مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهمية النصيحة والتناصح في الإسلام
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن من أخلاق العقلاء وأهل الفضل التواصي والتناصح فيما بينهم فيما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة، وإن بذل النصيحة عبادة عظيمة، كيف وقد قال ﷺ مبيناً أهميتها : الدين النصيحة [رواه مسلم: 55].
فمن هو أخلص من تنصح له يا عبد الله؟ ومن هو أخلص من تنصحين له يا أمة الله؟
إن الولد عزيز، ذكرًا كان أم أنثى، وإن بذل النصيحة للولد من التربية التي أمر الله بها، ومن الوصية التي حثّ الله عليها، ومن سَنن الأنبياء الذين مضوا، ومن دأب الصالحين الذين خَلوا والذين بقوا، كونه يوجد أب حكيم وأم حكيمة تنصح، والله إنها نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها من الأبناء والبنات.
والتواصي مطلوب بين الأخ وأخيه والابن وابنه والزوج وزوجته، بل الوصية بين كل الناس ينبغي أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أحوج الناس للنصيحة؛ وخصوصاً الأبناء والبنات؛ لأن شفقة الأب والأم على الولد تفرض بيان الخير له وتحذيره من الشر، وخير ما يهدي الآباء والأمهات للأبناء والبنات النصائح النافعات والأدب الحسن والحكم البليغة، وهذه سنة ماضية في البشرية في الصالحين منهم، ولها أثر كبير في النفوس لأن الولد لا زال يقول: لازلت أذكر نصيحة أبي، لا تزال كلماته في أذني، وهي كذلك تقول البنت: - رحمه الله -، كان يمحضني النصح ويهتم به وكذلك كانت أمي - رحمها الله - كثيرًا ما أوصتني بكذا، هذه العملية التربوية مع الأسف الآن صارت تقل، وصار هناك تفريط ونادر ما تجد الابن أو البنت يذكر نصيحة من أبويه أو من أحدهما لماذا؟ مع أنها جدُّ مؤثرة، وقد زخرت كتب التاريخ والسيرة والأدب بعد الكتاب والسنة بالنصائح الجامعة، والخلال النافعة، والمبادئ العظيمة، والوصايا الذهبية ومنها كانت وصايا على قلة مبانيها، لكن جليلة معانيها، والكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وهذه الوصايا هي من نوع الوقاية والتحصين، كما قال الله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6]، ومعنى ذلك: علّموهم وأدّبوهم، والنصيحة من هذا، وما نحل والدٌ ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن.
يقول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أدّب ابنك، فإنك مسؤول عن والدك ماذا أدّبته؟ وماذا علّمته؟ وإنه مسؤول عن برّك وطواعيته لك" [رواه البيهقي في الشعب: 8295].
أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع، وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلّة أدبه شقاوته وبواره، ما استُجلب خير الدين والدنيا بمثل الأدب، وهذه الوصايا من الآباء والأمهات إلى الأبناء والبنات تشتد الحاجة إليها؛ خصوصاً عند الانتقال من حال إلى حال، ولذلك كثرت وصايا الصالحين لأولادهم عند البلوغ، وكثرت وصايا الصالحين لأولادهم عند الزواج، وكثرت وصايا الصالحين لأولادهم عند السفر، وهكذا من تغير الأحوال، إذن، تغير الأحوال هذا وقت مناسب جدا للوصية؛ لأنه سينتقل من مرحلة إلى مرحلة، انتقل من الطفولة إلى الرجولة بالبلوغ، انتقل من الدراسة إلى الوظيفة، انتقل من العزوبية إلى الزواج، وهكذا.
وصايا الأنبياء عليهم السلام لأبنائهم
وقد قصّ الله تعالى علينا في القرآن نماذج من هذا؛ ومنها: وصية إبراهيم ويعقوب - عليهما السلام - لأبنائهما، قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة: 132]، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة: 133].
فكانت تلك الوصية العظيمة من إبراهيم لأبنائه، ومن يعقوب لأبنائه بالإسلام والاستقامة عليه والاستمرار إلى الممات، والتأكد أنهم فهموا الوصية، والسؤال: مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي إنها مسألة التوحيد والوحدانية، إنها مسألة العبودية والإخلاص، إنها مسألة حُسْن الوجه والقصد نحو الرب ، إنها مسألة الاستسلام للعزيز العلام، فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ استقيموا واثبتوا واستمروا فملّة إبراهيم الإسلام الخالص، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ [الحج: 78]، جعلها إبراهيم وصيتها في ذريته ووصى بها بنيه، وكذلك يعقوب، إذن، الأب يوصي الابن، والابن لما يكبر ويصبح أباً يوصي الأبناء أيضاً، لكن هذه الوصية قد تكررت، هذه الوصية حصلت في لحظة حرجة جداً؛ ألا وهي حضور الموت، جعلها إبراهيم وصيته في ذريته، وجعلها يعقوب وصيته في ذريته، فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ كررت في لحظة الموت والاحتضار، هذا الذي كان يشغل الأنبياء في تلك الساعة، ما الذي أشغل خواطرهم؟ وما الذي جعلهم يهتمون بنقل ماذا في اللحظات الأخيرة؟ وما هو الأمر الجلل الذي كانوا يريدون الاستيثاق منهم والاطمئنان إليه؟ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ .
