إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
حشرنا الله في زمرته، وسقانا وإياكم من حوضه، ورزقنا شفاعته.
أيها الإخوة: بعد هذا الانقطاع في الدروس الذي كان له الأسباب المعروفة، نسأل الله أن يفرج عنا وعن المسلمين، وأن يكشف الغمة عنا وعن المسلمين، وأن يرفع البلاء عنا وعن المسلمين أجمعين.
وستكون دروسي خلال شهر شعبان في هذا اليوم الثلاثاء بين المغرب والعشاء، والإجابة على الأسئلة بين الأذان والإقامة، وسنتوقف عن دروس الأربعاء مؤقتاً إلى ما بعد شهر رمضان والعيد إن شاء الله، وسيكون موضوع هذه الدروس أو سلسلة الدروس في هذا الشهر، والدرس سيكون أسبوعياً، في كل أسبوع إن شاء الله سيكون عن أعمال القلوب نظراً للحاجة إلى هذا الموضوع في هذا الوقت.
ولا شك أن أعظم من تكلم في موضوع أعمال القلوب هو ابن القيم -رحمه الله تعالى- ذلك الإمام العالم الذي شرح الكتاب والسنة على نور من ربه، ببصيرة مهتدية لا نغلو فيه، فليس أحد بمعصوم إلا من عصمه الله ، ولكنه بحق من أعظم العلماء الذين تركوا جانب التقليد وسبل الشيطان التي يخدع فيها كثيراً من الذين يشتغلون بالعلم، وتجردوا لله ، فقام بلسانه وقلمه ليجاهد في سبيل الله، فترك لنا هذا التراث العظيم من هذه الكتب الكثيرة التي لا يزال كثير منها مخطوطاً، ولكن أكثرها قد طبع وأهمها موجود ولله الحمد.
وسيكون عنوان هذا الدرس: "فوائد في أعمال القلوب" سنقتطف بعضاً من الفوائد التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- في الفوائد، وسيكون عليها تعليق يرتبط بالحال التي نعيشها نحن في هذه الأيام.
التكاثر المذموم
قال رحمه الله تعالى: قوله تعالى: لْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 1 - 8] قال: "أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد، وكفى بها موعظة لمن عقلها، فقوله تعالى: أَلْهَاكُمُ أي: أشغلكم على وجه لا تعتذرون فيه، فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه، فإن كان بقصد فهو محل التكليف" الإنسان قد ينشغل عن الله عامداً، فهذا يؤاخذ على انشغاله، "وإن كان بغير قصد كقوله ﷺ في الخميصة: إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي، كان صاحبه معذوراً، وهو نوع من النسيان، وفي الحديث: فلهى ﷺ عن الصبي" [الفوائد، لابن القيم، ص: 30] يعني ذهل عنه وانشغل عنه، هذا معنى لهى عنه، ويأتي في القرآن اللهو متعلقاً بالقلب، واللعب متعلقاً بالجوارح، وكم من آية تجمع بينهما، ولذلك كان قوله: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1] أبلغ من قوله: أشغلكم".
فما هو التكاثر المذموم؟ وما هي أوجه هذا التكاثر المذموم؟
ف "كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر" [الفوائد، لابن القيم، ص: 30].
فلو أن إنساناً تكاثر مع أخيه المسلم أو مع إخوانه أو كاثر إخوانه بأعمال صالحة لله، فهذا ليس بمذموم، كما ذكر عليه الصلاة والسلام في حديث: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك إلى آخره، قال: ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه [رواه البخاري: 3293]، فهذه الزيادة هي في عمل من أعمال الآخرة، ولذلك فإنها محمودة، أما التكاثر في المال أو الجاه أو الرئاسة أو النسوة أو الحديث والعلم إذا لم يحتاج إليه، والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها، فهذا مذموم إذا كان لا يقرب إلى الله -عز وجل-.
ونلاحظ -أيها الإخوة- في حال الناس هذه الأيام أنهم يكاثر بعضهم بعضاً في الماديات فعلاً، يكاثر بعضهم بعضاً في العقارات، الأراضي، البيوت، الأثاث، والمتاع، وجمع الأموال، كل واحد يريد أن يكون أكثر من الآخر في هذا المجال.
وهذا الجمع والتكاثر والرغبة فيه أثر حتى علينا نحن في هذه الأيام، فإذا نظرت إلى الناس في تخزينهم للمؤن ترى بعضهم يكاثر بعضاً فيها، فترى بعضهم يخزن من المؤن ما لا حاجة له به، ويجمع في بيته ما يتنافى مع الحكمة والعقل الصحيح، كل هذا رغبة في الجمع والتكثير.
وكذلك أثرت هذه الأحداث على الناس في الإنفاق في سبيل الله ، فكانوا من قبل عندهم نوع من التشجع للإنفاق، فلما صارت هذه الأزمة خشي كل إنسان على مدخراته، وصار التقتير والبخل في الإنفاق في سبيل الله بلغ حداً لا يوصف، وهذا التجميع الذي من المفروض أن يحدث عكسه هو من هذه الآية، فإن الناس إذا وقعوا في كربات فالمفروض أنهم يتصدقوا لله بأموال ويكثروا من الإنفاق على الله أن يفرج عنهم.
أما أن يحدث هذا البخل بدافع الخوف النفسي على الأموال والرغبة في تجميعها فلا علاج له إلا مثل التأمل في قوله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر: 1-2] اشتغلتم بالتجميع والتحصيل حتى توفاكم الموت وذهبتم إلى المقبرة ودفنتم: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ .
