الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
نقص الأرض من أطرافها
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة الرعد:41، قال المفسرون في هذه الآية أقوالاً.
الأول: أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض، والمعنى: أولم ير كفار مكة أنا نفتح لمحمد ﷺ الأرض بعد الأرض من حولهم.
والثاني: أنها القرية أو البلدة تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها والناحية الأخرى خراب، فيرون قراهم وبلداتهم تخرب أطرافها.
والثالث: نقص البركة، ونقص أهل القرية، ونقص الأنفس والثمرات.
والرابع: ذهاب فقهاء الأرض وأخيارها.
والخامس: موت أهلها.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد، والحاكم، وصححه عن ابن عباس في قوله: نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا قال: "موت علمائها وفقهائها، وأهل الخير منها" [تفسير ابن كثير (4/406)]، وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَاسورة الرعد:41قال: "موت علمائها وفقهائها" [رواه الحاكم (3334)]، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قال عكرمة: لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكاناً تقعد فيه، ولكن هو الموت.
وقال مجاهد: هو موت العلماء، رواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَاسورة الرعد:41، قال: موت علمائها وفقهائها، وفي هذا المعنى:
الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها | متى يمت عالم منها يمت طرف |
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل ها | وإن أبى عاد في أكنافها التلف |
قال ابن كثير رحمه الله: والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية، كقوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىسورة الأحقاف:27.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره: عن عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَاسورة الرعد:41، قال: ذهاب فقهائها، وخيار أهلها.
قال أبو عمر بن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جداً تلقاه أهل العلم بالقبول.
قال القرطبي: ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَاسورة الرعد:41موت الفقهاء والأخيار.
سمعنا وسمعتم -أيها الإخوة- عن تتابع فقد عدد من أهل العلم في الشهور الأخيرة، فأصاب أرضنا نقص من أطرافها، وقد مرت بالمسلمين ظروف مشابهة، فسمى المؤرخون المسلمون عام أربع وتسعين للهجرة بسنة الفقهاء؛ لكثرة من مات فيها من الفقهاء والعلماء، ومنهم: علي بن الحسين بن زيد العابدين، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن جبير، وغيرهم ماتوا في سنة أربع وتسعين.
احتضار بعض الصحابة
فتعالوا نتذاكر حال العلماء عند الموت ليكون في ذلك موعظة وعبرة، ما هي كلماتهم في لحظاتهم الأخيرة عندما حضرتهم المنية.
لما حضرت أبا هريرة المنية بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: على قلة الزاد، وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط، إما إلى الجنة أو إلى النار، فما أدري إلى أيهما أصير، وقال: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
ولما حضر معاذ بن جبل الموت قال: انظروا أصبحنا؟ قيل: لم نصبح، ثم أُتيَ، فقال: قد أصبحت، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحباً بالموت مرحباً، زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات -أي في قيام الليل-، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
وجلس عنده تلميذ له يقال له يزيد بن عميرة السَّكسكي، فحدث أن معاذاً لما حضرته الوفاة قعد يزيد عن رأسه يبكي، فنظر إليه معاذ، فقال: ما يبكيك؟ فقال له يزيد: أما والله ما أبكي لدنيا كنت أصيبها منك، ولكني أبكي لما فاتني من العلم، فقال له معاذ: إن العلم كما هو لم يذهب، فاطلب العلم من بعدي عند أربعة عند عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وعويمر أبي الدرداء، وسلمان الفارسي، وقبض معاذ ولحق يزيد بالكوفة، فأتى مجلس عبد الله بن مسعود، فلقيه، فقال له ابن مسعود: إن معاذ بن جبل كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين.
وأما حذيفة ، فقد سئل أبو مسعود الأنصاري: ماذا قال حذيفة عند موته؟ قال: لما كان عند السحر قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار ثلاث مرات، ثم قال: اشتروا لي ثوبين أبيضين، فإنهما لم يتركا عليَّ إلا قليلاً حتى أبدل بهما خيراً منهما، أو أسلبهما سلباً قبيحاً.
