الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فضل الصحابة عن غيرهم
عباد الله: إن لأصحاب النبي ﷺ حقاً عظيماً علينا، فهم أفضل الأمة، اصطفاهم اللهم لصحبة نبيه ﷺ، وحواريو محمد ﷺ أفضل من حواريي موسى، وحواريو محمد ﷺ أفضل من حواريي عيسى، ومن حواريي سائر الأنبياء، وهم رضوان الله تعالى عنهم الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، هؤلاء هم المهاجرون الذين أثنى الله عليهم: وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ سورة الأنفال:72، هؤلاء هم الأنصار، وذكر الله اللحمة بينهم بقوله: أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ، وأخبر الله أنه رضي عنهم، فقال: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا سورة التوبة:100، وقد استخلفهم الله تعالى في الأرض، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمناً، فعبدوه لم يشركوا معه شيئاً.
وهم الذين مع محمد ﷺ: أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ سورة الفتح:29، إنهم أصحاب محمد ﷺ، الذين نقلوا إلينا الرسالة، الذين نقلوا إلينا أحاديث النبي ﷺ وسيرته، هؤلاء أمنة للأمة كما قال ﷺ: أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون، وهكذا كان انتشار البدع بعدهم، ولا زال المسلمون في نقص بعد الصحابة، فجيلهم أفضل الأجيال رضوان الله تعالى عنهم.
هم الأمة الوسط، وهم الشهداء على الناس، وكلهم أثبات وأخيار ليس فيهم حثالة إنما الحثالة فيمن بعدهم، كما بين ذلك الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه، لقد توفي النبي ﷺ عن قرابة مائة وعشرين ألفاً من أصحابه، كلهم لقيه مؤمناً به، مات منهم بالمدينة عشرة آلاف، وتفرق الباقون في البلدان ينشرون دين الله، ويدعون إلى الله، ويحكمون في الناس بما أنزل الله، ويجاهدون في سبيل الله.
روى الأحاديث عن النبي ﷺ منهم ألف وخمسمائة، أحاديثهم مبثوثة في دواوين السنة، وقد أجمع علماء أهل السنة والجماعة على أنهم ثقات وعدول وأثبات، وأنه يجب الكف عما شجر بينهم، وأنهم بشر يخطئون ويصيبون، لكن ما أكثر صوابهم بالنسبة إلى صواب غيرهم، وما أقل خطأهم بالنسبة إلى خطأ غيرهم، فإذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن هذه طريقة باطنية خبيثة لنسف الاحتجاج بالأحاديث؛ لأنهم إذا طعنوا في رواة الأحاديث سقطت الأحاديث، فافهم يا عبد الله، لماذا يريدون الطعن في الصحابة؟ إن الهدف هو إسقاط السنة، وإسقاط الاحتجاج بالأحاديث، فما أخبث الفكرة.
عباد الله: إن أصحاب محمد ﷺ، هم أفقه الأمة، وأبرها قلوباً، وأقلها تكلفاً، وأصحها قصوداً، وأكملها فطرة، وأتمها إدراكاً، وأصفاها أذهاناً، شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول ﷺ، لقد سمعوا خبر أهل الكتاب عنه، بل والأخبار من الجن قبل أن يبعث، ثم عاينوا الوحي بعد أن بعث وأحسوا بثقله، ورأوا خاتم النبوة بين كتفيه ﷺ، وأخبرهم بأمور من الغيب فرأوا تحققها عياناً، ورأوا استجابة دعائه، وشموا رائحة الطيب من عرقه، وعاينوا مس يده ليناً وبرودة، وشربوا من مكان شربته في الإناء شراباً أحلى من العسل، وأطيب من المسك، وشاهدوا تكثير الطعام، وسمعوا تسبيحه وهو يؤكل بين يديه، ورأوا الماء ينبع من بين كفيه، وحنين الجذع إليه، والتآم الشجر عليه، وشكوى البعير إليه، وتسابق نوق الهدي إليه للنحر، وأخبار الذراع بما فيه من السم، فلا عجب أن يبلغ إيمانهم الثريا وأن يكونوا أعظم الأمة، وأفضلها منزلة، وأن تكون استنباطاتهم أفضل من استنباطات غيرهم، وأن يكون قولهم حجة، يُحتج بها، وإجماع الصحابة ليس فوقه مرتبة من بعد الرسول ﷺ، ولو أن أحدنا أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ في الأجر مد أحدهم، ولا نصفه.
