إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70-71].
إخواني في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فاستكمالاً لما كنا قد تحدثنا عنه في موضوع: "الهوى"، فذكرنا بعض الحالات التي يدخل فيها الهوى، وما هو تعريف الهوى، وتحذير القرآن والسنة من الهوى، وحال السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- في هذا الشأن.
مشقة وصعوبة علاج الهوى
ونحن نتكلم اليوم -إن شاء الله- عن علاج الهوى، وهذا هو لب الموضوع، وهي الثمرة والفائدة المراد معرفتها من طرق هذا الموضوع، وإن كان جزءٌ كبيرٌ من العلاج يكون في اكتشاف الحالات التي يقع فيها الهوى؛ لأنه كثيراً من الأحيان -أيها الإخوة- لا يدري الإنسان أن هذا التصرف الذي وقع به هو عبارة عن هوى.
ولذلك قمنا في المرة الماضية بتسليط الضوء عن كثير من الحالات التي يقع فيها الهوى، قال الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله ﷺ من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال"[الموافقات: 2/264].
كفار قريش خرجوا في معركة بدر وأهلكوا النفوس والأموال في سبيل الهوى الذي استقر في نفوسهم، وتمكن من قلوبهم، فحرمهم الاستفادة والاستجابة لدعوة الرسول ﷺ.
الهوى سواءً كان عند أبي جهل وغيره هو: حب الرئاسة.
وسواءً كان عند سدنة الأصنام هو: حب الأصنام.
وسواءً عند الغوغائيين والتبع هو: حب من يعتقدون أنه قدوتهم وأنه من أئمتهم وهم من أئمة النار في الحقيقة.
فإذاً، هؤلاء رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، أليس كذلك؟
حتى قال الله -تعالى- في شأنهم: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: 23] وقال: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14].
ويقول ابن القيم -رحمه الله- مبيناً أهمية تخليص الأعمال من الهوى، يقول في شأن القلب وحال الإنسان: "ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص"[الجواب الكافي، ص: 122].
أحوال الإنسان مع الهوى
وللإنسان مع الهوى ثلاثة أحوال كما يقول أحد السلف:
الحالة الأولى: أن يغلبه الهوى، فيملكه، ولا يستطيع له خلافاً، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله فيه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: 23].
الثاني: أن يكون الحرب بينهما سجالاً، تارةً له اليد، وتارةً عليه اليد، تارةً يغلب الهوى، وتارةً يغلب الإنسان هواه.
الثالثة: أن يغلب الإنسان هواه، فيصير مستولياً عليه؛ مستولياً على هذا الهوى لا يقهره بحال من الأحوال، وهذا هو الملك الكبير والنعيم الحاضر، قال ﷺ: ما منكم من أحد، إلا وقد وكل به قرينه من الجن أي: يأمر بالشر، حتى الرسول ﷺ يأمره بالشر، الرسول ﷺ يقول في الحديث الصحيح: إلا أن الله أعانني عليه فأسلم [رواه مسلم: 2814].
قيل: إن هذا الشيطان أسلم أي: صار مسلماً.
وقيل: المعنى: فأسلم أنا من شره، أي: حتى الشيطان للرسول ﷺ أسلم، فصار الرسول ﷺ لا أحد يأمره بالشر.
فإذاً، هذا منتهى النعيم العظيم أن الإنسان يسيطر على هواه، فلا يدخل الهوى عليه، ولا يجد عليه سبيلاً.
الرجوع إلى الكتاب والسنة وترك مناهج أهل الضلال
ونحن في علاجنا للهوى -أيها الإخوة- يجب أن نتوجه إلى دين الله نستمد منه النور والضياء، وإلا فلو أننا تركنا لأنفسنا من أن نضع منهجاً لعلاج الهوى، فإننا لن نحل المعضلة، بل سنـزيدها تعقيداً، لذلك كان لا بد من الذهاب إلى القرآن والسنة لمعرفة المنهج الذي على أساسه نحارب الهوى ونسيطر عليه.
وقد وضع أقوامٌ من البشر مناهج يعالجون فيها الهوى فضلوا أيما ضلال، وارتكبوا أخطاء شنيعة.
ومن هؤلاء الأقوام: الصوفية ومن نحا منحاهم في طريقة علاجهم للهوى، فإنهم أتوا بأشياء لم ينزل الله بها من سلطان، وابتدعوا في دين الله أشياء عجيبة، فمن ذلك: أن أحدهم قال لمريد تابع له: إن أردت استخراج الهوى من نفسك، واستخراج الكبر، والاستعلاء على البشر، فعليك أن تفعل هذا الذي آمرك به، ما هو هذا الشيء؟
قال له: اذهب الساعة إلى الحجام، واحلق رأسك ولحيتك، وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة، وعلق في عنقك حقيبة، واملأها جوزاً، واجمع حولك صبياناً، وقل بأعلى صوتك: يا صبيان! من يصفعني صفعةً فأعطيه جوزةً، وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه.
هذا هو علاج الهوى عند هذا الرجل، حلق الرأس واللحية، ولبس الثياب البالية، ويعطي الأطفال جوزاً، ويقول: من يصفعني صفعة أعطيه جوزة.
فهذا المنهج الضال الذي لم ينزل الله به سلطاناً ليس هو المنهج الصحيح في علاج الهوى.
وهذا آخر من البشر غلبه هواه فنظر إلى جارية، فلم يفعل ما يأمره الله به من التوبة والاستغفار، وإنما ماذا حصل؟
قلع عينه التي نظر بها إلى المحرم.
هذا هو العلاج! أن يقلع عينه التي نظر بها إلى المحرم.
هل هذا هو العلاج الذي أمر الله به من ينظر إلى المحرمات؟!
فإذاً -أيها الإخوة- الناس إذا ابتعدوا عن منهج الله يأتون بأشياء مبتدعة غير صحيحة، وهذه من جملتها، لذلك كان لا بد من التمعن في طريقة القرآن والسنة في علاج الهوى.
ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت تحدث عليه الحوادث من هذا الهوى جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين، وهما لا يتناقضان، ولا يتعارضان، إذ أن الصحيح من الشرع لا يعارض الصريح من العقل مطلقاً كما دلت على ذلك قواعد القرآن والسنة.
معرفة أن هذا الهوى ابتلاء من الله مهم جداً.
معرفة أن هذا الذي تميل إليه نفسك من المحرمات أنه ابتلاء يبتليك الله به حتى يعلم مدى صمودك، ومدى ثباتك، ومدى مقاومتك لنفسك في سلوك الطريق المحرم.
الاستعانة بالله ودعائه
أيها الإخوة: أول ما يحتاج الإنسان في معالجته: الاستعانة بمولاه على هذا الأمر، من هو مولانا الذي نستعين به على الشدائد وعلى الأهواء التي نكابدها ونلاقيها؟
إنه الله -عز وجل-.
ولذلك -أيها الإخوة- كان لا بد من فتح الطريق مباشرةً بين العبد وبين ربه في استعانته بمولاه على هذا الهوى الذي يصيبه.
ومن ضمن الأشياء التي يشتمل عليها هذا المنهج في الاتصال بين العبد وربه: الدعاء؛ فإنه من أنفع الأمور التي تنفع العبد في التغلب على الهوى.
