الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
المقدمة
فنذكر -إن شاء الله تعالى- في هذا الدرس، حديث جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله تعالى عنه-، في عمل من أعمال الصحابة مع نبيهم ﷺ وهم جياع، نرقق قلوبنا بسيرتهم معه، وكيف عانوا ما عانوا لنصرة الدين، وكيف ذاقوا ألم الجوع، وصبروا عليه ابتغاء وجه الله الكريم.
وكذلك ما حصل من معجزاته عليه الصلاة والسلام في تكثير الطعام الذي رآه الصحابة أمامهم، فزاد إيمانهم.
رواية البخاري لحديث وليمة أهل الخندق
إنها قصة جابر التي يرويها يقول: "إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي ﷺ، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق؟ فقال: أنا نازلثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي ﷺ المعول، فضرب فعاد كثيبًا أهيل، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت؟ فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي ﷺ شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحتُ العناق، وطحنتِ الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي ﷺ والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي، قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله، ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له، قال: كثير طيبقال: قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فقال: قوموا فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته، قال: ويحك جاء النبي ﷺ بالمهاجرين والأنصار ومن معهم؟ قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: ادخلوا، ولا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور، إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز، ويَغرف حتى شبعوا، وبقي بقية، قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعةهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري-رحمه الله تعالى- في كتابه المغازي [رواه البخاري: 4101].
رواية الإمام مسلم لحديث وليمة أهل الخندق
وكذلك رواه الإمام مسلم -رحمه الله -، ولفظ الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله: "لما حفر الخندق رأيت برسول الله ﷺ خمصًا" يعني رأته ضامر البطن من الجوع "فانكفأت إلى امرأتي" يعني رجعت إلى زوجتي "فقلت لها: هل عندك شيء، فإني رأيت برسول الله ﷺ خمصًا شديدًا؟ فأخرجت لي جرابًا" وهو وعاء من جلد معروف "فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن" بهيمة الصغيرة من أولاد الضأن تطلق على الذكر والأنثى كالشاة والسخلة الصغيرة من أولاد المعز، والداجن ما ألف البيوت قال: "فذبحتها، وطحنت، ففرغت إلى فراغي، فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله ﷺ، فقالت -المرأة تقول-: "لا تفضحني برسول الله ﷺ ومن معه، قال: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله إنا قد ذبحنا بهيمة لنا وطحنت" أي امرأتي "صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر من أصحابك؟ فصاح رسول الله ﷺ، وقال: يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع لكم سورًا وهو الطعام الذي يدعى إليه، وهو لفظة فارسية إن جابرًا قد صنع لكم سورًا، فحيهلا بكم هذا ينادي أهل الخندق جميعًا، وقال رسول الله ﷺ: لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيءدعا النبي ﷺ الناس، فقال: حيهلا حي عليك بكذا، عجل حيهلاوجاء رسول الله ﷺ يقدم الناس، حتى جئت امرأتي، فقالت: "بك وبك" المرأة ذمت الزوج، قالت: لا تفضحني! وهات ثلاثة! أربعة من الضيوف! فجاء بهذا الكم العظيم، فقالت المرأة لما رأت العدد الكبير: "بك وبك" ذمته، أو قال قال الشراح: "بك" تلحق الفريضة، ويتعلق الذم، أو جرى هذا بسبب سوء نظرك، وبرأيك وتسببك أنك جلبت علينا الفضيحة، في عدد كبير وليس عندنا إلا هذا الشيء، لا يكفيهم، فقلت: "قد فعلت الذي قلت لي، وأخبرت النبي ﷺ سرًا" ساررته، وأعلمته بالطعام الموجود حقيقية "قد فعلت الذي قلت لي، فأخرجت له عجينتنا" لما جاء النبي ﷺ "فأخرجت له عجينتنا، فبصق فيها وبارك" أي تفل ﷺ، وريقه مبارك عليه الصلاة والسلام، ريق مبارك على هذا الطعام "وبارك" دعاء بالبركة ﷺ، فريق مبارك، ودعاء مبارك، من نبي مبارك، ماذا تتوقعون؟
ثم عمد إلى برمتنا، فبصق فيها وبارك، أي دعا أيضاً، مكان خبز اللحم، ثم قال: ادعي خابزة فلتخبز معكهذا الخطاب للمرأة لتساعدك في الخبز، معناه ستكون هناك كميات! وتحتاج إلى مساعدة! ثم قال: واقدحي من برمتكمأي اغرفي، قدح المرق غرفة واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها يقول جابر : "وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا" يعني شبعوا وانصرفوا "وإن عجينتنا وإن برمتنا لتغط كما هي" يعني تغلي البرمة باللحم كما هي "وإن عجينتنا لتخبز كما هو"[رواه مسلم: 5436]العجين كما هي، والبرمة كما هي، الخبز كما هو، واللحم كما هو، ألف واحد أكلوا وانصرفوا.