وقد تصل مسألة التكاثر -مع الأسف- إلى بعض الناس من الذين عليهم مسحة من الاستقامة والخير، فترى بعض طلبة العلم مثلاً قد يكاثر إخوانه بجمع الكتب، ولكن إن سألته أو سأل نفسه كم من هذه الكتب يقرأ فيها؟
فالجواب: أنه شيء يسير جداً، فصارت المكاثرة بالكتب وتجميع الكتب علامة غير صحية؛ لأنها لم تؤد إلى الشيء المحمود وهو الانتفاع بها، أو استعمال هذه المراجع، أو البحث فيها.
وهناك من طلبة العلم من الفقراء من يتمنى أن يجد المرجع الفلاني ليبحث عن حديث أو يبحث في مسألة فقهية، وغيره من الناس الميسورين يجمعون كتباً يعلوها الغبار فلا يبحثون فيها ولا يفتحونها، ومثل هذا النوع من التكاثر مذموم.
بل إن بعضهم عد أكثر من ذلك، جمع الطرق في الحديث الواحد بغير فائدة، والانشغال عنها بهذا عن أنواع من العلم أكثر فائدة من أنواع التكاثر المذموم؛ لأنه لم يقصد به وجه الله والدار الآخرة، وإنما قصد به التعالي وليقال: أنا الحديث عندي من عشرة طرق، الحديث عندي من عشرين طريقاً، وهكذا..، فكيف إذا اشتغل أيضاً بتفريع مسائل لا يحتاج إليها؟
هذا كان في أيام كان فيه همة لطلب العلم، ولكن الآن هذه الهمة صارت ضعيفة جداً.
ولكن على أية حال: التكاثر المذموم قد يدخل حتى بين طلبة العلم، وقد ذكر رسول الله ﷺ في حديث عبد الله بن الشخير في صحيح مسلم: أنه انتهى إلى النبي ﷺ وهو يقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1] قال يقول: يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ [رواه مسلم: 2958].
دفع الخواطر السيئة
الفائدة الثانية قوله رحمه الله تعالى: "دَافع الخطرة فَإِن لم تفعل صَارَت فكرة فدافع الفكرة فان لم تفعل صَارَت شَهْوَة فحاربها فَإِن لم تفعل صَارَت عَزِيمَة وهِمَّة فَإِن لم تدافعها صَارَت فعلا فَإِن لم تتداركه بضدّه صَار عَادَة فيصعب عَلَيْك الِانْتِقَال عَنْهَا"[الفوائد، لابن القيم ص: 31].
لو تأملت في الناس وفي أشخاصهم وأعمالهم وحاولت أن تعرف السبب الذي من أجله وجد هذا الخلق في فلان الفلاني، وكيف صار به وحل؟ فإن الأمر يرجع في الغالب إلى هذه المسألة، الناس يولدون صحفاً بيضاء، ثم تبدأ الخطوط فيها ويبدأ التسطير، والإنسان الذي تكون عنده خصلة سيئة، ولنأخذ مثلاً: النظر إلى المرأة الأجنبية، لو قال لك إنسان: إنني أعاني من النظر إلى النساء الأجانب، فقل له: كيف بدأ الأمر عندك؟
فإنه سيقول ولا بد بهذا التدرج الذي ذكره ابن القيم -رحمه الله-.
المسألة عنده كانت فكرة خاطرة، ولكنه لم يدافع هذه الفكرة، وإنما جلست هذه الخيالات في نفسه تترسخ شيئاً بعد شيء، حتى صارت هذه الخيالات شهوة، يعني النفس تتطلع إليها، وتريد أن تلتذ بها، فلم يحاربها، فصارت هذه عزيمة وهمة تجعله يندفع للنظر في الواقع ليشبع رغبته النفسية هذه، فلما وقعت عينه على امرأة لم يصرف بصره عنها، وإنما ركز البصر وحدق، ثم أنه عاود ذلك كرات ومرات، حتى صار الأمر عنده عادة يصعب عليه الانتقال منها.
وخذ مثلاً الشخص الذي تحصل عنده أنواع من الشهوات في هذا الأمر أو غيره فإن المسألة عنده تكون بهذه الطريقة، وقل للناس الذين تعودوا على العادات السيئة، كيف تعودتم عليها؟ فسيقولون لك إن الأمر كذلك.
ولذلك -أيها الإخوة- عندما نقول: إن المسلم يجب عليه أن يربي نفسه تربية فردية بخلاف التربية التي يتلقاها مع إخوانه وبين المسلمين أو في الحلق والخطب، ونحو ذلك، فمن التربية الفردية: أن يتابع هذه الأمور السيئة التي تتسلل إلى نفسه كيف تسللت،؟ وما هو منشؤها؟ فسيجد أن الأمر في البداية كان فكرة فكر فيها، خاطرة تحولت إلى فكرة، خاطرة لم يطردها، لكن استمر في التفكير فيها، ثم انقلبت هذه الخاطرة إلى فكرة فتشعبت وصار لها جذور في نفسه وعقله، ثم زينها الشيطان في نفسه فصارت أمراً مشتهاً يشتهيه، ثم أن نفسه قد دفعته ليكون مهتماً بتحصيل هذه القضية وصار عنده إرادة ثم صارت فعلاً ثم صارت عادة، ولذلك فإن الإنسان مطالب بأن يجعل في نفسه عادات صالحة تدافع العادات السيئة ليتخلص منها، ومطالب كذلك بأن يجاهد الأفكار الرديئة التي تأتيه حتى لا تتحول في النهاية إلى عادات، وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها، وغرست نواها"، نواة غرستها فصارت شجرة وأثمرت الشجرة فأكلت الثمر وغرست النوى، "فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه"، فماذا يحصل؟ تتكاثر الأشجار وتتكاثر الثمار، "وكذلك تداعي المعاصي فليتدبر اللبيب هذا المثال، فمن ثواب الحسنة، الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة، السيئة بعدها" [الفوائد، لابن القيم، ص: 35].