ولذلك كان من دعاء رسول الله ﷺ كما روى الترمذي والطبراني والحاكم عن زيد بن علاقة وهو حديث صحيح، وهو في صحيح الجامع: "كان من دعائه : اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء [رواه الترمذي: 3591، والطبراني في الكبير: 3591، والحاكم: 1949].
فهذا رسول الله ﷺ الذي أسلم شيطانه، فسلم من شره، ولم يعد أحدٌ يوسوس إليه بالشر، وهو المعصوم ﷺ كان يستعيذ من الأهواء، فما بالنا نحن الضعفاء الذين لا يقارن حالنا بحال رسولنا ﷺ؟
ربط القلب بالله والخوف منه
وربط القلب بالله خوفاً وطمعاً، ورهبةً ورغبةً، والوقوف بين يدي الله -تعالى- من أكبر الأشياء التي تنفع في مقاومة الهوى، والدليل على ذلك قال الله -تعالى-: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41].
قال مجاهد: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41].
إذاً، من أين أتى نهي النفس عن الهوى؟ كيف حصل للإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى؟
حصل له هذا الشيء بالخوف من الله ؛ لأن الله قال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41].
ولذلك كان نهي النفس عن الهوى هي نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة.
فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان وكل تجاوز، وكل معصية، وهو سبب البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى.
خوف الإنسان من الله ، خوفه من عقاب الله في الدنيا، ومن عذاب الله في الآخرة هو الوسيلة حقيقةً لأن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى.
العزيمة والارادة
وقد عقد العلامة ابن القيم رحمه الله -تعالى- عليه باباً في كتابه: ["روضة المحبين"، ص: 471] ذكر فيه أموراً كثيرةً من الأشياء التي تعين على مقاومة الهوى، ولخص بعضها من كتاب: "ذم الهوى" لابن الجوزي -رحمه الله تعالى-، فقال: ويمكن التخلص منه بأمور بعون الله وتوفيقه:
أولاً: عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها.
والمشكلة أن قوانا تضعف وتخور أمام مواجهة الأهواء والشهوات، فلا بد من العزيمة التي تملأ النفس صموداً وثباتاً ومقاومةً لهذه الأهواء والشهوات، ولا بد من جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة؛ لأن امتناع الإنسان عن ولوج المعصية وقت المعصية طعمه مر، وقت حصول المعصية وأنت تواجهها لا تستطيع أن تنـزع نفسك بسهولة، بمشقة شديدة جداً، ولكن عندما تطعم نفسك هذا الصبر الذي يكون علقماً في بعض الأحيان؛ مثل: الدواء للمريض، يكون الدواء في بعض الأحيان مراً، ولكن لا بد منه وهو علاجٌ نافعٌ، فلا بد من تناوله، فأنت حين تقاوم وتجاهد، ستشعر بمرارة فراق المعصية، ولكن إذا تجاوزت هذه المرحلة، فإن الله يعقب في نفسك حلاوةً عظيمةً تجدها في نفسك بعد انتصارك على نفسك.
لحظات المعركة يكون الوقع شديداً ليس سهلاً، لا تأتي الفرحة مباشرةً، ويأتي السرور مباشرة، لا بد من لحظات مجاهدة شديدة على النفس وشاقة وصعبة، بعد الانتصار يعقب الله في نفس العبد حلاوة الطاعة وحلاوة ترك المعصية، فالذي يصبر على العلقم في البداية يجد الحلاوة في النهاية، ولا بد من قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، ولا بد من ملاحظة حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة، أنت تعرف أن مقاومة الهوى ليست سهلة، تعرف أن الامتناع عن المعصية صعب، لكن أنت إذا جلست تفكر في العاقبة التي ستكون لك بعد امتناعك عن الوقوع في هذه المحرمات وفي هذه الشهوات، هذا يسهل عليك الأمر، وإذا جلست تفكر في الحلاوة التي ستجدها بعد المرارة، وفي النعيم الذي ستجده في الآخرة سيسهل عليك الأمر.
الإنسان يخلق للهوى
وكذلك: يتفكر الإنسان أنه لم يخلق للهوى، وإنما هو لأمرٍ عظيمٍ لا يناله إلا بمعصيته للهوى؛ كما قال الشاعر:
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت لـه | فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
لما يفكر الإنسان أنه ما خلق من أجل أن يتبع أهواءه وإنما خلق من أجل طاعة ربه.
هناك -أيها الإخوة- هدف عظيم، هناك من الناس من لا يختلفون مطلقاً عن الدواب يمشي كالبهيمة يتبع شهواته وأهواءه، لما يفكر الإنسان أنه وجد على هذه الأرض لا لاتباع الهوى، وإنما لاتباع شيء آخر.
قد هيؤوك لأمرٍ لو فطنت لـه | فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
قد هيؤوك ، أنت أيها العبد المسلم قد هيئت لأمر عظيم وهو عبادة الله.
لو فطنت له، المشكلة أن أكثر الناس لا يفطنون له.
فاربأ بنفسك، ارتفع بنفسك أن ترعى مع هذا الهمل، ومع هذه الحيوانات التي ليس لها همٌّ إلا اتباع الهوى والشهوات.
ألا يختار لنفسه أن تكون الحيوانات أحسن منه.
مقارنة حال الواقع في الهوى بحال بالحيوان
وكذلك: ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان أحسن حالاً منه، ولهذا تساق الحيوانات إلى منحرها وهي منهمكة في شهواتها.
أنت الآن عندما تنظر إلى حال رعاة الغنم تجد أنهم يسوقون القطعان إلى المنحر وإلى المجزرة، القطيع وهو يمشي على الأرض إلى المنحر، ويكون في الطريق أعشاب ماذا يحدث؟
يأكل من هذه الأعشاب وهو يمشي إلى المنحر، وإلى المكان الذي ستزهق فيه روحه، ويذبح ويهلك فيه وهو يأكل حتى آخر لحظة من هذه الحشائش الموجودة في الأرض.
إذاً، لا نريد أن نساق إلى جهنم، ونحن قد جعلت على أعيننا غشاوة الهوى والمسكرات من المنكرات؛ لأن الشهوات والمنكرات تسكر، فلا يعيش الإنسان في حالة وعي؛ فيساق إلى جهنم، فلا يكون الحيوان أحسن حالاً من الإنسان. يجب على الإنسان أن يرتفع فوق مستوى البهائم.
ولو فكر العاقل لحظة قضاء وطره وقارنها بما سيعقب بعد ذلك من الحسرة التي سيقضي فيها بقية عمره؛ لما اقترب من هذا الوطر ولو أعطي الدنيا.
والطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب الفتنة ولا يقاربه، كم من معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها.
ولذلك فإنه لا بد للمسلم أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم فوتت هذه المعصية من فضيلة! وكم أوقعت في رذيلة! وكم أكلة منعت أكلات!
الآن بعض الناس يأكلون بغير حساب؛ فيضر كثرة الأكل أجسامهم، فيذهب إلى الطبيب يشتكي فيمنعه الطبيب من قائمة كثيرة من الأكلات، ويحدد له أكلات قصيرة، أكلات ضئيلة قليلة، يحرمه من تلك الأكلات، ما الذي منعه من هذه الأكلات الطيبات؟
إنه كان يأكل بغير نظام في الماضي، فلذلك كم من شهوةٍ كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وأورثت ذماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء!