شرح حديث: "وليمة أهل الخندق" والجمع بين رواياته
حفر الصحابة للخندق
أما بالنسبة لحديث البخاري-رحمه الله- الذي يقول فيه جابر : "كنا يوم الخندق نحفر" معروف أن الصحابة -رضوان الله عليهم- حفروا الخندق في غداة باردة، حفروه في الشتاء -في أيام مثل هذه الأيام- غداة باردة شديدة، ولم يكن لهم عبيد يعملون، فكانوا يعملون بأنفسهم.
ومعروف أن المنطقة التي حفر فيها الخندق، وهي موجودة إلى الآن، المنطقة صخرية شديدة الصخور، وعرة الصخور، صلبة الصخور، حتى أنهم في هذا الزمن لما أرادوا أن يمهدوا شارعًا، ويحفروا فيها، تكسرت آلات، واستسلم المقاول، وجاءوا بمقاول آخر، شهرًا كاملاً يحفر إلى أن عملوا الطريق!
والصحابة حفروه في أسبوع، بدون آلات، كهذه الآلات الموجودة الآن، بما عندهم وبأيديهم حفروا، في البرد الشديد، وحفروا، وحفروا هذا الخندق عمقًا وعرضًا، هم الذين حفروه، في هذا الطول الكبير، قرابة ستة آلاف متر، حفروه بأيديهم.
يقول جابر: "فعرضت كدية" وهي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض، لم يستطيعوا عليها وأعجزتهم، فلجؤوا إلى رسول الله ﷺ.
وفي رواية: "فجئت إلى رسول الله ﷺ فقلت: هذه كدية قد عرضت في الخندق؟" فقال النبي ﷺ في رواية: رشوها بالماء فرشوها[رواه أحمد: 14249، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط البخاري"]ثم قال: أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر من الجوع" [رواه البخاري: 4101]أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي ﷺ حجرًا من الجوع.
فوائد ربط الحجر على البطن عند الجوع
كانوا يأتون بحجارة رقاق، صفايح على قدر البطن، تشد على الأمعاء، فائدتها ثلاثة أشياء:
أولاً: أن الإنسان مع الجوع ينحني ظهره، فإذا شدوا عليها الحجارة اعتدل الظهر.
ثانيًا: أن الحجارة هذه تبرد والجوع له حرارة، فهذه الحجارة ببرودتها تطفئ شيئًا من حرارة الجوع، أو تمتص من حرارة الجوع التي في البطن، فتجعل الإنسان أصبر وأقدر على المقاومة.
ثالثًا: أن شدها على البطن والأمعاء يجعل الطعام قليل التحلل، فلا يتحلل منه كما لو أنها لو لم تكن مربوطة.
شد النبي ﷺ، وكان بإمكانه أن يكون أعظم ملوك الأرض، وعنده خزائن الأرض، شد ﷺالحجر على بطنه من الجوع، قال جابر: "ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا" ما ذقنا شيئًا، لا نطعم شيئًا، ولا نقدر عليه.
ضرب النبي ﷺ للصخرة التي واجهت الصحابة عند حفر الخندق
لما عرضت هذه الحجر، يعني الآن ناس جائعين، وفي برد ويعملون بأيديهم في حفر صخور صلبة، والمطلوب إنجاز المهمة بسرعة قبل أن يأتي كفار قريش والعرب، حفروا فلما وصلوا إلى هذه الصخرة الصلبة التي أعيتهم استدعوا النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: رشوا عليها الماء رشوا عليها الماء، ونزل ﷺ وبطنه معصوب بالحجر، فأخذ المعول أو المسحاة فضرب هذه الصخرة.
وفي رواية: "سمى ثلاثًا ثم ضرب" [رواه البيهقي في دلائل النبوة: 3/423، والدارمي في سننه: 2/33،وابن أبي شيبة في مصنفه: 11/466].