بعض الناس يقولون لك كيف نهتدي؟ نريد أن نستقيم.
فنقول لهم: حاولوا أن تكثروا من عمل الحسنات قدر ما تستطيعون، فإنك لو عملت في اليوم خمس حسنات فإن نفسك ستكون مشدودة لعمل الحسنة السادسة، ولو عملت عشر حسنات ستكون نفسك متشجعة لعمل الحسنة الحادية عشر، وهكذا..، ولذلك -سبحان الله- تأمل في حديث أبي بكر الصديق: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا" [رواه مسلم: 1028].
لذلك تلاحظ الشخص إذا انشغل بعبادة، تاقت نفسه لنفس العبادة وللإكثار منها زائد العبادات الأخرى، فلو أن رجلاً صام وتعود على الصيام وصار الصيام له سجية وعادة، فإن هذا اليوم سيجر لصيام يوم آخر، فإذا صام يومين سيكون الأمر دافعاً لصيام أيام أُخَر، ثم أن هذا الصيام سيدفعه لقراءة القرآن، وقد يقول في نفسه: لماذا لا أفعل مثل أبي بكر الصديق؟ فإذا سمع بمريض تحمس للذهاب إليه وعيادته، فتزداد حسناته، فيكثر فيصبح أكثر الوقت منشغلاً بهذه الحسنات، وتحصيل هذه الحسنات، فيهتدي ويكون من المستقيمين.
ولذلك المسألة تحتاج إلى مجاهدة في البداية في تكثير الحسنات، ثم بعد ذلك تسهل على النفس، ويكافأ العبد بأن ييسر الله له عمل المزيد من الحسنات، فتكثر حسناته فيكون بمثابة الشخص الذي غرس نواة فأثمرت شجرة، فصار يأخذ الثمر ويغرس النوى، فتخرج أشجار جديدة، فيأخذ الثمر ويغرس النوى حتى صار له بساتين.
وهكذا أصحاب الأعمال الصالحة يكون حالهم.
ونفس الشيء في السيئات، فإن الإنسان إذا انشغل بالنظر إلى المرأة الأجنبية تاقت نفسه لرؤية المجلات التي فيها الصور والأفلام التي فيها نساء، وتاقت نفسه لأن يجلس مجالس الاختلاط، ثم يحدث بعد ذلك تتطور الأمور حتى يقع في أنواع من الفواحش، والنفس على حسب ما تتعود عليه.
يحبهم ويحبونه
ثم قال ابن القيم -رحمه الله-: "ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه"[الفوائد، لابن القيم، ص: 35].
يقول: ليس بعجيب أن العبد يعبد الله؛ لأن العبد محتاج إلى الله، وليس بعجيب أن العبد لا يمل من طاعة الله، لأنه يحتاج إلى الحسنات والأجر عند الله، "إنما العجب من مالك" العبد يحتاج إلى السيد فهو باق على خدمته؛ لأنه محتاج إلى السيد، هذا ليس بعجيب، لكن العجيب "إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه، مع غناه عنه، كفى بك عزاً أنك له عبد، وكفى بك فخراً أنه لك رب" [الفوائد، لابن القيم، ص: 35].
أيها الإخوة: هذا يشبه ما قاله الفضيل -رحمه الله-:
ومما زادني شرفاً وتيهاً | وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي | وأن صيرت أحمد لي نبياً |
هذه الفائدة تجعل العبد يحب ربه أكثر؛ لأنك فعلاً لما تتفكر في الأمر نحن نعبد الله، نحن نحتاج إلى الله، لكن الله يعطينا ثواباً وهو غني عنا، ويحبنا وليس بحاجة إلينا.
"ليس العجب من قوله: وَيُحِبُّونَهُ ، وإنما العجب من قوله: يُحِبُّهُمْ [الفوائد، لابن القيم، ص: 69].
الله يقول: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] في وصف المؤمنين، فليس العجب في قوله: {يحبونه}؛ لأن العبد يجب عليه أن يحب ربه، لكن العجب العجيب في قوله: {يحبهم}.
"ليس العجب من فقير مسكين يحب محسناً إليه" ليس العجب تأمل في هذا يدفعك إلى الزيادة إلى زيادة محبتك لله.
تأمل في هذه الفائدة تجعلك تحب الله أكثر، "ليس العجب من فقير مسكين يحب محسناً إليه" هذا شيء طبيعي "إنما العجب من محسن يحب فقيراً مسكيناً" [الفوائد لابن القيم ص: 69].
إياك والمعاصي
وقال رحمه الله تعالى في خواطر في موضوع خلق آدم: "إياك والمعاصي، فإنها أذلت عز اسجدوا، وأخرجت إقطاع اسكن" [الفوائد، لابن القيم، ص: 35].
الله لما أنعم على آدم وخلقه كان من نعمه عليه أن أسجد له الملائكة، وكان من نعمه عليه أنه علمه الأسماء كلها، والملائكة لم تكن تعرف كل هذه الأسماء، هذا الإنعام بالتعليم وإسكان الجنة لما وقعت المعصية هل نفع؟ ما نفع، مع أن هذا نعيم في الجنة وتعليم من الله، فكيف إذا كانت هذه الأشياء من الأمور الدنيوية؟ هل تنفع عند الله إذا وقعت المعاصي؟ و لا ينفع ذا الجد منك الجد .
ولذلك فإنه لم ينفعه اسجدوا لآدم، ولم ينفعه فعلم آدم الأسماء كلها، وإنما نفعه ماذا؟ استغفار وتوبته إلى الله .