وصية لقمان الحكيم لابنه
كذلك ذكر القرآن لنا وصية لقمان الحكيم - رحمه الله -، لقمان الحكيم لابنه، ما أعز الولد، ما أغلى الولد، ما أحنّ الأب على الولد، فخصّه بهذه النصائح العظيمة الدالة على أنه اجتهد وبالغ في محض النصح للولد، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ فهذه وصية نابعة من حكيم، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ إذن، كان في حال موعظة قد هيأ الولد لها؛ لأن الآن الكلام الذي سيقال مطلوب أن يكون له أثر في النفس، موعظة، وليست كلاماً نظريًا أو كلام جرائد، موعظة، يعني خرجت من قلب الأب، هذا تهيأ لها واستعد، يمكن الواحد أحياناً يتوضأ ويصلي ركعتين ويقبل على الله ويسأل ربه أن ينفع بكلامه، ويختار الوقت المناسب في نشاطه وحضور ذهنه وتهيؤه للكلام، وأنه فيه مقبل على الله ويرجو منه يستمد منه العون والتوفيق أن تكون كلماته مؤثرة في الولد ويحضّر الولد نفسيًا للسماع، وأنه سيلقي إليه بكلام مهم ونحو ذلك؛ حتى يكون الكلام له وقع، ليست هكذا كذا، لا، هذه فيها تحضير وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ فنهاه عن أعظم منكر في العالم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ومقتضى هذا النهي عن الشيء أمر بضده، فإذا نهاه عن الشرك فقد أمره بالتوحيد، وهذا بيّن في الكلام الذي يليه، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أينما كانت هذه الحبة الصغيرة لو كانت في صخرة داخل صخرة في السماوات في الأرض فإن الله يأتي بها، إذن، هو يعظ ولده، الآن في رقابة الله، وعلم الله، وإحاطة الله، وقدرة الله، حبة الخردل أصغر الأشياء وأحقرها، لو كانت في وسط صخرة، أو في جهة من جهات السماوات والأرض يأت بها الله ويحضرها يوم القيامة عندما تُنصب الموازين ويُجمع الخلق للحساب، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في صخرة صماء أو غائبة في أرجاء الأرض والسماء، يأتي بها الله، إذن، لا تخفى عليه خافية، فخفهُ، لا تخفى عليه خافية فخفه يا ولدي، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فكن معه أينما ذهبت بالطول والعرض، الحث على مراقبة الله، العمل بطاعتهن الترهيب من القبيح، ثم أمره بفرائض الله، يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * [لقمان: 17 - 19].
إذن، تصحيح العقيدة تمتين العقيدة، تثبيت العقيدة، يليه الأمر بالعبادة والحرص على الشعائر، أَقِمِ الصَّلَاةَ ما قال صلّ، أَقِمِ الصَّلَاةَ كلمة: أَقِمِ هذه فيها أشياء من تحصيل الشروط والأركان والواجبات والسنن، ثم عندما يقوم الإنسان بحق ربه عليه ويصلح نفسه هو بالصلاة يتجه لإصلاح غيره، يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ لأنه عليك مسؤولية تجاه الآخرين وليست فقط مسؤوليتك تجاه نفسك، إنك تبدأ بنفسك نعم، أَقِمِ الصَّلَاةَ لكن بعد ذلك تنتقل للقيام بالواجبات تجاه الآخرين؛ لأن الله كلّفك بنفسك وكلّفك بدعوة الناس، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تربية الولد على الإصلاح، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيكون من ورائه أذى في بعض الأحيان، مع بعض الأشخاص، فلا بد من الصبر، إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ والدعوة؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى حكمة، وتحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى علم، وتحتاج إلى أخلاق، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ انظر الأخلاق، أنت تأمر وتنهى لكن لازم يكون عندك أخلاق حتى يُقبل منك، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إذن، لا تمل الخد ولا تعبس بوجهك للناس ولا تقطب في وجوههم ولا تتكبر عليهم، ولا تتعاظم، ولا تمش في الأرض بطرًا وفخرًا ناسيًا من أنعم عليك معجبًا بنفسك، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ في نفسه وهيأته فخور بقوله على الآخرين، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ لما نهاه عن الفعل السيئ أمره بالفعل الحسن، هناك: ولا... ولا، وهناك: وافعل كذا، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ متواضعًا مستكينًا لا مشية بطر ولا تكبر ولا مشية تماوت وكسل وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أدبًا مع الناس بعد الأدب مع الله، إن أنكر الأصوات وأفظعها وأبشعها لصوت الحمير، فلو كان في رفع الصوت فائدة ومصلحة، لما اختص به الحمار الذي عُلمت خسّته وبلادته، هذه وصية تجمع الجوامع، أمره بأصل الدين التوحيد، ونهاه عن ضده وهو الشرك، وبين له الموجب لترك ذلك، وإن الله يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، وأمره بمراقبته وخوف القدوم عليه، والمرجع إلى الله، والحساب الحساب، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أتى بها، ونهاه عن التكبُّر، وأمره بالتواضع، وأمره بإقامة شعائر الدين ومنها: الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء عظيم يوصى به الأولاد، وليست هذه قضية محصورة في فئة من الناس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الجميع حتى الأولاد في الصغر يوصون بذلك.