هذه المعاصي -أيها الإخوة- الله -عز وجل- جعل سنته في الكون أن العاصي لا بد أن يعاقب في الدنيا، فكم من شهوةٍ كسرت جاهاً بسبب هذه المعاصي، حتى أن الإنسان وأمام الناس ليس له وجه، المعصية كسرت جاهه، وأوقعته من مكانته أمام الناس، ونكست رأسه، فلا يستطيع أن يرفع رأسه أمام الناس، وأورثت له ذماً، وأعقبت له ذلاً، وألزمته عاراً لا يغسله الماء بسبب الغشاوة التي على أعين متبعي الهوى.
تصور العاقل لحاله بعد انقضاء وطره ممن يهواه
وكذلك مما يعين على علاج الهوى: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، هب أن رجلاً أراد أن يزني وجاءه هوى الشهوة، فعليه أن يفكر قبل أن يقع في الزنا، يفكر لو أنه قضى وطره من هذه المرأة المحرمة، ماذا سيكون بعد ذلك؟
تأمل العاقبة مهم جداً؛ لأنه هو الذي يمنعك من الوقوع في البداية، والله قد شبه من يتبعون أهواءهم بأخس الحيوانات وأذلها وأحقرها ألا وهو الكلب، فقال عن الرجل الذي أعرض عن آيات الله: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176]. فالرجل الذي يتبع الهوى عندما يتصور بأن حاله مثل حال الكلب، هل يا ترى يقدم على هذه الجريمة وعلى هذه الشهوة؟!
وشبههم الله -تعالى- مرة بالحمير، فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 50-51].
التأمل في بعض الآيات المبينة لحال متبع الهوى
وكذلك: إذا تأمل متبع الهوى حاله من بعض الآيات؛ كقول الله : قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124].
لو تأمل هذه الآية سيجد أن حرم الإمامة على متبع الهوى، لماذا؟
لأن الله يقول في آية أخرى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم: 29].
وهناك قال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124].
فالظالم يتبع الهوى، والظالم قد حرم من الإمامة، فمتبع الهوى قد حرم من الإمامة في الدين، فلا يمكن أن يجعله الله إماماً يؤتم به في الدين وهو متبع للهوى، فهو ليس بأهل لأن يطاع، ولا أن يكون إماماً ولا متبوعاً في الخير.
وجعل الله متبع الهوى بمثابة عابد الوثن، فقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: 23].
وجعل الله حظار جهنم -الشيء الذي يحوط جهنم- الهوى والشهوات، فقال رسول الله ﷺ: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات [رواه مسلم: 2822].
وجعل الرسول ﷺ اتباع الهوى من المهلكات، فقال: المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه [رواه الطبراني في الأوسط: 5754، والبيهقي في شعب الإيمان: 6865، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 453].
ولو تأمل صاحب الهوى أو الذي يأتيه الهوى ما له من العاقبة الحسنة إذا خالفه هواه، ومن النور الذي يدخله الله في قلبه، لثبت عند هذا ووقف، قال بعض السلف: "الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده"[روضة المحبين، ص: 477].
تأمل! الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، فتح مدينة بأكملها من شخص واحد أمر عسير جداً، لكن أعسر منه أن يخالف الإنسان هواه.
مجاهدة الهوى
وكذلك: جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال ابن القيم -رحمه الله-: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، ثم يخرج إليهم"[روضة المحبين، ص: 478].
وكذلك الذي يمتنع عن الهوى كأنه سيأخذ دواءً مراً، ولا بد أن يصبر على هذا الدواء، ولا بد أن يتبع نظاماً في الحمية من الهوى كما يتبع الرجل الذي يأكل الأكل المضر نظاماً في الحمية، ولذلك قال عبد الملك بن قريب: "مررت بأعرابي به رمد شديد في عينيه، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: ألا تمسح عينيك؟ قال: نهاني الطبيب عن ذلك"، وقال لي: إذا مسحت عينيك، يزداد الألم، ويزداد المرض شدة "ولا خير فيمن إذا زجر لا ينـزجر، وإذا أمر لا يأتمر" [روضة المحبين، ص: 479].
فعلاً الآن الذين يصيبهم الرمد هذا مثل حرق العين يريد أن يحك عينه، وقد يكون الطبيب نهاه عن هذا الفعل، وأخبره إن هو حك عينه، أن المرض سينتشر وسيشتد، فماذا يفعل؟ تجد الإنسان قوي الإرادة كأنه قد ربط بحبل يقاوم يده أن تمتد إلى عينه مع أنها تحرقه جداً، لكنه يقاوم أن يمد يده إلى عينه، قد يصيب جلد الإنسان حساسية أو حبوب، فيخبره الطبيب ألا يحك جلده مطلقاً؛ لأنه إذا حكها سينتشر، ماذا يكون شعور الإنسان في تلك الحالة؟
الشخص العاقل يحس بأن هناك دافعاً قوياً لأن يحك جلده، لكنه يصبر على الحك؛ لأن الحك سيجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، كذلك حال الذي يأتيه الهوى، إذا اتبع الهوى سيكون الأمر أسوأ، ولذلك هو يصبر كما يصبر هذا الرجل الذي به رمد شديد وحرقة في عينيه، فلا يحك عينه لأنه أمر بهذا، يقول عبد الملك بن قريب: فقلت لهذا الأعرابي: ألا تشتهي شيئاً؟ قال: بلى، ولكني أحتمي، عندي نظام في الحمية، الطبيب نهاني عن أكلات، يقول الأعرابي: "إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا"[روضة المحبين، ص: 479] الله أمرهم أن يمتنعوا عن أشياء، أن يتبعوا نظام الحمية من أشياء معينة، فغلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا.
قال الفضيل بن عياض في كلام على أن اتباع الهوى يحرم العبد من إصابة الحق، ومن معرفة الدليل، ومن التوفيق في أمور الدنيا والآخرة، يقول: "من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق"[روضة المحبين، ص: 479] فالذي ينغمس في الهوى لا يكاد الله يوفقه إلى خيرٍ أبداً، بل تجد بأن الطرق بينه وبين الخير مسدودة، والعوائق موجودة، لا يستطيع أن يصل إلى الخير؛ لأنه متبع للشهوات والهوى، ما اتخذ الأسباب فكيف يهديه الله؟!
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69] والذين لم يجاهدوا فينا، ماذا ستكون عاقبتهم؟
وكذلك كان بعضهم يطوف في البيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها، ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني | فكيف لي بها واللذات والدين |
قال: أنا أهوى الدين، لكن اللذات التي أراها تعجبني، فكيف أجمع بين هوى اللذات وبين الدين؟
فقالت المرأة: دع أحدهما تنل الآخر.
فعلاً دع الدين تنل الهوى، الإنسان عنده هذه الإرادة: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 1] طريق الخير وطريق الشر، أنت مخير، لا أحد يرغمك على سلوك أحد الطريقين، دع أحدهما تنل الآخر.
