الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تكلمنا في الدرس السابق عن الأسباب الموجبة للغسل وهي أربعة: الجنابة، والحيض والنفاس، والموت، وإسلام الكافر، وهذا عند الحنابلة، وبينا أن للجنابة سببان: إنزال المني، والجماع.
وتكلمنا عن الأغسال المستحبة وأنها إجمالًا تنقسم إلى نوعين: أغسال يقصد بها النظافة لاجتماع الناس مثل غسل الجمعة، غسل العيد، الغسل للإحرام، للحج أو العمرة، الاغتسال لدخول مكة، الاغتسال يوم عرفة.
وهناك أغسال شرعت لأسباب ماضية مثل إذا أفاق من الإغماء أو الجنون، وهذه في الأغسال المستحبة، مثل الغسل بعد الحجامة، مثل الاغتسال للمصاب بالعين لكي يسكب الماء على من أصيب، ومن الأغسال المستحبة الغسل لمعاودة الجماع، وكذلك غسل المستحاضة لكل صلاة، لأنه لا يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة لكن يستحب.
ومن الأغسال المستحبة الغسل من غسل الميت، وكذلك اغتسال الكافر إذا أسلم عند الجمهور؛ لأننا قلنا قبل قليل : عند الحنابلة اغتساله واجب، وعند الجمهور اغتساله إذا دخل في الإسلام مستحب، بعد ذكر أسباب الغسل، والمصنّف - رحمه الله - ذكر أسباب الغسل الواجبة، وأضفنا للموضوع وألحقنا به الأغسال المستحبة لتكميل الموضوع.
بقي الآن صفة الغسل وهذه التي ذكرها المصنّف - رحمه الله تعالى -، والاغتسال من الجنابة فرض لا خلاف فيه بين العلماء لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]. يعني: لو قال واحد: ما الدليل على غسل الجنابة؟
نقول: قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]، وتطهر الجنب هو بالغسل كما قال تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]. فنهى عن قربان الصلاة للجنب حتى يغتسل، وصرّح في هذه الآية بالغسل، فتكون هذه الآية تفسير للآية السابقة؛ لأن القرآن يفسّر بعضه بعضًا، فما هي الآية المفسِرة وما هي الآية المفسَرة؟ الآية المفسَرة ذكرناها قبل قليل وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]، لكن ما بينت كيفية التطهُّر، هل هو وضوء، غسل، تيمم؟ ما هي كيفية التطهر، والآية المفسِرة قوله : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]، فالآية المفسِرة حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]، والمفسَرة فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]. وللغسل صفتان: صفة كمال وصفة إجزاء، لما نقول إجزاء يعني لابد منها، ولما نقول كمال معناها فيها زيادات مستحبة، فما اشتمل على الواجب فقط ماذا نسميه إجزاء أم كمال؟ إجزاء، وما اشتمل على الواجب والمسنون بالإضافة يسمى صفة كمال.
بدأ المصنّف - رحمه الله تعالى - في بيان صفة الغسل بذكر صفة الكمال، فقال: "وأما صفة الغسل صفة غسل النبي ﷺ من الجنابة فكان يغسل فرجه أولًا، ثم يتوضأ وضوءًا كاملًا، ثم يحثي الماء على رأسه ثلاثًا يرويه بذلك، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم يغسل رجليه بمحل آخر".
والمصنّف - رحمه الله - أخذ الصفة من الأحاديث، وقد ورد في صفة غسل النبي ﷺ حديثان مشهوران: الأول حديث ميمونة، والثاني حديث عائشة، فإذا سمعت عالماً يقول كما ورد في حديث ميمونة في صفة الغسل، ميمونة لها أحاديث كثيرة لكن في صفة الغسل فيه حديث معين يعرفه العلماء، وإذا قال العالم: كما ورد في حديث عائشة في صفة الغسل، وعائشة لها آلاف الأحاديث مروية، لكن إذا قال العالم: حديث عائشة في صفة الغسل فهو يقصد حديثًا معينًا، فما هو حديث ميمونة؟ وما هو حديث عائشة؟ لأننا متعبدون بالأدلة، نحن الآن نتكلم في مسألة فقهية عملية، عبادة تعبدية، غسل الجنابة، ونريد أن نعرف الأدلة، ونريد أن نعرف ماذا ورد عن النبي ﷺ في المسألة؟ ومعلوم أن المعلومات في مسألة ما لا تعرف إلا إذا جمعت الروايات والأدلة؛ لأنه قد يكون فيه حديث من المعلومات ما لا يكون في حديث آخر، ويكون الراوي نشط لذكر أشياء لم ينشط لذكرها الراوي الآخر، أو الراوي اطلع على أشياء لم يطلع عليها الراوي الآخر، أو الراوي حضر في زمن معين ثم نسخ هذا في رواية الراوي الآخر الذي حضر متأخرًا ونحو ذلك، فإذن، من المهم في هذا الموضوع أن نلم أو نجمع معلومات صفة الغسل من الروايات، في صفة الغسل حديثان مشهوران حديث ميمونة في الغسل، وحديث عائشة في الغسل، وفي كل من الحديثين زيادة على الآخر، عن ميمونة - رضي الله عنها - قالت: أدنيت لرسول الله ﷺ غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه وغسله بشماله.