نجد في السنة أيضاً وصية نوح لولده، عن عبد الله بن عمرو قال: "كنا عند رسول الله ﷺ فقال: إن نبي الله نوحًا ﷺ لما حضرته الوفاة قال لابنه: "إني قاصٌ عليك الوصية" وابنه منهم كافر ومنهم مؤمن، والكافر أهلكه الله، فهذه الوصية بالتأكيد كانت للمؤمن، لما حضرت نوحًا الوفاة بعد ألف سنة من الصبر والمصابرة والجهاد، جهاد الكفار بالحجة والبيان، وبعد المشاهد العظيمة التي رآها مع المؤمنين في إغراق الأرض كلها وكيف حصلت النجاة بعد كل هذا المسلسل الطويل، لما حضرت نوحًا الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين آمرك بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يُرزق الخلق وأنهاك عن الشرك والكبر والحديث أخرجه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد وصحح إسناده ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية [رواه أحمد: 6583، والبخاري في الأدب المفرد: 548، وصحح إسناده ابن كثير في البداية والنهاية: 1/136].
انظر تعليم الولد الأذكار ولا إله إلا الله هذه كم هي عظيمة، وسبحان الله وبحمده كم هي عظيمة والشرك والكبر كم هما قبيحان.
ولو مضينا سنتعرض وصايا أيضًا في الصالحين من التابعين ومن بعدهم، والعلماء والحكماء لوجدناها عظيمة كثيرة، فمنها: الوصية عند البلوغ واشتداد العود والانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب ومرحلة التكليف، قال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: "لما بلغت خمس عشرة سنة قال لي أبي: يا بُني قد انقطعت عنك شرائع الصبا" ولّى اللهو واللعب، ولى زمن الطفولة، فاختلط بالخير تكن من أهله" الخير هذا أين هو؟ في المساجد، في الأخيار، في مجالس الصالحين، حلق الذكر، دروس العلم، أهل الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "اختلط بالخير" أين مناسبات الخير؟ أين المشاريع الخيرية؟ ادخل، "يا بني قد انقطعت عنك شرائع الصبا فاختلط بالخير تكن من أهله، ولا تزايله" يعني لا تبتعد عنه فتبين منه، ولا يغرنك من مدحك بما تعلم أن خلافه منك" لأن في الدنيا من النفاق كثير ومن المجاملات البغيضة الغثة، ينفُخ فيك وأنت على خلاف ذلك، "ولا يغرنك من مدحك بما تعلم أنت خلافَه منك فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير مالم يعلم منه إلا قال فيه عند سخطه عليه من الشر مالم يعلم، كذلك أنه منه قال إلا قال فيه عند سخطه عليه من الشر على قدر ما مدحه واستأنس بالوحدة من جلساء السوء" إذا صار جلساء سوء، الوحدة خير لك، الوحدة أنيس، والأُنس بالله، "ولا تنقل أحسن ظني بك إلى أسوأ ظني بي بمن هو دونك، فاعلم أنه لن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم".
إذن، لابد أن تلازم العلماء وتطيع العلماء فأطعهم تسعد، واخدمهم تقتبس من علمهم" انظر -سبحان الله- كيف رفع الله فتى موسى يوشع بن نون؟ وهب نفسه خادمًا لموسى عليه السلام، ورافقه حضرًا وسفرًا وحمل متاعه وطبخ طعامه، وهيّأ زاده، وفعل له وفعل، يفرش فراشه قبل أن ينام وينفض عنه الغبار، يوقظه، يرفع الرحل، يقود الراحلة، النتيجة: أن يوشع بن نون نفسه صار نبيًا بعد ذلك، ومن هو الذي فتح بيت المقدس؟ فتح بيت المقدس لبني إسرائيل يوشع بن نون بعدما ذهب هذا الجيل من بني إسرائيل في التيه، وجاء جيل صلب قادهم يوشع إلى فتح بيت المقدس، وأمسك الله الشمس معجزة ليوشع بن نون، ماذا بدأ؟ خادمًا لموسى . أنس بن مالك خدم النبي ﷺ ماذا كانت منزلته بلغ المئة وبارك الله له في ماله وأهله وكم رأى من أحفاده وكم كان له من الطلاب وكم نقلت عنه من السنة وصار شيخًا عظيمًا معلّمًا، عمر بن عبد العزيز من طلاب أنس، ولذلك يبدأ الإنسان بداية صحيحة، ومن تواضع لله رفعه، قال سفيان: "فجعلتُ وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل معها ولا أعدل عنها" [الزهد الكبير للبيهقي: 112].
كان للآباء وصايا للأبناء أيضًا في طلب العلم، فعن ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسًا كان يقول لبنيه: "يا بنيّ قيّدوا العلم بالكتاب" [رواه الدارمي: 508، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4434].
يعني حتى لا تضيع المعلومات منكم، قيّدوا العلم بالكتابة.
العلم صيد والكتابة قيده | قيد صيودك بالحبال الواثقة |
فمن الحماقة أن تصيد غزالة | وتتركها بين الخلائق طالقة |
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: "يا بنيَ تعلّموا العلم فإن كنتم سادة فُقتم، وإن كنتم وسطًا سُدتم، وإن كنتم سُوقة عشتم" [أدب الدنيا والدين: 36]. مهما كان مستواكم الاجتماعي العلم يرفعكم، سواء كنتم بين الناس سادة تتفقون بالعلم، وإذا كنتم وسطًا تسودون بالعلم، وإذا كنتم سُوقة تعيشون بين الناس.
