الثلاثاء 15 شوّال 1445 هـ :: 23 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

طوبى للغرباء


عناصر المادة
مقدمة
غربة الإسلام بين الأديان والملل الأخرى
صفات الغرباء المذكورة في السنة النبوية
وصف الغرباء عند أئمة السلف وعلمائهم
تمسك الغرباء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم
تحقيق التوحيد لله تعالى
بشارة نبوية عظيمة تدعو للتفاؤل

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون   [آل عمران: 102].  يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا  [النساء: 1]،  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].

أما بعد، إخواني في الله، أحييكم بتحية الإسلام؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في البداية أعتذر نيابة عمن أوجد اللبس في وقت المحاضرة، وغفر الله للجميع، وكما قالوا: رُبّ ضارة نافعة فإن رسولكم ﷺ يقول: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً إلى الجنة  [رواه مسلم: 2699]. ومن جاء في صلاة المغرب خطأ، وجاء مرة أخرى في صلاة العشاء فنرجو الله أن يكون قد سلك مرتين طريقاً يلتمس فيه علماً، فيكون الله قد ضاعف له الأجر في سلوك الطريق.

مقدمة

00:02:00

بالنسبة لعنوان هذا الدرس فهو كما تعلمون: "طوبى للغرباء" وقد استغرب بعض الإخوة هذا العنوان وماذا يدل عليه وما هو مفهومه، وقد يكون ظنّ بعض الإخوة أن العنوان له علاقة بموضوع أدبي، فإن كلمة الغرباء تأتي في مثل هذه المواضيع الأدبية ولكن حقيقة من له اطلاع على شيء من حديث رسول الله ﷺ يعلم أنما هذه العبارة جزء من حديث صحيح ثبت عن رسول الله ﷺ وأنا أقرأ عليكم نصّ الحديث:

قال ﷺ في الحديث الصحيح الذي يرويه ابن مسعود مرفوعاً:  إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ...   إلى آخر الحديث. [رواه مسلم: 145].

غربة الإسلام بين الأديان والملل الأخرى

00:03:18

هذا هو الحديث الذي سيكون محور الكلام عليه -إن شاء الله-، وهو حديث تدارسه من الأهمية بمكان نظراً لحال المؤمنين في هذه الأيام ومن معجزات رسولكم ﷺ أنه أتى بالوحي من عند الله -تبارك وتعالى- ليخبر بحال الأمة وما ستؤول إليه الأمور وذكر شيئاً وطرفاً من الفتن وعلامات الساعة، والأحداث التي تكون ما بين مبعثه وقيام القيامة، وهذا الحديث يبدأ بهذه العبارة:  بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ  ذكر أهل العلم من شرّاح الحديث أن معنى: ((بدأ الإسلام غريباً)) ما حصل في بعث رسول الله ﷺ لما قام يدعو إلى الله ويبلِّغ الناس ما أوحاه إليه ربه -جل وعلا-، كم كان عدد المسلمين على وجه الأرض في ذلك الوقت؟ من الذي كان يدين بدين الإسلام الذي جاء به الرسول ﷺ في ذلك الوقت؟ بعض من بقي على الحنيفية، وبعض من بقي على شيء من المسيحية، ولا أقول النصرانية؛ لأن النصرانية هي المسيحية المحرّفة ولذلك لا يُستحسن إطلاق لفظ المسيحي على النصارى الموجودين اليوم، بل إن الله سماهم في القرآن النصارى.

هناك حقيقة عظيمة جلية وجديرة بالتفكر؛ وهي أن رسول الله ﷺ لما ابتدأت الدعوة لم يكن يوجد على وجه الأرض ممن يدعو إلى الإسلام إلا رسولكم ، تصوروا البشرية تغط في جاهلية جهلاء والناس في أبعد ما يكون عن الإسلام وعن الدين الصحيح والشرع الصحيح، يقوم رجل واحد في مكان من العالم في هذه البقعة المباركة، في مكة، يدعو الناس ويبلِّغ رسالة ربه، رجل واحد يريد أن يغيّر الأرض كلها، رجل واحد يريد أن يحلّ التوحيد محل الشرك، ويريد أن يطبّق منهج الله في الأرض كما يرضاه ربه -جل وعلا-، ويريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وإنه ﷺ يعلم علم اليقين أنه يواجه في طريقه هذا مصاعب وأهوال وشدائد وعقبات، ليس من السهل تغيير طريق أُسرة من أُسر المجتمع اليوم، فكيف بتغيير منهج البشرية كلها التي كانت قد انحرفت عن الطريق السوي وعن الإسلام الذي بعث الله به الرسل، بدأ الإسلام غريباً  بدأ بشخص واحد، شخص الرسول ﷺ، بدأ الإسلام غريباً في ظلمات الجاهلية انبعث نور الإسلام وسيعود غريباً كما بدأ  يقول في هذا الحديث المعجزة الذي ينبئ عن أخبار المستقبل: وسيعود غريباً كما بدأ  بدأ به ﷺ جماعة قليلة من البشر هي التي اعتنقت هذا الإسلام وجاهدت فيه وكانوا غرباء عندما ابتدأوا في طريق دعوتهم إلى الله -جل وعلا-، يقول وسيعود غريباً كما بدأ قال بعض المفسِّرين في قول الله -جل وعلا-: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا  [النصر : 1 - 3]. قالوا فيما نُقل من الآثار: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجاً، فيعود هذا الدين غريباً كما بدأ"، هذا ما يقوله ﷺ  فطوبى للغرباء  طوبى لها معنى في اللغة ولها معنى في الشرع، معناها اللغوي طوبى كلمة مدح وثناء تدل على أن لمن تقال له قرارة عين وطمأنينة بال وسرور، كما نقول: طوبى لفلان يعني: قرة عين له وطمأنينة له وهدوء بال وسرور.

أما المعنى الذي وردت به في الأحاديث والآيات فالمقصود به في جزئية من معناه: تلك الشجرة العظيمة التي في الجنة التي قال عنها ﷺ في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد وابن حبان عن أبي سعيد قال ﷺ: طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها [رواه أحمد: 11673، وابن حبان: 7230، وحسنه الألباني بشواهد في السلسلة الصحيحة: 1985].

لو سار الواحد في ظلها مئة عام لا يكاد يدرك آخرها، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.

وكما عُلِم من قواعد الاصطلاح أنه لا مانع من حمل الكلمة على جميع ما تتضمنه من معنىً ما دام الأمر يحتمل ذلك، ولا معارض له، فطوبى هنا يدعو الرسول ﷺ للغرباء بأن يكافئهم الله بشجرة في الجنة، شجرة طوبى ينتفعون بها في الجنة، وتكون لهم جزءاً من نعيمهم في الجنة، وكذلك يكون لهم طمأنينة وسرور وهدوء بال وراحة في الآخرة.

صفات الغرباء المذكورة في السنة النبوية

00:10:56

ولكن من هم الغرباء؟ هذا سؤال مهم؟ من هم هؤلاء الناس الذين لهم هذا الأجر العظيم؟ من هم؟ ما هو تعريفهم؟ من يكونون؟ ما هي صفاتهم؟ ما هو منهجهم؟ ما هي طريقتهم في الدعوة إلى الله؟ من هم هؤلاء الغرباء؟ وكيف أصبحوا غرباء؟ ولماذا سُموا غرباء؟ أحاديث رسول الله ﷺ يفسِّر بعضها بعضاً،  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى  [النجم: 3-4]. في رواية ابن مسعود مرفوعاً وهو حديث صحيح في السلسلة الصحيحة.

قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس لما رغب في حالهم وعظّم شأنهم، وقال:  طوبى لهم  قيل: من هم يا رسول الله؟ من هؤلاء الناس؟ تشوفّت نفوس الصحابة لمعرفتهم. من هم هؤلاء الناس؟ فجاء جواب رسول الله ﷺ شافياً كافياً في تعريف حالهم قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس 

إذا فسدت المجتمعات وفسدت البشرية وفسدت الأمم وفسدت سكان المدن والقرى، يكون هؤلاء الغرباء صالحين في أنفسهم يصلحون غيرهم لا يتأثرون بضغط الواقع ولا بشدة البيئة عليهم، ولكن يصلحون وتصلح أحوالهم إذا فسد الناس كلهم من حولهم، هذا ليس بسيطاً، من أصعب الأمور أن يواجه الإنسان التيار، من أصعب الأمور أن يكون كل من حولك فاسدين وتكون أنت صالحاً، من أصعب الأمور أن تقاوم هذا الضغط الجاهلي العنيف عليك وعلى بيتك وعلى أولادك، هذا أمر صعب جداً، لذلك استحقوا هذا النعيم: ((طوبى)) .

وفي تعريف آخر يقول ﷺ في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد عن ابن عمرو وهو في صحيح الجامع: طوبى للغرباء، أناس صالحون في أناس سوء كثير هذا يوافق التعريف الأول، لاحظوا أن المعنى اختلاط .. ما اعتزلوا الناس وذهبوا في المغارات وفي الكهوف كما فعل رهبان النصارى، أناس صالحين في أناس سوء كثير  إذن، هم مختلطون بهم قائمون بواجبهم معهم في الدعوة والتبليغ، لم يعتزلوا العالم ويدخلوا في الصوامع والديار، كما فعل رهبان النصارى.

ثم يقول مضيفاً وصفاً آخر لهم: من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم [رواه أحمد: 7072، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3921]. 

تأمل يا أخي المسلم حال القائمين بالمعروف والناهين عن المنكر الملتزمين بشرع الله وحدوده في هذه الأيام، الذين يبلّغون الناس دعوة الرسل، من بين كم من الناس يستجيب لهم؟ وكم من أفراد المجتمعات الفاسدة ينقادون لما يدعون إليه، ويستجيبون ويذعنون للأوامر الشرعية التي تبلغهم عن طريق هؤلاء الدعاة الناصحين، كثير من الناس صادون عن منهج الله، وكثير من العاصين لأوامر الله وكثير من الذين يقفون حجر عثرة أمام هؤلاء المخلصين ويعصون الأوامر جهاراً نهاراً من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، لاحظوا أن رسول الله ﷺ لم يفقد أمته الأمل ولكن أخبر أن هناك أناس سيطيعونهم ولكنهم قلة، سيوجد من يطيعهم لا بد ولكنهم قلة، أمة محمد ﷺ كما وصف بنفسه مثل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره، مثل الغيث، الفرق بين المطر والغيث: المطر هو الماء النازل من السماء، سواءً كان نافعاً للأرض أم غير نافع، سواء أنبتت الأرض بسببه أم لم تنبت، ولكن الغيث هو الذي ينفع الناس في معاشهم فتنبت الأرض وتسقى السائمة ويشرب الناس ولذلك امتنّ الله -عز وجل- على عباده في القرآن بإنزال الغيث والمطر أعم من الغيث والغيث أخص منه، يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في وصف هؤلاء، يقول: "المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزّها، للناس حال وله حال".

[رواه ابن أبي شيبة: 35210]. لا بد أن يتضح الفرق أمام كل عاقل بين من هو مشتغل بالدنيا، ومن هو مشتغل بالآخرة، الناس اليوم فريقان؛ فريق مشتغل بالدنيا، وفريق مشتغل بالآخرة، للناس حال وله حال، وهذا ما يحس به المخلص في نفسه وهو يعيش في المجتمع، يحس بأن له حال في عبادة الله وذهابه إلى المساجد، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتعلُّم العلم والسعي وراء تعلمه بكل وسيلة، هو يعيش في عالم آخر يختلف تماماً عن العوالم التي يعيش فيها الناس يحس بأنه يتحرك في هذا الوسط وهو غريب عنه لا تشبه صفاته صفاتهم، إذا إنسان قال: كيف بدأ الإسلام غريباً؟ نريد توضيحاً لهذا الكلام؟ الإسلام بدأ غريباً، كلنا نعلم ما هي المقاعد التي قامت عندما بدأ رسول الله ﷺ وصحابته يدعون إلى الله، كان الصحابة مستخفين متفرقين في القبائل، كان يأتي إلى الرسول ﷺ واحد من دوس فيسلم في مكة ويرجع إلى قبيلته داعية ويأتي واحد من قبيلة أخرى، وواحد من قبيلة ثالثة، وواحد من اليمن، وواحد من الشام، أو من بلاد الفرس، أو من الحبشة، وواحد، نزّاعاً من القبائل، كانوا نزّاعاً انتزعوا أنفسهم من قبائلهم متفرقين آحاد، وكان مع الرسول ﷺ أناس من قريش في مكة من الصحابة، ولكنهم كانوا مستخفين في بداية الأمر، روى الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: "كنا مع رسول الله ﷺ فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام  يعني: أحصوا لي: عدوا كل من تلفظ بالإسلام، أعطوني عدد المسلمين، الرسول ﷺ عرف فوائد الإحصاء قبل أن تعرفه أمم الغرب، اهتم بالإحصاء، أحصوا لي كل من تلفظ بالإسلام قالوا: فقلنا يا رسول الله ﷺ أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبع مائة، قالﷺ:  إنكم لا تدرون، لعلكم أن تبتلوا لعل البلاء يصيبكم، إنكم لا تدرون 

قال حذيفة: "فابتُلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً" [رواه مسلم: 149]. وقع البلاء ووقع عذاب قريش ومن حولها قامت كل قبيلة على من فيها من القلة المسلمة تشبعهم تعذيباً وتنكيلاً وفتنة لهم عن دينهم، حتى جعل الرجل من الصحابة لا يصلي إلا سراً، هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام لا يستطيع أن يظهرها، يسر بها في شعب من الشعاب وفي كهف من الكهوف، أو في جوف بيته، يخشى أن يطّلع الكفار على حاله فيفتنوه عن دينه، هكذا بدأ الإسلام، هكذا بدأ الدين غريباً، الرسول ﷺ يقول:  وسيعود غريباً كما بدأ  لا بد أن يعود غريباً كما بدأ، ومن تأمل في حال بعض أقطار المسلمين يجد هذا منطبقاً تماماً، فإن في بعض الأقطار لا يستطيع المسلم إظهار ولا حتى الصلاة هناك، في أحاديث الرسول ﷺ نذائر شر وبشائر خير، أحاديث الرسول ﷺ في آخر الزمان وفي حال الأمة بعد وفاته في بعضها نذائر شر، وفي بعضها بشائر خير، تعالوا بنا نتطرق إلى شيء من نذائر الشر في البداية حتى نعلم ماذا أخبر ﷺ عن حال الأمة في المستقبل ونقارن بين هذه الأخبار وبين أحوال المسلمين اليوم لنعلم ونزداد يقيناً في نبوته  وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31]. يقول الرسول ﷺ في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد عن فيروز الديلمي وهو في صحيح الجامع يقول: لينتقضن الإسلام عروة عروة 

