إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
المقصود بالصلاة والسلام على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
فإن الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
والمقصود من هذه الآية الكريمة: أن الله أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه ﷺ عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه.
ثم أمر -تعالى- أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجمع الثناء عليه من أهل العالمين: العلوي والسفلي جميعاً كما قال ابن كثير -رحمه الله-: صلاة الملائكة عليه الدعاء.
كما قال العلماء: والمقصود بالصلاة على النبي ﷺ الدعاء له بصيغة مخصوصة والتعظيم لأمره.
قال العلماء: الصلاة على النبي من الله رحمته ورضوانه وثناؤه عليه عند الملائكة.
ومن الملائكة: الدعاء له والاستغفار، ومن الأمة الدعاء له والاستغفار والتعظيم لأمره.
فضائل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-
وفضيلة الصلاة على النبي ﷺ عظيمة: أتاني جبريل فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربك -عز وجل-؟ يقول: إنه لا يصلي عليك من أمتك أحد صلاة إلا صليت عليه بها عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك تسليمة إلا سلمت عليه عشراً، فقلت: بلى أي رب حديث صحيح، رواه الإمام أحمد وغيره [رواه النسائي: 1295، وأحمد: 16363، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 928].
قال الصحابي: أصبح رسول الله ﷺ يوماً طيب النفس يرى في وجهه البشر، قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر؟ قال: أجل، أتاني آت من ربي فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها [رواه أحمد: 16352، وقال الألباني: "حسن لغيره"، كما في صحيح الترغيب والترهيب: 1661].
وهذا الحديث له طرق يرتقي بها.
وجاء في بعض الروايات: أنه ﷺ سجد شكراً لله –تعالى- لما أوحي له بذلك، وما من عبد يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما دام يصلي علي، فليقل العبد من ذلك أو يكثر حديث حسن [رواه أبو داود: 1238، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 5744].
وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: إن لله -تعالى- ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام [رواه النسائي: 1282 ، وأحمد: 3666، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم"].
وعن عمار بن ياسر عن النبي ﷺ أنه قال: إن لله -تعالى- ملكاً أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي ألا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها .
فإذاً، دعوة من النبي ﷺ من أجلنا نحن استجيبت، فكل من يصلي على النبي ﷺ تبلغ صلاته لنبينا عن طريق ملك مخصوص.
وكذلك وبالإضافة إلى هذا يصلي عليه الله عشر أمثالها: أكثروا الصلاة علي، فإن الله وكل بي ملكاً عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي، قال لي ذلك الملك: يا محمد إن فلان بن فلان بالاسم إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة حديث حسن [السلسلة الصحيحة: 1530].
ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام [رواه أبو داود: 2041، وهو حديث حسن].
وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حديث صحيح [رواه أحمد: 8804، ].
لقد مات النبي ﷺ وخرج من هذه الدنيا، والمؤمن يريد صلة بنبيه ﷺ مباشرة، فجعل الله لنا هذه الوسيلة المباشرة، فنصلي على نبينا ﷺ فيبلغ بالاسم أن فلاناً صلى عليه، ثم يرد علينا السلام أيضاً.
وهذه من الاستثناءات في عالم البرزخ الذي الأصل فيه أن الأموات لا يسمعون كلام الأحياء، ولكن هذا الاستثناء في هذه العبادة العظيمة بيننا وبين نبينا ﷺ، أقل القليل في حقه أن نكثر من الصلاة عليه ﷺ، هذه الصلاة التي تتضمن ذكر الله وذكر رسوله واعترافاً بحق هذا الرسول العظيم ومنزلته، واعترافاً بما فعله من المعروف لنا فإننا نصلي عليه ﷺ، صلاة تنبئ عن تصديقنا بما جاء به، واعترافنا بالحق الذي جاء به، وتدفع المؤمن إلى العمل بما جاء به ﷺ.
فكيف يصلي عليه وهو يخالف أمره؟ كيف يصلي عليه وهو يعصيه؟ كيف يصلي عليه وهو لا يتبع سنته؟ كيف يصلي عليه وهو لا يهتدي بهديه؟
فهذه الصلاة النبوية تذكر المسلم بأهمية اتباع النبي ﷺ في الصغير والكبير دائماً في الحياة، ومواضعها كثيرة وآكدها الصلاة على النبي ﷺ في آخر التشهد في الصلاة، تلك الصلاة التي عدها بعض العلماء ركناً.