أوصى بعضهم ولده فقال" "لا ترد على أحد جوابًا حتى تفهم كلامه" يعني: لا تستعجل، "فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويصير النقاش في قضية ليست هي محل النقاش ويؤكد الجهل عليك لو تسرعت، ولكن افهم عنه، فإذا فهمته فأجبه، ولا تتعجل بالجواب قبل الاستفهام، ولا تستحي أن تستفهم إذا لم تفهم"، قل: أعد عليّ غفر الله لك، فإن الجواب قبل الفهم حمقٌ، واستفهامك أحمدُ بك، وخيرٌ لك من السكوت على العِي" [جامع بيان العلم وفضله: 1/584]. يعني تسكت على الجهل وعدم الفهم وعدم الإدراك، هذا قُبْح.
وقال الحسن لابنه: "يا بُنيّ إذا جالستَ العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلّم حُسن الاستماع كما تتعلم حُسْن الصمت ولا تقطع على أحد حديثًا وإن طال حتى يمسك" [أمالي القالي: 2/188].
كذلك في الأصحاب واختيار الأصدقاء هناك وصايا؛ عن عبد الله بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري من ولد أنس عن أبيه عن جده أنس قال: "يا بنيّ إياكم والسفلة، قالوا: وما السفلة؟ قال: الذي لا يخاف الله " [شعب الإيمان: 2/219]. وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: "أوصاني أبي" وأبوه زين العابدين علي بن الحسين فقال: "لا تصحبنّ خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريقك، قلت: جُعلتُ فداك يا أبه، من هؤلاء الخمسة؟ قال: لا تصحبنّ فاسقًا فإنه بايعك بأكلة فما دونها" [عيون الأخبار: 3/6]. سيبيعك بالرخيص، لا تصحب فاسقًا.
اثنان ذهبوا في خمارة واحد سكر وأثقل والثاني تورّط به ماذا يفعل به؟ يقول: حمله وألقاه في برميل قمامة! "يا بُني لا تصحبن فاسقًا فإنه بايعك بأكلة فما دونها، قلت: يا أبه ومن الثاني؟ قال: لا تصحبنّ البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه عند شدة الحاجة" يقول لك: ليس معي، "قلت: يا أبه ومن الثالث؟ قال: لا تصحبنّ كذابًا فإنه بمنزلة السراب يبعّد عنك القريب ويقرّب منك البعيد" الكذاب بمنزلة السراب، قلت: يا أبه ومن الرابع؟ قال: لا تصحبنّ أحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك؛ لأنه لا يحسن التصرف، قلت: يا أبه ومن الخامس؟ قال: لا تصحبنّ قاطع رحم، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع" [حلية الأولياء: 4/13].
الأول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [سورة محمد: 22-23]، الثاني: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ [سورة الرعد: 25] وفي موضع مشابه، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة: 27].
واللعن في هذه الآية بطريق الاستلزام؛ لأنه من لوازم الخسران.
وقال علقمة بن لبيد العطاردي لابنه: "يا بُني، إذا نزغتك إلى صُحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك" الخصاصة: الفقر والحاجة، ومانك يعني: حمل مؤونتك وقام بكفايتك "وإن قلتَ صدّق قولك، وإن صُلتَ سدد صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن رأى منك سقطة سترها، وإن نزلت بك إحدى الملمات آساك" يعني: واساك "من لا تأتيك منه البوائق ما هو كل مرة يعمل لك مصيبة وجرّ عليك كارثة وفتح لك باب شر وأتاك بفضيحة، "من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطرائق" سيرته واحدة ما فيه ازدواجية، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن حاول حويلاً آمرك"، حاول حويلاً يعني أراد أمرًا رام شيئًا آمرك يعني: شاورك، "وإن تنازعتما مُنفسًا آثرك"[عيون الأخبار: 3/6]. منفسًا يعني النفيس، كل شيء له وزن وقدر، وعن عبد الله بن طاوس قال: "قال لي أبي: يا بُني صاحب العقلاء تُنسب إليهم وإن لم تكن منهم" يقال: هذا من أصحاب الشيخ فلان ولو ما كان عنده علم، يقال: هذا مع الداعي فلان وإن كان ليس عنده كلام، لكن تُنسب شرف وفخر منزلة رفعة، "ولا تصاحب الجهّال فتُنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية وغاية المرء حسن خُلُقه" [حلية الأولياء: 4/13]. هذه هي القمة العظيمة.