وفي رواية: "ثم صبّ بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه" يعني من أثر الجنابة، "ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكًا شديدًا، ثم توضأ وضوءه للصلاة" وفي رواية: "غير رجليه"، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه" [رواه البخاري: 281، ومسلم: 317]
وعن عائشة زوج النبي ﷺ"أن النبي ﷺ كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره"، أصول شعره: منابت الشعر، "ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيده ثم يفيض الماء على جلده كله" [رواه البخاري: 248، ومسلم: 316].
وسنذكر صفة الغسل كما وردت في هذه الأحاديث من مجموعها، نأخذ معلومات وترتيب وخطوات الغسل النبوي،
أولًا: غسل اليدين، ففي حديث ميمونة: "فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا، وفي حديث عائشة: "بدأ فغسل يديه"، ففي كلا الحديثين أن غسل اليدين هو أول عمل قام به النبي ﷺ في غسله، وأن غسل اليدين قبل أم غسل الفرج، حسب الروايات غسل اليدين أولًا.
وكذلك في الحديث أن الغسل يكون لكلا اليدين، لكن بعض العلماء ذهب إلى أن الغسل يكون لليد اليمنى فقط وليس لليدين معًا؛ لما رواه مالك في الموطأ عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فأفرغ على يده اليمنى فغسلها، ثم غسل فرجه"، قال الباجي: "ويكفي غسل اليمنى في هذا الموضع على قول أشهب"، أشهب من المالكية، قال: "ليمكنه ذلك من غرف الماء بها"، يعني لماذا اليمنى أولًا؟ لأنه كان هناك غرف، الآن نحن عندنا مروش يصب، لكن من زمان الماء يغرف من إناء، ولا معنى لغسل اليد اليسرى معها، يعني ما دام أن السبب في الغسل غسل اليمنى تناول الماء بها فلا داعي لغسل اليسرى، قال: "لأنه يغسل بها فرجه بعد ذلك فيباشر النجاسة"، يعني أنه ما الفائدة من غسلها وهي ستباشر النجاسة بعد قليل؟ أما اليمنى هناك فائدة من غسلها وهي غرف الماء بها، ولا يباشر شيئًا من ذلك بيمناه، يعني غسل الفرج فلذلك غسلها - يعني اليمنى - ليتناول بها الماء". انتهى كلام الباجي - رحمه الله -. هذا تعليق الباجي على الموطأ على رواية ابن عمر.
وجاء في إحدى روايات حديث ميمونة عند البخاري: "فصبّ على يده فغسلها مرة أو اثنتين، فصبّ على يده فغسلها مرة أو مرتين" [رواه البخاري: 266].
وهذه قد يقول قائل : هذه تؤيد رواية ابن عمر في الموطأ، لكن إذا أخذنا حديث ميمونة وحديث عائشة سنجد غسل اليدين، ونحن نريد أن نجمع الروايات ونرى ماذا قال العلماء، فقلنا : هناك رواية لحديث ميمونة في البخاري أنه صبّ على يده، ربما هذه تؤيد رواية ابن عمر، لكن يُجاب عن هذا بأن حديث عائشة - رضي الله عنها - صريح في أنه ﷺ غسل يديه جميعًا قبل إدخال يده اليمنى في الإناء، هذا كلام ابن رجب في فتح الباري. [فتح الباري لابن رجب: 1/294].
