الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
التأكيد على الآداب الشرعية في السفر وإيراد بعضها
إن المؤمن يعبد الله في حله وترحاله، ولذا حين تتغير بالناس الأحوال، فيضعنون ويقيمون، ويحلون ويرتحلون، فإن المسلم مطالب بالتأدب بآداب الشريعة والتمسك بأحكامها في الحضر والسفر، وقد ذكر أهل العلم أنه ينبغي لمن أراد سفراً أن تكون له نية صالحة، بالسفر إلى طاعة أو مباح على الأقل أن يستخير ويستشير، أن يتوب ويقضي الدين، ويخرج من مظالم الخلق، ويتحلل ممن أساء إليهم، وأن لا ينسى نفقة أهله، ويختار الرفقة الصالحة في السفر.
والمقصود أن يحرص المسافر على السنة والآداب الشرعية في السفر، فمن ذلك: اتخاذ الصحبة والرفقة فقد ثبت أن النبي ﷺ قال: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ[رواه البخاري برقم (2776)]رواه البخاري.
ولما وفد رجل من سفرٍ قال له رسول الله ﷺ: من صحبت؟ -يعني في هذا السفر-، قال: ما صحبت أحداً، فقال له: الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب[رواه الحاكم في المستدرك برقم (2495)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (62)]؛ ومعنى الحديث كما ذكر الخطابي رحمه الله: أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان، أو يحمل عليه الشيطان ويدعو إليه، ولذلك سمى فاعله شيطان.
ومعنى الحديث كما ذكر الخطابي رحمه الله: أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان، أو يحمل عليه الشيطان ويدعو إليه، ولذلك سمى فاعله شيطان.
الإسلام يريد أن يكون المؤمنون جمعاً، وأن يعبدوا الله معاً، ولذلك أكد على الرفقة في السفر، وحتى لا يختلفوا استحب لهم التأمير إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ[رواه أبو داود برقم (2241)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (500)]، فهذا الذي يحسم الأمور بينهم إذا اختلفوا.
ويودع أهله وجيرانه وأصدقاءه، ولذلك كان يقول ابن عمر للرّجل إذا أراد سفراً: هلمّ أودّعك كما ودّعني رسول اللّه ﷺ: اسْتَوْدِعْ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وخواتيم عَمَلِكَ[رواه أبو داود برقم (2233)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2265)]، فيستودع الله تعالى الدين، لأن السفر قد يحمل الإنسان على التقصير فيه، أو التساهل في المعصية، وإذا ذهب إلى مكان هو فيه غريب قد لا يستحي كما يستحي في بلده وحوله من يعرفه، وقوله: وأمانتك: أي الأهل، والأولاد، والودائع التي تركها المسافر في بلده، و خواتيم عملك المراد أنه يجعل آخر عمله قربة، فهذا دعاء إلى الله، والأعمال بالخواتيم، والله إذا استُودع شيئاً حفظه، كما أخبرنا ﷺ، وجاء رجل إلى النّبيّ ﷺ فقال: يا رسول اللّه إنّي أريد سفراً فزوّدني، فقال: زوّدك اللّه التّقوى، فقال: زدني، فقال: وغفر ذنبك.
قال: زدني. قال: ويسّر لك الخير حيثما كنت[رواه الترمذي برقم (3366)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3579)]. رواه الترمذي وهو حديث صحيح. فإذا ودع إخوانه كان في دعائهم له بركة.
ويستحب السفر صباح الخميس إن تيسر؛ لأن رسول الله ﷺ كان يحب أن يخرج يوم الخميس[رواه البخاري برقم (2731)]، ويستحب أيضاً أن يبكر في الخروج، لقوله ﷺ: اللهم بارك لأمتي في بكورها[رواه الترمذي برقم (1133)، وأبو داود برقم (2229)، وابن ماجه برقم (2227)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1300)].
والذكر مع المسافر صاحب، وقرين صالح، وفضله في أوقات الغفلة عظيم، والإكثار من الدعاء في السفر مظنة الإجابة، ويأتي إذا أشرف على قرية بالدعاء المعروف: اللهم إني أسألك خيرها، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها[رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2709)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن]حديث صحيح.