وعند السفر ماذا يمكن أن تكون الوصايا؟ قال الأصمعي: "سمعتُ أعرابية توصي ابنًا لها وقد أراد سفراً، فقالت له: "يا بُني احفظ وصيتي ومحّص نصيحتي، وأنا أسأل الله توفيقه لك، فإن قليل توفيقه لك أجدى عليك من كثير نصحي، يا بُني إياك والنمائم فإنها تزرع الضغائن" لا تفسد بين الناس تنقل كلام بعضهم إلى بعض بقصد الإفساد بينهم، "يا بُني إياك والنمائم فإنها تزرع الضغائن وتنبت الشحائن وتفرّق بين المحبين، يا بُنيّ إياك والبخل بمالك والجود بعرضك والبذل لدينك" [شعب الإيمان للبيهقي: 13/332]. لأن الإنسان يجب أن يحفظ عرضه، لا أن يجعله لمن هبّ ودبّ، يعني أن يكون في مواضع بحيث يُطعن فيه، هذا معنى: احفظ عرضك، لا تجعل نفسك في مواضع يقع الناس فيك بسببها، أنت الذي وضعت نفسك فيها، لا تبذل دينك تبيع دينك بعرض من الدنيا، "بل كن بمالك جوادًا، ولعرضك صائنًا، ولدينك موقيًا، يا بُنيّ إذا هُززتَ فاهتز" معنى: "إذا هُززت فاهتز" الآن إذا هززتَ الشجرة تعطيك الثمرة، إذا جاء واحد هزّك معناها: استنخاك قال أعطني، إذا هُززت فاهتز، ليس معناه إذا استغضبت فاغضب؛ لأن الرسول ﷺ قال: لا تغضب [رواه البخاري: 6116]. ولا يمكن أن تنصحه بعكس الوصية النبوية، "يا بُنيّ إذا هُززت فاهتز، وإذا هززت فاهزُز كريمًا"، لا أن يذهب لشخص بخيل تقول: أقرضني! يقول: أنا محتاج إذا عندك أعطني، "فإنك تجد طيب مهزته - يعني الكريم - ولا تهزز لئيمًا فإنها صخرة لا ينفجر ماؤها" الماء في صخرة، فإذا قُصدتَ في حاجة لّبي وإذا قُصِدتَ في حاجة اقصد كريمًا، "يا بني وانظر ما استحسنته لغيرك فمثّله لنفسك، وما كرهته لغيرك فاجتنبه ودعه، ثم أنشأت تقول:
صاف الكرام وكن لعرضك صائنًا | واعلم بأن أخ الحفاظ أخوك |
الناس ما استغنيتَ أنت أخوهمُ | فإذا افتقرتَ إليهم رفضوك |
[شعب الإيمان للبيهقي: 13/332].
ما هي الوصية عندما يتقلّد الولد منصبًا؟
عن عامر الشعبي عن ابن عباس قال: قال لي أبي: "يا بُني أرى أمير المؤمنين يقرّبك ويخلو بك ويستشيرك مع ناس من أصحاب رسول الله ﷺ، وأمير المؤمنين هذا عمر ، كان يقرّب ابن عباس وابن عباس شاب صغير، لما رأى العباس ولده بهذه المنزلة فرح للنعمة، لكن يريد الولد أن يحافظ على هذه المكانة، فقال: "احفظ عني ثلاثًا، اتق الله لا تفشينّ له سرا؛ لأنك إذا فشيتَ السِّر وبلغه فقدتَ ثقته ولا يجربنّ عليك كذْبة"؛ لأنه يطرد الكذاب، "ولا تغتابنّ عنده أحدًا" هذه آداب مجالس الكبار إذا واحد قُرّب، -سبحان الله- كيف كان المجتمع؟ كان فيه حكم وكان عندهم حكماء، الآن تعال تلمس من الحكيم الذي ينصح ولده بهذا المستوى؟ ويحرص عليه هذا الحرص؟ ومن هو الولد الذي يفقه عن أبيه هذا الفقه؟ ويأخذ منه هذا الكلام؟ ويفهم ويتعظ؟ ويستمسك ولا يزال يتذكر الكلام ويستمر على العمل به؟ نحن نعاني الآن من مصيبة كبيرة؛ انقطاع التواصل بين جيلين متواليين، انقطاع التواصل بين الآباء والأبناء، لا هؤلاء حريصين على هؤلاء، ولا هؤلاء يتلقون من هؤلاء، ولا هؤلاء عندهم ما يعطون هؤلاء، لا بد يكون هناك آباء عندهم حكمة، عندهم علم، عندهم أدب، عندهم حُسْن تعبير، عندهم حتى يعطي، ولا بد الأبناء يكون عندهم إقبال، يأخذون ليست المسألة الآن صارت عداوة، صار عصرنا هذا اسمه عصر التمرُّد، والله مأساة عصر التمرُّد، إهمال الآباء وتمرُّد الأبناء، هناك ناس خلت خربت، لكن أحيانًا تجد ليس على المستوى، تجد واحداً يريد أن يكلّم ولده تجد الكلام مهزوزًا ضعيفًا فارغًا، فلا بد الأب عندما يأتيه أولاد يتحمل المسؤولية ويتعلم، والقراءة في مثل هذه الكتب تعطي الواحد خلفية، يصبح مصدرًا، ممكن يقول كلامًا مهمًا، ينقل خبرة، يؤدّب ولده بالكلام الطيب، يعني يستفيد، يحس الولد عندما يخرج من مجلس أبيه أنه فعلاً خرج بفوائد عظيمة، لماذا اختلفنا عن السلف؟ صار الاختلاف؛ لأنه من الذي يحرص أن يقول مثل هذا الكلام أو ما يشبهه؟ قال عامر: "فقلت لابن عباس: يا أبا عباس كل واحدة خير من ألف، قال: "نعم ومن عشرة آلاف" [فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: 2/957].
في حسن الظن يقول عبد العزيز بن عمر: قال لي أبي: يا بني إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدتَ لها محملاً من الخير" [حلية الأولياء: 5/278].
في المجالس يقول أبو الأسود الدؤلي لابنه: "يا بُنيّ إن كنتَ في قوم فلا تتكلم بكلام من هو فوقك، ولا بكلام من هو دونك فيزدروك"[عيون الأخبار: 4/76].