ولذلك -أيها الإخوة- قد تكون المعصية مفيدة، لكن كيف تكون مفيدة؟
لأن المعصية أحياناً تدفع العبد إلى توبة نصوح تشعره بالنقص فيزداد من الحسنات، فيكون حاله أرقى من حال الإنسان الذي يكون مطيعاً، لكن على نمط متدنٍ، يطيع لكن طاعته قليلة، لكن ليس بعاصٍ، لكن قد يعصي الإنسان أحياناً معصية فيندم عليها جداً وتكبر في نفسه فيتوب توبة عظيمة تجعله أفضل من الشخص الذي يرتكب أو الذي يعمل بعض الطاعات المستمرة.
"يا آدم لا تجزع من قولي لك: اخرج منها، فلك ولصالح ذريتك خلقتها"، ما جرى على آدم هو المراد من وجوده، لو لم تذنبوا، لو آدم ما أذنب، -انظر إلى حكمة الله ، لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم [رواه مسلم: 2749]، "يا آدم لا تجزع من كأس زلل كان سبب كيسك، فقد استخرج منك داء العجب، وألبست خلعة الْعُبُودِيَّة"[الفوائد، لابن القيم، ص: 35].
الإنسان أحياناً إذا كان مستمراً في الطاعات ولا يعصي ولا مرة، فماذا يدخل في نفسه؟ العجب، فيبتليه الله بمعصية تخرج العجب من نفسه، ولهذا هذا وقع على الأنبياء، هذا وقع لآدم وآدم نبي، ولذلك يقع للأكابر أحياناً مثل هذا، فيعالجهم الله بأن يستخرج من قلوبهم شيئاً من الكبر بهذه المعصية، لكن لا يعني هذا أن المعصية طيبة وأن الناس عليهم أن يزدادوا من المعاصي حتى يحصل لهم هذا.
لأنه إذا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]، فإن حالتهم في النهاية ستصير إلى جهنم -والعياذ بالله-، قال ابن القيم معبراً عن هذا المعنى: تالله ما نفعه عند معصيته عز اسجدوا، ولا شرف وعلم آدم، ولا خصيصة: لما خلقت بيدي، ولا فخر: ونفخت فيه من روحي" هذا مال نفعه عند المعصية، "وإنما انتفع بذل: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [الأعراف: 23] [الفوائد، لابن القيم، ص: 35] لما قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا تاب الله عليه، لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه، فوضع عليه جبار الانكسار فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم يكن به قلبه، كأنه ما حصلت له مصيبة ولا نزل به شيء.
ثم قال رحمه الله تعالى: لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى، ولكن كن خفيف النوم كحراس البلد يصيحون دنا الصباح" [الفوائد، لابن القيم، ص: 41] لا بد لكل إنسان أن يخطئ، ولا بد لكل إنسان أن يغفل، ولا بد لكل إنسان أن يعتريه شيء من الهوى، لكن إذا كان اعتراك سنة الغفلة فكن خفيف النوم، فنحن الله خلقنا بشراً نخطئ، لكن إذا أخطأنا لا بد أن نكون سريعي التوبة والفيء والعودة إلى الله .
الصبر على الأذى
وقال رحمه الله في أصحاب العزائم الضعيفة، يقول مخاطباً صاحب العزم الضعيف: أين أنت والطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاس الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى" يعني أن اليهود نفوه وآذوه حتى اضطر أن يخرج "وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ" تزهى أنت باللهو واللعب" [الفوائد، لابن القيم، ص: 42] يعني هذا حال الأنبياء، وهذا ما وجدوه في سيرهم في الطريق.
هذا الكلام -أيها الإخوة- يفيدنا عدة فوائد:
أولاً: أن الإنسان إذا أراد أن يسلك طريق الاستقامة وطريق الأنبياء فلا بد أن يتعب.
وثانياً: أن من سنة الله ابتلاء خلقه.
وثالثاً: أن الابتلاء أنواع وصنوف، فمنه ما يكون بفقد عزيز، منه ما يكون بألم جسدي، أو ألم نفسي، ومنه ما يكون بمطاردة الأعداء وإيذائهم حتى ولو بالكلام، ومنه ما يكون بضيق ذات اليد، وهكذا، ومنه ما يكون من الابتلاء بالمعاصي والذنوب، ومنه ما يكون بأن يذوق نار العبودية لغيره ويعيش في أجواء الاضطهاد، ومنه ما يكون بالسجن، وهكذا..
فلو تأملت حال الأنبياء ثم قارنت أنواع الأذى التي يتعرض إليها الدعاة إلى الله أو المسلمون من الكفار لوجدت أنها لا تخرج عن أنواع الأذى التي تعرض لها الأنبياء، لكن تعرض الأنبياء لها أشد؛ لأن أجرهم أكمل وهم أولو العزم، وهم الناس الذين صبروا على الأذى في سبيل الله، ولذلك فلا بد أن يوطن الإنسان نفسه على ما سيأتي من المحن والشدائد، ونحن لا نتمنى لقاء العدو ونسأل الله العافية، ولكن إذا لقيناه فلا بد من الثبات.
وتأمل ما حصل للأنبياء من الشدائد، وما حصل لهم من المصائب، يهيئ النفس لحصول أي شيء يقع في المستقبل، نعيد تأمل وتدبر ما حصل للأنبياء من الشدائد، يهيئ النفس لتلقي أي ضربة تأتي في المستقبل، أي كارثة تأتي في المستقبل، أي مصيبة تأتي في المستقبل، لذلك بعض الناس يقولون: ما هي فائدة التربية إذا كانت بالكتب؟
نقول: التربية التربية، ثم نقول: وسائل التربية، فلا بد أن نقرأ، نقرأ القرآن، نقرأ الأحاديث، ونقرأ كلام العلماء، ونقرأ قصص الأنبياء، ونقرأ قصص الصالحين وسير السلف، فهل هذه التربية نظرية؟ يعني هل هذه القراءة نظرية لا فائدة منها؟
لا، خطأ، بل فيها فائدة كبيرة، ولذلك بعض الناس يقلل جداً من طريقة التربية بالقراءة وتحضير المواضيع وإلقاء الموضوعات ومناقشة الموضوعات ومدارستها، والاستفادة منها، مع أن لها فائدة كبيرة في تربية النفس، فمن الفوائد على سبيل المثال ما نقرأه نحن الآن، نحن الآن نقرأ كلام ابن القيم وهو يعدد لنا ويشحذ الهمم فينا، ويقول: "أين أنت يا قليل العزم؟ أين أنت والطريق طريق تعب فيه آدم؟ وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاس الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ، تزهى أنت باللهو واللعب؟" [الفوائد، لابن القيم، ص: 42].