وفي رواية: أنه لما ضربها، قال: بسم الله، وبه بدينا يعني بدأنا بسم الله، وبه هدينا، ولو عبدنا غيره شقينا، فأحب ربا، وأحب دينا[دلائل النبوة: 3/414].
حبمعناها حبذا، من ألفاظ حبذا، يقال: حبذا وحب، فحبذا ربا وحب دينًا.
لما ضرب النبي ﷺ الصخرة قال الراوي: "فعاد كثيبًا أهيل" تحولت الصخرة إلى رمل يهال، يسيل ولا يتماسك، صارت الصخرة الصماء الصلبة رملاً ناعمًا، يسيل، تحولت الصخرة بضربة: بسم اللهوضربها، تحولت إلى رمل ناعم؛ كما قال الله -تعالى-: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا[المزمل: 14]يعني تتحول الجبال إلى رمل سائل.
جاء تفصيل الضربة هذه عند الإمام أحمد والنسائي بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: "أمرنا رسول الله ﷺ بحفر الخندق، قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول"[رواه أحمد: 18716، والنسائي: 3176، وحسنه الألباني في الصحيحة: 772].
وفي رواية: "تكسرت معاولهم عليها، فاشتكينا ذلك إلى النبي ﷺ فجاء فأخذ المعول فقال: بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلثها" هذا تفصيل تحول الصخرة إلى رمل "فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: الله أكبر لما رآها انكسرت، قال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة الآن أنظر إلى قصور الشام، أنها من غنائم المسلمين وفتوحاتهم.
متى يقول هذا الكلام؟
في وقت الحصار فيه سيأتي، والعرب قد اجتمعوا على حربه ﷺ، واليهود من خلف، نقضوا العهد، والمنافقون يرجفون في المدينة، ضرب الصخرة بيده الشريفة ﷺ، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض هذا إيوان كسرى، مكان ملكه، ثم ضرب الثالثة، وقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة[رواه أحمد: 18716، وأبو يعلى: 1685، والبيهقي في دلائل النبوة: 3/421، والنسائي في الكبري: 8807].
وفي رواية: أنه لما قال ذلك فرح المسلمون، واستبشروا، وكبروا، كلما كبر كبروا بتكبيره، فرحًا واستبشارًا، فجاء جابر إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت؟
شدة جوع الصحابة وسؤال جابر رضي الله تعالى عنه امرأته عما عندها من طعام
جاء تفصيل ذلك في رواية ابن عباس: "احتفر رسول الله ﷺ الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فلما رأى ذلك النبي ﷺ قال: هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟ لما رأى ما بالصحابة من الجوع، قال: هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟قال رجل: نعم" [الطبراني في الكبير: 11884].
وهذا كأنه جابر ، ولذلك قال: "ائذن لي يا رسول الله؟" ليستأذن، لا يذهب من عنده إلا باستئذان، ذهب إلى امرأته وهي سهيلة بنت مسعود الأنصارية -رضي الله عنها- سألها: ماذا يوجد عندها؟ قالت: "عندي شعير".
في رواية: أنه "صاع من شعير" فقط "وعندنا عناق"[البيهقي في السنن الكبرى: 14374] وهي الأنثى من المعز الصغيرة "فأخرجت إليّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، فذبحتُ وطحنت، وصنعت خبزًا"[رواه مسلم: 4102].
وقوله في الحديث: "والعجين قد انكسر" أي رطب وتمكن منه الخمير؛ لأنه يحتاج إلى تخمر حتى يخبز، "والبرمة بين الأثافي" [رواه البخاري: 4101]الأثافي هي الحجارة التي يوضع عليها القدر، وتكون في العادة كم حجرا؟
ثلاثة، هذا الارتكاز الجيد، وحجرين تميل، وواحد تسقط.
ثلاث أثافي عند العرب، هذا المثلث من أمكن الأشكال التي توضع عليها القدور، المثلث نقطة قوة الارتكاز في هذه الحجارة الثلاثة، حتى جعلنا في البرمة.
دعوة جابر للنبي ﷺ إلى طعام صنعه له
ثم أتى النبي ﷺ وقال: "يا رسول الله طعيم لي؟" طعيم تصغير طعام، يعني أنه قليل "فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان"[رواه البخاري: 4101]يعني المجموع اثنان أو ثلاثة.
وفي رواية: "فتعال أنت ونفر معك"[رواه البخاري: 4102].
وفي راوية: أن جابرًا قال: "كنت أريد أن ينصرف رسول الله ﷺ وحده فقط، لكنه عليه الصلاة والسلام فاجأه بقوله: قوموا فقام المهاجرون، وتبعهم الأنصار [البخاري: 4101]وقام معهم الناس ومن معهم.