جهاد الصحابة وتخصصهم
هؤلاء الذين فتحوا الأمصار، وأخبر النبي ﷺ أنها ستفتح لأجل الصحابة، ولأجل من صحبهم، ولأجل من صحب من صحبهم، أفضلية القرون الثلاثة الأولى، مكانتهم عند الله عظيمة، فإن الله تعالى أحيا والد جابر، وكلمه كفاحاً بعدما استشهد، وقال: " يا عبدي، تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني، فأقتل فيك ثانية، قال الرب : إنه قد سبق مني: أنهم إليها لا يرجعون، ونزلت الآية: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَسورة آل عمران:169" [رواه الترمذي (3010)]، الآيات في هذه السورة العظيمة بعد سياق شيء من أحداث غزوة أحد، والحديث في الترمذي، وهو صحيح.
وأمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يقرأ سورة: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا سورة البينة:1، على أبي بن كعب، قال أبي: "وسماني لك، الله سماني لك، قال: نعم، فبكى" أبيٌّ رضي الله تعالى عنه [رواه مسلم (799)] تأثراً وسروراً وفرحاً، وخشية من عدم شكر النعمة.
عباد الله: لقد كمل الصحابة بعضهم بعضاً، وكانوا متخصصين في أمور، وجامعين لخصال الخير، فـأرحم الأمة بها أبو بكر الصديق، وأشدها في الله عمر، وأصدقها حياءً عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله أبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح [رواه أحمد (12493)]، وما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر[رواه الترمذي (3801)] رضي الله تعالى عنه، كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة.
وابن مسعود صاحب السر الذي يدخل على النبي ﷺ دون استئذان، وكذلك عمار الذي أجاره الله على لسان رسوله ﷺ، وحذيفة مستودع سر أخبار المنافقين.
اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ وحبهم له
لقد أقبل التابعون -أيها الإخوة- لما عرفوا فضائل الصحابة، أقبلوا عليهم يبحثون عنهم في البلدان ليجلسوا إليهم، ويستفيدوا منهم، وهؤلاء قد جاؤوا إلى زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه، فقالوا له: لقت لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله ﷺ، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقت لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ.
وهذا آخر مر على المقداد بن الأسود ، فقال: "طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله ﷺ، والله لوددنا أنا رأينا رسول الله ﷺ، لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت" [رواه البخاري في الأدب المفرد (87)] رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح.
لقد كانوا يقتدون بهم في الأعمال، يرافقونهم، ويأخذون عنهم، وتسلسل هذا الاقتداء في الأجيال حتى قال أهل العلم: كان ابن مسعود أشبه الناس برسول الله ﷺ -يعني في هدية وسمته-، وكان علقمة يشبه بابن مسعود، ويشبه بعلقمة إبراهيم، وبإبراهيم منصور، وبمنصور سفيان، وبسفيان وكيع، سفيان الثوري، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، وهكذا تسلسلت التربية في الأجيال من جيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
لقد أحبوا النبي ﷺ، حتى يقول الكافر لما رجع إلى قومه، يقول: "فوالله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره" نفذوا مباشرة، "وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له" [رواه البخاري (2734)] وهكذا أثرت الأخبار في كفار قريش فجاؤوا يطلبون عقد الصلح مع محمد ﷺ، وعمرو بن العاص لا يستطيع أن يصف النبي ﷺ؛ لأنه لم يكن يملأ عينيه منه، وما كان يطيق أن يُحد النظر إليه تعظيماً له.