وفي رواية صحيحة:  كما ينقض الحبل قوة قوة  هذه حبال السفن طاقات، الحبل مكوّن من عدة حبال ملفوفة على بعضها، تكوّن هذا الحبل المتين، إذا تصورت كيف يُنقض هذا الحبل جزءاً جزءاً، يُنقض ويُمزّع ويفصل عن بعضه، أو التعبير الآخر النبوي: لينتقضن الإسلام عروة عروة 

هذه  الأزرار في عروة الثوب لو بدأ الإنسان ينقض أزرار الثوب، ينقض الأزرار فيفصل الزر عن العروة ماذا يحصل للثوب ينفسخ الثوب ويطيح الثوب؛ لأن هذه الأزرار في العرى هي التي تمسك الثوب وينفتح الثوب فتحة بقدر العروة التي تُنقض، لينتقضن الإسلام عروة عروة  الإسلام ما ينتقض فجأة ويطيح الدين فجأة، ولكن ينتقض عروة عروة شيئاً فشيئاً، تدريجياً، وفي الحديث الآخر الذي يفسِّر هذا الحديث:  لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة حديث حسن كما قال صاحب الصحيح المسند من دلائل النبوة. [رواه أحمد: 22160، وصححه الألبان في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 50].

فيتشبث الناس كلما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها.

وقال ﷺ في الحديث الصحيح الذي يرويه ابن ماجه والحاكم وغيرهم عن حذيفة أنه قال:  يَدْرُسُ الإسلام كما يَدْرُسُ وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويُسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبق في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آبائنا على هذه الكلمة يقولون لا إله إلا الله فنحن نقولها  [رواه ابن ماجه: 4049، والحاكم: 8460، والبيهقي في الشعب: 1870، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 8077].  يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب لو أخذت قطعة من القماش مزخرفة عليها وشم زخرفة بتقادم الزمن وتطاول الوقت، مع الغبار ومع هذا المرور للوقت تبهت الزينة، ويبدأ النقش بهذه القماشة في الزوال والانمحاء، يشبّه الرسول ﷺ درس الإسلام بدرس هذا النقش في القماش يقول يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، تأمل معي في هذا التشبيه البديع كيف تبهت هذه الزينة ويذهب ضوؤها وزينتها ويصبح القماش قطعية بالية، كذلك يذهب ضوء الإسلام من نفوس الناس وتذهب زينته وبهاؤه ونضارته من قلوب الناس حتى يصل الجهل بالناس في الإسلام في مرحلة من المراحل حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، لا يعرف الناس حتى أركان الإسلام الخمسة، يعرفون من الدين كلمة لا إله إلا الله، يقول لهم أبناؤهم: ما معناها؟ يقولون: لا ندري، سمعناها من آبائنا فنحن نقولها كما يقولونها يقول ﷺ في الحديث الصحيح الآخر الذي يرويه أبو داود عن معاوية : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا عن ثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الملّة ستختلف على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء  [رواه أبو داود: 4597، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 2641]. فيه حذف تاء لمضارعه تتجارى،  تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه   الكلب هو الداء المعروف داء الكلب من أخبث الأمراض يتجارى بصاحبه لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله، هذا داء خبيث ينتشر في سائر أعضاء الإنسان إذا أصاب الإنسان، ما يترك عضواً إلا دخله، ويتجارى بصاحبه، كذلك تتجارى الأهواء بفرَق أمة محمد ﷺ.

ويقول ﷺ أيضاً:  إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيراً لهم وينذرهم ما يعلمه شراً لهم، وإن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء شديد وأمور تنكرونها، وتجيء فتن فيرفق بعضها  [رواه مسلم:].

وفي رواية:  فيرقّق بعضها بعضاً  يعني: تكون كل واحدة بالنسبة للتي قبلها مع عظمها بالمقارنة مع ما بعدها تكون هينة،  وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة ويقول المؤمن: هذه هذه  يعني: هذه التي ستهلكني وهكذا. حديث صحيح رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما. [رواه مسلم: 1844، وأحمد: 6503، والنسائي في الكبرى: 7766، وابن ماجة: 3956].   

ويقول : ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان  [رواه أحمد: 22452، وأبو داود: 4252، والترمذي: 2219،   وصححه الألباني في المشكاة: 5406].

والذي يتأمل في بعض قبائل المسلمين اليوم يجد أن كثيراً منها قد أُخرج من الإسلام إلى النصرانية، أو قبائل خرجت من الإسلام إلى الشيوعية، أو قبائل ارتدّت وعبدت الأوثان، وهذا حادث ومشاهد في كثير من ديار المسلمين، بل إنه قد ثبت أنه أخبر بأن أليات نساء من بني دوس ستضطرب حول ذي الخلصة، وهو صنم معروف، ستتراقص النساء طُوّافا حول هذا الصنم حتى تضطرب إلياتهم. [رواه البخاري: 7116، ومسلم: 2906].

وعن الزبير بن عدي قال: "أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، ذلك الوالي الظالم، فقال: "اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم محمد ﷺ"

قال: هذا الكلام ليس من عندي، هذا الكلام سمعته من رسول الله ﷺ [رواه البخاري: 7068].

ولكن قبل أن ننسى شيئاً مما يتعلق بهذا الحديث فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هذا النص: لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه [رواه البخاري: 7068]. هو نص عام تخصصه بعض الوقائع التي تقع الوقائع الصالحة التي تقع في بلاد المسلمين، فإن خلافة عمر بن عبد العزيز كانت خيراً مما قبلها مباشرة، وخلافة المهدي وعيسى ﷺ، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ستكون أفضل في زمانها من الزمان الذي قبلها مباشرة، فإن هذا الحديث عام مخصوص ببعض الأخبار التي وردت عن الرسول ﷺ.

ويقول مرداس الأسلمي في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري قال النبي ﷺ:  يذهب الصالحون الأوّل فالأوّل، ويبقى حفالة كحفالة الشعير .

وفي رواية: حثالة  [رواه أحمد: 17730، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح].  أو التمر لا يباليهم الله باله  [رواه البخاري: 6434]. إذا نخلت الآن الدقيق ونزل هذا الشيء الصافي الطيب يبقى في المنخل شوائب لا تنفع، مضرّة تُرمى ليس منها فائدة، هكذا ينُخل رجال أمة محمد ﷺ فيذهب الصالحون الأول فالأول.

وقال رسول الله ﷺ فيما أورده ابن أبي عاصم في كتابه السنة وهو حديث صحيح: وايم الله لتُكفأنّ أمتي عن دينها كما تكفؤون الإناء بالبطحاء  الآن الإناء الممتلئ بالإناء إذا أتى به واحد وكفأه في الأرض، يذهب كل الماء الذي فيه كذلك أمة محمد ﷺ مثل الإناء تحمل الإسلام يُكفأ الإسلام منها كما يُكفأ الإناء الذي فيه الماء.