فضل سهيلة بنت مسعود وموقفها من وليمة أهل الخندق
وذهب جابر إلى امرأته دخل عليها يقول: "ويحكِ جاء رسول الله ﷺ بالمهاجرين والأنصار؟
المرأة لعلها أولاً قالت: "بك وبك" ثم استدركت، فقالت: "هل سألك؟" هل سألك عن الطعام؟ قال: "نعم"[رواه البخاري: 4101].
وفي رواية: فلقيت من الحياء لما قال: قوموا فقام الناس، قال جابر: فلقيت من الحياء ما لم يعلمه إلا الله "الخجل أصابني من هذا العدد الكبير من الناس! وليس عندي ما يطعمهم! وقلت: "جاء الخلق على صاع من شعير وعناق! فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت!" فضيحة!"جاءك رسول الله ﷺ بالجند أجمعين! فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ فقلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم" ما دام أنه سألك ثم قال للجميع يأتوا، إذًا الله ورسوله أعلم، المسألة فيها شيء، ونحن قد أخبرناه بما عندنا "فكشفت عني غمًا شديدًا" [دلائل النبوة، للبيهقي: 3/416]كلام المرأة.
فإذًا أوصته أولا: أن لا يعلمه بالصورة، فلما قال لها: إنه جاء بالجميع، ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، وقالت: "بك وبك!"، فلما أعلمها سكن ما عندها، ثم تحولت القضية إلى الإيمان، قالت: "سألك؟" ثم قالت: "الله ورسوله أعلم" وهذا يدل على وفور عقلها، وكمال فضلها -رضي الله عنها-، هذه سهيلة بنت مسعود الأنصارية، نسأل الله أن يحشرنا معها.
طلب "سهيلة بنت مسعود" من النبي ﷺ أن يدعو لها ولزوجها
وقد وقع لها قصة أخرى مع جابر، فقد جاء في قصة التمر: أن جابرًا أوصاها لما زارهم رسول الله ﷺ ألا تكلمه، كان على جابر دين عظيم تركه أبوه، والنبي ﷺ زاره لحل مشكلة هذا الدين، وجابر أوصى زوجته: إذا جاءنا النبي ﷺ لا تكلميه، ولا تتحدثي معه، فلما أراد رسول الله ﷺ الانصراف نادته المرأة: يا رسول الله صل علي وعلى زوجي؟ يعني ادع لي ولزوجي، فقال: صلى الله عليكِ وعلى زوجك فعاتبها جابر بعد ذلك، عاتب المرأة: كيف يقول لها لا تتكلمي وتكلمت؟ فقالت له: أكنت تظن أن الله يورد رسوله بيتي، ثم يخرج ولا أسأله الدعاء؟ [أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن: 15316].
نصائح وإرشادات النبي ﷺ لأهل وليمة الخندق
المهم أن جابرًا رجع إليه فبين له، فأتاه فقال: يا رسول الله إنما هي عناق وصاع من شعير؟ قال: فارجع ولا تحركن شيئا من التنور، ولا من القدر إذًا، في لحم في القدر، وخبز في التنور حتى أتيها، واستعر صحافا[دلائل النبوة، للبيهقي: 3/425] استعر صحافًايعني ليست صحيفة ولا ثنتين استعر صحافًا.
ولما جاء النبي ﷺ بالصحابة معهم أمرهم بالدخول، وقال: ولا تضاغطوا يعني لا تزدحموا يدخلوا برفق.
ثم أخرج العجين، وتفل فيه ﷺ، ودعا بالبركة، ثم إلى البرمة كذلك ودعا بالبركة، وجعل يخمر البرمة، يعني يغطيها، ثم ينزع يأخذ اللحم من البرمة، وأمر بالخابزة أن تأتي لتخبز، وأمر بالغرف، وأقعدهم عشرة عشرة، فأكلوا، عشرة عشرة، عشرة عشرة، أكلوا عشرة وراء عشرة، يقول جابر: "وبقي بقية، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا"[رواه البخاري: 4102].
وفي راوية: "فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ مما كانا"[دلائل النبوة، للبيهقي: 3/417]أكثر امتلائا مما كان، قبل الألف.