وصايا الآباء لأبنائهم في شأن المزاح
في المزاح يقول سعيد بن العاص لابنه: "اقتصد في مزاحك" لا نقول: لا تمزح أبدًا، تكون شديدًا، لا، لكن إذا مزحت اقتصد في مزاحك فإن الإفراط فيه يذهب البهاء" [أدب الدنيا والدين: 310]. الهيبة تسقط ويجرّئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه إذا صار الواحد ما يمزح أبدًا يفضُّ عنك المؤانسين ويوحش منك المصاحبين"
وعن جعفر بن عون وابن عيينة، قالا: "سمعنا مسعر بن كدام يقول لابنه كدام:
إني نحلتك يا كدام نصيحة فاسمع مقال أبي عليك شفيق
أما المزاح مع المراء فذرهما | خُلقان لا أرضاهما لصديق |
إني بلوتهما فلم أحمدهما | لمجاور جار ولا لشقيق |
والجهل يزري بالفتي في قومه | وعروقه في الناس أي عروق |
[حلية الأولياء: 7/221].
لو كان على طبقة نسب حسب عالية الجهل يزري به ويجعله في أسفل سافلين.
كانوا يحذّرون أولادهم من الكبر لأنه من أسوأ الآفات، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "كان أبي يقول: أي بُني كيف تعجبك نفسك وأنت لا تشاء أن ترى من عباد الله من هو خير منك إلا رأيته؟" [حلية الأولياء: 3/222] .
لماذا تعجب بنفسك ولو رحت تبحث في الناس عن واحد أفضل منك ستجد قطعًا فلم الكبر والتعالي وفي الناس من هو أفضل منك قطعًا؟
وقال محمد بن علي بن الحسين لابنه جعفر: "يا بُنيّ إن الله خبّأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء" هي حكم والله درر، أنت الآن تقرأ تسمع تقول: سبحان الذي ألهمهم، وترى هذه ما تأتي إلا عن طول التأمل في الكتاب والسنة، طول الملازمة للكتاب والسنة، الفهم للكتاب والسنة، تلاوة الكتاب، وقراءة السنة، هذه الأشياء تطلع كذا بدون سبب، فجأة تتفجر ينابيع الحكمة بدون سبب؟ لا، لا بد أن يكون هناك سبب، "يا بني إن الله تعالى خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء؛ خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرنّ من الطاعة شيئًا فلعل رضاه فيه"[البصائر والذخائر: 4/133]. ربما تزيل قذاة من الطريق شيء بسيط يكون فيها الفوز بالجنة، "إن الله خبأ رضاه في طاعته، وخبأ سخطه في معصيته، فلا تحقرن من معصيته شيئًا، فلعل سخطه فيه، وخبأ أولياءه في خَلْقه، فلا تحقرنّ أحدًا لعله يكون وليًا، ربما هذا المدفوع بالأبواب رثّ الهيئة بالي الثياب لا يؤبَه له، يمكن هو ولي من أولياء الله، ربما لو دعا لك دعوة تنتفع بها في الدنيا والآخرة.
بعض الشباب الآن يعيشون في عصر الافتراضيات، يريد أن يكون دكتوراً افتراضيًا ويلعب افتراضيًا ويتزوج افتراضيًا ويأخذ شهادة افتراضيًا، الإنترنت والشاشات طبعت الشباب بطباع ممكن يكون حتى الألعاب ممكن تحسسه أنه صاحب الطاقات العظيمة والقوى الخارقة والمعجزات الجبارة، وهو يرسل الرياح والصواعق ويفعل! كله وهم في وهم أوهام، قال رجل من العباد لابنه: "يا بُني لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول الأمل" ما في عمل ويريد النجاة، كأنه يحلم أنه يدخل الجنة بالأحلام، بدون أعمال.
أما الصلاة يقول معاوية بن قرة: قال معاذ بن جبل لابنه: "يا بُني إذا صليت صلاة فصل صلاة مودِّع، لا تظن أنك تعود إليها أبدًا، واعلم يا بُنيّ أن المؤمن يموت بين حسنتين؛ حسنة قدّمها وحسنة أخرها" [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: 1/234].
وصايا الآباء للأبناء في من يشاورن
إذا احتاج الولد إلى مشورة من يشاور؟ تأمل في هذا الكلام من أب لابنه يقول له: إذا أردت أن تشاور من تشاور:
قال قيس لابنه: "لا تشاورن مشغولاً وإن كان حازمًا، ولا جائعًا وإن كان فهيمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا، ولا مهمومًا وإن كان فطنًا، فالهمُّ يعقل العقل" يحبسه ما يخرج منه شيء، "ولا يتولّد منه رأي ولا تصدُق منه روية" محاضرات الأطباء للراغب الأصبهاني.
بعض الناس يريد أن يسأل أو يستفتي أو يأخذ مشورة من الشيخ أو من شخص في حال غير مناسبة، أما أن يأتيه وهو غضبان زعلان مهموم جائع حصران، إلا الآن؟ يا أخي انتظر عليه، انتظر عليه، لا، فيرهقه صعودًا، ويريد، لن تحصل على مرادك إذا ما أتيته في الحال التي يمكن أن يكون صاف الذهن حتى يعطيك.