وقال : ستكون بعدي هنّات وهنّات  أي: فساد وشرور.

[رواه أحمد: 18999، والنسائي في الكبرى: 3470، والحاكم: 2665، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3621].

إذا أردنا أن نستعرض بعض الأمثلة من التغير الذي حصل في حال السلف أو في حياة السلف فإن الشاطبي -رحمه الله تعالى في كتابه العظيم الاعتصام أورد أمثلة من التغيرات الأولى التي حدثت في حياة السلف فيقول في كتابه في المقدمة عن أبي الدرداء أنه قال: "لو خرج رسول الله ﷺ بينكم -يعني لو بُعث من قبره- الكلام بعد وفاة الرسول، "لو خرج من قبره ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة"

هذا الكلام يقال في عهد الصحابة، ما مضت فترة طويلة على الرسول ﷺ ولكن تغيرت أمور طفيفة، أبو الدرداء يقول: "لو خرج رسول الله ﷺ فيكم ما عرف من دينكم هذا كله الذي تفعلونه إلا الصلاة" [الاعتصام للشاطبي: 1/12]. وفي رواية: "إلا اجتماعكم على الصلاة" يعني: حتى الصلاة ليست مثل صلاة الرسول ﷺ فقط الاجتماع، يعني: جماعة المسجد، أما الصلاة، كيفية التطبيق مختلفة وتغير الأمر أكثر، فقال بعض السلف: "لو خرج فيكم ما عرف إلا الأذان" هذه الألفاظ التي لم تتغير، يقول الأوزاعي تعليقاً على حديث أبي الدرداء: "فكيف لو كان اليوم؟" الأوزاعي جاء بعد أبو الدرداء بفترة بسيطة من الزمن إذا ما قورنت بالفترة التي ذهبت من حياة وتاريخ الدعوة الإسلامية، يقول الأوزاعي: "فكيف لو خرج رسول الله اليوم؟".

الأوزاعي يقول هذا في عصره الذي هو ما زال من القرون الثلاثة المفضلة الأولى، يقول: "فكيف لو خرج اليوم؟" كيف لو كان اليوم ماذا كان رسول الله ﷺ يعرف من دينهم، عيسى بن يونس أحد السلف بعد الأوزاعي يقول: "فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟" [الاعتصام للشاطبي: 1/33]. يقول: الأوزاعي قال هذا الكلام في عصر الأوزاعي، وعيسى بن يونس بعده من السلف يقول: كيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟ هذا وحال المسلمين مازالت فيها خير كثير والانحراف كانت زاويته ضيقة، نحن نقول: لو قال هؤلاء الذين قالوا هذا الكلام كلهم؛ أبو الدرداء أو الأوزاعي أو عيسى بن يونس، لو خرجوا اليوم ماذا يقولون؟ لو خرج أحد الصحابة الآن بعث في سوق من أسواق المسلمين، أو في شارع من شوارعهم، ماذا يقول؟

يقول أحد السلف: "ما بكيتُ من زمان إلا وبكيتُ عليه" [رواه ابن بطة في الإبانة عن الحسن رضي الله عنه: 1/186].

هو الآن يبكي من الزمان الذي يعيش فيه من الغُربة والمعاصي، فيقول: إذا عشتُ بعد كم سنة أبكي على الزمان الأول، أقول: يا ليتني في الزمان الأول فيقول: ما بكيت من زمان إلا وبكيتُ عليه" هذه بعض الأحاديث من نذائر الشر التي أخبر بها الرسول ﷺ، لذلك هذه الفتن وهذه التغيرات وهذا النكوص عن شرع الله الذي أخبر ﷺ أنه سيحدث وحدث، لا شك أنه سيسبب ضيقاً شديداً للمسلمين الذين يعيشون في هذه العصور لذلك قال الله أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ  [العنكبوت: 2]. لا بد أن تقع الفتنة لا بد أن تقع الفتنة في الدين أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا هل يظن هؤلاء أنهم سيتركون على إسلامهم بدون منغصات وبدون فتن، كلا  وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 3].

لو قال إنسان: ما هي الحكمة من جعل الجنة والنار؟ ولماذا تقع الفتن؟ ولماذا يعذّب الله العباد؟ أليس كان أن يدخل الناس ولا يكون هناك شر على الأرض، ولا يوجد شيء اسمه فتن، ولا أهواء وشهوات؟ إذا كان هذا هو الواقع فكيف يتميز الخبيث من الطيب؟ سيدخل الناس كلهم إلى الجنة الذي يستحق، والذي لا يستحق، كيف يتميز الخبيث من الطيب؟ كيف تمتحن معادن الرجال؟ لا بد أن تحدث الفتنة حتى تمحص النفوس ويعلم الله الثابت على الدين من المنحرف الزائغ عنه وتتفاوت نفوس الناس صبراً على الفتنة بحسب الإيمان الذي وقر في قلوبهم لذلك يقول ﷺ في الحديث الحسن في صحيح الجامع الذي يرويه حكيم عن ابن مسعود أنه قال: المتمسّك بسنّتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر [رواه الكلاباذي في بحر الفوائد: 374، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 6676]. انظروا إلى الجمرة المستعرة المشتعلة هل تستطيع أن تقبض عليها تقبض ليس تلمس ثم تبعد أصبعك تقبض قبضاً وتجعلها داخل الكف كالقابض على الجمر الأهواء كثيرة، والسبل قد فرقت الناس، العقائد الزائغة والبدع التي خرجت، وتمسك الناس بالبدع ومنافحتهم عن سُبل الضلال وكأنه هو الحق، ومعاداتهم لأهل الإسلام المخلصين، هذه فتنة شديدة تجعل الذي يتمسك بالسنة، المقصود هنا بالسنة: المعنى العام، ليس السنة سنن الصلاة فقط أو سنن الوضوء فقط، أو ما يقابل عند أهل الأصول المستحب، ولكن المتمسك بسنتي يعني بجميع فروع السنة، مثّل الرسول ﷺ عقيدة وعبادة وإخلاصاً وسلوكاً ومنهجاً وأخلاقاً، سنة بالمفهوم العام ويقول ﷺ في الحديث الصحيح في صحيح الجامع عن الترمذي عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر [رواه الترمذي: 2260، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 8002 ]. 

هذه أحاديث ليست عبثاً، والذي يظن أنها لا تعني شيئاً في واقعه فهو إنسان مغفّل جاهل لا يعرف واقعه.

وصف الغرباء عند أئمة السلف وعلمائهم

00:40:13

تأمل معي في أحوال المسلمين تجد هذا الانطباق العجيب وبقدر الغربة تكون الشدة في القبض على السنة.

يقول الآجري -رحمه الله تعالى- في كتابه الغرباء واصفاً وشارحاً هذا الحديث، يقول: "فإن ما يجري من أحوال الناس من المتاجرة والمعاملة والمحبة والبغضة والمؤازرة والملاقاة والمجانسة والاجتماع في الولائم، وأشباه لهذه الأشياء، يجري بينهم خلافاً للكتاب والسنة" [الغرباء للآجري: 26].