وماذا نفعل برواية صبّ على يده؟ قالوا : كلمة يده مفرد مضاف، مضاف إلى الضمير الهاء، يد أضيفت إلى الهاء، المفرد يد، وهذه الآن يده، فأضيفت اليد إلى الهاء، فإذا أردت أن تعرب الآن تقول: اليد مضاف والهاء مضاف إليه، وقالوا : كلمة يده مفرد مضاف يعم كلا اليدين، وخاصة أن الروايات الأخرى في حديث عائشة وميمونة مصرحة باليدين، ولو صار تعارض بين حديث ميمونة الذي رواه البخاري ومسلم وحديث عائشة الذي رواه البخاري ومسلم مع حديث ابن عمر في غسله هو، القصة قصة ابن عمر عن نفسه، رواية ميمونة عن النبي ﷺ رواية عائشة عن النبي ﷺ لو حصل تعارض لا يمكن حلّه، نرجّح ما في الصحيحين من رواية ميمونة ورواية عائشة من أنه غسل يديه إذن، هذا هو الراجح، هم قالوا : يده مفرد مضاف ويُحمل على اليدين، وأيًا ما كان الأمر فالراجح هو غسل اليدين.
ثانيًا: بعد غسل اليدين غسل الفرج، فيُستحب للمسلم بعد أن يغسل يديه أن يغسل فرجه وما أصابه من أذى، سواء كان هذا الأذى نجسًا كالمذي أو طاهرًا كالمني، كما في حديث ميمونة: "ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه وغسله بشماله"، إذن، هو أخذ الماء باليمين فصبّه على الفرج ثم غسل يعني دلك بالشمال، فإذن، غسل العورة يكون بالشمال، وهذا من الأدلة، ولما جاء في الأحاديث الأخرى من النهي عن مس الفرج باليمين، السؤال الآن : لو لم يكن على فرجه أذى، لا أثر مذي ولا أثر مني ولا بول، فهل يُستحب له غسله إذا بدأ الاغتسال؟
فقيل: إن لم يكن عليه أثر من ذلك فلا داعي لغسله، وقيل: إن غسل الفرج سنّة مطلقة، سواء كان عليه أذى أم لا.
ثالثًا: تنظيف اليد الشمال، الآن هذه خطوات، أخذ الماء باليمنى أو غسل اليمنى، أخذ الماء باليمنى وغسل العورة باليسرى وتنظيف اليد اليسرى.
الخطوة الرابعة: فإذا فرغ من غسل فرجه بيده الشمال يقوم بتنظيفها كما ورد في حديث ميمونة: ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكًا شديدًا، قال الإمام النووي - رحمه الله -: "فيه أنه يُستحب للمستنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يده بتراب أو أشنان" [شرح النووي على مسلم: 3/231]. الأشنان يقابله الصابون الذي عندنا اليوم أو يدلكها بالتراب أو بالحائط لأن الحائط كان من طين ترابي، قال: ليذهب الاستقذار منها، هذا في شرح صحيح مسلم، إذًا هنا سنة، ممكن نقول : من السنن المجهولة أو المهجورة التي هي تنظيف اليد الشمال بعد غسل الفرج بها بشيء زائد عن الماء من صابون تراب؛ لأن دلكها بالتراب، التراب منظف من المنظفات القوية يعني حتى لو أن الإنسان في صحراء وأكل وأصابه دسم وأراد أن يغسل وما في صابون، بالتراب يزيل لأنه يزيل ينظف، إذًا هذه من السنن المجهولة أو المهجورة عند الكثيرين.
بعد ذلك الخطوة التي تليها الوضوء؛ لأنه ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها -: "ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، وهذا يفيد أن وضوءه كوضوء الصلاة تمامًا بما فيه غسل الرجلين"، لكن جاء في حديث ميمونة أنه لم يغسل رجليه في هذا الوضوء الذي هو قبل تعميم الجسم بالماء وذلك في قولها: ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ومن هنا اختلف العلماء فمنهم من استحبّ غسل الرجلين مع الوضوء كما في حديث عائشة، ومنهم من استحبّ تأخير غسل الرجلين إلى النهاية كما في حديث ميمونة، ومنهم من قال بالتخيير، قال : ما دام ثبت هذا وثبت هذا معناها أنه مخير، أو يقال : إن النبي ﷺ فعل هذا تارة، وفعل هذا تارة، فإذا أردت أن تأتي بالسنة فافعل أنت هذا تارة، وافعل هذا تارة، وذهب الجمهور إلى استحباب تأخير الرجلين في الغسل، وعن مالك : إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم، فلو كان المكان الذي يغتسل فيه يصيب القدمين فيه أشياء فتكون المصلحة تأخير غسل القدمين وإن كان المكان نظيفًا فالتقديم أولى هذا رأي من؟ قال بعض العلماء بهذه المراعاة منهم مالك - رحمه الله - لهذا السبب قال مالك : إذا كان المكان نظيفًا فالمستحب التقديم، وعند الشافعية يكمل وضوءه يعني يتمه بغسل الرجلين كما في فتح الباري، ومن قال بتأخير غسل القدمين يتأول حديث عائشة على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره وهو ما سوى الرجلين، ومن قال بالتكرار؛ لأن بعضهم قال : لماذا ما نجمع بين الحديثين؟ أن يغسل الرجلين في الوضوء، ويغسلهما مرة أخرى بعد الغسل، بعد الانتهاء يغسل رجليه، هو مغادر المكان، فبعض العلماء قال بالتكرار، قال : كمال الوضوء كان الغالب والعادة المعروفة له ﷺ أنه إذا توضأ توضأ وضوءًا تامًا يعني أكمله إلى النهاية، وكان يعيد غسل القدمين بعد الفراغ لإزالة الطين لا لأجل الجنابة، فتكون الرجل مغسولة مرتين، ومن قال بتقديم غسلهما قال : هذا هو الأكمل والأفضل، فكان - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليه، وأما رواية البخاري عن ميمونة فجرى ذلك مرة أو نحوها لبيان الجواز أو لوجود عذر، وقالوا : حديث عائشة حكاية عن فعل النبي ﷺ الدائم في غسله للجنابة، وأما ميمونة التي روت تأخير غسل رجليه فإنها حكت غسله في واقعة عين، يعني عائشة حكت الدائم، وميمونة حكت النادر أو مرة من المرات فعل ذلك" فتح الباري لابن رجب، واختار من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - أن الأفضل أن يغسل رجليه مع الوضوء إلا من عذر، قال في الشرح الممتع: "والظاهر لي أنه يغسل قدمية في مكان آخر عند الحاجة، كما لو كانت الأرض طينًا؛ لأنه لو لم يغسلهما لتلوثت رجلاه بالطين، والقول بالتخيير يترتب عليه أنه يغسل قدميه مع الوضوء أو أن يؤخر غسل القدمين حتى يفرغ من غسله لثبوت الأمرين عن النبي ﷺ، وهذا منقول عن الإمام أحمد - رحمه الله -" [الشرح الممتع على زاد المستقنع: 1/361]. قال ابن رجب: "ونصّ أحمد في روايته جماعة على أنه مخير بين تكميل الوضوء أولًا وبين تأخير غسل الرجلين إلى أن يكمل الغسل" [فتح الباري لابن رجب: 1/240].
ولعله ذهب إلى أن اختلاف الأحاديث فيه يدل على أن موضع الغسل ليس بمقصود وإنما المقصود أصل الغسل" [المغني لابن قدامة: 1/160].
وقال شيخ الإسلام: "وهو مخير بين أن يتوضأ وضوءًا كاملًا كما في حديث عائشة أو يؤخّر غسل رجليه كما في حديث ميمونة" [شرح عمدة الفقه لابن تيمية: 1/371].
وخلاصة الأقوال: منهم من رجّح حديث عائشة أنه يتم الوضوء بغسل القدمين، ومنهم من قال : هو مخير يفعل هذا إن شاء وهذا إن شاء، ومنهم من قال : يفعل هذا تارة وهذا تارة، ومنهم من قال : إذا دعت الحاجة لغسل القدمين كما لو كان المكان طينًا فيؤخر غسل القدمين، وإذا ما دعت الحاجة يقدم غسل القدمين، ومنهم من قال : نجمع بين الأمرين فيغسل في الأول ويغسل في الأخير، فأكثر العلماء ذهبوا إلى استحباب تأخير غسل الرجلين في الغسل، والمسألة واسعة ولا فيها حرج أبدًا، قدمت، أخرت، كررت، فعلت هذا تارة، وهذا تارة، لا حرج.
والمسألة التي تليها، هل يتوضأ مرة مرة أو ثلاثًا؟ يعني يتوضأ وضوءه للصلاة في أول الغسل هل هو وضوء خفيف مرة مرة أو ثلاثًا ثلاثًا؟ ظاهر الأحاديث أنه يغسل الأعضاء ثلاثًا كما هو الحال في الوضوء، وهذا قول جمهور العلماء، قالوا : وضوء كامل ثلاث مرات، وقيل : لا يشرع التثليث في وضوء الغسل وهو قول المالكية، قال الحافظ ابن حجر: وقال القاضي عياض : لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار، قال ابن حجر معلقًا على كلام القاضي عياض أنه ما ورد : " قلت: بل ورد ذلك من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله ﷺ من الجنابة الحديث وفيه ثم يتمضمض ثلاثًا ويستنشق ثلاثًا ويغسل وجهه ثلاثًا ويديه ثلاثًا ثم يفيض على رأسه ثلاثًا". [فتح الباري لابن حجر: 1/361].