وهذا ترك الهوى، الآن لحظات تمر على الإنسان يعاين فيها مواقفاً من الشهوات والهوى، فإذا هو قاوم نفسه هذه المقاومة فإن هذه المواقف في الدنيا التي يقاوم فيها الهوى لا تنسى عند الله يوم القيامة مطلقاً، في ذلك الموقف الذي تزل فيه الأقدام، والذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، لا ينسى الله -تعالى- لعبده أبداً هذه المواقف التي وقفها في الدنيا.
أحدهم ترك شهوات وأهواء ولذائذ كثيرة في الدنيا محرمة من أجل الله ، فلا ينساها الله -تعالى- له يوم القيامة، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "رأيت سفيان الثوري -رحمه الله تعالى- في المنام -بعض المنامات التي ترى للصالحين لا بأس من حكايتها، إذا لم يرد فيها مخالفات شرعية، فبعض المنامات أو الرؤى التي رآها صالحون لأناس صالحين، كان السلف -رحمهم الله- يدرجونها في كتبهم، ويكتبونها وينشرونها؛ لأنها تؤثر، الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن- فقال عبد الرحمن بن مهدي وهو من كبار أئمة الدين: "رأيت سفيان الثوري -رحمه الله تعالى- في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله -تبارك وتعالى-، فحاسبني حساباً يسيراً، ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركةً، إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد ؟ فقلت: سفيان بن سعيد، فقال: تحفظ أنك آثرت الله على هواك يوماً؟ فقلت: إي والله، فأخذني النثار من كل جانب"[روضة المحبين، ص: 485]
النثار في اللغة: ما يرش على العروس في ليلة العرس من الزينة، أو الذهب، أو الزهور، إلى آخر ذلك.
نسأل الله -تعالى- أن تكون هذه من الرؤى الصالحة التي رئيت لـسفيان الثوري -رحمه الله-، فإنه كان من المجاهدين في الله حق جهاده في العلم والتقوى، ونال الإمامة في الدين.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في حديث: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رواه البخاري: 660، ومسلم: 1031] كيف نالوا هذا الظل؟
يقول: إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه؛ لأن عنده من القوة والنفوذ والسيطرة ما يستطيع به بسهولة أن يتابع هواه، فلما قاوم نفسه وقاوم هواه، وحكم شرع الله -تعالى-، ولم يتبع شهواته، وعدل بين الرعية كان له الظل يوم أن تدنو الشمس من رءوس العباد.
والشاب المؤثر عبادة الله على داعي الشباب لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، لولا أن هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله خالف هواه لما نشأ في طاعة الله، والرجل الذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة هواه الداعي له إلى أماكن اللذات، خالف الهوى الذي يدعوه إلى الذهاب إلى أماكن اللذات، وصار يذهب إلى أماكن العبادة والمساجد، أعقب الله له الأجر الجزيل بأن أظله في ظل عرشه.
والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه (هوى الرياء) وهوى أن يشاهده الناس، وأن يتحدثوا عن كرمه لم يقدر على ذلك، لو ما خالف هذا الهوى لما صار في هذا المكان يوم القيامة.
والذي دعته المرأة الشريفة الجميلة، فخاف الله وخالف هواه، نال نفس الكرامة.
والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيلاً عليهم يوم القيامة [ينظر: روضة المحبين، ص: 485].
التأمل في اللذة الناتجة عن مخالفة الهوى
ومن الأشياء التي تعين في علاج الهوى: تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى، فإن في قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، وغالب الهوى يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قهر هواه، بينما الذي يتبع الهوى يكون ذليلاً؛ لأنه اتبع هواه، فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن.
أحياناً -يا إخواني- الشيطان يزين للإنسان المعصية، فيراها جميلة جداً، فينظر إلى المعاصي بعين الحسن، المفروض أن ينظر إلى المعاصي بعين الاستقباح وعين الكراهية لهذا الأمر، كما أن اللص يرى لذة أخذ المال من الحرز الذي يأخذه بكل يسر وسهوله، لكنه لا يرى بعين الفكر قطع اليد، فلذلك يسرق.
وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة، فإن استوثق منه ضابطه كفه، الهوى مثل السبع، ومثل الأسد، إذا ربطته بسلسلة قوية، ما ينفلت منك.
يقول ابن الجوزي في "صيد الخاطر": "على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط"[صيد الخاطر، ص: 179].
أنه إذا جاءك الهوى فخالفه.
مخالفة النفس الأمارة
ومن الأمور المهمة في معالجة الهوى: أنه إذا جاءك الهوى في مسألة فخالفه، النفس الأمارة بالسوء، أو الشيطان يأمرك أن تفعل هذا الأمر، فعليك بمخالفته فوراً، قال أحد السلف: اعلم أن البلاء كله في الهوى، والشفاء كله في مخالفتك إياه، قال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.
مثلاً: الإنسان موقفه من الأحكام الشرعية يحتار هل هذا هو الصحيح، أم هذا هو الصحيح؟ أحياناً يكون الإنسان صادقاً ومخلصاً ويريد أن يصل إلى الحق، فيحتار ما هو الحل؟
فمن ضمن الأشياء التي ترجح قولاً على آخر أن ينظر الإنسان ويدقق ويفتش في نفسه، فينظر أي القولين أقرب إلى هواه فيخالفه ويأخذ الآخر، لماذا؟
لأن النفس في العادة تميل إلى المحرمات، وتميل إلى الخطأ، تميل إلى الأسهل، تميل إلى ما يشبع رغبتها، تميل إلى الحكم الذي لا يكلف الإنسان عناءً ولا مشقةً، لذلك ترى كثيراً من الناس يتبعون أهواءهم في الأحكام الفقهية، فيأخذ الحكم الذي لا يكلفه، لنفترض أن رجلاً من الناس قد وقف أمام حكمين في مسألة فقهية لم يستطع أن يرجح أحدهما على الآخر، فما هي أحد المرجحات التي يستطيع أن يستخدمها؟
أن ينظر نفسه إلى أي قول من هذه الأقوال تميل، فينظر القول الذي تلين له نفسه، ثم يتركه ويأخذ الآخر، إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.
أحياناً، الإنسان قد يشتبه عليه أكلة من الأكلات، هل هذه الأكلة فيها شيء محرم، أم ليس فيها شيء محرم؟ وليس عنده دليل يقطع فيها بأنها محرمة، فهل يأكل، أو لا يأكل؟
ينظر ماذا تميل إليه نفسه غالباً، يجد أن نفسه تميل إلى الأكل.
فإذاً، يخالف الهوى ولا يأكل؛ لأن الرسول ﷺ يقول: اتقوا الشبهات .
وغالباً ما تهوى النفس الوقوع في الشبهات، فلذلك لا بد من المخالفة، وهذا من أكبر العلاجات، ويقول ابن الجوزي -رحمه الله-: تأملت أمراً عجيباً وهو انهيال الابتلاء على المؤمن، وعرض صور اللذات عليه مع قدرته على فعلها، فقلت: سبحان الله! هاهنا يتبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين [صيد الخاطر، ص: 137] عندما تقف أمام الهوى أو الشهوة.