وقال بعضهم: بأنها واجبة، فقال ﷺ: صلوا علي واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد [رواه النسائي: 1292ـ وهو في صحيح الجامع: 3783].
هذه الصلاة التي هي برهان حبنا له، وليس الغلو والموالد والشرك الذي يفعله أهل الأهواء والبدع، إنما هي تعبير شرعي وطريق صحيح إلهي نعبر به عن حبنا للنبي ﷺ، فلا بدع ولا غلو ولا خرافات ولا موالد، ولا غير ذلك، وإنما هي أشياء نقولها دائماً يومياً، ليس مرة في السنة، ليس احتفال سنوي، وإنما هو يومي نحن نقوم بواجبنا نحو النبي ﷺ عندما نصلي عليه.
هذا جزء من الواجب.
صفة الصلاة والسلام على النبي –صلى الله عليه وسلم-
وسأله الصحابة: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ يا رسول الله أمرنا بالصلاة عليك فكيف نصلي عليك؟ فعلمهم.
ومن الروايات قال: قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد حديث صحيح [رواه البخاري: 3369 ، ومسلم: 407].
اللهم يا الله صل على محمد ثناء الله عليه في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين، وعلى آل محمد أتباعه على دينه وقرابته المؤمنون، كما صليت على آل إبراهيم .
توسل بفعل الله السابق لتحقيق الفعل اللاحق، فهو صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فنتوسل إليه بما فعل تعالى لكي يفعل الصلاة والبركة على محمد ﷺ وآل محمد، فينزل البركة والبركة كثرة الخيرات ودوامها واستمرارها، إنك حميد مجيد حامد ومحمود تحمد عبادك وأولياءك الذين قاموا بأمرك ويحمدوك على صفات كمالك وجزيل إنعامك، حميد مجيد، ذو المجد والعظمة وكمال السلطان.
مواطن يتأكد فيها الصلاة والسلام على النبي
وكذلك ورد في بعض الأحاديث ما يفيد الصلاة على النبي ﷺ في التشهد الأول أيضاً أحياناً.
وفي آخر القنوت كما كان النبي ﷺ قد علم الحسن بن علي فقال: علمني رسول الله ﷺ هؤلاء الكلمات في الوتر؟ قال: قل: اللهم اهدني فيمن هديت، وبارك لي فيما أعطيت، وتولني فيمن توليت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت، وصلى الله على النبي [رواه النسائي: 1746 ، وضعفه الألباني في إرواء الغليل: 431، حيث قال الألباني: "وهذا سند ضعيف وإن قال النووي في "المجموع" (3/499): إنه صحيح أو حسن، فقد تعقبه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (ص 94) بقوله: قلت: وليس كذلك فإنه منقطع"].
وهذا إنما هو في قنوت الوتر، وكان الصحابة يطبقون هذا وفي قنوت صلاة الوتر في رمضان، كما جاء عن عبد الرحمن بن عبد القاري كانوا يلعنون الكفرة في النصف، أي النصف الثاني من رمضان: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق ، ثم يصلي على النبي ﷺ ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين [رواه ابن خزيمة: 1100، وينظر: قيام رمضان فضله وكيفية أدائه، للألباني، ص: 32].
فهكذا كان يفعل إمام الصحابة في رمضان عندما يدعو في القنوت في صلاة الوتر في التراويح.
ومن المواطن العظيمة: الصلاة على النبي ﷺ بعد التكبيرة الثانية من صلاة الجنازة، قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: إن السنة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب ويصلي على النبي ﷺ، ثم يخلص الدعاء للميت" [مصنف عبد الرزاق الصنعاني: 3/489، و مصنف ابن أبي شيبة: 2/490].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص في الموطن الآخر بعد إجابة المؤذن أنه سمع النبيﷺ يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة [رواه مسلم: 384].
وسادساً: الصلاة على النبي ﷺ عند الدعاء، وقد قال ﷺ: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله -تعالى- يعني إذا دعا والثناء عليه، ثم ليصل على النبي، ثم ليدع بما شاء [رواه الترمذي: 3477 ، وقال: "حسن صحيح"، وأحمد: 23937، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
وقد قال ﷺ: كل دعاء محجوب، حتى يصلى على النبي ﷺ [رواه الطبراني في الأوسط: 721، والبيهقي في شعب الإيمان: 1474، وقال الألباني "صحيح لغيره" : 1675].