هؤلاء الفتيان الذين ساهموا في نصرة الدعوة والجهاد، يقول الواحد منهم لعبد الرحمن بن عوف: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا؛ لأنه سمع أن النبي ﷺ كان يُسب، فلا بد أن ينتقم له ﷺ، وهكذا تسابق الفتيان لقتل أبي جهل، فتقتلاه، وأذله الله على أيديهما.
لقد فدى الصحابة النبي ﷺ بأنفسهم، فهذا أبو طلحة يقول: "يا نبي الله، بأبي أنت وأمي لا تشرف" لما أراد أن يطلع ﷺ على ساحة المعركة في غزوة أحد، "لا تشرف؛ يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك" [رواه البخاري (3811)]، وقام أحد عشر رجلاً بين يدي النبي ﷺ، يقاتلون في أحد، اثنان من المهاجرين وتسعة من الأنصار، وقتل السبعة من الأنصار الواحد تلو الآخر، قتلوا بين يديه ﷺ.
صدق الصحابة ومبادرتهم
لقد كان الصحابة -أيها المسلمون، أيها الإخوة- يبادرون لتنفيذ الأوامر، هذا من الفروق بيننا وبينهم، أنهم كانوا سريعي الفيئة، سريعي التنفيذ ينفذون بسرعة، هذا معقل بن يسار زوج أخت له إلى رجل وأكرمه بها، وخفف عليه المهر، وأعطاه إياها، ثم طلقها ذلك الرجل، ولم يرجعها في العدة، وانتهت العدة، وعادت المرأة إلى بيت أخيها، ثم إن هذا الرجل جاء يخطبها مرة أخرى مع الخطاب، المرأة مرغوبة، الخطاب على الأبواب، وهذا جاء واحداً منهم، وكانت تريد الرجوع إليه، وهو يريدها، ولكن هذا الأخ قال لهذا الخاطب الذي كان زوجاً للمرأة: يا لكع، أكرمتك بها، وزوجتكها، فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، أنا أكرمك بها، ثم أنت تطلقها، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِسورة البقرة:232، فلما نزل الحكم أنه لا يجوز لولي المرأة أن يحبسها عن العودة إلى زوجها ماذا قال الصحابي؟ قال: "سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه، وقال: أزوجك وأكرمك" [رواه الترمذي (2918)]، وقال: الآن أقبل أمر رسول الله ﷺ، وكفر عن يمينه امتثال تام.
أبو بكر الصديق لما امتنع من الإنفاق على مسطح -وهو من قرابته وفقير-؛ لأنه وقع في عرض ابنته عائشة، فلما أنزل الله: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِسورة النور:22الآية، لا يمتنع أهل الفضل عن إكمال ما بدؤوا به من الصدقة، أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْسورة النور:22، قال: "بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي" [رواه البخاري (4750)]، وأرجع النفقة إلى مسطح.
أيها المسلمون: إن الصحابة تميزوا بالصدق مع الله، مما تميزوا به عنا الصدق مع الله، هذا أعرابي جاء إلى النبي ﷺ آمن به واتبعه، ثم قال: "أهاجر معك، فحصلت للنبي ﷺ غنيمة، وقسم لهذا الأعرابي كما قسم للصحابة، فلما جيء بهذا القسم إليه بحقه من الغنيمة قال: ما هذا، قالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ، فأخذه فجاء به إلى النبي ﷺ، فقال: ما هذا، قال: قسمته لك ، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا -وأشار إلى حلقه- بسهم، فأموت، فأدخل الجنة"، بايعتك على هذا المبدأ لا على الأموال، "فقال: إن تصدق الله يصدق، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي ﷺ يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي ﷺ: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي ﷺ في جبة النبي ﷺ، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك [رواه النسائي (1953)]رواه النسائي، وهو حديث صحيح.