كما أرجو -أيها الإخوة- عندما أذكر في كلامي الشهوة، لا يعني شهوة الجنس فقط، فقد تكون شهوة المال، وقد تكون شهوة الوقوع في الغيبة والنميمة، وقد تكون شهوة الجور في الحكم بين الأولاد، أو بين الناس، أشياء كثيرة كلها شهوات في الحقيقة، شهوة الجاه والمنصب.
أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف أمام المحك، أمام المنعطف، هنا يبين أثر الإيمان، لا يبين في صلاة ركعتين مثلما يبين في هذا الموقف "والله ما صعد يوسف ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، تأملوا حاله لو كان وافق هواه"[صيد الخاطر، ص: 137].
فعلاً تأمل حال يوسف وفكر لما دعته امرأة العزيز: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23].
يوسف الآن أمام هذا الموقف، امرأة جميلة وصاحبة منصب وهي سيدة، وهو عبدٌ، وهو غريبٌ عن بلده وشابٌ، وهو أعزبٌ، وقد غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، وسيدها ليس له غيرة؛ لأنه قال بعد ذلك: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف: 29] ليس للسيد غيرة، وليس هناك أحدٌ يشاهد، واجتمعت دواعي وقوع الفاحشة أمام يوسف مما لا يجتمع مثله بين رجل وامرأة قط، لما حدث هذا الأمر.
تأمل لو أن يوسف وافق هواه ووقع على تلك المرأة، هل سيصبح نبياً صديقاً؟! ولكن وقوف يوسف في تلك المحنة أمام شهوته هو الذي أوصله إلى ذلك المقام: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]، قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: 23].
ولذلك كان سؤال الله الصراط المستقيم في الصلاة أكثر من مرة دائماً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] فيه تذكير للإنسان بألا يتبع الهوى، ويسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، الطريق المستقيم لا طريق الهوى.
خطر العشق والتعلق بالمخلوقين
وأنا أتكلم في هذا المقام الآن على نوع من الهوى فهو مهم وخطير، ولا بد من تفتيح العقل على معالجة هذا النوع من الهوى ألا وهو: هوى الشهوة، وهوى العشق، وهوى التعلق بالمخلوقين.
هذه المشكلة التي كانت ولا زالت سبباً كبيراً من أسباب انحراف الناس عن شرع الله ، ومن وقوعهم في حبائل الشيطان.
إن أعداء الإسلام لمعرفتهم بخطر هذا النوع من الهوى صاروا يستخدمونه ضد المسلمين، لذلك تجد اليوم نشر المغريات من أنواع الفساد، وتزيين الشهوات في أعين الناس، وفي عرضها عليهم من أكبر ما يورط الناس في الوقوع في المحرمات، أعداء الإسلام ما كفوا لحظة واحدة عن دراسة الوسائل التي تحرف المسلمين عن الصراط المستقيم، فكان من أقوى هذه الوسائل دواعي الشهوة، واستغلال الغريزة الكامنة في نفوس الناس لحرفهم عن الصراط المستقيم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وإذا أراد النصارى أن ينصروا الأسير -يعني: المسلم- أروه امرأة جميلة، وأمروها أن تقنعه في نفسها، يعني: هي التي تدخل عليه في سجنه، وتقدم له الأكل، وهي التي تنظفه، أو تلبسه ثيابه وهو مأسور، وهو في السجن لا يستطيع مقاومة، وتتلطف وتتودد إليه بالتصرفات والكلمات الجميلة المعسولة، وتطمعه في نفسها، حتى إذا تمكن حبها من قلبه، فعندما يشتاق إليها ويقع في حبائلها، بذلت له نفسها إن ترك دينه، فهناك يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [إبراهيم: 27] [الجواب الكافي، ص: 217].
هذه كانت من وسائل النصارى في القديم.
فالنصارى من زمان وهم يفعلون ويخططون للمسلمين هذه المخططات، هكذا كانوا يفعلون بأسارى المسلمين، من أي منطلق ينطلقون؟ وأي سبيل يسلكون لكي يصلوا إلى هدفهم في تنصير المسلمين؟
إنهم ينطلقون ويسلكون مسلك الغريزة واستغلال الشهوة، هوى الشهوة في نفس المسلم لكي يوقعوه في حبائلهم، فيصبح نصرانياً مرتداً عن ملة الإسلام وعن دين الله .
وهنا من أكبر الشهوات التي تواجه الناس اليوم قضية شهوة الجنس المتمثلة في ميل الرجال إلى النساء، وميل النساء إلى الرجال.
هذه المشكلة -أيها الإخوة- من أكبر المشاكل في قضية الهوى.
وكذلك قضية العشق: وهو تعلق القلب بالصور الجميلة سواءً كانت صورة امرأة، أو أمرد حسن.
هذه من البلايا والطامات التي ابتلي بها المسلمون، وهي تحدث بكثرة في أوساط المسلمين، رفع إلى ابن عباس وهو بـعرفة شابٌ قد انتحل حتى عاد لحماً على عظم، فقال: ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق، فجعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق عامة يومه [الجواب الكافي، ص: 215].
لما رأى حال هذا الشاب الذي أدى به العشق إلى هذه الحالة، جعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق من هذه المسألة عامة يومه وهو بـعرفة.
وقد بلغ بالعشاق عشقهم مبالغ عظيمة من التردي في المهاوي والمهالك، بل إنه أدى بهم إلى الوقوع في سوء الخاتمة -والعياذ بالله-، قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي": يروى أن رجلاً تعلق قلبه برجل فتعلق به وهواه واشتهاه، وصارت صورة هذا الرجل منطبعة في ذهن هذا الإنسان، ومستغلقةً عليه، حتى أن قلبه قد تعلق به أشد التعلق، فاشتد كلفه به، وتمكن حبه من قلبه، حتى وقع من هذا الألم، ولزم الفراش بسببه، وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه، نفر عنه نفرةً شديدةً، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده، فأخبره بذلك الناس، الناس أخبروا هذا الرجل الذي مرض بسبب العشق -والعياذ بالله- بأن معشوقه سيزوره، فماذا حدث؟ ففرح واشتد فرحه وانجلى غمه، وجعل ينتظره للميعاد الذي يضرب له، فبينما هو كذلك، إذ جاءه الساعي بينهما، فقال: إنه وصل معي إلى بعض الطريق، لكنه غير رأيه ورجع، ورغبت إليه وكلمته، فقال: إنه ذكرني وفرح بي، يعني: هذا العاشق ذكرني وفرح بي، ولا أدخل مدخل الريبة، ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته، فأبى وانصرف، فلما سمع البائس أسقط في يده، وعاد إلى أشد مما كان عليه، وبدت عليه علائم الموت، فجعل يقول في تلك الحالة:
أسلم يا راحـة العليل | ويا شفى المدنف النحيل |
رضاك أشهى إلى فؤادي | من رحمة الخالق الجليل |
يقول هذا العاشق وهو فيه علائم الموت قد ظهرت:
رضاك أشهى إلى فؤادي | من رحمة الخالق الجليل |
فقلت له: يا فلان اتق الله، قال: قد كان، أي: حصل الذي حصل، فقمت عنه، فما جاوزت داره حتى سمعت صيحة الموت -فعياذاً بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة- [الجواب الكافي، ص: 168].