وقال عليه الصلاة والسلام في ختام القصة للمرأة: كلي هذا وأهدي هدية فإن الناس أصابتهم مجاعة[رواه البخاري: 4101] قالت: "فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع" [دلائل النبوة للبيهقي: 3/417]كل اليوم نأكل ونهدي، هدية وأكل، ف"أكلنا" نحن "وأهدينا لجيراننا، فلما خرج رسول الله ﷺ ذهب ذلك" [دلائل النبوة: 3/425]توقفت الزيادة.
فوائد مستفادة من حديث وليمة أهل الخندق:
خصائص النبي ﷺ ومعجزاته
وهذه القصة العظيمة
أولاً: من معجزاته ﷺ، ومعجزاته ﷺ كثيرة، كما أن خصائصه ﷺ كثيرة.
وكان عليه الصلاة والسلام كثر الطعام عنده.
وكذلك الشراب اللبن كثر وملأ وكفى أهل الصفة جميعًا.
وكذلك نبع الماء من بين يديه ﷺ.
وكان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام، وهو يأكل بين يديه ﷺ.
وكان حجرًا يسلم عليه بمكة.
وأراهم القمر شقين للكفار، وانشق القمر له ﷺ.
وكذلك فإنه ﷺ قد حصل له من المعجزات في هذه القصة في مسألة فلق الصخرة، وأنه رأى اليمن والشام والعراق قد فتحت عليه.
هذه القصة أيضاً فيها علمان من أعلام النبوة: تكثير الطعام القليل، وعلمه ﷺ أن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر ويكفي ألفًا، فدعا ألف رجل قبل أن يصل، مع أنه يعلم أنها صاع من شعير وبهيمة.
وكذلك آمن الصحابة بين يديه وهم يرون هذه المعجزات.
وقد جمع المعجزات عدد من العلماء، منهم القفال الشاشي في الدلائل، وصاحبه أبو عبد الله الحليمي، وكذلك أبو بكر البيهقي، قال النووي -رحمه الله-: "وأحسنها كتاب البيهقي"[المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 13/215]وهو دلائل النبوة مطبوع في مجلدات.
الأمل لا يفقده المؤمن حتى مع الحصار
وهذه القصة فيها: نصر الصحابة للدين، وقيامهم بحفر هذا الخندق.
وكذلك في هذه القصة: أن الأمل لا يفقده المؤمن حتى مع الحصار، ومع قوة الأعداء، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يوقن بنصر الله ، وأن الله سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه[رواه البخاري: 3612].
جواز المسارة في جماعة
كذلك في هذا الحديث: جواز المسارة بالحاجة في حضرة الجماعة؛ لأن جابرًا جاء فأسر إليه، والنهي إنما جاء عن تناجي اثنين دون الثالث؛ لأن ذلك يحزنه، فإنهما إذا تناجيا دونه شعر الثالث بالغربة والوحشة، أو أنهما يريدان به شرًا، أو أنه أقل من مستوى أن يسمع الكلام، ونحو ذلك، لكن لو كان جماعة فجاء رجل وأسر إلى رجل شيئًا في وسط الجماعة، فهذا لا بأس به.
ويعتبر من التناجي أن يتكلم اثنان بلغة لا يفهما الثالث، إذا كان معهما في المجلس وحده، إنه يعتبر أيضاً تناجي محرم لو أنهما تكلما بلغة لا يفهما الثالث.
بعض آداب الضيف
وكذلك في هذا الحديث: أن الإنسان يجوز أن يدعو إلى بيت من دعاه أناسًا إذا كان يعلم أن صاحب البيت يرضى، وهذا يفهم من عنوان الحديث في صحيح مسلم.
من دعا أشخاصًا، دعي فدعا معه أشخاصاً وهو يعلم أن صاحب البيت راض، لكن إذا كان لا يعلم هل هو راض أم لا فلا بد أن يستأذن من صاحب البيت، وإذا جاء إلى البيت وطرق الباب يقول: معي فلان أيدخل أو يرجع؟ وأما إذا كان يعلم أنه لا يأذن، فإنه لا يأتي به أصلا.
فإذًا إما أن يكون يعلم رضا صاحب البيت فيأتي بالأشخاص، أو يعلم أن صاحب البيت لا يرضى فلا يأت بهم، أو يكون لا يعلم هل هو راض أم لا، فإذا أتى به معه يستأذن له قبل أن يدخل.
