الثلاثاء 10 رمضان 1445 هـ :: 19 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

صور من الغلو المعاصر في الدماء والأموال

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
 
الناظر بعين الشرع في حال عدد من الأماكن التي وقع فيها القتال من جهات تدعي الإسلام والجهاد، يجد أنواعًا من الانحرافات والمخالفات الشرعية والظلم والعدوان، ولما كنت المسألة تتعلق بالضرورات التي أمر الله بحفظها، وهي: الدين والنفس والمال والعِرض والعقل، كان لا بد من بيان شيء من هذه الانحرافات للتحذير وإقامة الحجة.
فمن هذه الانحرافات:
 

التكفير بالمعصية، واستباحة دماء المسلمين:

سلك غُلاة التكفير مسلك إخوانهم من الخوارج القدامى في التكفير بالمعصية، واعتبار الوقوع في أيِّ معصية كفرًا.
قال ابن تيميَّة رحمه الله: "وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ، يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدْعَتِهِمْ، وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا". مجموع الفتاوى (3/ 279).
وقال أيضًا: "وهم أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ، بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَنْ وَالَاهُمَا، وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ، وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ". مجموع الفتاوى (7/ 482).
يقول أحد التكفيريِّين المعاصرين: "إنَّ كلمة "عاصي" هي اسم من أسماء الكافر، وتساوي كلمه كافر تمامًا، ومرجع ذلك إلي قضية الأسماء، إنه ليس من دين الله أن يسمَّى المرء في آن واحد مسلمًا وكافرًا".
ثم منهم مَن يقول: "نحن لا نُكَفِّر مَن يعمل المعاصي، ولكن نكفر المصرّ على المعاصي؛ لأنَّ الإصرار دليل على الاستحلال".
يقول أحدُهم: "والإصرار على المعصية هو: نيَّة عدم التوبة منها، وإظهار ذلك هو إعلان نيَّة ألا يتوب منها قولًا أو فعلًا.
وهذا كفر صريح في اعتبار الجماعة المسلمة يقتضي فَلْق الهام وقطع الرقاب".
وهذا يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة، أنَّه "لا يكفر أحدٌ من أهل القبلة بكلِّ ذنبٍ وقع فيه ما لم يستحلَّه".
يقول أبو عُبَيد القاسم بن سلاَّم في رَدِّه على الخوارج والمعتزلة في تكفيرهم مرتكب الكبيرة: "ثُمَّ قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُكَذِّبُ مَقَالَتَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي السَّارِقِ بِقَطْعِ الْيَدِ وَفِي الزَّانِي وَالْقَاذِفِ بِالْجَلْدِ.
وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ يُكَفِّرُ صَاحِبَهُ مَا كَانَ الْحُكْمُ عَلَى هَؤُلَاءِ إِلَّا الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.
أَفَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَمَا كَانَتْ عُقُوبَاتُهُمُ الْقَطْعُ وَالْجَلْدُ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ فِيمَنْ قَتَلَ مَظْلُومًا: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا، فَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ كُفْرًا مَا كَانَ لِلْوَلِيِّ عَفْوٌّ وَلَا أَخَذَ دِيَةً، وَلَزِمَهُ الْقَتْلُ ". الإيمان الأبي عبيد القاسم بن سلام صـ 77.
قال أبو زرعة الرازي رحمه الله: "وَلَا نُكَفِّرُ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِذُنُوبِهِمْ , وَنَكِلُ أَسْرَارَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/197).
وأين هؤلاء التكفيريُّون من قول النبي صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ.
قال أبو ذَرّ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟
قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟
قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟
قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ.
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: " وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ ". رواه البخاري (5827).
 

أنهم يستحلون دماء من يكفرونهم دون قضاء ولا محاكمة:

مع أن المخوَّل بإقامة حد الرِّدَّة هم القضاة والأمراء والحكام.
فالذي يقيم العقوبة الشرعية على المرتد –إذا ثبتت ردته- إنما هو القاضي والحاكم أو نائبه، وليس ذلك لعامة الناس؛ لما يفضي إليه ذلك من الفوضى وفتح باب الشرور والفتن.
قال ابن مفلح عن المرتد: "وَلا يَقْتُلُهُ إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ". المبدع في شرح المقنع (7/ 482).
وقال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع (14/ 455): "ولا يحل لأحد قتله -يعني المرتد- مع أنه مباح الدم، لأن في قتله افتياتاً على ولي الأمر، ولأن في قتله سبباً للفوضى بين الناس .... ولهذا لا يتولى قتله إلا الإمام أو نائبه" انتهى.
 