هذه قضايا العشق والشهوة، والتعلق بالمخلوقين، وبالصور الجميلة، كلها ناتجة عن اتباع الهوى، وعن إسلاس القياد للنفس، وعن إسلاس النفس لتسير مع شهوتها، ومع متعلقاتها حتى تقع في الهاوية.
والذي يتعلق قلبه بشيء -أيها الإخوة- من الصعب أن ينفك عنه، والذي يتراجع في بداية الطريق أسهل بكثير من التراجع وقد مضى شوطاً في الطريق؛ لأنه كلما مضى أكثر كلما تعلق قلبه أكثر.
وقد تبدأ العملية في بدايتها في نوع من الإعجاب بتصرفات الشخص الآخر، والإكثار من ذكره وقصصه وسيرته، ولكنها تنتهي في النهاية إلى نوع من التعلق الشديد الذي يطغى على حب الله -تعالى-، ويصبح إرضاء ذلك الشخص هم العاشق الوحيد الذي تعلق قلبه بمعشوقه، حتى أنه يقدم إرضاء ذلك الشخص على رضا الله -تعالى-، فيكون قد وقع في شرك المحبة وهو الشرك العظيم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة: 165].
وهذه القضية -أيها الإخوة- فيها من الخطورة شيء عظيم، فإنها تسبب شقاء القلب وكلالته وتعبه حتى أنه ليسقط مريضاً مما ينعكس على الجسد فيمرض كما يقول هذا الشاعر:
فما في الأرض أشقى من محبٍ | وإن وجد الهوى حلو المذاقِ |
تراه باكياً في كل حينٍ | مخافة فرقةٍ أو لاشتياقِ |
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم | ويبكي إن دنو حذر الفراقِ |
[الجواب الكافي، ص: 213]
إذا ابتعد عنه بكى شوقاً إليه، وإن اقترب منه خاف على نفسه، فبكى خوف الفراق، ما الذي يسبب وقوع هذا النوع من المشاكل في قلوب بعض الناس؟
إنه القلب الفارغ من محبة الله ، هو الذي يسبب وقوع هؤلاء الناس في العشق وفي الهوى، قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى | فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
[روضة المحبين، ص: 138]
الشاهد: الشطر الأخير (فصادف قلباً خالياً فتمكنا) القلب إذا كان معموراً بحب الله ، والإنابة إليه، والإخبات إليه، والتوكل عليه، ومراقبة الله دائماً، هذا القلب الممتلئ بهذه الصفات الإيمانية من أعمال القلوب كيف يدخل فيه تعلق بالمخلوقين؟! كيف يحدث فيه عشقٌ؟!
لا يحدث، لذلك لا تحدث هذه المشكلة إلا في قلوب الناس الذين فرغت قلوبهم من محبة الله.
والقلب -أيها الإخوة- لا بد أن يشغل بحب شيء، القلوب تهوى وتحب، النفوس تحب، لا بد أن تشغل بحب شيءٍ، فإن لم تشغلها بحب الله -تعالى- أشغلتك بحب المخلوقين.
ونحن لا نتكلم الآن عن الحب الصحيح، أو الحب الشرعي كحب الرجل لزوجته، أو الحب الطبيعي كحب الجائع للطعام.
ولكننا نتكلم عن هذا النوع من الحب والعشق المحرم الذي يقع فيه كثير من الناس لداعي الهوى، فقد تقدم أن العبد لا يترك ما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبةً لأقواهما محبة، كما أنه يفعل ما يكرهه لحصول ما محبته أقوى عنده من كراهة ما يفعله، أو لخلاصه من مكروه، هذا كلامٌ دقيقٌ؛ لأن بعض الناس قد يكون في قلوبهم حبٌ لله، لكن هذا الحب قليل، فيدخل في قلب هذا الرجل حبٌ لشخص آخر، فيطغى هذا الحب على ذلك الحب.
وبهذا التفسير نستطيع أن نفهم كيف يقع بعض الناس الذين يسلكون سبيل الطاعة بالتعلق بالمخلوقين؟ وفي عشق الصور الجميلة؟
لأن هذا الرجل الطائع فيه محبة لله، كيف وقع في العشق؟ كيف وقع في التعلق؟
إنه وقع في التعلق بسبب أن محبة الله في قلبه أقل من محبته لذلك الشخص، فطغت محبته لذلك الشخص على محبة الله، فأخرجت محبة الله من قلبه وطردتها طرداً، وأشغلت القلب كله بهذا الشيء.
وسائل التغلب والتخلص من هوى العشق والتعلق بالمخلوقين
ولذلك كان لا بد من التدقيق في علاج هذه المشاكل، ومن الانتباه لها من بدايتها حتى لا تستفحل، وحتى لا تؤدي إلى ترك طريق الاستقامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تذكر مناتن المعشوق
فمن الأشياء التي يستطاع أن يتغلب بها على هذا الأمر أمور كثيرة؛ منها: قال ابن مسعود: "إذا أعجبت أحدكم امرأة، فليتذكر مناتنها" [روضة المحبين، ص: 473].
مناتنها: جمع منتن، المكان الذي يكون فيه النتن والوسخ والقذارة.
"إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مناتنها" هذا التذكر للمناتن يساعد على التخلص من عشق هذه المرأة.
ونفس القضية بالنسبة للمرأة مع الرجل فتتذكر مناتنه؛ لأن كل مخلوق من البشر فيه مناتن؛ بول، وعذرة، وعرق، ورائحة كريهة، وبخرٌ يخرج من الفم من جراء هضم الطعام في المعدة.
هذه المناتن والقبائح التي تكون في الشخص تذكرها يعين على الخلاص من هذه المشكلة.
ويضرب ابن الجوزي -رحمه الله- في "صيد الخاطر" مثلاً آخر لهذا الموضوع، فيقول: "إن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم وبلعه"[صيد الخاطر، ص: 122].
الآن عندما يرى الإنسان طبقاً من الطعام جميل وشهي، ويسيل اللعاب عند رؤية هذا الطعام.
الإنسان عندما يأكل الطعام في العادة هل يتذكر هذا الرجل صورة هذا الطعام وهذا اللحم المشوي، أو هذه الفاكهة اللذيذة، أو هذه الخضار الناضجة، هل يتذكر وهو يأكلها في الغالب كيف يكون في فمه وهو يطحن واللعاب يختلط به؟ وكيف ينزل إلى المعدة فتنزل عليه العصارات، فتشوه شكله بالكلية، إنك لو أكلت أشهى لقمة من لحم مشوي، فمضغتها في فمك، ثم أخرجتها من فمك لأي سبب كيف يكون شكلها؟ تأمل كيف يكون شكل هذه اللقمة بعد إخراجها من فمك ومضغها.
إذاً، تدبر مناتن من تتعلق بهم من الأمور المساعدة على صرف التعلق، وعلى صرف النظر عن هؤلاء الأشخاص؛ لأن لكل أشخاص قبائح، ولكن المشكلة أن كثيراً من الناس يفتنون بظاهر الشخص، لا يعرفون عيوبه الداخلية، فلو قدر لهم معرفة عيوبه الداخلية لما فتنوا به.
فيقول ابن القيم -رحمه الله-: "والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه" [الجواب الكافي، ص: 214].