لقد كان يقينهم بكلام النبي ﷺ عظيماً، كانوا يصدقون بكلامه، الثلاثة الذين أرسلهم لاستخراج الخطاب من الأمة المرسل إلى كفار قريش، ما وجدوه في التفتيش الأول، قالوا: "ما كذب النبي ﷺ؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته" [رواه البخاري (3983)]، ما كذب رسول الله ﷺ.
إن بني إسرائيل قالوا لنبيهم: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ سورة المائدة:24، فماذا قال المقداد للنبي ﷺ: "لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَسورة المائدة:24، ولكن نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك" يقول الرواي: "فرأيت وجه رسول الله يشرق، وسره ذلك" [رواه أحمد (3690)]والحديث عند أحمد، ورجاله ثقات، وهو في البخاري، "ولكن امض ونحن معك" [رواه البخاري (4609)].
تحمل الصحابة للمشاق
تحملوا الغربة، هاجروا إلى الحبشة، وهاجروا إلى المدينة، تركوا ديارهم وقراباتهم، تركوا أموالهم، بعضهم ترك المال بالكلية، فربح البيع عند صهيب، وعند غيره رضي الله تعالى عنهم.
تحملوا الأذى في سبيل الله خباب يكتوي سبعاً في بطنه كيه! سبع كيات في بطنه، يعالج نفسه من شدة العلاج الذي لقيه من مولاته، وبلال وما أدراك ما لقي بلال؟! وكان الواحد من أصحاب النبي ﷺ يضرب حتى ما يقدر أن يستوي من الضر.
حفروا الخندق بأيديهم في الشتاء، وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً | على الجهاد ما بقينا أبداً |
كم طوله؟ خمسة آلاف ذراع، كم عرضه؟ تسعة أذرع، كم عمقه؟ من سبعة إلى عشرة أذرع، كان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً في الشتاء بأيديهم، وبأدوات بدائية، لم يكن لهم خدم، ولما أرادوا في هذا الزمان أن يحفروا في الشارع، في شارع الخندق نفسه، تكسرت أسنة حفارات، واستسلم مقاولون، وحفر مائة متر آخرهم في شهر، والصحابة حفروه في أسبوع كل المسافة خمسة آلاف ذراع في عمق، في عرض، حفرها الصحابة بأيديهم؟ ولماذا لا يكونون أفضل الأمة، لماذا لا يكونون؟ لقد جاهدوا في القلة، وأكلوا أوراق الشجر، وكان نصيب الواحد منهم تمرة تمرة، يمصها كما يمص الصبي، يُجعل عليها الماء، هذا نصيبه، وحتى كان الواحد منهم يضع كما تضع الشاة، هل تعرفون بعر الشاة في تفتته وقلته، وعدم التصاق بعضه ببعض؟ هل رأيتموه؟ هكذا كان الواحد منهم يضع من المخلفات كما تضع الشاة من قلة ما وجدوا من الطعام.
وتحملوا الفقر في سبيل الله، يجد أحدهم إزاراً، ولا يجد رداءً، لا يجد إلا ما يستر عورته، أبو بكر وعمر يخرجهما الجوع إلى الشارع من بيتيهما، يخرجها الجوع، وهذا المقداد ذهب سمعه وبصره، السمع والبصر خف جداً من نتاج الجوع، ولما ولد عبد الله بن الزبير بحثوا عن تمرة ليحنك بها، قالت عائشة: "فعز علينا طلبها" [رواه مسلم (2148)]رواه مسلم.
قرؤوا القرآن، فأثروا في الناس، ووقف الصديق يقرأ في مكة، ويتقصف عليه نساء المشركين وأطفالهم وأولادهم متأثرين بقراءته، حتى خشي الكفار، تركوا الدنيا لأجل طلب العلم، أبو هريرة يعتمد بكبده على الأرض يخر مغشياً عليه ما بين حجرة النبي ﷺ والمنبر، يظنه الناس به جن، صريع -صريح الجن-، ما به جن ما به إلا الجوع، وربط على بطنه الحجر لم يأكل الخمير، ولم يلبس الحبير، لا أكل نفيس، ولا ثياب مخططة، وإنما كان يلزم النبي ﷺ على شبع بطنه، ولذلك روى لنا خمسة آلاف حديث، فكان أكثر الصاحبة رواية على الإطلاق، وهذه مروياته مبثوثة في الكتب شاهدة على تفرغه، وتحمله، ثم بعض الناس الآن يقعون في أبي هريرة.