الآجري عالم قديم من علماء السلف، يقول هذا الكلام في زمنه، يقول: أحوال الناس في هذه الأمور مخالفة للكتاب والسنة؛ "لغلبة الجهل عليهم ولدروس العلم عندهم" دروس العلم يعني: ذهابه واضمحلاله، "فإذا أراد المؤمن العاقل الذي قد فقهه الله ، في الدين وبصّره عيوب نفسه، ورزقه معرفة في التمييز بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح، وبين الضار والنافع، علم ماله وما عليه إذا ألزم نفسه العمل بالحق بين ظهراني" يعني في أوساط من قد جهل الحق "لا يبالون هؤلاء الناس الذين جهلوا الحق لا يبالون ما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم، حال كثير من الناس لا يبالي ما نقص من دينه إذا سلمت له دنياه، المهم أن تصل إليه أمواله ومتاعه من الدنيا كما يشتهي وكما يريد وبعد ذلك لا يبالي ما نقص من دينه، سواء نقص التعفف عن الحرام أو نقص من الابتعاد عن الغش والخيانة، لا يبالي، ثبت في الحديث الصحيح أنه ﷺ أخبر بأنه يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل أمن حلال أكل أم من حرام  " المفسدون إذا نظروا إلى المخلصين الذين يخالفونهم على طريقتهم ثقل ذلك على المفسدين أن يتمسك هؤلاء الناس بالطريق الصحيح وخالفوهم وطلبوا عيوبهم، فتجد زوجته به متضجرة، وإخوانه به مثقلون" يعني أصحابه الفاسدين "ومعاملوه به غير راغبين في معاملته، فصار غريباً في دينه لفساد دين أكثر الخلق، غريب في معاملته لكثرة فساد رغبة الناس، غريباً في جميع أمور الدنيا، لا يجد على ذلك مساعداً يفرح به، ولا مؤانساً يسكن له، فمثل هذا غريب مستوحش؛ لأنه صالح بين فسّاق، وعالم بين جهّال، وحليم بين سفهاء، يصبح حزيناً، كثير غمّه، قليل فرحه، كأنه مسجون، كثير البكاء كالغريب الذي لا يُعرف، ولا يأنس به أحد، فهذا معنى قوله ﷺ:  بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريباً كما بدأ  [الغرباء للآجري: 26].  

هذا شيء من الوصف لحال الغرباء، وقد أبدع الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- أيما إبداع في وصف حال الغرباء في كتابه مدارج السالكين، فإنه شرح منزلة خاصة بالغربة، فقال: "فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء" [مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 3/186].

بالنسبة لأهل الأرض غرباء، ندخل معهم الفساق والفجار، لكن ما زالوا غرباء بالنسبة لكفار الأرض، غرباء أهل الإيمان من هؤلاء المسلمين الذين يلتزمون بالأحكام الشرعية بالنسبة للمسلمين هؤلاء الكم مليون هؤلاء، المؤمنون بينهم قلة، فهم غرباء، الناس الذين عندهم علم العلماء في المؤمنين قلّة فهم غرباء، الذين يميزون السنة من أهل العلم يميزونها ويتعلمونها وينافحون ويدعون إليها أيضاً غرباء؛ لأنهم قلّة، هناك من هو أسوأ منهم الذين يصبرون على الأذى من هذه الدعوة هم أشد هؤلاء غربة؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه [الأنعام: 116]. فهذه الغربة هي التي مدحها رسول اللهﷺ، فهؤلاء الغرباء لم يأووا إلى غير الله، لم يكن مأواهم إلا إلى الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ﷺ، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به ﷺ، فهذه الغربة قد يتصور الإنسان ويقول: هذه الغربة تسبب الوحشة ويصير الواحد فينا مستوحشاً وليس له أنيس ومتألم، يقول ابن القيم: "فهذه الغربة لا وحشة لصاحبها "الوحشة ليست وحشة الطاعة وإنما وحشة المعصية" المعصية هي التي تسبب وحشة في النفس وضيقاً في الصدر ونفوراً من الناس الصالحين، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس وأشد ما تكون وحشته إذا أنسوا؛ لأنهم لا يأنسون  إلا بواقع فاسد فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس، يقول ﷺ في الحديث الحسن كما في تخريج المشكاة : "عن النبي ﷺ عن ربه تعالى: أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ  يعني: عنده متاع قليل من الدنيا، خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة  يعني: عنده صلاة كثيرة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع  مستخف، يوجد كثير من المخلصين لا يعرفونهم الناس بأسمائهم، ولا يشار إليهم، يقال: انظر الشيخ فلان وفلان وفلان عمله مخفي عن الناس، لا يظهره، هؤلاء هم الممدوحون حقاً، وقال في وصف هذا الرجل:  وكان رزقه كفافاً  يعني: قليل، فصبر على ذلك، ثم نقر بأصبعيه يعني: صوت بأن ضرب إحدى أنملتيه على الأخرى فقال: عجلت منيته قلّت بواكيه وقلّ تراثه هؤلاء الله يأخذهم إليه بسرعة، لا يبقون كثيراً في الأرض، يصطفيهم الله يأخذهم إليه يميتهم قلّ تراثهم، ليس عنده مال كثير، وقلّت بواكيه، ليس معروفاً بين الناس ومشهوراً، حتى يشكى عليه وينعى في الجرائد والمجلات، عُجّلت منيتة وقلّت بواكيه  [رواه الترمذي: 2347، وحسنه الألباني في المكشاة: 5189]. و: "قلت"، هذا إرشاد إلى إخفاء العمل قدر المستطاع، فإن من الأعمال ما يجب إخفاؤه، وما من الأعمال ما يجب إظهاره.[مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 3/187].

تمسك الغرباء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم

00:48:20

فمن صفات هؤلاء الناس كما يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: أولاً: التمسك بالسنة إذا رغب الناس عنها وترك ما أحدثوه وإن كانوا معروفاً عندهم تأتي في بعض الأشياء والأحوال والمسائل، تجد الناس مجتمعين على قضية معينة يفعلونها بكيفية معينة، تنظر هل لها أصل شرعي؟ هل هي قائمة على دليل؟ تجد الجواب: لا، ليست قائمة على دليل وليس لها أصل شرعي، تعارف الناس ابتدعوها واستمروا عليها، أنت تترك هذه البدعة وتستقيم على السُّنة، وإن كانت البدعة هي المعروفة عند الناس إذا أتيت تنصح وتتكلم قال لك: من أين جئت لنا بهذا الشيء؟ هذا نعرفه من زمان آباءنا وأجدادنا هذا نحن من زمان نفعله، الآن تأتي لي تريد تغير، هذا الكلام الذي نحن عليه، العامة تضيق عن استيعاب الحق، والناس فيهم تقليد، وهذه القضية نعى القرآن على أصحابها نعياً شديداً، ما ناقش أحد من الأنبياء أمته إلا قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ  [الزخرف: 23]. أو:  مُهْتَدُونَ  [الزخرف: 22]، يزعمون أنها هداية وهي ضلال.

تحقيق التوحيد لله تعالى

00:49:39

 ثانياً: تجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، لا بد أن نجرّد التوحيد، يجب ألا يكون لأحد من الناس في أعمالنا حظ، كله لله ونجاهد أنفسنا على ذلك وإن اتهمنا أنفسنا بالتقصير فنحاول أو نكمل ولا ننحرف ونزيغ وندع الطريق.