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وَهَذِه المواطن الَّتِي تقدّمت كلهَا شرعت الصَّلَاة على النَّبِي ﷺ فِيهَا امام الدُّعَاء فمفتاح الدُّعَاء الصَّلَاة على النَّبِي ﷺ كَمَا أَن مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور" [جلاء الأفهام، ص: 377].
وكذلك في الدعاء بالصلاة، فقد روى فضالة بن عبيد قال سمع رسول الله ﷺ رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله -تعالى- ولم يصل على النبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: ((عجل هذا)) ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه -جل وعز- والثناء عليه، ثم يصلي على النبيﷺ ثم يدعو بعد بما شاء [رواه ابو داد: 1481، والترمذي: 3477، وأحمد: 23937 ، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
وكذلك أيضاً: الصلاة على النبي ﷺ عند دخول المسجد وعند الخروج منه كما ورد في حديث أبي حميد وأبي أسيد قالا: قال رسول الله ﷺ: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي ﷺ ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك [رواه أبو داود: 465، وابن ماجه: 772، وأصله في صحيح مسلم: 713].
وثامناً: عند اجتماع القوم وقبل تفرقهم؛ لقوله ﷺ: ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله، وصلاة على النبي ﷺ إلا قاموا عن أنتن من جيفة [رواه البيهقي في شعب الإيمان: 1469].
وقال أيضاً: أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله –تعالى- أو يصلوا على نبيه كانت عليهم ترة من الله يعني حسرة، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم [رواه الطبراني في الدعاء: 1924، والحاكم في المستدرك: 1826 وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، والبيهقي في شعب الإيمان: 1468، وهو في صحيح الجامع: 2738].
ومن المواضع أيضاً: الصلاة على النبي ﷺ حين ذكره، إذا ذكر اسمه، إذا سمعت بشأنه، فإنه قد قال: من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي خطئ طريق الجنة حديث صحيح [رواه الطبراني في الكبير: 2887، وهو في صحيح الجامع: 6245].
وهذا يفيد أن ترك الصلاة على النبي ﷺ عند ذكره معصية.
وقال ﷺ: أتاني جبريل فقال: يا محمد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين [رواه ابن حبان: 907، والطبراني في الكبير:2022].
قال أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله-: تجب الصلاة عليه ﷺ كلما ذكر اسمه، و البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي قاله ﷺ في الحديث الصحيح [رواه أحمد: 1736، وابن حبان في صحيحه: 909، والطبراني في الكبير: 2885، وقال محققو المسند: " إسناده قوي"].
وكذلك من المواضع أيضاً: الصلاة على النبيﷺ في هذا اليوم العظيم وهو يوم الجمعة، يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع: إن أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي .
إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، وذلك لما قالوا له: كيف تبلغك الصلاة وقد أرمت؟ أي بلي الجسد، فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء [رواه أبو داود: 1047 ، والنسائي: 1374، وابن ماجه: 1085، وأحمد: 16162، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
وقال ﷺ: أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 5994 ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1407] وهكذا..
إذاً، بأن أفضلية الصلاة على النبي ﷺ ليست في نهار الجمعة فقط، وإنما في الليلة التي قبل اليوم.
ليلة الجمعة ويوم الجمعة للصلاة على النبي ﷺ فيهما مزية مخصوصة وأجر وثواب عظيم.
اللهم صل على نبيك وسلم وبارك وزد يا رب العالمين.
هذه الصلاة على نبينا ﷺ تكون حتى عند الهم والشدائد وطلب المغفرة، فهي سبب لدفع الهموم وغفران الذنوب، كما جاء في مسند الإمام أحمد والترمذي عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ربع الليل قام، فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه قال أبي بن كعب: فقلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة أي الدعاء؟ فكم أجعل لك من صلاتي؟ وكان لأبي بن كعب ورد ودعاء يدعو به في كل يوم، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ما شئت)) قلت: الربع، قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: النصف، قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك [رواه الترمذي: 2457 وقال: "حسن صحيح"، وقال الألباني: "حسن صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب: "1670].
وفي رواية لأحمد وإسنادها جيد: إذاً يكفيك الله -تبارك وتعالى- ما همك من أمر دنياك وآخرتك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وكان لأبي بن كعب دعاء يدعو به في نفسه، فسأل النبي ﷺ هل يجعل له منه ربع صلاة عليه؟ فقال: إن زدت فهو خير لك فقال له: النصف، فقال: إن زدت فهو خير لك إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها أي أجعل دعائي كله صلاة عليك، قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك ، لأن من صلى على النبي ﷺ صلى الله عليه بها عشراً، ومن صلى الله عليه كفاه همه، وغفر له ذنبه.