فإذا صعد أو أقلعت به الطائرة في طبقات الجو وارتفعت، ناسب أن يكبر الله تعالى؛ ليذكر نفسه أن العلو من صفاته سبحانه، وهو أكبر من كل شيء، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلونه كما قال جابر : كنا إذا صعدنا كبّرنا، وإذا تصوبنا سبّحنا[رواه البخاري برقم (2771)]. -أي إذا انحدرنا ونزلنا- رواه البخاري. وهكذا يكون الشأن عند هبوط الطائرة يسبح وينّزه ربه عن كل عيبٍ.
والاستعلاء والارتفاع محبوب للنفس، فيصيبها بالكبرياء، فيذكر نفسه أن الكبرياء لله فيأتي بالتكبير -الله أكبر-، والمكان المنخفض يكون محل ضيقٍ، فهو يسأل الله أسباب الفرج حين إتيانه بالتسبيح، وقد قال يونس في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك، فنجّي من الغم.
وإذا نزل منزلاً فإنه يستحب له أن يأتي بهذا الدعاء الذي دلنا عليه المصطفى ﷺ بقوله: من نزل منزل ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيئاً حتى يرتحل من منزله ذلك[رواه مسلم برقم (4881)].
ما هي كلمات الله؟ كل كلام الله تعالى تامٌ، سواء كان القرآن أو التوراة أو الإنجيل، أو صحف إبراهيم أو زبور داود، أو غير من ذلك من الكتب التي أنزلها الله، وكذلك أوامره سبحانه الصادرة إلى ملائكته، وأيضاً كلامه سبحانه النازل إلى أنبيائه، وكذا السنة فإنها وحي، فكلمات الله تعالى صدقٌ وعدل تامة من كل وجه، هذه الكلمات التي لا يدخلها نقص ولا عيب، نافعةٌ شافية، والكلام صفة ذاتية فعلية من صفاته سبحانه، فإنه يتكلم متى شاء وبما شاء، والاستعاذة بالصفة مشروع وارد، كقولك: أعوذ بعزة الله وقدرته، أعوذ بكلمات الله.
قال القرطبي رحمه الله عن الحديث في النزول:"هذا خبر صحيح علمنا صدقه دليلا وتجربة، منذ سمعته عملت به، فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب ليلة، فتفكرت، فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بهذه الكلمات"[المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم].
وقد نزل جماعة منزلاً فقالوا هذا الذكر، فلما أقلعوا من مكانهم وطووا خيمتهم وجدوا تحتهم ثعباناً، لكن لم يمسهم شيء بفضل الله .
والسرى في آخر الليل طيب، وهو سير المسافر؛ لقوله ﷺ: عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل.
خدمة الأخوان في السفر، واستحباب الاستعجال في العودة منه
وخدمة الإنسان المسلم لإخوانه في حلهم وترحالهم من التواضع ومن أبواب الأجر، قال مجاهد رحمه الله: "صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني"[جامع العلوم والحكم (341)]. وقال أنس : "خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني، وكان جرير أكبر من أنس"[رواه البخاري برقم (2674)، ومسلم برقم (4570)]. رواه البخاري ومسلم. وخدمة جرير لأنس تعتبر من تواضعه لخادم رسول الله ﷺ.
صحب أحد السلف تاجراً موسراً فلما رجعا قال التاجر: والله ما ظننت أنّ في الناس مثله، كان - والله - يتفضّل عليّ في النفقة وهو معسر وأنا موسر، ويتفضل عليّ في الخدمة وهو شيخ ضعيف وأنا شاب، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم.
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى | كأنك مملوك لكل رفيق |
وكن مثل طعم الماء عذب وبارد | على الكبد الحرى لكل صديق |
وأوصى ﷺ بعدم الإطالة في السفر بقوله: السَّفَرُ قِطْعَةٌ من الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فإذا قَضَى أحدكم نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إلى أَهْلِهِ[رواه البخاري برقم (1677)، ومسلم برقم (3554)].
