الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71،
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اقتربت الساعة
إخواني: إن الله حذرنا من مطلع يوم عظيم، وذكر لنا أهوالاً تشيب منها الرؤوس، ذلك ما يحدث في يوم القيامة، اليوم الآخر، الساعة، يوم الخروج، يوم البعث، يوم الفصل، يوم تقرع فيه القارعة، تقرع الناس بأهوالها، وتصخ فيه الصاخة، تصخ أسماعهم حتى تكاد تصمها، هو يوم الحسرة: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَسورة مريم:39، حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَاسورة الأنعام: 31، هذه الغاشية التي تغشى الناس بفزعها، وهذه الحياة التي نعيش فيها فيها حركة دائبة لا تتوقف، فإذا نفخ في الصور يفني الله كل هذه الأحياء: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍسورة الرحمن:26، ويصعق كل شيء: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُسورة الزمر:68نفخة هائلة ومدمرة إذا سمعها المرء لا يستطيع أن يوصي بشيء: مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَسورة يس:49-50،قال رسول الله ﷺ: ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويناه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقمن الساعة وهو يليط يبني حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها[رواه البخاري (6506)] موكل بالصور ملك كريم، مستعد منذ خلقه الله لأن ينفخ في الصور، قال ﷺ: إن طرف صاحب الصور مذ وكل به مستعد ينظر حول العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان[رواه الحاكم (8676)]، وكلما مر الوقت صار الملك أكثر استعداداً للنفخ، وفي وقتنا هذا مستعد أكثر مما قبله، "قال ﷺ: كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه أن ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فيفخ؟، قال المسلمون" وهكذا كان الصحابة يتأثرون، كانت قلوبهم حية، فإذا سمعوا هذا الوعيد تأثروا فقالوا، "فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا" [رواه الترمذي (3243)].
النفخ في الصور في يوم الجمعة
هذه النفخة تكون في يوم مثل هذا اليوم -يوم الجمعة-، قال ﷺ: إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلا أعطاه إياه ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب، ولا سماء، ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة حديث حسن [رواه ابن ماجه (1084)]، وفي رواية: وفيه النفخة، وفيه الصعقة[رواه النسائي (1374)]، وقال: وما من دابة إلا وهي تفزع يوم الجمعة إلا هذين الثقلين الجن والإنس، وقال: وما على وجه الأرض من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس[رواه أبو داود (1046)].
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِسورة النمل:87، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَسورة الزمر:68 ما حالنا إذا نفخ في الصور؟ ما مصيرنا إذا نفخ في الصور؟ ماذا يكون موقفنا إذا نفخ في الصور؟ لقد رأيت اضطراب الناس وفزعهم عند سماع صفارة إنذار! فكيف يكون حالهم إذا نفخ في الصور تلك النفخة العظيمة؟!
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَسورة يس:51-53، قال ﷺ: ما بين النفختين أربعون...، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس في الإنسان شيء إلا يبلي إلا عظماً واحداً، وهو عجب الذنب[رواه البخاري (4935)]، وفي رواية لمسلم: " إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً، فيه يُركب يوم القيامة، قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب" [رواه مسلم (2955)]، وتحشر الخلائق إلى ربها: ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌسورة هود:103.
هول عظيم
يا عباد الله: أخبرنا الله بهذا اليوم بذلك اليوم لنتقي شره، أخبرنا الله بذلك اليوم كي نستعد لأهواله، أخبرنا الله ذلك اليوم كي ما نتعظ، ونعمل من أجله: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًاسورة مريم:93 لا يفوته أحد : لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًاسورة مريم:94-95، هؤلاء البشر منهم من احترق، ومنهم من غرق، ومنهم من تلاشى، هؤلاء يأتي بهم الله جميعاً يوم القيامة: يُحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً غير مختونين، قالت عائشة: "يا رسول الله، النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" [رواه مسلم (2859)]، يبعث كل عبد على ما مات عليه، يبعث الزاني على الزنا، والسارق على السرقة، والظالم على ظلمه، ويبعث المعتمر على عمرته، المحرم على إحرامه، والمجاهد على جهاده، يبعثون عراة في مبدأ الأمر، ثم يكسى الخلائق، فأول من يكسى إبراهيم الخليل، ويكسى الصالحون الثياب الكريمة، ويكسى الطالحون سرابيلاً من قطران من النحاس المذاب، دروعهم من الجرب، وكل إنسان يُكسى بحسب عمله، يحشرون إلى أرض المحشر، أرض أخرى تتبدل غير أرضنا: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِسورة إبراهيم:48، يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي مثل الخبزة المصنوعة من الدقيق النقي، هكذا جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله ليس فيها معلم لأحد[رواه البخاري (6521)]ما فيها علامة تميز لإنسان طريقاً.