لكن هذه الرواية ذكر بعضهم أن فيها نظرًا، وأن روايات حديثي عائشة وميمونة في الصحيحين ليس فيها التثليث إلا الكفين والرأس، قال ابن رجب: "فأما القول باستحباب تثليث الوضوء قبل غسل الجنابة فقد نص عليه سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وأصحابنا، ولم ينص أحمد إلا على تثليث غسل الكفين ثلاثًا، وعلى تثليث صب الماء على الرأس، [فتح الباري لابن رجب: 1/238].
فإذن، قال بعضهم : هذا الوضوء وضوء مخفف؛ لأن المسألة فيها غسل وليس وضوء فقط، وبما أنه ما وردت التثليث في الروايات القوية، أو الروايات الأقوى، الروايات الأقوى رواية ميمونة وعائشة، ما دام ما ورد التثليث إلا في غسل اليدين، وفي غسل الرأس أنه أهال الماء على رأسه ثلاثًا، إذن، نحن نجعله وضوءًا خفيفًا مرة، ونجعل الثلاث لليدين والرأس كما ورد، حيث أن هذا وضوء خفيف؛ لأنه داخل أو لأنه جزء من الغسل، وماذا ينوي بهذا الوضوء؟ إذا قلنا : غسل الجنابة فالوضوء وحده لا يكفي، وهذا الوضوء في أول غسل الجنابة والنية فيه هل ينوي به رفع الحدث الأصغر، أو ينوي به الغسل من الجنابة، أم ماذا؟ قال بعض العلماء ينوي به رفع الحدث الأصغر، ومن العلماء من قال : هذا الوضوء جزء من غسل الجنابة، وإنما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في غسله بغسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها، يعني الآن مقصوده غسل الجسم، ولماذا توضأ؟ تقديمًا لأعضاء الوضوء تشريفًا لها، لا لرفع الحدث الأصغر، قال في شرح مختصر خليل: "وإطلاق الوضوء على غسل أعضائه في الطهارة الكبرى مجاز لا شك فيه، إذ هو صورة وضوء وهو في الحقيقة جزء من الغسل الأكبر"، [شرح مختصر خليل للخرشي: 1/176].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويدل على ذلك قول النبي ﷺ لأم عطية واللواتي غسلن ابنته لما ماتت - رضي الله عنها - قال: اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ، فالآن العملية عملية غسل ميت، قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها إذن، تشريفًا لمواضع الوضوء يبدأ بها وتكريمًا لمواضع الوضوء يبدأ بها في الغسل وإلا العملية عملية غسل وليست عملية وضوء حقيقي، وقال شيخ الإسلام: "الجنب والحائض لا ينويان وضوءًا" يعني: في الوضوء الذي هو في مقدمة الغسل، بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى" [مجموع الفتاوى: 21/397].
قال ابن حجر: "وإنما قدّم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى".[فتح الباري لابن حجر: 1/360].
إذن، انتهينا إلى أن الوضوء هذا وضوء مخفف، والتثليث فيه في غسل اليدين والرأس، وأن النية نية غسل وليست نية وضوء؛ لأنه الآن جنابة ما ترفع بالوضوء، وإذا نسي الوضوء في أول الغسل فهل يتوضأ بعد الغسل؟ واحد داخل متحمّس على الحنفية فتح الماء وكبّ الماء وما تذكر إلا بعد ما انتهى أو في أثناء الغسل، يعني ليس كل من يدخل يستحضر السنة، والسنة من يحرص عليها إلا الذي يريد، أو المستحضر للموضوع الذي عنده اهتمام، وأحيانًا يكون الواحد مستعجل، واحد ذاهب الدوام، واحد ذاهب الصلاة، واحد ذاهب مستعجل، واحد تذكر أثناء الغسل أنه ما توضأ فهل يتوضأ في أثناء الغسل أو بعد الغسل أو ماذا؟ قال ابن رجب - رحمه الله -: "وأما إن نسي الوضوء قبل الغسل فإنه يتوضأ بعد الغسل" نص عليه أحمد ومالك وغير واحد، وأصل هذا أن الجمع بين الوضوء والغسل هو السنة عند الجمهور، لكن الأفضل أن يتوضأ قبل الغسل ثم يغتسل" [فتح الباري لابن رجب: 1/245].