وهذا النهى لما في الأسفار من أنواع التعب والنصب والمشقة ومقاساة الحر والبرد والخوف والإرهاق، وتغير الأجواء المؤثر في الصحة، والشعور بالوحشة والغربة، ومفارقة الأهل والأصحاب، والخشونة ما فيه، قال ابن حجر معلقاً: "وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع، ولا سيما مَن يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة"[فتح الباري لابن حجر (3/623)].
ومن انقضت حاجته لزمه الاستعجال كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله إلى أهله الذين يقوتهم، مخافة ما يحدثه الله فيهم من بعده، وينبغي ألا يقدم عليهم فجأة ولكن يخبرهم؛ ليتهيؤوا لاستقباله.
ما يفعله المسافر إذا عاد من سفره
وأن يبدأ بالمسجد قبل أن يدخل بيته فيصلي فيه ركعتين كما فعل النبي ﷺ، ويحمد ربه على الرجوع سالماً بهاتين الركعتين، كان الفقيه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله إذا دخل البلد ولو في غير وقت الصلاة، يدور فيها حتى يجد مسجداً مفتوحاً؛ ليصلي فيه ركعتين، أخذاً بسنة النبي ﷺ.
ويستقبله أهله وأولاده، كما جاء عن أنس قال: كان أصحاب النبي ﷺ إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا" [رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (97)]، وكانوا إذا رجعوا يُستقبلون كما جاء في عدد من الآثار بأولادهم.
ولما صارت الأسفار في هذا الزمان قصيرة سريعة بفعل الطائرات، فات كثيرٌ مما جاء في الآثار بسبب سرعة العودة، وكذلك قصر المدة، بخلاف السفر في الأزمان الماضية، فقد كان البعير يسير وعليه راكبه المحمل يقطع 40 كيلاً، ولا يمكن الزيادة على ذلك في الغالب في اليوم والليلة، فهذا التيسير من الله في الوسائل، ينبغي على العبد تجاهه أن يحمد ربه، وأن يعبده ، وأن يذّكر نفسه بفضله سبحانه عليه.
فإذا رأى بلدته قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون . يكررها حتى يدخل بنيان البلد [رواه البخاري برقم (5511)، ومسلم برقم (2395)]، وجاء في رواية أن ﷺ كان يقول: توباً توباً لربنا أوبا[رواه أحمد برقم (2197)، قال الأرنؤوط: حسن كما قال ابن حجر في تخريج الأذكار].
أحكام ومحاذير في السفر
وقد جاءت الشريعة بما يخفف الأحكام في الأسفار، وهذا من فضل الله ، ومما لا يهتم به كثير من الناس مسألة القبلة في السفر، فتراه يجتهد وفي المكان من يُسأل من أهل المكان، فلا يجوز الاجتهاد إذا كان في المكان من المسلمين المقيمين من يعرف القبلة قطعاً؛ لأن المجتهد قد يخطئ، وإنما محل الاجتهاد ما إذا لم يكن هنالك من يدله من المسلمين على جهة القبلة، ممن هو موجود أو مقيم في ذلك المكان، واستعمال الآلات في معرفة القبلة طيبٌ؛ لأنه وسيلة إلى تحقيق العبادة وتوفير شروطها، لا سيما وأن من شروط الصلاة معرفة القبلة، وبعض الناس يستأجر مكاناً في البلد ويقيم فيه، ويصلي إلى غير القبلة أشهراً؛ لأنه لم يضبط ولم يسأل كما ينبغي عن جهة القبلة.
وينبغي على المسافر أن يحرص على سنة الأذان، وكذلك القصر والجمع في السفر، فأما القصر فإنه لا يكون إلا في السفر فلا قصر في الحضر، وأما الجمع فقد يكون بغير قصر، كالجمع في المطر في الحضر، فإذا سار المسافر جمع وقصر، فإذا نزل في مكانٍ أربعة أيام فأقل، له أن يقصر، ويستحب أن لا يجمع، فإن جمع جاز، فإذا نزل في مكان أكثر من أربعة أيام فهو مقيم عند الجمهور، يصلي كأهل البلد -صلاة كاملة منذ أن يصل بلا قصرٍ ولا جمعٍ-، ولو أدرك ركعتين من الرباعية خلف الإمام، فإنه يكملها أربعا، وإذا صلى وراء إمام مقيم، فإنه يأتي بها أربعا.