ومن أهوال ذلك اليوم ما قاله الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَسورة الزمر:67، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِسورة الأنبياء:104، قال ﷺ: يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟[رواه البخاري (7382)] أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ لا يجيبه أحد، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِسورة غافر:16، وفي رواية مسلم: يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟[رواه مسلم (2788)].
وهذه الجبال الصم الرواسي ما مصيرها؟ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُسورة الحاقة:14-15، فتتحول رملاً ناعماً، يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًاسورة المزمل:14تصبح صوفاً منفوشاً، وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وتسير عن أماكنها وتنسف: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْسورة التكوير:3، وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْسورة المرسلات:10، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًاسورة طه:105-107.
والبحار العظيمة الممتلئة ماء ما مصيرها؟ هذه البحار التي تستخدم الآن لإطفاء الحرائق تصلح ناراً في ذاتها، قال تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْسورة الانفطار:3 أي: تشققت، وتزول الحواجز، ويختلط الماء العذب بالمالح، ثم تشتعل ناراً كما قال الله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْسورة التكوير:6، فتأمل اتساع الماء على الأرض، كله يشتعل ناراً يوم القيامة، وهذه السماء تضطرب اضطراباً عظيماً، كما قال الله: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًاسورة الطور:9، وتنفطر وتتشقق: إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْسورة الانفطار:1، إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْسورة الانشقاق:1، وهذا البناء العظيم السميك الذي رفعه الله يصبح يوم القيامة ضعيفاً متشققاً: وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌسورة الحاقة:16يذهب لونها، وتتلون تلون الأصباغ، فتارة حمراء، وتارة صفراء، وتارة خضراء، كما قال الله: فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِسورة الرحمن:37، وشمسنا هذه ما حالها؟ هذه الشمس الحارة المضيئة التي تغمر الأرض بالحرارة والدفء والنور تجمع يوم القيامة وتلف، ويذهب ضوؤها: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْسورة التكوير:1، وقمرنا هذا وبدرنا الجميل الذي يؤنس المسافرين ينقلب مخسوفاً يذهب ضوءه: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُسورة القيامة:7-8، وهذه النجوم والكواكب المنظومة في هذا العقد الدقيق في قبة السماء ينفرط عقدها وتتناثر، كما قال الله: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْسورة الانفطار:2،وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْسورة التكوير:2.
مثل لنفسك أيها المغرور | يوم القيامة والسماء تمور |
إذ كورت شمس النهار وأدنيت | حتى على رأس العباد تسير |
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت | وتبدلت بعد الضياء كدور |
وإذا البحار تفجرت من خوفها | ورأيتها مثل الجحيم تفور |
وإذا الجبال تقلعت بأصولها | فرأيتها مثل السحاب تسير |
وإذا العشار تعطلت وتخربت | خلت الديار فما بها معمور |
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت | وتقول للأملاك أين تسير |
وإذا الموؤودة سئل عن شأنها | وبأي ذنب قتلها ميسور |
وإذا الجليل طوى السماء بيمينه | طي السجل كتابه المنشور |
وإذا الصحائف نشرت فتطايرت | وتهتكت للمؤمنين ستور |
وإذا السماء تكشطت عن أهلها | ورأيت أفلاك السماء تدور |
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها | فلها على أهل الذنوب زفير |
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت | لفتى على طول البلاء صبور |
وإذا الجنين بأمه متعلق | يخشى القصاص وقلبه مذعور |
هذا بلا ذنب يخاف جنينه | كيف المصر على الذنوب دهور |
اللهم الطف بنا يا رب العالمين، وارحمنا برحمتك إنك أنت العفو الغفور الرحيم، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع، جد علينا بجودك يا جواد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد السراج المنير، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فبين لنا من أهوال يوم القيامة ما ينبغي أن تقشعر منه الجلود، وأن تلين له القلوب.
ينقصنا تدبر أحوال القيامة
أيها المسلمون: إن مما ينقصنا نقصاً عظيماً تدبر أحوال ذلك اليوم الذي إليه الرحيل ولا شك، هؤلاء المنشغلون بالدنيا ينسون ذلك اليوم العظيم.