عباد الله: هل غيرت الدنيا الصحابة، لما فُتح عليهم، لما جاءت كسرى وقيصر، وهم في غنى أصبحوا أكثر من غنى هذه الأمة الآن قطعاً، أغناهم الله، هل تغيروا؟
يقول عتبة بن غزوان في خطبته: فما أصبح اليوم منا إلا أميراً على مصر من الأمصار، إمرة وغنى، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً، وعند الله صغيراً.
مطلقاً لم يتغيروا استمروا على العهد، بقوا على العهد، بل إنهم خافوا على أنفسهم، وعبد الرحمن بن عوف لما أُتيَ إليه بالطعام تذكر أن مصعب بن عمير بعد غزوة أحد لم يوجد ما يغطيه فجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر، وغطوا بقية جسده بما توفر من القماش، فبكى حتى ترك الطعام، ما غيرتهم الدنيا.
طاقات الصحابة في نصرة الدين
سخروا طاقاتهم لنصرة الدين، زيد بن ثابت يتعلم اللغة السريانية في سبعة عشر يوماً، ليكتب الخطابات إلى اليهود -خطابات النبي ﷺ، ثم يقرأ الخطابات إليه المرسلة منهم وهكذا، سخروا طاقاتهم الغني، والذي يعرف الخطط الحربية سلمان وخالد وغيرهم من الأمة، وحسان يسخر شعره، وابن رواحة، وكعب بن مالك لنصرة الدعوة، ما تركوا طاقة إلا سخروها لنصرة الدين، ما تقاعسوا عن حمله، كانوا يتفاعلون من القرآن عندما ينزل، هذا أبو طلحة الأنصارى عندما ينزل قول الله تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ سورة آل عمران:92 يتصدق ببستانه العظيم، أعظم ما لديه، وأغنى ما عنده في سبيل الله ، وعندما يسمع عمير بن الحُمام الأنصاري أن النبي ﷺ ينادي: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض [رواه مسلم (1910)] يرمي بالتمرات من يده ليقوم، فيقاتل استعجالاً لهذه الجنة، استعجالاً للجنة التي عرضها السماوات والأرض، هكذا بادروا إلى الواجبات، وإلى المستحبات، وشاركوا بمشاعرهم، وبقوا يبكون عند المنبر عندما سرت إشاعة طلاق نسائه ﷺ.
لقد قاموا بالمسؤوليات، وشعروا بثقلها، وهذا زيد بن ثابت عندما كلف بجمع القرآن يقول: "فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به" يعني أبو بكر "من جمع القرآن" [رواه البخاري (4679)].
اللهم إنا نشهدك على محبتهم فاحشرنا معهم، اللهم إن نبيك ﷺ قال: المرء مع من أحب [رواه البخاري (6168)]، اللهم اجعلنا معهم يوم الدين، واحشرنا في زمرتهم يا أرحم الراحمين، اللهم اجمعنا بهم في جنات النعيم، واجزهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، إنك أكرم مسئول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله ناصر المؤمنين، والحمد لله رب السماوات والأرضين، الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، نبي الأمة الذي ربى ذلك الجيل من الصحابة فتبينت حسن تربيته، فما أعظم التربية! وما أعظم الجيل الذي رباه صلى الله عليه ورضي عن أصحابه الكمَّل الغر الميامين، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ورضي على من اتبعهم إلى يوم الدين.