وقال النووي: "وتحصيل الفضيلة بالوضوء قبل الغسل أو بعده، وإذا توضأ أولًا لا يأتي به ثانيًا، فقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب وضوءان؛ لأن بعض الناس ممكن يكون فيه وسوسة فيجيب الوضوء في الأول ويتوضأ في وسط الغسل ويتوضأ في آخر الغسل، وهذا إسراف وإضاعة للماء ووسوسة ومخالفة للشرع" [شرح النووي على مسلم: 3/229].
يعني الشرع ما ورد بثلاث وضوءات ولا بوضوءين إلا إذا دعا سبب لذلك كأن يتوضأ ويغتسل ثم يخرج منه ريح مثلًا، فالآن إذا توضأ مرة أخرى فله وجه، فإذن، لو توضأ واغتسل وقبل التنشيف وبعد التنشيف خرج منه ريح، فهنا وضوءه لابد منه في رفع الحدث الأصغر الذي حصل بخروج الريح، وهذا ما هو وسوسة ولا إضاعة ماء ولا إسراف، هذا يوجد سبب الآن لإعادة الوضوء، أما أن يعيد الوضوء في الغسل مرتين أو ثلاث أو أكثر فهذه وسوسة، ومن العلماء من قال : لا يتوضأ بعد الغسل، إذن عندنا قولان :
القول الأول : إذا نسي في أول الغسل يتوضأ بعد الغسل، ونصّ عليه أحمد ومالك وغير واحد.
القول الثاني : من العلماء من قال : لا يتوضأ بعد الغسل.
ولكن العلماء مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل تأسيًا برسول الله ﷺ في ذلك، ويحتمل أن يكون قدّم الوضوء قبل الغسل لفضل أعضاء الوضوء وتشريفًا لها كما قلنا أو لغير ذلك، وأما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له عند العلماء، وقد روى نافع عن ابن عمر أنه سئل عن الوضوء بعد الغسل فقال: "وأيُّ وضوء أعم من الغسل؟" [رواه الطبراني في الكبير: 13377، وعبد الرزاق الصنعاني: 1042، وابن أبي شيبة في مصنّفه: 743، وصححه الألباني في السلسلة: 10/292].
إذن، المسألة فيها قولان:
القول الأول : يغتسل في آخر الغسل الذي نسي.
القول الثاني : سنة فات موضعها، وأي وضوء أعم من الغسل.
فالذي رأى أنه ما فات موضعها، وأن السُّنة هو الجمع بينهما يقول : ما فات، الذي رأى أن السنة فقط التقديم يقول : فات، فالمسألة إذن هي هل فات موضعها أم لا؟ فإذا قلنا : ليست السنة فقط تقديم الوضوء على الغسل، السنة الجمع بينهما، فنقول : ما فات وبذلك إذا نسي قبل يتوضأ بعد.
سادسًا: من الخطوات غسل الرأس وتخليله وقد جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها -: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفّه"، وفي لفظ: "ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه" جاء في لفظ: "ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه"، وفي لفظ آخر: "ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ، وكيف يستبرئ؟ يعني يتأكد من دخول الماء خلل الشعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات"، وهذه الروايات تدل على وجود سنتين في الرأس وهما التخليل والغسل، فالتخليل يدل عليه قولها - رضي الله عنها -: ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ الحديث، وهذا التخليل من السنن أيضًا المجهولة والمهجورة عند الكثيرين، لأن بعضهم ربما يدلك الشعر لكن لا يخلل، والسنة وردت بالتخليل، التخليل إدخال الأصابع خلال الشعر، إذا جاء واحد قال : يماء المروش يقوم بهذا الدور، وأن الماء ينزل بنوع من القوة التي تجعل الماء يتخلل الشعر، وقد حصل المقصود بهذا، وأن بعض هذه الرشاشات التي ترش الماء ولو قربها من رأسه أدخل الماء خلال الشعر وزيادة، فنقول : حصل المقصود من جهة التروية، يعني تروية الشعر بالماء وصل إلى شئون الرأس، وأصول الشعر على الرأس وصل الماء إليها، لكن تبقى السنة بالتخليل، وإذا كان المقصود إدخال الماء إلى الداخل حصل بالمروش، نعم حصل؛ لأنه إذا كان خلل بأصابع يديه فمعنى ذلك أنه هو سكب الماء أولًا ثم خلل، أخذ ماء بأصابع