هذا الكلام يعطي في أنفسنا أشياء تساعدنا عندما نتلقى المحنة -لا سمح الله-، أو عندما تنزل بنا الشدائد، ولذلك الناس يقولون: كيف نتربى؟ التربية بالأحداث جيدة، وربما يعرض لك أحداث تتربى منها، لكن لو ما حصلت أحداث، كيف تتربى؟ فالاطلاع والقراءة مهمة جداً في التربية، لكن ليست قراءة نظرية تنسى بعد قليل، وإنما هي قراءة تتفاعل مع النفس، ولذلك الإنسان أحياناً يقرأ هذا الكلام، مثلاً يقرأ سيرة يوسف، ثم قد يتعرض -لا سمح الله- للسجن، فإذا سجن أو دخل السجن، فإن السجن يعتمد على الداخل، فإذا كان الإنسان قرأ عرف سيرة يوسف وغيرها، فإن السجن سيكون سهلاً عليه؛ لأنه متهيئ عنده خلفية نظرية سابقة في نفسه فهو متهيئ، لكن الإنسان لو ما قرأ وقال: أنا غير مقتنع بالكتب، وهذه لا تربي شيئاً، فإنه سيفاجأ بالحدث، صحيح أن الحدث قد يربيه، لكن ما الذي يخفف وقعه عليه؟ وما الذي يجعله يتصرف التصرف الصحيح؟ هي التربية السابقة التي كانت عبارة عن قراءات، كثير منها عبارة عن قراءات في الماضي، نحن الآن قبل أن تحصل نكبة من النكبات، لو لم تكن النفوس مهيأة.
لو واحد قال لك: يا أخي كتب وأشرطة، سئمنا، هذه لا تربي، لكن أنت عندما تكون سمعت شريطاً أو محاضرة أو درساً في المحنة، أو في مواجهة الشدائد والحروب، إلى آخره، عندما تحصل كارثة تكون أنت مستعد نفسياً، والاستعداد النفسي هذا مهم في الثبات؛ لأن الناس الذين ليس عندهم استعداد نفسي في كثير من الأحيان يزلون في مثل هذه المواقف.
العبرة باليقين والإيمان الذي يحدث في النفس
ثم قال رحمه الله تعالى: "وحد قس وما رأى الرسول، وكفر ابن أبي وقد صلى معه في المسجد" [الفوائد، لابن القيم، ص: 44].
طبعاً قس بن ساعدة الإيادي كان من الموحدين، وهو صاحب القولة المشهورة: "أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور وبحار" ... إلى آخره من تعداد الأشياء التي تدل على وحدانية الله ، الرجل هذا مات موحداً، لكن ما رأى الرسول ﷺ على إرثه من أبيه الخليل إبراهيم.
وكفر ابن أبي وقد صلى معه في المسجد.
فإذاً، العبرة ليست بأن ترى الشخص حتى تؤمن به، وإنما العبرة باليقين والإيمان الذي يحدث في النفس عندما تعلم أن هذا حق ويقين.
ولذلك نحن الآن أصعب الإيمان في حقنا أصعب من الصحابة، لماذا؟
لأن الصحابة رأوا رسول الله، ورأوا معجزاته، وعاينوا التنزيل، وعاشوا في فترة الوحي، وشهدوا تأييد الله لرسوله.
لكن نحن ما رأينا رسول الله ﷺ، ولا تأثرنا بالحياة معه.
مجرد رؤية الرسول ﷺ كانت تزيد الإيمان، بل كانت تفرج الهموم إذا جاءه الصحابي فرآه، فكان في رؤية الرسول ﷺ والجلوس معه فوائد كثيرة، وكان فيها تعليم كثير جداً، وكان فيها قدوة وتربية.
نحن ما رأينا رسول الله، نحن ما عندنا إلا كتب صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، ابن حبان، مسند الإمام أحمد ...، إلى آخره، ما عندنا إلا الكتب هذه، لكن مع ذلك من أراد سلوك سبيل الإيمان والتأثر فسيؤمن ويتأثر بها، ومن رفض فربما لو عاش مع رسول الله لكان من أصحاب عبد الله بن أبي من المنافقين، وهذا يدلنا على أمر آخر أيضاً وهو: أهمية الإيمان بالغيب، نحن ما رأينا الدار الآخرة، ولا رأينا الجنة ولا رأينا النار، ولكن نؤمن بها وما رأيناها، هذا يدلنا على أن الله من امتحانه للمؤمنين: إيمانهم بالغيب، ولذلك كان أول شيء وصف به المؤمنين في سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ [البقرة: 2 - 3] فهذا الإيمان بعالم الغيب، عالم الشهادة سهل، كلنا نرى الأشياء المحسوسة ونسمع ونلمس ونذوق ونشم، لكن الغيب هو فعلاً المحك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .
الغيب منه غيب ماضٍ، ذهب؛ مثل الرسول ﷺ شخصه غيب ماضٍ.
وهناك غيب مستقبلي، وغيب حاضر، الغيب الحاضر شيء يحدث في العالم، لكن أنت لا تحس به، والغيب المستقبلي مثل ما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه والجنة والنار والحساب، وتفاصيل الحساب، إلى آخره.