وصايا الآباء لأبنائهم عند الزواج
أما الوصايا عند الزواج فهي كثيرة وخصوصاً ليلة الإهداء، خاصة إذا كانت من الأم أو الأب، أثرها كبير في نفس العروس، وسواء كان ذكرًا أو أنثى في اللغة يقال له: عروس، وإذا كانت أنثى، هذه الوصايا مهمة تؤنس وحشتها وتخفف من ألم فراقها لأهلها، وتأتي أهمية هذه الوصايا من الأبوين للبنت عند الزواج؛ لأن انتقال الفتاة إلى بيت زوجها سيوقفها على طبائع مختلفة وعادات مختلفة وأعرافًا مختلفة، تختلف عما تربت عليه في كثير من الأحيان، وهذا قد يولّد أو ينتج إحباطًا فشلاً ذريعًا إخفاقًا في الحياة الزوجية ردّة فعل عنيفة، فيأتي دور الأبوين الحكيمين لوضع البنت في خط الاستعداد على عتبة الزواج.
كانت العرب توصي بناتها بما يؤدي لتحقيق الأُلفة مع الزوج، ومن أشهر هذه الوصايا: وصية أمامة بنت الحارث لابنتها ليلة زفافها وإهدائها إلى زوجها الحارث بن عمرو الكندي، فقالت لها: "أي بُنية، لو تُركت الوصية لفضل عقل وأدب لتركتُ ذلك لكِ، ولكنها معونة للعاقل وتنبيه للغافل، أي بُنية، لو استغنت المرأة بغنى أبويها وشدة حاجتها كنت أغنى الناس عن الزوج" لكن حتى المرأة لو كانت ثرية وفي بيت ثري هل تستغني عن زوج؟ ما تريد أن تكون أما؟ إذن، الزواج يمنح المرأة ما لا يمنحها المال، وهذه مؤامرة العلمانيين الزنادقة المنافقين في قضية إبعاد الناس عن الزواج، بإشغالهن بالأعمال والأشياء والأسفار، بحيث أنها في النهاية تتضخم ثم لا تتزوج، فتفقد شيئًا من أهم الأشياء في حياتها فقالت لها: أي بنية لو استغنت المرأة بغنى أبويها وشدة حاجتها كنت أغني الناس عن الزوج ولكن للرجال خُلُق النساء كما لهن خُلُق الرجل، أي بُنية إنك قد فارقت الحواء الذي منه خرجتِ، الحواء البيوت المجتمعة والوكر الذي منه درجتِ إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تأليفه، فأصبح بملكه عليه ملكة فكوني له أمة يكون لك عبداً واحفظي عني خصالاً عشرة تكن لك ذُخرًا وذكرًا، أما الأولى والثانية: فحُسن الصحبة بالقناعة" ما تتطلب وتتطلب تقنع بما أتاها زوجها، فحُسن الصُّحبة بالقناعة وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة، ففي حُسْن المصاحبة راحة القلب، وفي جميل المعاشرة رضا الرب والثالثة والرابعة لتفقد لموضع عينه، يعني ما يرى منك إلا حسنة، "والتعاهد لموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشمُّ أنفه منك خبيث ريح، واعلمي أن الماء أطيب الطيب" الاغتسال يعني، وأن الكحل أحسن الموجود، والخامسة والسادسة: "فالحفظ لماله، فإنه من حُسن التقدير والرعاية" لحشمه قرابته خدمه وعياله، وهو من حُسْن التدبير، والسابعة والثامنة: "التعاهد لوقت طعامه والهدوء عند منامه..." ما هو الآن الآن شغالة في الواتس أب، لا منام ولا طعام ولا لضيف إكرام، ولا يعلم الحالة إلا العلام، والله طلاق الآن طلاق بسبب الواتس أب؛ لأنها غير موجودة في الخدمة ليس مؤقتا، وإنما دائما، ومنهم من يهجر زوجته خارج البيت وداخل البيت، خارج البيت مع أصحابه وفي الشغل، وداخل البيت إيميلات واتس أب مواقع التواصل، ماذا بقي للزوجة؟ يأتيها وهي نائمة، مسكينة تنتظر وتنتظر وتنام، هذا هو، والتاسعة والعاشرة بعد السابعة والثامنة قال والسابعة والثامنة: "التعاهد لوقت طعامه والهدوء عند منامه، فحرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة" والتاسعة والعاشرة: "لا تفشين له سراً ولا تعصين له أمراً، فإنك إن أفشيتِ سره لم تأمن غدره، وإن عصيتِ أمره أوغرت صدره، واتقي الفرح لديه إن كان ترحًا، والاكتئاب عنده إذا كان فرحًا" يعني شاركيه في مشاعره، فإن الأولى من التقصير والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظاماً، يكون أشد ما يكون لك إكراماً، وأشد ما تكونين له موافقة يكون أطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاكِ، وهواه على هواكِ، فيما أحببت وكرهتِ، والله يخير لك ويصنع لك برحمته".
أين الأمهات التي تقول كلاماً في مستوى هذا الكلام؟ حتى بالعامية نحن نقبل، حتى لو كانت النصيحة بالعامية، سنكلف الأمهات شططًا إذا قلنا لا بد أن يكون مستواها في الفصاحة والبلاغة واللغة العربية مثل هذا، هذا من يطيقه؟ هذا نادر، لكن حتى بالعامية يراد كلاماً له معنى، معاني في أشياء عميقة في أشياء قيمة.