رحماء بينهم
عباد الله: أولئك الصحابة الذين آثروا إخوانهم فقسم الأنصار الثمار بينهم وبين المهاجرين، وكان جعفر أبو المساكين يعطيهم مما في بيته حتى إذا فني أخرج إليهم العكة من العسل، فشقها لهم ليلعقوا ما في باطنها، جادوا بالموجود، بل استسلفوا للصدقة، بل عملوا بأيديهم لأجل الصدقة، وآثروا الضيف على أولادهم حتى نزلت الآية في ذلك الأنصاري وامرأته لما نوموا الصبيان لأجل الضيف، وأطفأوا السراج لئلا يُحرج، وقدموا له ما في البيت، فضحك الله منهما، وعجب منهما، وإذا ضحك ربك إلى عبد فلا حساب عليه، ولا عذاب عليه، يتلقاه الله برحمته.
كان الصحابة رحماء بينهم، كما قال الله ، ولما قتل سعد بن معاذ شهيداً، تقول عائشة رضي الله عنها: "فحضره رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر، فوالذي نفس محمد بيدي إني لأعرف بكاء عمر بن بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله : رُحَمَاء بَيْنَهُمْسورة الفتح:29" [رواه أحمد (24573)]رواه أحمد، وسنده جيد.
كان الإخوان يشاركون إخوانهم لما تيب على كعب بن مالك من تلك المقاطعة تيب عليه من تخلفه عن غزوة تبوك، جعل الناس المجتمع كله يتلقاه فوجاً بعد فوج، يهنئونه بتوبة الله عليه، سارع الصحابة إلى سد الثغرات وملئ الفراغ، وأخذ المبادرة لصالح المسلمين كما فعل خالد رضي الله تعالى عنه في معركة مؤتة.
أيها المسلمون: كان العطاء في الأخلاق أيضاً، وفي حسن التعامل، هذا صحابي أقرض رجلاً، فلما جاء إلى بيته طرق الباب، فخرج ولد المستدين، فقال الصحابي: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي، فقال: أخرج إليَّ، فقد علمت أين أنت، فخرج، فقال: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: والله أن أحدثك، ثم أكذب، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله ﷺ، وكنت والله معسراً، فقال الصحابي: آلله؟ فقال الرجل: آلله، فقال: آلله؟ يستحلفه على حقيقة أمره، قال: آلله، ثم أتى بصحيفته، فمحاها بيده، وقال: إن وجدت قضاءً فاقضني، وإلا أنت في حل.
ولأجل هذه السيرة بين الناس وفقهم الله ، وسهل أمورهم، فقد كان على الزبير بن العوام ديون عظيمة، وهو يقول لولده في أحد المعارك: "يا بني، إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لديني، ثم قال له: يا بني، إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه مولاي، يقول عبد الله ولده: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبتي من مولاك الذي تريدني أن أستعين به؟ من موالاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة من دين بعد وفاة أبي إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه فيقضيه" [رواه البخاري (3129)]رواه البخاري، وخلف ملايين قسمت بين زوجاته وأولاده.
الصحابة جادوا بالمال، المال ما كان له عندهم قيمة، ما كانوا منجذبين إليه انجذاباً يمنعهم عن إخراجه في سبيل الله، فتصدق عمر بنصف ماله، وتصدق أبو بكر بكل ماله، وإن الصحابة رضي الله تعالى عليهم كانوا في غاية الورع، فأبو بكر يستقي، ويخرج كل ما في بطنه خشية أن يكون عليه شيء بعدما أكل طعاماً من كسب عبده لا يدري عنه أصلاً، لكن لما أخبره بمصدره استقاء كل ما في بطنه.
من أخلاق الصحابة
كانوا أقوياء في إعلان الحق، وعمر بن الخطاب لما أسلم سأل عن أفشى أهل مكة للحديث، وهو جميل بن معمر الجمحي، فأخبره أنه أسلم، فبث الخبر في قريش، فقاموا يقاتلون عمر عند البيت، وقاتلهم إلى المغرب، إلى المغرب وهو يقاتلهم! ثم خرج المسلمون في صفين عمر وحمزة، فأعز الله المسلمين بعمر، ولكنه كان رقيق القلب، لما قرأ قوله تعالى في سورة يوسف: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِسورة يوسف:86 سمع نشيجه إلى آخر الصفوف.