ثالثاً: يقول ابن القيم -رحمه الله- هذا العلامة الجليل، هذا العلامة فقه من شيخه ومن كتاب ربه وسنّة رسوله قبل ذلك، فقه أحوال الناس على ضوء الكتاب والسنة، فبدأ يتكلم ويطرق على الأوتار الحساسة وعلى المنكرات والمفاسد والأشياء الزائغة والطرق المنحرفة التي يراها أمامه في الواقع، مثل هؤلاء العلماء مهم بالنسبة إلينا جميعاً، هؤلاء علماء لم يعتزلوا في أبراج عاجية وجلسوا يحفظون من الكتب بعيداً عن واقع الناس ثم جلسوا يهذرون ويجلس كل واحد منهم يسمّع ما حفظ، كلا إنهم نزلوا من بيوتهم إلى مجتمعاتهم، ومشوا في شوارع الناس، وخالطوهم، وعرفوا الأهواء في المجتمعات، ودرسوها بدقة، ثم عرفوا هل هذا حق أو باطل؟ وهل هذا يخالف الإسلام أم لا؟ هؤلاء هم العلماء العاملون، يعملون بعلمهم، ما قيمة العلم إن خزّنته في ذاكرتك، أو أغلقت عليه مكتبك وكتبك؟ العلم يبقى حي إذا عمل الناس به وطبّقوه ودعوا إليه وهذا معنى: أشهد ألا إله إلا الله، أن تشهد ألا إله إلا الله أولاً، أن تعلم العلم الصحيح أنه لا إله إلا الله.

ثانياً: أن تشهد قلبك ويقر في قلبك، هذا من معاني الشهادة.

الشيء الثالث: أن تنطق به بلسانك وتبلّغه للناس، لا تسمى الشهادة شهادة إذا صارت في القلب فقط، إذا ذهب الإنسان شاهداً إلى القاضي وما تكلم، سكت هكذا، هذا لا يسمى شاهد، الشاهد هو الذي يتكلم وبما يعلم في قلبه ثم تصبر على أذى الناس من أجل هذه الشهادة؛ لأنك ستلقى منهم أذى كثيراً، هذا معنى أشهد هذه الكلمة لا يفقه معناها كثير من المسلمين، أشهد لها معانٍ كبيرة في اللغة تنطبق انطباقاً على المقصودات من الشرع.

يقول هذا العلامة: "من شروط الغرباء وصفاتهم: ترك الانتساب إلى غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله باتباع ما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر، وأكثر الناس لائم لهم" لا ينتسبون إلى شيخ، ولا إلى مذهب ولا إلى طريقة ولا إلى طائفة، لا ينتسبون إلا إلى الله ، القرآن والسنة فقط، المسميات والتسميات التي نسمعها ليست لها دليل شرعي صحيح، ماذا كان الرسول ﷺ يسمّي نفسه وأصحابه؟ هل كان يطلق على نفسه وأصحابه اسماً معيناً؟ هل أطلق السلف ومن بعدهم مثل أحمد بن حنبل مع وجود الأهواء الأخرى، هل أطلق على نفسه ومن معه اسماً ليتميز به عن بقية المسلمين؟ أو هل أطلق ابن تيمية ذلك؟ أو هل أطلق مجدد الدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب على نفسه اسماً؟، بل إن كثيراً من الذين انتقدوا هذا العالم الجليل المجدد وأرادوا الوقيعة فيه هم الذين أطلقوا عليه الوهابي، وأطلقوا على من تبعه الوهابيين، وجلسوا يذمونهم ويكيدون لهم ويلصقون بهم أشنع التهم، حتى ينفروا الناس عنهم، ما سموا أنفسهم وهابيين، هم يتبعون الرسول ﷺ هذه المسميات ليس لها دليل شرعي صحيح، من الممكن أن يكون دليل شرعي، ولكن غير صحيح، يأخذ الإنسان كلمة من القرآن ولكن هل هذا الاستدلال صحيح بها على تسمية نفسك بهذا الاسم؟ لا ينتسبون إلا غير الله ورسوله، لا إلى شيخ ولا إلى طريقة ولا إلى مذهب، ولا إلى طائفة، بل إن التسميات والمسميات هي التي فرقت المسلمين، فلذلك تجد على بعض الكتب والمؤلفات، يقول: فلان بن فلان الفلاني المؤلّف الأشعري عقيدة المالكي مذهباً أو الشافعي مذهباً الجيلاني طريقة يأخذ عقيدة ينتسب إليها يقول: عقيدة الأشاعرة أو الماتريدية يأخذ طريقة صوفية يقول الجيلانية أو القادرية أو الرفاعية، ويأخذ مذهباً يتعصب عليه ولو جاءه الدليل المخالف لما هو عليه يرفضه، يقول: المالكي مذهباً أو الشافعي مذهباً أو الحنفي مذهباً أو الحنبلي مذهباً، ليس من الإسلام التعصّب، لم تفرق المسلمين أفرادا فقط، ولكن فرّقت نفس شخصية المسلم إلى أجزاء مبعثرة، أشعري عقيدة، ومالكي مذهباً، والجيلاني طريقة، وهكذا، ماذا كتب ابن تيمية على مصنفاته؟ ماذا كتب الإمام أحمد على مصنفاته؟ هل سموا أنفسهم بهذه الأسماء؟ هل انتسبوا إلى شيء غير الانتساب إلى الكتاب والسنة؟ هذا فقه عظيم ينبغي على الدعاة إلى الله والعاملين أن يتنبهوا كذلك، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فلغربتهم بين هذا الخلق يسمون أهل الشذوذ والبدعة ومفارقة السواد الأعظم" الناس يسمونهم أهل الشذوذ والبدعة.

وبالمناسبة كلمة أهل السنة والجماعة ليست طريقة جديدة مخترعة في الدين أو تعصباً لمذهب أو هو مذهب معين، أهل السنة والجماعة سموا أهل السنة لأنهم يتبعون السنة، وهذه التسمية لم تكن في عهد الرسول ﷺ، ولكن وردت على لسان ابن عباس ومن بعده من باب تمييز المسلمين عن الكفار لا من باب تمييز المسلمين عن المسلمين، هذه العبارة أهل السنة والجماعة أطلقت في كلام السلف ومؤلفاتهم وكتبهم لتمييز المسلمين عن الكفار وأهل البدعة لا لتمييز المسلمين عن المسلمين الآخرين.