الحكم على دور الإسلام بالكفر وإيجاب الجهاد فيها، واستحلال دماء أهلها:

ابتدع التكفيريُّون بدعة تكفير المجتمعات الإسلامية، وسمَّوا ديار الإسلام ديَّار كفر وجاهلية!
ثم هم بعد ذلك يرون أنَّ القول بأنَّ الدار دار كفر مُسَوِّغ لتكفير كلِّ مقيم فيها، ويتضح من كتاباتهم مدى التلازم الكبير بين وصفِ الجاهلية ووصفِ الدار بأنها دار كفر، ووصفِ أهلها بأنهم كفار، فتجد في كتبهم عبارات كثيرة تدل على ذلك، مثل: المجتمع الجاهلي، دار الكفر، تكثير سواد هؤلاء الكفار.
وكانت النتيجة الطبيعية لتكفير أهل الإسلام، والحكم على ديار الإسلام بالكفر: استحلال دماء أهلها، والقول بوجوب الجهاد فيها؛ فأباحوا لأنفسهم القتل، وهتك العرض، وسفك الدماء، ونهب الأموال!
وجَهِلَ هؤلاء أنَّ دار الإسلام لا تتحول إلي دار كفر بمجرَّد ظهور أحكام الكفر فيها، أو بمجرد استيلاء الكفار عليها ما دام سكانها المسلمون يدافعون عن دينهم، بل ما داموا يقيمون بعض الشعائر، وخصوصًا الصلاة.
قال الدسوقي: "إنَّ بلاد الإسلام لا تصير دار حرب بمجرَّد استيلائهم عليها، بل حتى تنقطع إقامة شعائر الإسلام عنها، وأما ما دامت شعائر الإسلام أو غالبها قائمةً فيها؛ فلا تصير دار حرب". حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/188).
 

سيادة السفهاء وحدثاء الأسنان ونبذ العلماء ورميهم بالخيانة:

فقد وصفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهم حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ رواه البخاري (3611)، ومسلم (1066).
أي: صِغَارُ الْأَسْنَانِ، صِغَارُ الْعُقُولِ. فَإِن حَدَاثَة السن مَحل للْفَسَاد عَادَة. شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 169)، حاشية السندي على سنن النسائي (7/ 119).
وقَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " قَدْ عَلِمْتُ مَنْ يُهْلِكُ النَّاسَ، إِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَإِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ، فَاهْتَدَيَا ". رواه الخطيب في نصيحة أهل الحديث (13).
وهذا ما نراه في جماعات الغلو المعاصر، حيث يغيب الراسخون في العلم بل يكونون محلا للتخوين والتبديع والتفسيق بل يرمون بسهام التكفير والردة ويتم تهديد العلماء الراسخين بالقتل، ويسود الغلمان والجهلة وهذه حال مطردة لهم قد روى النسائي أن ابن عباس رضي الله عنهما لما جاء للخوارج قال: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ... وعليهم نزل القرآن فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد.
 

الإفساد في الأرض واستحلال أموال المسلمين وأعراضهم:

فقد وصف ابن كثير قرار علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج وكيف عزم على القتال فقال عن الخوارج: وقدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاءوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى ألا تتقون الله، عز وجل! فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم، خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم ويفعلوا هذا الصنيع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهم، ثم إذا فرغ منهم ساروا معه إلى الشام، والناس آمنون من شرهم، فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضا؛ إذ لو قووا هؤلاء لأفسدوا الأرض كلها عراقا وشاما، ولم يتركوا طفلا ولا طفلة ولا رجلا ولا امرأة؛ لأن الناس عندهم قد فسدوا فسادا لا يصلحهم إلا القتل جملة.
 
ونجد هذه الممارسات في عدة جماعات وتنظيمات اليوم، فيما يعرف بداعش والنُّصرة وبوكو حرام وغيرها، وكما كانت سابقًا في جماعة المسلمين المعروفة بالتكفير والهجرة وغيرها.
ولهذا آثار سيئة وخطيرة في الصد عن سبيل الله وتشويه صورة الدين، أو هتك المحرَّمات وما أمر الله به.
نسأل الله أن يحفظ بلاد المسلمين ومجتمعاتهم من جميع الفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.