الذي يدخل في الشيء، لأن الذي هو داخل فيه لا يرى عيوبه، والشخص الخارج تماماً الذي ما دخل لا يرى عيوبه، من الذي يرى عيوبه؟ الذي دخل ثم خرج.
ثم قال جملةً جميلةً" "ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيراً من الذين ولدوا في الإسلام"[الجواب الكافي، ص: 214]؛ لأنهم عرفوا حلاوة الإسلام لما كانوا في الجاهلية ثم خرجوا إلى الإسلام، فعرفوا بالمقارنة مناتن الجاهلية وعرفوا حال الشقاء الذي كانوا يعيشونه، فكانت المقارنة وانتقالهم من تلك الحال إلى هذه الحال من أكبر الأمور التي أعانتهم على التشبث بهذا الإسلام، ومعرفة حلاوته وذوقها، والعيش فيها بأحسن صورة وأجمل حال.
وهذا الأمر ليس مطرداً طبعاً، لا يعني أن كل من ولد في الإسلام هو دون من كان في الجاهلية ثم انتقل إلى الإسلام، لكن من الأمور التي تعين على معرفة العيوب: أن يكون الإنسان في الشيء ثم يخرج منه إلى الصورة الصحيحة، عند ذلك يعرف الأمر تماماً.
بعض الأمور المساعدة على النجاة من هوى العشق والتعلق بالمخلوقين
ومن الأمور المساعدة على النجاة من هذا الابتلاء: أن من ابتلي بعشق امرأة أو امرأة ابتليت بعشق رجل أو رجل ابتلي بعشق أمرد من الناس، هؤلاء الناس يجب عليهم أمور:
الأمر الأول: أن يعتقد بأن هذا ابتلاء من الله ، قد ابتلاه به ليعلم أيصبر أو لا يصبر؟ أيجاهد أو لا يجاهد؟ فإذا علم أن هذا ابتلاء، فإنه يسهل عليه.
الأمر الثاني: هذا الابتلاء يدفع إلى التعلق والفرار إلى الله ، وطلب الخلاص منه، والدعاء، والإقبال عليه بحرارة.
الأمر الثالث: الابتعاد عن مصدر الفتنة.
وهذا أمرٌ مهمٌ -أيها الإخوة- لدرجة أن بعض العلماء قالوا في علاج مثل هذه الحالات المشكلة: أن يبتعد الشخصان عن بعضهما حتى لا يرى أحدهما الآخر، ولا يسمع له خبراً، ولا يقف له على أثر، وإن كان في حي هو معه فيه، فإنه ينتقل إلى حي آخر، وإذا لم ينته الأمر بهذا، فإنه يترك بلده للبلد الآخر، فإن هذه الهجرة في سبيل الله، ولكن من استعان بالله قد لا يضطر إلى اللجوء إلى هذه الحلول، أما إذا تضايقت الأمور، ولم يتمكن الإنسان من علاج نفسه إلا بالمفارقة الكلية، فلا بد من فعلها والإقدام عليها.
وكذلك: التعلق بالله ، وازدياد الأمور التي تحبب هذا الإنسان بالله -تعالى- تطرد حب هذه الأشياء إلى الخارج، أنت عندما تحب امرأة، أو تتعلق بإنسان ما، ثم بعد ذلك تسلك السبل التي تزيد محبة الله في نفسك من فعل الطاعات، والإكثار من النوافل، وقراءة القرآن، وتعلم العلم النافع، والاشتغال بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذه الأمور -أيها الإخوة- تساعد في طرد محبة هذا الشخص سواءً كان رجلاً أو امرأةً من هذا القلب الذي مرض به، وتدبر معايب المتعلق به كما ذكرنا، وإشغال الذهن بالمفيد، فإن كثيراً من الناس الذين ابتلوا بما يسمونه الحب أو العشق يشغلون أذهانهم ليلاً ونهاراً، ولذلك -وهذه من المصائب للأسف في هذا العصر- ترى شعرهم الذي يكتبونه كله في هذه القضية، إذا فتحت صفحات جرائد ومجلات كثيرة، تجدها ممتلئة تماماً بهذه القصائد التي فيها مخاطبة الحبيب والحبيبة، لماذا؟
لأن العشق تمكن من قلوبهم حتى صاروا يصدرون أشعاراً تعبر عن مواقفهم تجاه هذه الأمور المحرمة، فاشتغل ذهنه بهذا الأمر، فصار يصدر أشعاراً تعبر عن ما في قلبه، ولو أنهم أشغلوا أذهانهم بالأشياء المفيدة كطلب العلم، والتفكر في الأمور التي تدل على الله ، وخشية الله ، فلو شغل الإنسان نفسه بمشاكل الدعوة إلى الله ، لما وقع في هذه المشاكل مطلقاً.
وكذلك: أن يعلي الإنسان همته، فيحاول أن يصل إلى معالي الأمور، وليس سفسافها وحقيرها.
وكذلك: تدبر قصة يوسف ؛ لأنها من أنفع الأشياء، حتى قال ابن القيم -رحمه الله-: "وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على الألف فائدة، لعلنا إن وفق الله أن نفردها في مصنف مستقل" [الجواب الكافي، ص: 210].
وكذلك: البعد عن أسباب الفتنة، وكتمان العاطفة، فإنه من الحزن كتمان العاطفة.
علاج الهوى بالتجرد وعدم المكابرة
وبعد هذا النوع من الاستطراد في هذه المشكلة التي قد تقع أحياناً، فإننا نعاود الكلام في النقطة الأخيرة في هذا الموضوع عن الحل الأساسي في علاج الهوى: وهو التجرد.
التجرد لله -عز وجل- من العلائق الدنيوية، التجرد من حظوظ النفس ومن شهواتها.
فنحن عندما ذكرنا أمثلة في المرة الماضية نعيد سردها مع عرض جانب التجرد فيها، عندما ينتقد الإنسان، وتوجه إليه النصيحة، يجب عليك -يا أخي المسلم وعليَّ أنا أيضاً- أن أقف موقف المتجرد عندما توجه لي النصيحة، وأفكر هل هذا الأمر الذي نصحت فيه فعلاً أنا واقعٌ فيه، أم لا؟
لا داعي لأن أكابر، وأن أرد، وأن أقول للآخر: من أنت حتى تنصحني؟
هذا من اتباع الهوى الذي يحملك على أن تربأ وتنأى بنفسك عن كل انتقاد وعن كل نصيحة؛ لأن حظ النفس وهوى النفس ألا تنتقد، فتجرد عندما توجه إليك النصيحة، عندما تقرر بخطأ ما، تناقش هل أنت أخطأت في هذا الأمر أم لم تخطئ؟
تجرد لله وأنت تقرر بهذا الخطأ.
تجرد لله إن كان الأمر فيه اعتراف بالخطأ، ولا داعي للمكابرة، ومحاولة إيجاد التبريرات والأعذار السقيمة التي تجعلك تشعر أنك بمنأى عن الخطأ وأنك لم تقع فيه، وهذه بلية قد ابتلي فيها كثير من الناس، فإنهم إذا وقعوا في أخطاء، وجاءوا يناقشون ويقررون بأخطائهم، يرفضون الاعتراف.
إنه من جانب الهوى: تجرد وتفكر.
تجرد لله ، قل: أنا أخطأت.