اليدين المبتلتين وخلل الشعر، والروايات نصها : "ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره" في الرواية الأخرى : "ثم يدخل الماء ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر" يأخذ ماء ويدخل خلال الشعر، الآن هذا التخليل عرفناه، في غسل الرأس سنتان : التخليل والغسل، ويدل عليه قولها : ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه وفي الرواية الأخرى: "حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات"، ما معنى حتى إذا رأى أن قد استبرأ؟ أي أوصل البلل إلى جميع الشعر، فالحديث إذًا يدل على أن النبي ﷺ كان قبل أن يفيض الماء على رأسه ثلاثًا يخلل شعره بيديه بالماء، والنبي ﷺ كيف كانت هيئة شعره؟ كان غزير الشعر ﷺ والحديث يدل على أن النبي ﷺ كان قبل أن يفيض الماء على رأسه ثلاثًا يخلل شعره بيديه بالماء، حتى يظن أنه قد أروى بشرته، وهذا مما ذكر في حديث عائشة دون حديث ميمونة، قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: "فيندب للمغتسل أن يغرف غرفة يخلل بها أصول شعره ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات"، [شرح النووي على مسلم: 3/ 228]. نحن الآن نقول : تغير الوضع، وما عاد يوجد حفنات، ولا في أخذ الماء من الإناء، وفيه مراوش، والماء ينزل بغزارة، لكن هذا وضع لا يستمر دائمًا، اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم، ولو نظرت إلى حال إخواننا في الشام، الآن في كثير من المناطق هل ترى أنه بقيت لهم مراوش؟ وقد هدمت بيوتهم، وبعضهم هرب إلى الجبال والكهوف وبين الأشجار، فالآن بالكاد يجد ماء يغتسل به وموضوع الحفنات عادت إلى ناس كانوا متعودين على المراوش، لكن الآن ما لهم إلا الآنية، إذا وجدوا يأخذون باقتصاد فتعود قضية الأخذ والحفنات وتبليل الأصابع وتروية إدخالها في خلل الشعر، ما هو على كل حال أن هذا الترفه وهذا التنعم يدوم بحيث يقول الإنسان : الآن ما نحتاج، ما يدري قد يحتاج، نسأل الله أن يلطف بإخواننا وأن لا يزيل النعمة عنا.
قال ابن رجب - رحمه الله -: "فكان التخليل أولًا لغسل بشرة الرأس وصبّ الماء ثلاثًا بعده لغسل الشعر"، إذن، التخليل الأول لغسل البشرة، وصب الماء لغسل الشعر، قال: هذا هو الذي يدل عليه مجموع ألفاظ هذا الحديث، قال: وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة ثابتة عن النبي ﷺ لم ينتبه لها أكثر الفقهاء مع توسعهم للقول في سنن الغسل وآدابه، ولم أر من صرّح به منهم إلا صاحب المغني من أصحابنا، وكذلك ذكره صاحب المهذب من الشافعية الشيرازي - رحمه الله -" هذا كلام ابن رجب في فتح الباري. [فتح الباري لابن رجب: 1/311].
قال ابن قدامة: "ويستحب أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه" [المغني لابن قدامة: 1/160].
يعني لو واحد قال : أنا أريد أن أطبق سنة التخليل، والآن هناك سنة التخليل، وهناك سنة الغسل أيهما أولًا؟
التخليل، فيخلل شعره بالماء ولحيته، ثم يفيض الماء للغسل على الشعر، قال ابن بطّال - رحمه الله- : "أما تخليل شعر الرأس في غسل الجنابة فالعلماء مجمعون عليه، وعليه قاسوا شعر اللحية، يعني لو واحد قال: وشعر اللحية ما علاقته؟
نقول: أدخله القياس، قال: لأنه شعر مثله فحكمه حكمه في التخليل"، انتهى.
وأما غسل الرأس فإنه يكون بثلاث غرفات، الغرفة بكلا الكفين، وقد روى مسلم - رحمه الله - عن جبير بن مطعم قال: تماروا في الغسل عند رسول الله ﷺ فقال بعض القوم: أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله ﷺ: أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف [رواه البخاري: 327] يعني جمع كف، قال النووي: المراد ثلاث حفنات كل واحدة منهن ملء الكفين جميعًا.