أيها المسلمون: إنهم كانوا يساهمون في أبواب الخير مجتمعة، من يستطيع منا أن يكون صائماً في يوم، وأن يطعم مسكيناً في نفس اليوم، وأن يعود مريضاً في اليوم نفسه، وأن يبتع جنازة في اليوم نفسه؟ وقد فعلها الصديق رضي الله تعالى عنه، وتبين ذلك بجواب عفوي لسؤال النبي ﷺ، كانوا يخفون أعمالهم، وعمر يختلف إلى امرأة في سواد الليل، عجوز عمياء مقعدة يتعاهدها، فيأتيها بما يصلحها، ويميط عنها الأذى.
كانوا يعرفون الفضل لأهله، يقول أسلم مولى عمر: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق، فلحقته امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين إني امرأة مؤتمة، هلك زوجي، وترك صبية صغاراً، والله ما يمضجون كراعاً، ما عندهم حتى الشيء اليسير من الطعام، ولا لهم زرع، ولا ضرع، لا حليب ولا زرع يدر عليهم شيئاً، وخشيت أن تأكلهم الضبع -يعني سنة المجاعة- وأنا بنت خفاف ابن إيماء الأنصاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي ﷺ، وكان قد أعطى النبي ﷺ أبوها أعطاه قطيعاً من الغنم صدقة، فوقف معها عمر ، ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسبي القريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه وعاءين ملأهما طعاماً، وحمل عليه نفقة وثياباً، ثم ناولها بخطامه، كأن الواحد أخذ سيارة كبيرة اليوم، فملأها طعاماً وثياباً، ملأها، ثم أعطى المفتاح للفقير، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها، قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهماننا منه، فتحاه بالجهد، فانتفعنا بثمرة فتحهما من قبل على عهد النبي ﷺ، والآن تستكثر عليها هذا الذي أعطيتها، كانوا يعرفون المعروف لأهله.
كانوا في غاية الزهد في الدنيا، كانوا يخافون يوم الحساب، غضب عثمان بن عفان مرة على عبد له فعرك أذنه تأديباً، ثم تذكر القصاص يوم الدين، فقال لعبده: إني عركت أذنك، فاقتص مني، فاستحيا العبد، فألح عليه عثمان حتى فعل، وقال عثمان: اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا، ولا قصاص في الآخرة.
أيها الإخوة: إن الصحابة رضوان الله عليهم كان لهم مزاح، ولكنهم كانوا إذا جد الجد تسابقوا، وإذا أريد أحدهم على شيء من دينه رأيت حماليق عينيه تدور دوراناً في عينيه؛ حمية لله ورسوله.
ومن ترويحهم عن أنفسهم ما ذكر ابن عباس قال: قال لي عمر ، ونحن محرمون بالجحفة: "تعال أباقيك أينا أطول نفسا"ً أي في الماء [رواه الشافعي في مسنده (1/117)]رواه الشافعي، وهو حديث صحيح، مسابقة: أيهما أطول نفساً تحت الماء، في الماء، ولكنهم كانوا إذا جد الجد حتى مزاحهم فيه شيء من الجد، وفيه تمرين وتدريب رضي الله تعالى عنهم.
لله در أناس أخلصوا عملاً | على اليقين ودانوا بالذي أمروا |
أولاهم نعماً فازداد شكرهم | ثم ابتلاهم فأرضوه بما صبروا |
وفوا له ثم وافوه بما عملوا | سيوفيهم يوماً إذا نشروا |
نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يجزيهم خير الجزاء، اللهم من سب أصحاب نبيك فأهلكه في الدنيا وعذبه في الآخرة.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المقتدين بهم، اللهم إنا نسألك أن تخذل من عادى صحابة نبيك ﷺ، اللهم انصرنا عليهم يا رب العالمين.
اللهم انصر المسلمين في شتى بقاع الأرض، اللهم دمر اليهود والنصارى والمشركين، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.