ولما حضر سلمان الفارسي الوفاة جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟! ألست فارقت رسول الله ﷺ وهو عنك راضٍ؟! فقال: والله ما بي جزع الموت، ولكن رسول الله ﷺ عهد إلينا عهداً: ليكن متاع أحدكم من الدنيا كزاد الراكب[رواه أبو نعيم في الحلية (1/196)]، وهذه الأسودة حولي، كأنه يقول: هذا الأثاث، والمتاع حولي لم أمتثل للعهد، قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يروا في بيته إلا إكافاً ووطائاً ومتاعاً قوِّم نحواً من عشرين درهماً! كل ما يملكه هذا الأثاث بعشرين درهم، فانظروا -يا عباد الله- كم عندنا من الأثاث في بيوتنا؟!
وروى ابن سعد في الطبقات من طرق عدة عن الشعبي قال: لما حضرت سلمان الوفاة قال لصاحبة منزله -وهي زوجته-: هلمِّ خبيك الذي استخبأتك، قالت: فجئته بصرة مسك، فقال: ائتيني بقدح فيه ماء، فنثر المسك فيه، ثم أماثه بيده، ثم قال: انضحيه حولي، فإنه يحضرني خلق من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم اجفئي علي الباب وانزلي، قالت: ففعلت، وجلست هنيهة، فسمعت هسهسة، قالت: ثم صعدت، فإذا هو قد مات.
وعن الشعبي قال: أصاب سلمان صرة مسك يوم فتحت جلولا، فاستودعها امرأته، فلما حضرته الوفاة، قال: هاتي هذه المسكة، فمرسها في ماء، ثم قال: انضحيها حولي، فإنه يأتيني زوار الآن، قالت: ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قبض.
وقال الشعبي أيضاً: حدثني الجزل عن امرأة سلمان بقيرة أنه لما حضرته الوفاة دعاني في عُلِّية له، تقول زوجته: لها أربعة أبواب، فقال: افتحي هذه الأبواب يا بقيرة؛ فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون علي، ثم دعا بمسك، فقال: أديفيه في تنور، ففعلت، ثم قال: انضحيه حول فراشي، ثم انزلي، فامكثي، فسوف تطلعين فتري على فراشي، فاطلعت، فإذا هو قد أخذ روحه، فكأنما هو نائم في فراشه.
وأما خالد بن الوليد فإنه لما حضرته الوفاة قال: ما كان في الأرض من ليلة أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أُصبِّح بهم العدو، فعليكم بالجهاد، هو الذي احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وقال: لقد اندق في يوم مؤتة تسعة أسياف في يدي، فما صبرت معي إلا صفيحة يمانية، قال: أتى خالد بن الوليد رجل معه زق خمر، فقال خالد: اللهم اجعله عسلاً، فصار عسلاً.
وأما واثلة بن الأصقع الصحابي ، فقد دخل الأوزاعي على خصلة بنته، بنت الصحابي واثلة، فقال لها: أي شيء سمعت من أبيك؟ فقال: لما حضرته الوفاة أخذ بيدي، فقال: يا بنيه، اصبري -حتى عد أصابعي الخمس-، اصبري، اصبري، اصبري، اصبري، اصبري، ثم أخذ بيدي الأخرى، فقال: يا بُنيه، وأوصاها بالصبر.
وقال عبد الله بن عائذ الثمالي صحابي رسول الله ﷺ لما حضرته الوفاة، قال له غضيف بن الحارث: إن استطعت أن تأتينا فتخبرنا ما لقيتم من الموت، -إن استطعت أن تأتينا في المنام، فتخبرنا بما حصل لك-، فمكث فترة لا يراه، ثم لقيه في منامه، فقال له: ألا تخبرنا؟ فقال: نجونا ولم نكد ننجو، بعد المشيبات، فوجدنا رباً خير رب غفر الذنوب، وتجاوز عن السيئة، إلا ما كان من الأحراض، قال: وما الأحراض؟ قال: الذين يُشار إليهم بالأصابع، فهذه موعظة للذين يحبون الظهور والرئاسة، ويشار إليهم بالأصابع، والقصة رواها ابن سعد في الطبقات.