أوصى أسماء بن خارجة الفزاري ابنته ليلة زفافها؛ فماذا قال لها؟ والوصية للبنت ليست من الأم فقط حتى من الأب الصالح الحكيم، يا بنية إن الأمهات يؤدبن البنات وإن أمك هلكت وأنت صغيرة فافهمي عني ما أقول، يعني هذا أمها وأبوها، إنك قد خرجت من العش الذي فيه درجتِ وصرتِ إلى فراش لا تعرفيه وقرين لم تألفيه، فعليك بأطيب الطيب الماء، وأحسن الحسن الكحل، وإياك وكثرة المعاتبة فإنها قطيعة للود، وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وكوني له مهادًا يكون لك عمادًا، كوني له أرضًا يكون لك سماء، وكوني له أمة يكن لك عبدًا، لا تلحفي به فيقلاكِ، تكثري عليه الإلحاح هذا التكرار، كثرة الطلبات يبغضك، ولا تباعدي عنه فينساك، إن دنا فاقربي منه وإن نأى فابعدي عنه واحفظي أنفه وسمعه وعينه لا يشم منك إلا طيباً، ولا يسمع إلا حسناً، ولا ينظر إلا جميلاً، واعلمي أني القائل لأمك:
خذ العفو مني تستديمي مودتي | ولا تنطقي في سورتي حين أغضب |
فإن وجدتُ الحب في الصدر والأذى | إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهبُ |
[إحياء علوم الدين: 2/58].
فأوصاها بهذه الوصايا العظيمة.
وأوصى أبو الأسود الدؤلي ابنته فقال: "إياك والغيرة فإنه مفتاح الطلاق، وعليك بالزينة وأزين الزينة الكحل، وعليكِ بالطيب وأطيب الطيب إسباغ الوضوء" وقال أيضاً: "إنك لن تنالي ما عنده إلا باللطيف".
وقال عبد الله بن جعفر لابنته حين زوّجها: "أنهاك عن إكثار العتاب فإنه يورث البغضاء"[عيون الأخبار: 4/76].
وأنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته من معبد بن زرارة فلما أخرجها إليه قال: "يا بُنية أمسكي عليك هذه" فضل الكلام، الكلام الكثير لا داعي له هذا يعني من أحسن الوصايا تجنبيها الثرثرة.
قال أكثم بن صيفي لولده: "يا بني لا يحملنكم جمال النساء عن صراحة النسب، فإن المناكح الكريمة مدرجةٌ للشرف"[أدب الدنيا والدين: 158]. أنا والله الحقيقة يا إخواني بعد هذا الكلام كان سؤال وردني اليوم فيه: كيف يقع الطلاق؟ وما هي الأخلاق التي تكون في بعض الأحيان توصل الأوضاع إلى درجات خطيرة؟ فالمرأة تقول: إنها تصف كيف طاردته ولاحقته وسبّت وشتمت وطلبت الطلاق، وألحت وهي تضربه طلّقني! أين هذا من هذا؟ أين هذا من هذا؟ قال أعرابي لولده وقد أراد الزواج: "يا بُني لا تتخذها حنانة ولا أنانة ولا منّانة، ولا عُشبة الدار ولا كبّة القفا" معناها: الحنانة التي لها أولاد من غيره فتحن إليهم، الأنانة التي مات زوجها فإذا رأت الزوج الثاني قالت: الله يرحم فلاناً كان الزوج الأول، وقيل التي تئن كسلاً وتمارضًا، أنا مريضة أنا تعبانة، والمنانة التي لها مال فلا زالت تمنُّ على زوجها كلما أراد شيئًا من مالها، وعُشْبة الدار قالوا: المرأة الحسناء في المنبت السوء، مثل إذا نبتت وردة بجانب مرحاض، يطلع أحيانا المرحاض قد ينبت، وكبة القفا المرأة ذات السُّمعة السيئة التي لازالت أخبارها تترى تأتي.
ولو استمرينا واستمرينا في الوصايا وخصوصاً الوصايا عند الوفاة ونختم بها مجلسنا هذا، نختم اليوم المجلس بهذه الوصية: وعن عبادة بن محمد قال: لما حضرت عبادة بن الصامت الوفاة قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار ثم قال: اجمعوا لي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل عليّ فجمعوا له فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي عليّ من الدنيا وأول ليلة من الآخرة، وإنه لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء، والذي نفس عبادة بيده القصاص يوم القيامة وأحرِّج على أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتصّ مني الآن قبل أن تخرج الروح قبل أن تخرج نفسي، فقالوا: بل كنت والدًا وكنت مؤدِّبا، قال: "وما قال لخادم قط سوءًا أغفرتم لي ما كان من ذلك أنتم يا الخدم قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد"، ثم قال: أما الآن فاحفظوا وصيتي أحرج على كل إنسان منكم يبكي ثم أسرعوا بي إلى حفرتي ولا تتبعوني بنار" مثل المباخر وغيرها من فعل المجوس، "ولا تصنعوا عليّ أرجواناً" [الزهد لهنّاد بن السري: 2/405]. هذا ثوب أحمر يحشى بالقطن ويوضع على ظهر الدواب للركوب عليه ((والنبي ﷺ نهى عن المياثر الحمر)) [رواه البخاري: 5838]. وهذا مثال كيف كانوا ينصحون حتى عند الوفاة.
نسأل الله أن يبلّغنا وإياكم خيرًا، وأن يعيننا على تربية أولادنا، وأن يجعلنا من الصالحين، وأن يرزقنا الحكمة، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.