشتد، ولكن الله يصبره، وعلى قدر البلاء تنزل المعونة.
تعودت مس الضر حتى ألفته | وأسلمني طول البلاء إلى الصبر |
ووسع صدري للأذى كثرة الأذى | وكان قديماً قد يضيق به صدري |
وكذلك الداعية إلى الله عندما يبتلى بأذى الناس ربما يجزع في المرات الأولى، ولكن يوسع صدره على الأذى كثرة الأذى، على قدر البلاء تنزل المعونة.
إن النصر مع الصبر
وأخيراً: أنتم معشر المسلمين المخلصين الذين تعملون لإعلاء دين الله وكلمته، لقد طال هذا الليل واسود جانبه، وأرقنا فعل الجاهليات بأهل الإسلام، لا تيأسوا فإن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسراً، يقول الله : وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌسورة البقرة 214. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَاسورة يوسف 110. هذه سنة الله في الدعوات، أن الخطوب تشتد عليها، والأخطار من كل جانب، حتى يفعل جميعهم كل الإمكانيات فلا تفيد، وبعد أن يفقدوا الأمل ويصلوا إلى نقطة يحسون أن لا نصر عندها، إذا بنصر الله يأتي حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَاسورة يوسف 110. متى أتى النصر؟ أتى النصر عندما اشتدت الأمور وظنوا أنه لم يأتِ جَاءهُمْ نَصْرُنَا وهكذا لكي لا يكون النصر رخيصاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئاً، ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولعباً، فإنما هي قواعد في حياة البشر ومنهاج لهم.
اللهم:
يا فارج الهم عن نوح وأسرته | وصاحب الحوت مولى كل مكروب |
وفالق البحر عن موسى وشيعته | ومذهب الحزن عن ذي البث يعقوب |
وجاعل النار لإبراهيم باردة | ورافع السقم من أوصال أيوب |
إن الأطباء لا يغنون عن نصب | أنت الطبيب طيب غير مغلوب |
اللهم إنا عبيدك وبنو عبيدك وبنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمد صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.