والنصيحة للمسافرين بعدم إرهاق النفس بالاستدانة، فبعض الناس ربما يستدين لأمورٍ لا يحتاج إليها، فينبغي أن يتخفف الإنسان من الديون؛ لأن إشغال الذمة خطير، وإذا لقي الله بحقوق العباد فإن هذا يؤثر عليه حتى في قبره.
وانعتاق بعض الناس من التكاليف الشرعية في الأسفار، والظن بأن السفر خروج من الطاعة شيء في غاية السوء، وأما ما يسمى بأسفار السياحة فقد تركت أثراً سيئاً إذ جعلت بعض الناس يعصي ربه حتى في حرم الله، ولذلك ترى فيهم من الخفق في الأسواق، وتبرج النساء، والانشغال بالمعصية، وأنواع النظر وتعمده إلى الأجنبية، حتى في حرم الله تعالى، فيه ما يقسّي القلب، ويكسب الإثم، ومعلوم أن المعصية تُضاعف في الأزمنة الفاضلة، والأمكنة الفاضلة، وغضّ البصر واجب كما قال سبحانه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ النور: من الآية30.
وبدلاً من النظر إلى ما حرم الله ينبغي أن يصرف النظر في السماوات والأرض في الأسفار، والنزهات البريّة والبحرية ونحوها، للتفكر والتدبر فيما أمر الله : انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِسورة يونس:101،إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِآل عمران:190-191.
ولما سافر النبي ﷺ جهة تبوك، ومروا بمدائن صالح، وقوم ثمود وديارهم، لما مرّوا بالحجر -كما هو الاسم المعروف في السيرة-، قال ﷺ: لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ[رواه البخاري برقم (3129)، ومسلم برقم (5293)]. رواه البخاري ومسلم.
فهذه ديار المعذبين، والواجب عند دخولها لمن مر بها مجتازاً أن يبكي أو يتباكى، وأن يتفكر في الصيحة التي أخذ الله بها أولئك القوم، فقطعت نياط قلوبهم في أجسادهم، وجعلتهم صرعى في ديارهم فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًاسورة القصص:58، وهو سبحانه أنزل تلك اللعنة في ذلك الموضع، ولذلك رفض النبي ﷺ أن يعجن العجين، ويؤكل من ماء البئر الذي كانت تأتيه الناقة، وأمر بأن يُعطى للدواب.
ومن المصائب التي يقع فيها بعض المسافرين: إحياء الآثار من البقاع والمغارات بالتقرب إلى الله بالسفر إليها، كما يفعله بعضهم في غار ثور مثلاً، وغار حراء، ومعلوم أن النبي ﷺ كان يأتي الغار قبل الإسلام، فأي معنى لجعله مزاراً يُتعبد فيه، ويُصعد إليه للصلاة ونحو ذلك، وإذا قدّست الأماكن وجعلت مزارات ومتبركاً تلتمس عندها البركات، فأي أبواب من الشرك تلك التي ستفتح بهذه الطريقة، وبعض الذين يقتبسون من أديان المشركين والمنحرفين في الأرض، يريدون أن يحيوا هذه المزارات، وأن يجعلوها أماكن للعبادة، ويريد بعضهم أن يستغل هذه السياحة التي لها معنى ديني عند هؤلاء المنحرفين؛ لكي تكون تجارة مالية، وتقام هنالك أنواع من البيوع والإيجارات؛ لأجل زيادة المال، فلا بارك الله في مال يُقام على البدع، وتكون البدع هي الوسيلة لتحصيله، قالﷺ: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ﷺ، والمسجد الأقصى[رواه البخاري برقم (1115)، ومسلم برقم (2475)]متفق عليه.
فأما مسجد الحرم والمسجد النبوي فلهما حرم -يعني مكان حولهما لا يصاد فيه-، ولهما مكانة عند الله وحرمة، والمعصية فيه أشد، وأما المسجد الأقصى فليس له مثل ما للحرمين من حرم.