المسائل التي هي من أعاجيب قدر الله -عز وجل-
ثم قال رحمه الله مبيناً مسألة من المسائل التي هي من أعاجيب قدر الله ، والحقيقة أن التفكر في قدر الله يزيد الإنسان، لكن ما معنى قدر الله؟ يعني الأحداث التي يجريها الله، يزيد الإنسان إيماناً، قال في إحدى خواطره وفوائده: "سبق العلم بنبوة موسى، وإيمان آسيا، فسيق تابوته إلى بيتها"، تابوت موسى الذي وضعته فيه أمه، أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص 7] تجعله في تابوت وتجعل التابوت في اليم فيلقه اليم بالساحل، فسيق التابوت إلى بيت آسيا التي آمنت به "فجاء طفل منفرد عن أم"، عزل عن أمه "إلى امرأة خالية عن ولد"، لا تنجب أصلاً، "فلله كم في هذه القصة من عبرة، كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد"، كان فرعون يخشى أن يخرج من بني إسرائيل رجل يكون هلاكه ونهاية ملكه على يديه، فصار يذبح أولاد بني إسرائيل "كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد؟ ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك" تمعن، يقول: "كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك"[الفوائد، لابن القيم ص: 44].
عجيب هذا عجيب، هذا فعلاً من عجائب قدر الله أن فرعون يخشى ويعمل من هذه الخشية ويذبح، ثم يكون الشيء الذي يخشى منه يربيه في قصره وينعم عليه ويغذيه ويكرمه ويربيه حتى يشب، ثم يقود الأمة بني إسرائيل على فرعون، فيهلك الله فرعون بقيادة موسى.
وهذا يعلمنا أن أعداء الإسلام يخططون لهدم الدين، ويسعون لكل طريق لإطفاء نور الله، فعندهم خطط ضد المساجد وضد الدروس وضد المحاضرة وضد الكتاب الإسلامي والشريط الإسلامي، وضد الدعاة، وضد كل شيء طيب يقوم به الدعاة إلى الله ، وعندهم في المقابل وسائل الإفساد، من إفساد الناس بأنواع الملهيات والمغريات والشهوات، لكن مع ذلك، رغم كل هذه الأشياء، رغم المحاربة والاشغال بالباطل، رغم محاربة الحق والسعي بالفساد في الأرض وإشغال الناس بالباطل تخرج أجيال من الصحوة الإسلامية اليوم، أنت لا بد تتفكر في رحمة الله، أنت إذا فكرت في الغزو الفكري وغير الغزو الفكري، أنواع الغزو كلها التي تعرض لها المسلمون، خصوصاً في القرن الأخير هذا، والحرب التي تعرض لها الدعاة إلى الله، كم ذبح من المسلمين في الجزائر والأفغان والأندلس والفلبين وكشمير وغيرها ذبحاً وتقتيلاً وتشريداً وسجناً وتعذيباً، ثم غزو فكري وملهيات وأفلام وكرة، وإلى آخره، ومع ذلك تخرج أجيال من الصحوة، كيف هذا؟ "كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك"، ولذلك هذا العمل يبين فعلاً هذا الشيء، القدر هذا الذي جرى الآن بأن يكون هناك كثير من أجيال من أفراد وهؤلاء المسلمون الخلص من جيل الصحوة اليوم يثبت أن الله غالب على أمره، وأن قدر الله سينفذ رغم أنف أعداء الإسلام، وأن الله سيتم هذا النور مهما حصل، ومهما حدث، فالله متم نوره ولو كره الكافرون.
وهذا شيء يزيدنا إيماناً على إيمان ويقيناً على يقين.
انتشار الفساد في الأرض
ويقول رحمه الله تعالى" اقشعرت الأرض" في موضوع له علاقة بالنقطة هذه "وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح وكأنكم بالباب وقد أغلق وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 227] [الفوائد، لابن القيم ص: 49].
كأنه يتكلم رحمه الله عن هذا الزمان، وما حصل فيه من الفساد ومن الشدة وما هو المطلوب من الناس اليوم، يقول: "اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة" وحصل، وذهاب البركات، وحصل، أحياناً تجد لك ثمرة كبيرة، ثم لا تستفيد منها شيئاً، ومال طائل، واحد راتبه عشرة آلاف، ثلاثة عشر ألف، خمسة عشر ألف، عشرون ألف، ويذهب كله ولا يستفيد منه، تنعدم البركة وتنعدم البركة في الأموال بذهابها من حيث لا تشعر، أو بأن تفتح عليك أبواب صرفيات تذهب فيها الأموال، وتزول البركة من الأولاد، فلا يبر من الأبناء بآبائهم إلا القليل ممن رحم الله، وتنزع البركة من الأوقات، فيذهب الوقت بسرعة ولم تستطع أن تعمل شيئاً يذكر، وتذهب البركة تذهب البركة من أمور كثيرة جداً، ولكن هذه المسألة نسبية، فإن البركة في الزمن تقل عبر مرور الزمن، لكن في أناس لا زال الله يبارك لهم في أوقاتهم، في نفس الوقت الذي يعيشون فيه أناس محقت البركة من أعمارهم، ولا زال الآن في ناس يستطيعون أن يعملوا في ساعة ما لا يستطيع غيرهم أن يعمل في نفس الساعة، مع وجودهم في نفس العصر والمصر، والسبب أن هؤلاء أطاعوا الله، فبارك لهم في وقتهم، وأولئك عصوا الله فلم يبارك لهم في أوقاتهم.
وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش.
-سبحان الله- المجاعات الموجودة الآن في العالم، وقلت الخيرات، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، دائماً إذا نحي شرع الله عن التطبيق عم الظلم في الأرض، والقوي يأكل الضعيف، والغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقراً، وهكذا..
وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل، بلاء قد ادلهم ظلامه، فقد جاءنا شيء من البلاء ومن الظلام ومن الغمام الذي هو منذر بسيل من العذاب، نعم والله لقد جاء من هذه النذر وحصل، فما هو، ما هو موقف العبيد الآن؟
يتوجه الناس إلى أي شيء الآن؟
إلى التوبة، فينبغي أن تستغل هذه الأحداث في توجيه الناس إلى التوبة.
ينبغي أن تستغل هذه الكربات في تصحيح المسار.
ينبغي أن تستغل هذه الشدائد في تليين القلوب، حتى تتغير الأحوال إلى أحسن.
حال العبد في الاهتمامات التي ينشغل بها
ثم قال رحمه الله مبيناً حال العبد في الاهتمامات التي ينشغل بها، قال: "من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان، فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله"[الفوائد، لابن القيم ص: 51] لو أن إنساناً يريد أن يعرف مكانته من السلطان، فلينظر السلطان عينه في أي وظيفة؟ وبأي شيء شغله؟ فإذا شغله في وزارة أو شغله في شركة عظيمة أو أموال وفيرة أو منصب مهم، فإنه يحس أنه مكرم، لكن لو أشغله كناساً أو حاجباً يهش عنه الذباب ، فما هي قيمته عند السلطان إذاً؟
فإذاً، هذا شيء وضيع فهو إذاً غير مكانه بعيد من السلطان بخلاف الشخص المقرب والوزير الخاص معناه أنه قريب من السلطان.
فإذا أراد العبد أن يعرف مكانته من الله، والله -يا جماعة- أن كلام ابن القيم دقيق فعلاً يعبر ويدفع إلى التفكير في أشياء، فإذا أردت أن تعرف قربك من الله ومكانتك عند الله، فانظر أنت منشغل بأي شيء؟ أو شغلك الله بأي شيء؟ فإذا أنت مشتغل بالتوافه وسفاسف الأمور معناه أنك بعيد مع الله، وإذا كنت مشتغلاً بطاعته والدعوة إلى سبيله والصبر على الأذى والمحنة من أجله، والسعي في مرضاته، والاستكثار من حسناته، فمعنى ذلك أنك قريب منه، "من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله"[الفوائد، لابن القيم ص: 51].
تقوى الله وحسن الخلق
ثم قال رحمه الله تعالى فائدة جليلة: جمع النبي ﷺ بين تقوى الله وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، وهذا أمر مهم وله انعكاسات في الواقع، فإن من الناس من يكون يعبد الله يبكر إلى المسجد ويأتي بجميع الفرائض ويؤدي الزكاة ويقوم بالصيام ويحج بيت الله ويتصدق من أمواله بصدقات كثيرة ويكثر الاستغفار ويدعو دائماً ويختم القرآن كل أسبوعين أو ثلاثة أو شهر، فهو إذاً يعني من ناحية العبادة والتقوى طيب ولا يزني ولا يشرب الخمر ولا يفعل المعاصي، لكنه سيئ الخلق معاملته مع الناس سيئة، وهذا الأمر الذي يدفع كثير بعض الناس إلى أن يتباعد عن بعض الطيبين أو من بعض أهل الخير بسبب أن هؤلاء من أهل الخير أو الطاعة أو الاستقامة أو ما يسمى بالملتزمين ونحو ذلك خلقهم سيئ، ولذلك الرسول ﷺ قال في موضوع الزواج: من أتاكم ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ لأن الزواج لا يكفي فيه فقط استقامة الشخص على الشريعة من جهة أداء الواجبات وترك المحرمات، وإنما لا بد أن يكون حسن الخلق، وفي المقابل تجد بعض الكفار عندهم من حسن الخلق ما لا يوجد عند بعض المسلمين، مع أنهم ليسوا على شيء من الدين والعبادة بالكلية، فيقول الناس-طبعاً الناس الذين الموازين عندهم مختلة-: يا أخي انظر هذا الكافر أنا عندي أحسن من هذا المسلم، هذا الكافر الفاجر المشرك العاصي هذا عندي أحسن من هذا، يقول لك صاحب شركة -وهذا من الواقع تجده-: هذا الموظف النصراني هذا الكافر البوذي هذا الهندوسي، هذا أنا عندي أحسن من هذا المسلم هذا، هذا يروح يصلي ويتغيب عن العمل وعلاقته سيئة بزملائه الموظفين ومع الزبائن، وهذا الموظف النصراني ممتاز في العمل يأتي على الوقت وينصرف بعد الوقت يجلس في الشركة أكثر، معاملته مع الموظفين ممتازة، ولا أحد يشتكي منه، وأخلاقه عالية في العمل ويجتلب الزبائن ومخلص وكأن الشركة شركته، فانظر الآن في أن هذه الشريعة أو هذا الدين وطريقة سيد المرسلين تجمع بين العبادة والتقوى وحسن الخلق، وليست عبادة فقط دون حسن الخلق، جمع النبي ﷺ بين تقوى الله وحسن الخلق، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يوجب له محبة الناس، ولذلك الداعية لا ينفع أن يكون داعية إذا كان حسن العبادة لكن ليس بحسن الخلق، بينما المبشر بالنار بالنصرانية ناجح في التبشير؛ لأنه حسن الخلق وإن كان من المشركين من الذين لا يعرفون التوحيد ولا يقرون لله ببعثة محمد ﷺ ولا بدين الإسلام، وهذا الأمر الذي أتي فيه الناس المسلمون الآن.