وأما عبد الله بن عمرو الصحابي لما حضرته الوفاة قال: انظروا فلاناً -لرجل من قريش-، فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة -يشبه أني وعدته بتزيجه ابنتي-، وما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق؛ لأن آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وأشهدكم أني قد زوجته. ذكر القصة الذهبي في تذكرة الحفاظ.
ولما ثقل معاوية جعل يضع خداً على الأرض، ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر، ويبكي ثم يقول: اللهم إنك قلت في كتابك: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءسورة النساء:48، فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له، ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك.
صدقوا الله فأحسن خواتيمهم
وأما عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر الملقب بالعمري قال عند موته: بنعمة ربي أحدث، لو أن الدنيا تحت قدمي ما يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي ما أزلتها، معي سبعة دراهم من لحاء شجرة فتلته بيدي! فهذه ثروته من الدنيا كلها، هذه السبعة الدراهم من عمل يده.
ويونس بن عبيد الذي شُهد له بأنه كان يطلب العمل لوجه الله، ما حضره حق من حقوق إلا وهو متهيئ له، لما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله ، نظر إلى قدميه عند موته وبكى، سئل عن سبب البكاء، فتحسر أنه لم يمش في الجهاد، ولم تغبر قدماه في سبيل الله .
وعمرو بن شرحبيل رحمه الله حين حضرته الوفاة قال: إني ليسير للموت، الآن أظنه، إني ليسير للموت الآن، وما بي إلا هول المطلع، ما أدع مالاً، وما أدع علي من دين، وما أدع من عيال يهموني من بعدي، فإذا أنا مت فلا تنعوني إلى أحد، وأسرعوا المشي، ولا ترفعوا جدثي -أي قبري-، فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك.
ولما حضر الموت إبراهيم بن يزيد النخعي قال: وهو يبكي، وسئل عما يبكيه، قال: انتظار ملك الموت، ما أدري يبشرني بجنة أو بنار.
ولما حضر إبراهيم بن هانئ الموت قال لابنه إسحاق: أنا عطشان، فجاءه بماء، فقال: غابت الشمس؟ قال: لا، فرده، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، ثم خرجت روحه رحمه الله، فختم عمره بصوم، جاءه الموت وهو صائم، ولم يشرب وهو عطشان.
هذا كان حالهم رحمة الله تعالى عليهم.
اللهم اجعلهم من ورثة جنة النعيم، وألحقنا بهم يا رب العالمين، اللهم تب علينا إنك أنت الغفور الرحيم، أحينا مؤمنين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، أشهد أن لا إله إلا الله الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: هؤلاء أسلافنا وعلماؤنا الصالحون لما حضرتهم الوفاة، ما هي أقوالهم التي تدل على صدقهم، وحبهم لربهم، وعملهم للصالحات.
احتضار العلماء
هذا أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى حين حضرته الوفاة، بكى ولده، فقال أبو بكر بن عياش لولده: ما يبكيك؟! أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم فيها القرآن كل ليلة.
وهو الذي قال لولده عند موته: يا بني، لا تعص الله في هذه الحجرة، فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
وقال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن إسماعيل -والد أبي عبد الله- عند موته، فقال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة، قال أحمد: فتصاغرت إلي نفسي عند ذلك، قال أبو عبد الله: أصدق ما يكون الرجل عند الموت.
وقال عطاء بن السائب: ذهبنا نرجِّي أبا عبد الرحمن السلمي عند موته -نذكره برجاء الله-، فقال: إني لأرجو ربي، وقد صمت له ثمانين رمضان. وأبو عمرو بن حمدان -الإمام المحدث الزاهد، قد عُمِّر تسعين سنة، وتوفي وزوجته حبلى وله بنت-، فقالت له زوجته عند وفاته: قد قربت ولادتي، فقال: سلمته إلى الله، قد جاءوا ببراءتي من السماء، وتشهَّد، ومات في ذلك الوقت.
روى القصة الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء.