اختيار الزوجة الصالحة
وكذلك في هذا الحديث: أن المرأة تعين زوجها على أمر الله ورسوله، وأن هذه الصالحة المرأة سهيلة بنت مسعود -رضي الله عنها- سألت زوجها: هل سألك عن الطعام؟ أخبرته بالطعام؟ ثم قالت مستسلمة: "الله ورسوله أعلم" وهذا من إيمانها، وهذا الذي قال جابر بسببه أنه قد كشف عنه الغم الذي كان به، فالمرأة الصالحة كلامها يكون سببًا في كشف الغم عن زوجها إذا اغتم.
فوائد متفرقة من حديث وليمة أهل الخندق
وكذلك في هذا الحديث: بركة ريقه عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الحديث: الدعاء بالبركة، وأنه يكون سببًا في كفاية الطعام القليل للعدد الكثير.
وكذلك في هذا الحديث: الرفق عند الدخول على صاحب الوليمة، وعدم التضاغط.
وكذلك فيه: التحلق عشرًا عشرًا، إذا كان المكان ضيق، يأكل مجموعة ويمشون، ثم يأتي مجموعة يأكلون وينصرفون، وتأتي مجموعة ثالثة يأكلون وينصرفون، وهكذا.. إذا كان المكان ضيق يجعلون على نوبات، الناس على نوبات، كما حصل في حديث جابر هذا، فإنهم جاؤوا عشرًا عشرًا، فأكلوا وانصرفوا.
وكذلك في هذا الحديث: أن الالتزام بأمر النبي ﷺ مجلبة للخير، فإنه قال: لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم [رواه البخاري: 4102]حتى يأتي عليه الصلاة والسلام.
ومن يقينه عليه الصلاة والسلام بربه: أنه قال: ادعي خابزة ثم قال: استعر طلبه أن يستعير آنية، ليسكب فيها، صحافا، يستعير صحافا واستعر صحافًا ونادى الألف.
وكذلك في هذا الحديث: أن المهاجرين -رضوان الله عليهم- هم أفضل الصحابة، ولذلك خصهم بالذكر، فقال: "فقام المهاجرون".
وفي هذا الحديث أيضاً: أن اليقين بنصر الله مما يكون مع المؤمن باستمرار، ولذلك فإنه ﷺ أخبرهم بغنائم كسرى وقيصر، وفتح صنعاء، والمنافقون يقولون: محمد بيثرب! الكفار من فوقنا! واليهود من أسفل منا! وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته! ومحمد يقول: أننا سنفتح خزائن كسرى وقيصر! يعني ما قال ستنتصرون على قريش الذين يحاصرونكم أو العرب! وإنما البشارة بخزائن كسرى وقيصر! فأما المنافقون فازدادوا ريبة إلى ريبتهم: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ[التوبة: 45].
وأما المؤمنون فزادهم إيمانًا، ولذلك فرح المسلمون واستبشروا.
أما المنافقون فقالوا: ما في أمل! نحن الآن ما يستطيع الواحد يذهب لقضاء حاجته من الخوف! ثم يقول لنا: ستفتحون خزائن كسرى وقيصر؟!
ولكن هؤلاء لا يعلمون: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[المنافقون: 8].
أما رسول الله ﷺ فعنده العلم من ربه.
وكذلك في الحديث: خدمة المرأة لضيوف زوجها، وأنها تعجن وتخبز، وتغرف لهم الطعام.
وكذلك في هذا الحديث: أن ما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من الشدة، وفتحت لهم الأمصار، مع ما كانوا فيه من الجوع، ومع ما كانوا فيه من الفقر، ومع ما كانوا فيه من هذا الظرف الشديد، ولكن الله فتح عليهم بإخلاصهم.
وفيه: الافتخار بالرب وبالدين، في قوله ﷺ: فحبذا ربًا، وحبا دينًا، رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا[رواه مسلم: 877].
ومما زادني شرفًا وتيهًا | وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي | ................ |
أنت الرب وأنا العبد
....................... | وأن صيرت أحمد لي نبيًا |
فكون الله ربنا فخر، والنبي محمد ﷺ نبينا فخر، وأن الإسلام ديننا فخر، والقرآن كتابنا كذلك: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ[الزخرف: 44] شرف، هذا القرآن شرف لك ولقومك.
وفي هذا الحديث: أن على الإنسان المسلم إكرام أضيافه، وأن الله يبارك إذا اتسع الصدر، واتسع القلب، فإن الله يبارك.
هذا ما تيسر ذكره من شرح هذا الحديث.
ونسأل الله أن يجعلنا ممن نصر بهم الدين، وبارك في أقواتهم وأبدانهم وأديانهم، إنه رب العالمين.