المهم العلم بأن لمكة حرم، وللمدينة حرم -أي مكان محرّم فيه الصيد وأشياء أخرى ورد بها الشرع-، أما المسجد الأقصى فمع فضل الصلاة فيه، وأنه مسرى نبينا ﷺ أمّ فيه الأنبياء، فأنه لا يوجد له حرم -أي مكان حوله يحرم فيه الصيد ونحوه-، ولذلك من الأخطاء الشائعة أن يقال ثالث الحرمين؛ لأن كلمة ثالث الحرمين تعني أنه حرم ثالث، وهذا ليس بصحيح.
وما يفعله بعض الناس من غشيان متاحف الآثار التي فيها صور ذوات الأرواح: المجسمة، المرسومة، المنحوتة، المصنوعة، ونحو ذلك من المصورات لذوات الأرواح، فهذا لا يجوز، ومن تربية الأولاد على أنواع الوثنية، وآثار الشرك، فإن هذه المضاهاة لخلق الله بصناعة هذه المصورات لذوات الأرواح نوع من الشرك بلا ريب.
عباد الله: إن التفريج عن الأهل والأولاد بإدخال السرور إليهم عبادة لله، ونحن نشهد أن رسول الله ﷺ كان خير الناس في أهله وقد قال ﷺ: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي[رواه الترمذي برقم (3830)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3314)]. ولذا فقد ثبت عنه أنه كان يصحب زوجاته في السفر، وكان يسابق عائشة رضي الله عنها، ويسامر الواحدة من زوجاته على بعيرها وهو على بعيره يسير بجانبها في الليل، ويتحفهن ويلاطفهن، أشهد أنه رسول الله حقا، والداعي إلى سبيله صدقا، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وذريته وخلفائه وأزواجه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
عباد الله:
السفر فرصة لإعادة حياة الفطرة
إن في ضغوط الحياة والأعمال التي يتعاطاها الناس ما يحتاج إلى شيء من تغيير الجو، والخروج عن هذه الرتابة المملة أحياناً، وفي غمرة هذه المدنية التي جاءت بأنواع من الترف والآلات؛ أخرجت الناس عن فطرتهم الأصلية، يحتاج الأهل والأولاد إلى إعادة لهذه الفطرة، وهذه القضية الفطرية، إذ أن الحياة الفطرية قد فقدت في المدنية اليوم، وقد أفسدت كثيراً من الصحة، بل العقل أيضاً، وجعلت الناس أسرى للآلات والتقنيات التي لها ضريبة صحية نفسية عقلية، بالإضافة لما فيها من أنواع العدوان على بعض الأحكام الشرعية.
فعيش الإنسان في الضوضاء، وصخب المدن، وما فيها من أنواع الإزعاج والتلوث، وجعل الليل نهاراً، والنهار ليلاً، يحتاج معه الإنسان أن يتذكر الحياة الفطرية ويعود إليها، بذهابه مع أهله أحياناً إلى مكان خارج هذه المدن، يستطيع فيه أن ينظر إلى السماء، فإنك في البلد لا ترى النجوم، ولا تكاد ترى اشتباكها، ولا تتمكن في كثير من الأحيان من النظر إلى الشمس عند شروقها وغروبها، فهذه المباني تحجبها، فإذا خرجت إلى أرض الله الواسعة، رأيت في أفلاك هذه السماء وزينتها النجوم التي خلقها الله تعالى، وجعلها أيضاً دلالة للمسافرين، ورجوماً للشياطين، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَسورة النحل:16، فتعلم أولادك كيفية الاستدلال على جهة الشمال بهذه النجوم، وكيفية معرفة أوقات الصلوات، نعم.. هذه فرصة كبيرة لمن أراد أن يذهب إلى البر مثلاً. ويتأمل وينقل الفكر معهم في ملكوت الله وما خلق.. فهذا التفكر يزيد الإيمان، ويحظى بهواء طيّب بعيداً عن هذه الملوثات الجسدية ففي هذا صحة البدن، والأولاد إذا ناموا مبكرين بعد العشاء، واستيقظوا مبكرين لأجل الفجر، فهذا أمر جيد؛ إذ فيه تذكير بطبيعة الحياة التي خلق الله الناس عليها، وجعل الليل سباتاً والنهار معاشا .