الآن المناقشات والحجج كثيرة على قضية: يا أخي فلان هذا صح دينه و.. و.. المسجد، لكن خلق ما في، والناس مشكلتهم أن موازينهم مضطربة، الناس لا يعرفون ولا يوقنون أن الموحد هذا يدخل الجنة يوماً من الأيام وإن كان سيئ الخلق، وحسن الخلق خالد في النار ولا يدخل الجنة مطلقاً إذا كان من غير أهل التوحيد، هذا الميزان عند الناس غير موجود، فهم يرون الأشياء القريبة، مصافحة، وابتسامة، وحسن استقبال، وتعامل جيد، وصدق في الوعد وأمانة، هذا الذي يراه الناس ولا يقيمون وزناً لقضية التوحيد، ولكن هذا دين ودنيا، هذا الدين نزل ليصلح الدنيا والآخرة، ولذلك لا بد من حسن الخلق بالإضافة إلى العبادة.
تفريغ الخاطر لأوامر لله
ثم قال رحمه الله وهذا كلام مهم الآن في غمرة الأحداث قد يكون فيه ناس فقدوا وظائفهم وناس قلت معايشهم قل دخلهم خصوصاً بعض أصحاب الأعمال والدكاكين والأشياء هذه ربما حصل عندهم أنواع من التضايق في المعيشة والتضييق في العيش، قال رحمه الله تعالى: فرغ خاطرك لله بما أمرت به، فرغ خاطرك من الهموم من أجل الله ولا تشغله بما ضمن لك، فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان، مع أنه يجب عليك أن تسعى وتأخذ بالأسباب طبعاً، وإذا سد عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه، فلو سد عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه، فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة وهو السرة، هذا أين؟ في بطن أمه في الرحم، فلما خرج من بطن الأم وانقطعت تلك الطريق فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول لبناً خالصاً سائغاً، ما هما هذان الطريقان؟ ثديي أمه، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطع الطريقان بالفطام فتح طرقاً أربعة أكمل منها، طعامان وشرابان، ما هي أنواع الأشياء التي يأكلها الناس اليوم؟ إما أن تكون من الحيوان والنبات، وبالنسبة للشراب من الماء أو اللبن، طبعاً بقية الأشياء مكونة من هذه شيء من النبات مع الماء يطلع عصير وهكذا، وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ، فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيداً طرقاً ثمانية فما هي؟ فما هي؟ أبواب الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
العاقبة السيئة للاستهانة بالذنوب
ويقول رحمه الله تعالى أيضاً مبيناً العاقبة السيئة للاستهانة بالذنوب، الاستهانة بالذنوب خطرها عظيم، وكثير من الناس لا يأبهون للمعاصي التي يقومون بها بزعمهم أنها معاصٍ سهلة وأنها بسيطة وأنها ليست من الكبائر ولا من السبع الموبقات، فيقول ابن القيم -رحمه الله-: "يا مغروراً بالأماني لعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها، وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وحجب القاتل عنها بعد أن رآها عياناً بملء كف من دم، وأمر بقتل الزاني أو أمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل" فلو أولج بقدر الأنملة في فرج محرم وهو محصن فإنه يقتل أشنع قتلة، يعني رمي بالحجار، "وأمر بإيساع الظهر سياطاً بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر"، فإذا ثبت أنه شرب من المسكر، أو أنه قذف بكلمة واحدة ثمانين جلدة، "وأبان عضواً من أعضائك بثلاثة دراهم" إذا استوفت شروط السرقة الحد بثلاثة دراهم تقطع الكف من المفصل، "فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه: وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس: 15] دخلت امرأة النار في هرة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعمر بآخره، والعمل بخاتمته"[الفوائد، لابن القيم ص: 63] والله يوفق أهل الاستقامة لتكون خاتمتهم حسنة، "من أحدث قبل السلام" الآن يضرب مثال يوضح: "من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس بلحظات ذهب صيامه ضائعاً، ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه"[الفوائد، لابن القيم ص: 63].
فهذا يدل على أن العبد بين الخوف والرجاء، وعندما نقول ما معنى: العبد بين الخوف إلى الرجاء؟
يرجو رحمة الله ويرجو رحمة الله ويتذكر ويحسن الظن بالله ويتذكر ما أعد الله للمحسنين.
والخوف من الله كيف يكون؟
بأن يتفكر في مثل هذه الأشياء، يتفكر أن أسباب الحدود هذه كانت يعني يسيرة في النظر، ولكن الحدود في الدنيا والعقاب في الآخرة عقاب أليم.
ثم يقول أيضاً موجهاً نصيحة إلى الذين يتراخون في عمل الحسنات: "كم جاء الثواب يسعى إليك، فوقف بالباب فرده بواب: سوف، ولعل، وعسى" [الفوائد، لابن القيم ص: 63].
كم جاء طارق الخير يسعى إليك، الثواب يسعى إليك، حصلت لك فرص بأعمال الخير، لكن ما اغتنمت، ما الذي صرف عنها؟ بواب لعل، وعسى، وسوف. وهذه مشكلة كثير من الناس في التسويف والأماني التمني أنه سيفعل كذا في المستقبل، يعد نفسه بذلك، ولا يغتنم الفرصة لأن يعمل الآن.
وقال أيضاً رحمه الله ونكتفي بهذا المقطع الأخير الذي يبين فيه أن الله مع غناه عن العبيد إلا أنه طلب منهم أن يعملوا أموراً، ولكن العباد بخلوا بها، مع أنه لا يحتاج إلى عبادتهم وهم المحتاجون إليه، فقال: "لله ملك السموات والأرض، استقرض منك حبة فبخلت بها، وخلق سبعة أبحر، وأحب منك دمعة فقحطت عينك بها"[بدائع الفوائد: 3/ 217].
فنسأل الله أن يجعلنا ممن يعون ويتذكرون، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يرفع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربعة.
-
Abu Zaid
الله يزيدك من علمه وينفع بك المسلمين