قولك: إنني مخطئ يزيدك في أعين الناس جلالةً وقدراً، خلاف ما يصور لك الشيطان، وما يصور لك اتباع الهوى من أنه ينقصك ويدني منزلتك.
إن كثيراً من السلف من الأسباب التي وصلوا إليها أنهم كانوا معترفين بأخطائهم، عمر بن الخطاب كان يقف على المنبر، ويعلن أمام الناس أنه مخطئ، ولذلك شهد التاريخ لنا بعظمة عمر؛ لأنه كان من جوانب عظمته أنه كان يقر بخطئه وهو خليفة المسلمين.
الرجل الذي يجب أن يظهر أمام الناس بأحسن صورة، حتى لا يقول الناس أخطأ الخليفة، من هذا الرجل المولى علينا؟ كيف نمشي وراءه ونقتدي به؟ مع ذلك كان إذا قرر على خطئه أقر.
وترى اليوم أناساً مغمورين في أبواب الدعوة إلى الله ينكرون أدنى خطأ ينسب إليهم؛ بسبب الهوى الحامل لهم على التعصب الذي يعمي أبصارهم عن رؤية أخطائهم وعن الاعتراف فيها.
إن هذه المسألة من الخطورة بمكان -أيها الإخوة-؛ لأنها تقضي على كل محاولة للتصحيح، لأن التصحيح ينشأ من الاعتراف بالخطأ، أنت إذا أقررت بالخطأ بدأت تسلك الطريق الصحيح.
أما إذا أنكرت وكابرت، وقلت: أنا غير مخطئ، فلن تصحح مطلقاً، هذه من البلايا التي ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين اليوم.
تجرد إلى الله من هذا الهوى، وراقب الله، وكف بصرك.
وكذلك وأنت تحاول ونفسك تحاول أن تتملص من بعض الأحكام الشرعية تجرد إلى الله، وحاسب نفسك، وقل: هل أنا في تملصي هذا على حق أم أنني مخطئ، ويجب أن أتمسك بهذه الأحكام؟
وأنت تتعامل مع إخوانك تجرد إلى الله من الأهواء، تجرد إلى الله من هوى الجور بينهم، فإن كثيراً من الناس يجورون في الحكم بين إخوانهم.
تجرد إلى الله من هوى الميل إلى بعضهم على حساب بعض، ورفع أناس لا يستحقون الرفعة، وخفض آخرين هم أهل لها بسبب الهوى الذي يحملك على تقديم فلان من الناس، لا لأنه أتقى لله وأعلم، وإنما لأنه أظرف، أو أجمل صورة، أو أخف دماً مثلاً، هذه المعايير الجاهلية التي يسلكها كثيرٌ من الناس في تقدير منازل العالم كلها من باب الهوى.
تجرد إلى الله وأنت تقيم الأشخاص، تجرد إلى الله وأنت تعدد مساوئهم ومحاسنهم، حبك الشيء يعمي ويصم، كثيرٌ من الناس إذا طلب منه مثلاً شهادةً في فلان من الناس، فتراه يخفضه ويرفعه من مقياس الهوى، لا من المقياس الشرعي الصحيح، وهذه من الطامات التي تسبب محق البركة في العلم.
وكذلك تجرد من الهوى وأنت مع إخوانك عندما تعاملهم، فأنت قد تغلظ على إنسان في القول، أو في الفعل؛ لأنه لا يوافق مزاجك، ولا طريقة تفكيرك، بينما أنت تحسن إلى فلان، وقد يكون أقل تقوىً، وأقل علماً من ذلك الرجل لمجرد أنه دخل في مزاجك، أو استهويت شخصيته.
وتجرد إلى الله ، والهوى يغالبك في عدم القيام لصلاة الفجر، ويجعلك تشد إلى الفراش لتريح جسدك أكثر وتنام أكثر.
وتتجرد المرأة لله -تعالى-، تتجرد لله -تعالى- وتقاوم هواها وهي تحكم بين أولادها.
ويتجرد الإنسان إلى الله من هوى الفوضى الذي يحمله على عدم ضبط مواعيده، وعلى عدم الانضباط في طلب العلم والإقبال على مائدة القرآن والسنة.
تجرد إلى الله.
بعض الناس يأتيه الهوى، فيقول: أنا أستطيع أن أتعلم لوحدي، أنا أستطيع أن أمشي لوحدي.
وهذا في نفسه هوى الفوضوية هو الذي يعمي عينيه عن حديث رسول الله ﷺ: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية [رواه أبو داود: 547 ، وأحمد: 21710 ، والحاكم: 765، وقال الألباني: " حسن صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 427].
تجرد إلى الله من هوى المشاركة في المجالات التي كلها لهو ولعب.
وتجرد إلى الله من هوى الزواج بالجميلة حتى ولو كانت أقلَّ ديناً، أو حتى لو لم تكن ذات دين.
تجرد إلى الله وأنت تقرأ الكتب.
تجرد إلى الله في قراءة الكتب الصحيحة النافعة، وليس في قراءة الروايات والقصص التي تهواها النفس وتميل إليها.
وتجرد إلى الله يا أخي الطالب وأنت تدرس، وقدم دينك وخدمة دعوة نبيك على كل غرض دنيوي، ووازن بين الأمور، لا يطغى جانبٌ على جانب.
الموازنة الوسطية هي من صفات هذه الأمة، الوسطية (لا ضرر ولا ضرار) لا تتضرر في خدمة قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا في خدمة طلب العلم، ولا في خدمة الدراسة، وازن بين الأمور، لا يحملك الهوى على الانقطاع عن جانب والانغماس تماماً في الجانب الآخر.
تجرد إلى الله تماماً -يا أخي الموظف- وأنت في دائرة عملك، وتعايش كثيراً من المنكرات، ويأتيك الهوى، فيقول لك: من المصلحة أن تسكت، فإنك إذا تكلمت قد تطرد من العمل، وقد تضايق.
تجرد إلى الله وأنت تعرض عليك الوظيفة في مكان من الأماكن المحرمة، تجرد إلى الله وهوى نفسك يدفعك إلى أن تقبل بها، لأنها أكثر راتباً، أو أعلى منصباً.
تجرد إلى الله في موقفك من الأقوال والأحكام الفقهية، في موقفك من العلماء، بعض الناس يتعصبون لعلماء على آخرين، ولمذاهب على مذاهب.
هذا النوع من اتباع الهوى خطير، ويؤدي إلى الضلال، وقال الله : وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف: 85].
فالهوى يجعلك تبخس فلاناً حقه، وفلاناً جميله، وتنكر فضل فلان عليك.
تجرد إلى الله من هذا الهوى، أقر بفضل فلان وفلان من أهل الفضل، ولا تتعصب لعالم على آخر، اتبع الحق بدليله، لا تتبع هواك في انتقاء الأحكام.
فإذاً -أيها الإخوة- قضية التجرد ليست سهلة، لكن الذي يجاهد نفسه في سبيل الله، فلا بد أن يهديه الله السبل التي يستطيع بها أن يصل إلى مبتغاه.
أظن أن فيما ذكرنا كفاية، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من هذا.
وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لاتباع الحق.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيينا حياة طيبةً، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله أولاً وآخراً، وجزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.