من فوائد الأسفار والتربية بالحدث
وكذلك فإن في أنواع هذه الأسفار ما يكون فيه صلة للرحم، ومجال للجلوس مع الأولاد؛ لغرس المفاهيم الإسلامية، وتعويض النقص الذي كان من الأبوين في الجلوس معهم أوقات العمل والدراسة، فيؤتى بآيات الله بأساليب شيقة في شرحها، وتقص القصص والوصايا كوصية لقمان لابنه، ووصية يعقوب لأولاده، وقصة أصحاب الأخدود، وكذلك ما يكون في أنواع هذه المواعظ التي ذكرها الله، وأمرنا برعاية أولادنا بناءاً عليها قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُالتحريم: من الآية6.
وحتى عند إيقاد الحطب يغتنمها فرصة للموعظة، فقد كان النبي ﷺ من هديه استثمار ذلك، ولذلك ضرب لأصحابه في صغائر الذنوب مثلاً بالحطب فقال: كمثل قوم نزلوا أرضاً في سفر فحضر صنيع طعامهم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا شيئاً عظيماً فأججوا ناراً وأنضجوا طعامهم وقال حينئذ: إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ[رواه أحمد برقم (3627)، قال الأرنؤوط: حسن لغيره]رواه أحمد وهو حديث صحيح.
وحتى في هذه النار التي تُورَى في البر ذكرى كما قال أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِالواقعة:71- 74.
جعلها الله متاعاً؛ لأنها تدفئ في البرد، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وجعلها سوطاً يسوق به عباده إلى طريق الحق خائفين، ومتاعاً للمقوين: أي المسافرين، خص الله المسافرين؛ لأن انتفاعهم بها أعظم من غيرهم، فهذه النار جعلها الله متاع للمسافرين في هذه الدار، وتذكرة لهم بدار القرار، وما أعد فيها لأهل معصيته.
وأيضاً فإنه يتذكر العبد بارتحاله أن الدنيا مولية وذاهبة، كان صلة بن أشيم يمر في طريقه إلى المسجد بشباب يلهون ويلعبون فيقف ويقول لهم: "أخبروني عن قوم أرادوا سفراً، فنزلوا إلى جانب الطريق في النهار وناموا بالليل -لا ساروا بالليل ولا ساروا بالنهار- فمتى يبلغون قصدهم؟ثم يمضي.
فلما تكرر ذلك فطن أحد الشباب لمقصده فقال لأصحابه يا قوم: إنه لا يعني بهذا غيرنا، فنحن نلهو بالنهار، وننام بالليل، غافلون عن السفر إلى الله ودار الآخرة، فتاب إلى الله.
وينبغي أن يبتعد من يريد الارتحال عن اصطحاب آلات المعاصي معه، فإن كثير من الناس يصطحبون معهم ما يفسد الفطرة، مع أنه كان حرياً بهم أن يستثمروا هذه الرحلات في إحياء الفطرة.
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ونسأله أن يرزقنا حبه، وحب ما يحب، وحب من يحب، نسأله سبحانه أن يجعلنا عند البأساء من الصالحين، وعند السراء من الشاكرين، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين. وأن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ونسأله أن يكبت أعداء الدين، وأن يقمع المنافقين، وأن يرغم أنفوهم، وأن يذلهم، وأن يفشل خططهم، اللهم إنا نسألك أن تنصر دينك وعبادك الموحدين، وأن توفق الدعاة العاملين، اللهم إنا نسألك أن تنصر هذه الشريعة، وأن تعلي كلمة الدين، اللهم إنا نسألك فتحاً قريباً للإسلام والمسلمين، اللهم عجل نصر أهل الإسلام يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن توفق من أراد نصرة الدين، وأن تخذل من أراد الشر بالإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم وفّق من أراد العمل لدينك لما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى. اللهم إنا نسألك أن تصلح نياتنا وذرياتنا، وأن تجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