وعند البخاري: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا وأشار بيديه كلتيهما، فإذا قلت : في أول الغسل، وغسل اليمنى وأخذ بكف واحدة في الأول، لكن الآن في غسل الرأس، طريقة غسل الرأس أن يأخذ الماء بكفيه ويسكبها على رأسه، وعند البخاري: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا وأشار بيديه كلتيهما، وقال أبو جعفر وهو الباقر، أبو جعفر الباقر من أئمة أهل السنة، ادعاه الرافضة لأنفسهم زورًا وبهتانًا، وعدّوه من أئمتهم الاثني عشر، اعتقدوا فيه الغلو، والعصمة، وعلم الغيب، وأن كلامه تشريع، وينسخ القرآن، إلى آخر الأباطيل التي هم عليها، لكن أبا جعفر الباقر - رحمه الله - من أئمة أهل السنة بلا ريب، قال أبو جعفر المعروف بالباقر - لقب بالباقر؛ لأنه بقر العلم فدخل فيه وتبحّر: " قال لي جابر بن عبد الله: أتاني ابن عمك، من هو ابن عم أبي جعفر الباقر؟ يقصد الحسن بن محمد بن الحنفية، قال: كيف الغسل من الجنابة؟ هذا يدل على أن آل البيت يسألون عما لا يعلمون مثلهم مثل غيرهم، أما يقال : والله آل البيت يعلمون العلم كله وكذا لدني من الله، يعني بدون تعلّم مثل باقي البشر، هذا غلو، ولذلك هل ترى أن مبتدعًا باطنيًا من الغلاة يمكن أن يقول : جاء الفقيه من آل البيت، أو أحد الأئمة الاثني عشر وسأل لا يمكن، قال أبو جعفر الباقر - رحمه الله -: قال لي جابر بن عبد الله الصحابي : أتاني ابن عمك الحسن محمد بن الحنفية، قال : كيف الغسل من الجنابة؟ فقلت: كان النبي ﷺ يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه ثم يفيض على سائر جسده، فقال لي الحسن يعني ابن محمد بن الحنفية: أني رجل كثير الشعر، فقلت: كان النبي ﷺ أكثر شعرًا منك، رواه البخاري. قال أبو العباس القرطبي: "ولا يفهم من هذه الثلاث حفنات أنه غسل رأسه ثلاث مرات، لأن التكرار في الغسل غير مشروع لما في ذلك من المشقة وإنما كان ذلك العدد لأنه بدأ بجانب رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم على وسط رأسه كما جاء في حديث عائشة" [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 1/576].
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، والحلاب: إناء يتسع لقدر حلب ناقة، ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها – قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفه بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه، قال ابن حجر: "وقوله بكفّه وقع في رواية الكشميهني بكفيه بالتثنية" [فتح الباري لابن حجر: 1/371]. والكشميهني من رواة البخاري. ولفظ البخاري: "فقال بهما على وسط رأسه" [رواه البخاري: 258].
واختار ابن رجب أنه كان يعم رأسه في كل مرة؛ لأن السؤال الآن هل الثلاث أكف هذه، الثلاث حفنات هذه كلها، كل واحدة على كل الرأس أو واحدة على اليمين واحدة على الشمال واحدة على الوسط؟ اختار ابن رجب أنه كان يعم رأسه في كل مرة، فقال: "والظاهر والله أعلم أنه كان يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى، وقد زعم بعضهم، أنه لم يكن يعم رأسه بكل مرة، بل كان يفرغ واحدة على شقه الأيمن كلها، ثم يفرغ الثانية على شقه الأيسر كلها، ويجعل الثالثة للوسط من غير تعميم للرأس لكل واحدة، هكذا ذكره القرطبي وغيره ممن لا يستحب التثليث في الغسل، قال ابن رجب: "وهو خلاف الظاهر" [فتح الباري لابن رجب: 1/259]. يعني: الظاهر إذا غسل رأسه بثلاث حفنات كل حفنة كانت تغسل الرأس كله، ولعل القرطبي - رحمه الله - ذهب إلى ما ذهب إليه بسبب أنه لا يستحب التثليث ثلاثًا كما ذكر ابن رجب عنه في هذا الموضع أنه ما يستحب التثليث، وممكن أيضًا يكون من الأسباب أن الغرفة الواحدة لا تستوعب غسل كل الرأس إذا كان الشعر غزيرًا يعني، وظاهر حديث عائشة قد يؤيد هذا، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يفيض على رأسه ثلاثًا حثية على شقه الأيمن وحثية على شقه الأيسر وحثية على الوسط"، [شرح العمدة لابن تيمية: 372].
بقي عندنا الآن نقض شعر المرأة هل يجب على المرأة أن تنقض ضفائرها؟ وعندنا ما تبقى في قضية غسل الجسد ثم غسل الرجلين ثم بعض الآداب في الغسل، فنكتفي بهذا القدر ونتابع إن شاء الله في الأسبوع القادم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.