وكذلك يقول ابن القيم -رحمه الله-: "بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول ﷺ وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه أول ظهوره، يعني لما كان الرسول كان أفضل؛ لأنه كان واضح العقيدة ليس هناك إلا مصدر تلقي واحد الرسول ﷺ فقط والإسلام هو الذي يتمثل في شخصية الرسول ﷺ فقط وأقواله وأفعاله واضح القضية حتى لو لم يوجد في الدنيا إلا هو الحق واضح مصدر واحد الآن اختلطت الينابيع وتعددت المصادر وتفرّقت السُبل بالناس يمنة ويسرة، فخفي الحق، لم يعد يعرف الكثير من المسلمين الحق، اشتبهت عليهم الأمور فيقول -رحمه الله تعالى-: "فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه وفقهاً في سنة رسوله وفهماً لكتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه الرسول ﷺ وأصحابه، فإذا أراد سلوك هذا الصراط فليوطّن نفسه على قدح الجهال فيه" [مدارج السالكين: 3/189]. تريد أن تسير في هذا الطريق سينتقدك الناس، سيرمونك بالكفر والزندقة والبدعة والضلال، سيقولون عنك: رجعي متزمّت، متحجّر، مجنون، معتوه، أبله، منغلق، سيشتمونك بسائر أنواع الشتائم، وسيخرجون من قواميس السباب شتى المفردات ويلصقونها زوراً وعدواناً وبهتاناً بك يا أخي المسلم، فيقول -رحمه الله-: فليوطِّن نفسه على قدح الجهال، يا أخي تريد أن تتمسك بالإسلام سينتقدك الناس، نعم أكثر الناس في ضلال لابد أن تنتقد، إذا لم تنتقد اعرف أنك لست على طريق صحيح، إذا لم تتعرض للانتقاد من الناس اعرف بأنك لا تمشي في طريق صحيح؛ لأن أكثر الناس فساق وضلال، وأنت متميز بينهم بهذه العقيدة والسلوك والعبادة واتباع السنة، لا بد أن تنتقد، ليس هناك شيء اسمه عشر مسلم، ربع مسلم، خمس مسلم، نصف مسلم، مسلم كامل في العقيدة والأخلاق والسلوك، ليس هناك ازدواجية كما هو واقع اليوم في حياة المسلمين، تجد الواحد يعمل في المسجد شيئاً وخارج المسجد شيئاً آخر، يسمع المواعظ هنا ويفعل عكسها من الطرف الآخر، ازدواجية أرباع مسلمين أنصاف مسلمين أعشار مسلمين، واحد على مئة من المسلمين، إلا من رحم الله جل وعلا وهداه إلى الطريق المستقيم وقوم المعوج من سلوكه وعقيدته وطريقته، فإنه إن شاء الله على ما يرضي الله -جل وعلا-.

فيقول ابن القيم -رحمه الله-: "فليوطّن نفسه على قدح الجهال واهل البدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفيرهم الناس منه، لم يقتصر أذاهم  على سبك وشتمك، بل سيتعدى الأمر إلى تنفير الناس منك" يقولون: احذر هذا، ابتعد عن هذا، لا تخالط هذا، انتبه هذا خطر، هذا سيودي بك في المهلكات، ولكن لا بد من الصبر، ولا علاج إلا الصبر، لا يوجد إلا هو، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه ﷺ، أبو لهب كان يمشي وراء النبي ﷺ في أسواق عكاظ وغيرها من المؤتمرات والمجالات التي كان يذهب إليها ﷺ يعرض دعوته على الناس يمشي وراءه حذو النعل بالنعل، كلما كلم رسول الله ﷺ أحداً من القبائل بعدما يذهب الرسول يقول له: دع منك هذا مجنون، سب آلهتنا وشتمنا وعاب طريقتنا وسفه آباءنا وأجدادنا، هذا مجنون هذا شاعر هذا ساحر يريد أن يسحركم!، أبو لهب عم الرسول، من أقرب الناس، فلا بد أن يوطّن نفسه على قدح الجهال ولو كانوا من أقرب الناس، ستتعرض للانتقاد من داخل أسرتك، من أناس بينك وبينهم صلة رحمية عميقة لكنهم سينتقدونك وسيسفهوا آراءك ويظلموك فكن يا أخي المسلم متصلاً بالله على يقين وثبات ورسوخ، لا تلتفت إلى ما قالوه وحاكوه حولك فيقول في آخر كلامه: "فإن هذا الإنسان غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع"[مدارج السالكين: 3/189].

من الناس من يذهب إلى مسجد من مساجد المسلمين ويطبق الصلاة النبوية الصحيحة، يقول الناس: أطلْت، يقول الناس: فعلت كذا والصلاة كذا، ونحن تعودنا على كذا، ما هذا؟ شيء جديد أتيت به، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، هذا واقع غريب في طريقه لضلال طريقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، هو واحد ينتسب إلى طائفة معينة، وإلى  ملة معينة، وإلى شيخ معين، هو الكتاب والسنة فالانتساب إلى أهل السنة والجماعة المسلمين أو طريق الصحابة، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما تهوى أنفسهم .

أرجو المعذرة من الإطالة لكن أختم حديثي ببشائر الخير؛ لأنه لا بد من ذكرها ؛ ما هي فائدة ذكر بشائر الخير؟ الناس إذا سمعوا نذائر الشر والفتنة وهذه الغربة يخافون وتسقط معنوياتهم ويبدأ الشيطان في إرهابهم من جعلهم يبتعدون عن سلوك المنهج الصحيح، ولكن اعلموا أن رسول الله ﷺ بشّرنا بالرغم من كل هذه الظلمات الحالكة، وكل هذه الانحرافات التي نعيشها، وكل هذه الأهواء التي تحكمنا، بشّرنا بالرغم من ذلك ببشائر عظيمة، إذا سمعها الإنسان المسلم هدأت نفسه، واطمأن قلبه، وأيقن بأن النصر لا بد قادم من الله -عز وجل-، إن لهذا الدين رباً، وإن الله لن يضيع دينه، وإن الله لا بد أن سينصر هذا الدين، ويعلي شأن من أعلى الدين، ويذل الكفار والملاحدة والظالمين، يقول ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن جابر بن سمُرة مرفوعاً: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة كل واحد فيهم من هؤلاء الخلفاء تجتمع عليه الأمة كلهم من قريش، ثم يكون الهرج  مضى من الخلفاء الراشدين على ما عد بعض أهل العلم خمسة، خامسهم عمر بن عبد العزيز أين البقية ؟ البقية تأتي كلهم تجتمع عليه الأمة، هذه مواصفاتهم، كلهم من قريش ثم يكون الهرج يعني كثرة القتل، وهذه مرحلة الهرج حصل شيء منها ولكن لم يصل بحمد الله إلى وقتها الزمني.

ويقول ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه جابر والذي في صحيح مسلم عن رسول الله ﷺ مرفوعاً:  لا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة فلنطمئن يوجد أناس على منهج صحيح، بل ويقاتلون عليه إلى قيام الساعة، ولا يشترط استمرار القتال كما قال شراح هذا الحديث وإنما يعني استمرارية الجهاد والقتال عليه بين فترة وأخرى أي أن الجهاد لا ينقطع وقال ﷺ أيضاً في بشرى أخرى يرويها أبو داود في سننه وهو حديث في صحيح الجامع:  إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها  أيضاً هناك مجددون، هناك خلفاء سيظهرون، وهناك أناس مسلمون سيقاتلون عن هذا الدين، وثابتون عليه، وهناك مجددون سيبعثهم الله على رأس كل مئة سنة يجددون لهذه الأمة دينها، كما حصل مع الإمام أحمد، فإنه بالاتفاق، وكما حصل مع ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وكما حصل مع الإمام محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة ومجددها في الجزيرة العربية والذي لا يكاد يوجد صقع من أصقاع العالم الإسلامي ظهرت فيه بشائر خير وتطبيقات للمنهج الإسلامي إلا وهم يدينون لهذا الرجل شاءوا أم أبوا، هؤلاء المجددون الذين سيظهرون، وكما قال أهل العلم: "إنه لا يشترط أن يكون التجديد مجتمعاً كله في شخص معين، بل قد يتنوع ويتعدد في أشخاص، وقد يجدد كل واحد منهم في جزئية من جزئيات الدين، وفي جانب من جانبه، فيجدد بعضهم في الفقه وبعضهم في الحديث، وبعضهم في العقيدة، إلى آخر ذلك، بل ولا يشترط أن يكون واحداً بل قد يكونون جماعة، يكون المجدد جماعة من البشر تجدد لهذه الأمة أمر دينها، ولا يشترط اجتماعهم في مكان معين، بل قد يكون بعضهم في مكان من العالم والبعض الثاني في مكان آخر، وثالث ورابع، وهكذا، ولا يشترط أن يكونوا أصحاب مهنة وحرفة واحدة بل قد يكون العلماء في الشريعة وبعضهم تجار وبعضهم زراع وبعضهم طلاب علم إلى آخر ذلك ويقول ﷺ في الحديث الذي يرويه الطبراني عن أبي أمامة وهو حديث صحيح في صحيح الجامع : والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا  ويقول في الحديث الحسن في صحيح الجامع الذي يرويه أبو عاصم في كتابه السنة ابن أبي عاصم: إن الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة 