أيها المسلمون: كم مرة ذكرناه؟ وكم مرة تدبرنا أهواله؟ وكم مرة وقفنا عندما يحدث فيه؟ أخبرنا الله عنه بتفاصيل كثيرة عن أحداثه الجسام، وخطوبه العظام، وليس المقصود -ولا شك- إلا التدبر، والإعداد لذلك اليوم، ومما ينقصنا تخيل أحداث ذلك اليوم، ونحن نقرأ القرآن العظيم، وأحاديث نبي الله الكريم، تخيل نفسك يا أيها المسلم إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حس يُسمع، ولا شخص يُرى، وقد بقي الجبار الأعلى بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق للعرض على الله بالذل والصغار منك ومنهم، فتخيل كيف وقوع الصوت في مسامعك وعقلك، فتفهم أنك تدعى إلى العرض على الملك الجبار، فطار فؤادك، وشاب رأسك للنداء؛ لأنه صيحة واحدة بالعرض على ذي الجلال والكبرياء، فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك، فوثبت مغبراً من القبر، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء، وقد زار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة، وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال مكثهم فيها في قبورهم، فتخيل قيامهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم، فتخيل نفسك بعريك ومذلتك، وانفرادك بخوفك وأحزانك، وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق عراة حفاة صموت أجمعون، بالذلة والمسكنة والرهبة، فلا تسمع إلا حس أقدامهم والصوت ينادي والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت ساع بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًاسورة طه:108، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًاسورة طه:111حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة قد نزع الملك من ملوك الأرض، ولزمتهم الذلة والصغار فهم أذل أهل الجمع وأقلهم قدراً بعد عتوهم وتجبرهم على عباد الله في أرضه، ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها، ولا خطيئة أصابتها، فتخيل إقبالها بذلها في اليوم العظيم للعرض والنشور، حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها، ووحوشها وسباعها، وأنعامها وهوامها، واستووا جميعاً في موقف الأرض والحساب، تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمس نور الشمس والقمر، وأظلمت الأرض، وانطفأ نورها، فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا فوقهم، فدارت بعظمها فوق رؤوسهم، وإذا بعينك تنظر إلى هول ذلك، ثم انشقت السماء بغلظها، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت وانفطرت بعظم هول يوم القيامة، والملائكة قيام على أرجائها وحافاتها، ثم ذابت حتى صارت كالفضة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة، فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافاتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم، وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى، حتى إذا وافى الموقف أهل السماوات السبع وأهل الأرضين السبع كسيت الشمس حراً عظيماً، وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوسين أو أدنى، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فمن مستظل بظل العرش، ومن هو مصهور بحر الشمس قد اشتد كربه، وقلق من وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، فدفع بعضهم بعضاً، وتضايقت، فاختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من العطش، وأصبح حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم؛ ففاض العرق منهم سائلاً، حتى استنقع على وجه الأرض، ثم على الأبدان على قدر مراتبهم، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم شحمة أذنيه، ومنهم من كاد يغيب في عرقه، فتخيل نفسك قد علاك العرق، وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو دار الشقاء، وبقيت المواقف تأتي، ولم ينته الأمر بعد.
كفى غفلة
أيها المسلمون: قولوا لي بربكم: ما حال الذين يستهزئون بالبعث والنشور؟ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَسورة الأنعام:29-30 أين قوة البشر في ذلك اليوم؟ أين أسلحتهم؟ أين صواريخهم؟ أين طائراتهم؟ أين قنابلهم التي كانوا يدكون بها الأرض دكاً؟ ولكنهم هم وأسلحتهم وعظمائهم، وجنودهم وجيوشهم؟ أذلاء صغراء في ذلك الموقف العظيم.
إن نفخة الصعق لا تقارن بنفخة في صفارة إنذار، ونحن نفزع أشد الفزع لها في الدنيا، وإن رجفة من رجفات الأرض وزلزلتها يوم القيامة لا تقارن أبداً بقنبلة عظيمة ولا قنابل، ولو تفجرت أسلحة أهل الأرض كلها.
فيا أيها المغرورون بقوة الناس في الدنيا: تأملوا قوة الله يوم القيامة، ما حال الزناة وشراب الخمور وأكلة الربا يبعثون على أعمالهم، أين المستهزئون بالدين في المجالس؟! أين المضيعون للصلوات، المانعون للزكاة؟! ما هي حالهم؟!
يا أيها الناس: كفى غفلة، استيقظوا، استيقظوا، فإن هذا اليوم العظيم آت، ماذا أعددنا؟ وبماذا تجهزنا؟ ما حال الذي أفتى بجواز الربا، ثم قال والله يسمع كلامه: "أنا مستعد أن أتحمل هذه الفتوى عنكم يوم القيامة"! فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاًسورة النساء:109.
يا أيها الناس: استيقظوا من الغفلة، كفى رقاداً، فإن هذا اليوم آت والله، والزمن قريب، ولا بعد الموت إلا البعث والنشور، والحساب والجزاء، ثم الجنة أو النار.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن تأمننا يوم الفزع الأكبر، اللهم اجعلنا ممن يستظلون بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم اجعلنا ممن يؤتون صحائفهم بأيمانهم، واجعلنا من السابقين المقربين، وأدخلنا برحمتك جنات النعيم.
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك، واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم اهدنا سبلنا، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم باعد بيننا وبين الفجور والمنكرات، اللهم إنا نسألك السلامة من المعاصي والآثام.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وانصرنا على عدونا يا رب العالمين.
اللهم اقمع اليهود وأعوانهم، ودمر المشركين وجنودهم وسلطانهم، اللهم أورث هذه الأرض عبادك الذين يخافونك، ويعملون لنصرة دينك، وارفع راية السنة وأهلها، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من السعداء في الدنيا وفي الآخرة.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَسورة النحل:90، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ، وقوموا إلى صلاتكم.