وأبو إسحاق الحربي -تلميذ أحمد من أئمة الفقه والحديث- الذي كان يقول: من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه -الذي لا يستسلم للقضاء والقدر لا يتهنى بعيشه-، قال: قد كانت بي شقيقة -صداع الرأس- منذ أربعين سنة ما أخبرت بها أحداً، ولي عشرين سنة أبصر بفرد عينٍ -بعينٍ واحدة- ما أخبرت بها أحداً، مكث نيفاً وسبعين سنة من عمره لا يسأل أهله غداءً ولا عشاءً إن جاءه شيئاً أكله، وإلا طوى، وبقي إلى الليلة القابلة.
دخل عليه بعض أصحابه عند موته، فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد، وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس والملح، وربما عدموا الملح في بعض الأحيان، فقال لها إبراهيم: يا بُنية، تخافين الفقر، انظري إلى تلك الزاوية، فيها اثني عشر ألف جزء قد كتبتها -وكان من المحدثين-، ففي كل يوم تبيعين منها جزءاً بدرهم، فمن عنده اثني عشر ألف درهم فليس بفقير.
احتضار العباد
ولما حضر بعض العباد الوفاة، وكان قد أوصى بعض أصحابه أن يوضئه، فأُخذ هذا الذي حُضر، فلم يستطع الكلام، فشرع الموضئ يوضئه، فلما بلغ موضع اللحية نسيَ أن يخللها، فأخذ بيده فأدخلها في لحيته -أخذ بيد مغسله فأدخلها في لحيته-، ثم قبض، قال بعضهم: فهذا الذي لم ينس آداب الشريعة حتى عند الموت.
ولما حضرت الجُنيد الوفاة جعل يصلي ويتلو القرآن، فقيل له: لو رفقت بنسفك في مثل هذه الحال، فقال: لا أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي، أبادر طي الصحيفة قبل أن تطوى.
وأما الكاساني رحمه الله فإنه لما حضرته الوفاة شرع في قراءة سورة إبراهيم حتى إذا انتهى إلى قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِسورة إبراهيم:27، خرجت روحه عندما فرغ من قوله تعالى: وَفِي الآخِرَةِ.
ومحمد بن إسماعيل النسَّاج -قصته في البداية والنهاية لابن كثير- لما حضرته الوفاة نظر إلى زاوية البيت، فقال: قف رحمك الله، فإنك عبد مأمور، وأنا عبد مأمور، وما أُمرتَ به لا يفوت، وما أُمرتُ به يفوت، ثم قام وتوضأ وصلى، وتمدد ومات رحمه الله تعالى.
أيها المسلمون: ألا تلاحظون كيف يموت العلماء تترا، ويذهبون؟ فذهب الإمام العالم الشيخ عبد العزيز بن باز بعدما ذهب الشيخ ابن غُصون، وكذلك الأديب الواعظ الشيخ علي الطنطاوي، ومن المشتغلين بالفقه الشيخ مصطفى الزرقا، ثم القاضي العالم عطيه سالم، والشيخ مناع القطان من المؤلفين في علوم القرآن، ذهبوا في أشهر وجيزة جداً.
وهكذا تتابع المصائب بموت أهل العلم، نسأل الله أن يجعلنا ممن أخلصوا له، ليس الخوف على من مات محسناً إنما الخوف على الحي والله.
أما المحسن فنرجو له عند ربه الكرامة، ولكن الخوف علينا، ونحن لا ندري على أي شيء نموت، وعلى أي شيء تقبض أرواحنا، وهل سنتمكن من الشهادة أم لا؟ الخوف على الحي، والعبرة من ذهاب العلماء بأن يتحمس طلاب العلم للازدياد منه، فإنه لا بد من تعويض النقص الذي حصل في الأمة، ونسأل الله أن يخلف بخير.
أيها الإخوة: إن من مات عالماً معلماً، وداعية فقيهاً، وواعظاً مؤدباً، فنرجو له عند الله الحسنى، وأن يُجزل له المثوبة والأجر.
اللهم ارفع درجاتهم في جنات النعيم.