يعني: لا يمكن أن يجتمع كل المسلمين في الأرض في أي عصر من العصور على الضلالة، لا بد أن يكون فيهم، لو واحد فقط قائم بأمر الله لن تخلو الأمة من قائم بأمر الله حتى لو كان واحداً، الرسول ﷺ قال في حديث الافتراق أنه تبقى فرقة واحدة في الجنة والباقي في النار قالوا: ومن هي؟ قال: الجماعة، يعرفها ابن مسعود فيقول:  الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك  الجماعة ما وافق طاعة الله، ليست العبرة بالكثرة، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  [الأنعام: 116].

العبرة ليست بالكثرة، الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك، "لا تغتر بكثرة الهالكين، ولا بقلة السالكين" اسلك مع القلة التي تسير في الطريق الصحيح، ودعوني أسوق إليكم حديثاً يتمم انتشار الإسلام في الأرض؛ وهو حديث رسول الله ﷺ الصحيح في السلسلة الصحيحة الذي يقول فيه ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك بيت مدر  يعني حجر بناء الطوب ولا وبر   يعني: بيت الشعر  إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعزه الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر  هل حصل في تاريخ المسلمين الماضي أن انتشر الإسلام في الأرض كلها ودخل الإسلام كل بيوت العالم ؟ ما حصل، ولكن رسول الله ﷺ يخبر بأنه سيحصل يعني حتى في عهد الدولة الإسلامية لما انتشرت وتوسعت كان باقي أصقاع من العالم ما وصل إليها الإسلام لكن الرسول ﷺ يخبر بأن الإسلام سيبلغ مبلغ الليل والنهار، ما هو مبلغ الليل والنهار؟ كل سطح الكرة الأرضية، إذن سيبلغ الإسلام الكرة الأرضية كلها، في وقت من الأوقات لا بد، سيأتي لا بد، إن أجل الله لآت، وكذلك البشارة التي حصلت بفتح القسطنطينية، وأنه أخبر أنها ستفتح، والظاهر من بعض الأحاديث أنها سيكون فيها معركة أخرى في المستقبل غير الفتح الذي حصل وكذلك فتح رومية روما مقر الفاتيكان هذه أكبر في الحديث الصحيح أنها ستفتح، هل فتحت روما؟ ما فتحت، ستفتح وسيدخل الإسلام في روما معقل النصارى فعلى يد من يكون هذا الأمر؟ أوضحنا صفاته وبعضها التي ذكرها العلامة ابن القيم وهناك حديث يقول فيه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله من كل جيل يحمل هذا الدين ويحمل العلم عدول العدول الثقات الذين التزموا بالمنهج الإسلامي ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين  وهذا حديث صحح الحافظ العلائي بعض طرقه وكذلك الإمام أحمد أخبر بصحته أيضاً فيما نقل عنه وأما الشيخ ناصر فإنه لا يزال في بحث عن هذا الحديث وسيجمع طرقه ويخرّجه إن شاء الله، والبحث عنده مازال معلّقاً حتى هذه الأيام.

بشارة نبوية عظيمة تدعو للتفاؤل

01:12:32

الحديث الذي أختم به حديث عظيم فيه بشارة لهذه الطلائع المسلمة، وهذه الصحوة المباركة، يقول ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وهو حديث حسن. وفي صحيح الجامع عن أبي عنبسة الخولاني أن رسول الله ﷺ قال: لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة نشء ينشؤون على الإسلام، غرس يتربى على الإسلام، يغرس في هذا الدين غرساً، يستعمل هؤلاء الغرس لماذا؟ يستعملهم الله عز وجل بطاعته إلى يوم القيامة نسأل الله أن أن نكون من هذا الغرس، اللهم اجعلنا من هذا الغرس الذي غرسته في دينك لتستعملنا في طاعتك .

يبقى في نفس الواحد لوعة وشوق إلى رسوله ﷺ وإمامه وقدوته ومعلمه الذي خط له الطريق ووضح له المنهج وكانت تلك السيرة العطرة التي نتبعها إلى قيام الساعة.

هذه اللوعة وهذا الشوق الذي يحسه الواحد منا إن شاء الله نكون صادقين، ويوجد في أنفسنا هذا الإحساس، الإحساس بالشوق إلى الرسول ﷺ يعزي ويخفف من لوعة هذه الأشواق، أحاديث وردت عن الرسول ﷺ المعلم والمربي الأول، يقول  في حديث مسلم للصحابة:  وددتُ أنّا قد رأينا إخواننا  قالوا: "أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال:  أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد  فنسأل الله أن نكون من إخوان الرسول ﷺ، اللهم اجعلنا من إخوان الرسول ﷺ، الرسول يود أن يرانا، اشتاق لرؤيتنا قبل أن يموت، كما يشتاق الصادق فينا إلى رؤيته ﷺ تصور الارتباط الشعور المتبادل بين الرسول ﷺ والمسلمين إلى قيام الساعة يشتاقون إلى بعضهم وإلى لقيا بعضهم نسأل الله أن نلتقي ونجتمع في الجنة بحوله وقوته، يقول ﷺ في الحديث الحسن الذي يرويه أبو هريرة في صحيح الجامع مما أخرجه الحاكم يقول إن أناساً من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله لو راح اهله وماله  فقط يراه اشتياق إلى المصدر الأصلي الرسولﷺ ولذلك يمدح الرسول ﷺ ويثبت الجزاء من الله تعالى لمن في نفسه هذا الشعور فيقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وابن حبان والحاكم عن أبي أمامة وهو في صحيح الجامع، قال ﷺ: طوبى لمن رآني وآمن بي مرة، وطوبى لمن لم يرني وآمن بي سبع مرات  وجود شخصية الرسول ﷺ بين المسلمين لها أثر كبير، عندما يكون القدوة موجود له أثر كبير، ولكن ذهابه ترك فراغاً فالذي يؤمن به ولم يره ويطبق سنته ولم يره ويعتقد بمعتقده ولم يره ويعبد مثل عباداته ولم يره ويتخلّق بأخلاقه ولم يره، طوبى له سبع مرات.

وختاماً أسأل الله لي ولكم الإخلاص في العمل، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يجعلنا بكتابه متمسكين، وبسنة نبينا عاملين، وعلى منهجه الذي يرضاه سائرين، ولحزب الله ورسوله ناصرين، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.