ومن المواضع: المرور بآيات فيها ذكر النبي ﷺ، وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إذا مر المصلي بآية فيها ذكر النبي ﷺ، فإن كان في نفل صلى عليه ﷺ، في صلاة نافلة كقيام الليل، إذا قرأ الآية يصلي على النبي ﷺ.
وهذا من باب: التدبر للقرآن في صلاة النافلة وفي قيام الليل، كما كان ﷺ إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيها ذكر الجنة سأل، وفيها ذكر النار استعاذ، وهكذا..،
موضعها في صلاة النافلة وفي قيام الليل.
أما عند قبر النبي ﷺ إذا زاره، رجل كان بالمدينة فزار قبر النبي ﷺ، فماذا يفعل؟ قال عبد الله بن دينار: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي ﷺ وأبي بكر وعمر، وكان إذا قدم من سفر بدأ بقبر النبي ﷺ فيصلي عليه ولا يمس القبر، ثم يسلم على أبي بكر ، ثم يقول: السلام عليك يا أبت.
ففي هذا بيان أنما يفعله هؤلاء الذين يتمسحون بشبابيك القبر النبوي وبالقفص الحديدي الموجود هناك أنهم ضالون مبتدعون.
وهذا نوع من الشرك أن تلتمس البركة من شباك القبر النبوي ومن الحديد المصنوع المجعول حوله.
وربما أخذ بعضهم من الغبار فتمسح به.
وهكذا يحدث الشرك في هذه الأمة.
ومن المواضع أيضاً: الصلاة على النبي ﷺ عند كتابة اسمه، قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "لو لم يكن لصاحب الحديث فائدة إلا الصلاة على رسول الله ﷺ فإنه يصلي عليه ما دام في ذلك الكتاب".
وقال عباس العنبري وعلي بن المديني: "ما تركنا الصلاة على النبي ﷺ في كل حديث سمعناه، وربما عجلنا فنبيض الكتاب أن نجعل مكاناً أبيض فارغاً في كل حديث حتى نرجع إليه" يعني بعد العودة من درس الحديث ودرس العلم والشيخ يملي عليهم وهم يكتبون بسرعة ولم يجدوا وقتاً لكتابة عبارة ﷺ يجعلون مكانها فراغاً، حتى إذا رجعوا إلى بيوتهم ملئوا الفراغات بكتابة ﷺ، ﷺ، لا يملون ولا يكلون.
وقد جاءت عدد من القصص عن بعض السلف: أنه رئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل بأي شيء؟ فقال: بصلاتي في كتبي على النبي ﷺ.
فهكذا لا يمل من كتابة ﷺ عندما يكتب الإنسان موضوعاً سطوراً فيها ذكره عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا: نعلم أن كتابة صاد بين قوسين أو صاد لام عين ميم اختصاراً أن هذا قلة أدب مع النبي ﷺ، ولعمري ماذا يريد صاحب هذا الاختصار؟ أن يختصر الأجر، أن يذهب عليه الأجر.
وكذلك فإن من مواضع الصلاة على النبي ﷺ: بين تكبيرات صلاة العيد، وهذا لا يعلمه كثير من الناس، قال عبد الله بن مسعود في الحديث الصحيح الذي جاء عنه معلماً تبدأ فتكبر تكبيرة لفتح صلاة العيد، وتحمد ربك، وتصلي على محمد ﷺ، ثم تدعو، وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، وهكذا..، بين كل تكبيرتين من تكبيرات صلاة العيد، حمد لله، وصلاة على النبي ﷺ، ودعاء.
ومن المواضع أيضاً: الصلاة على النبي ﷺ: فوق الصفا، كما جاء عن عمر بن الخطاب بإسناد صحيح: "إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعاً، وصلوا عند المقام ركعتين، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت فكبروا، قال: سبع تكبيرات بين كل تكبيرتين حمد الله، وثناء عليه، وصلاة على النبي ﷺ، ومسألة لنفسك وعلى المروة مثل ذلك.
فإذاً، بين التكبيرات فوق الصفا والمروة، بين التكبيرات هكذا يفعل.
ومن نسي الصلاة على النبي ﷺ فقد خسر وباء بالذلة والهوان، فقال ﷺ: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة [رواه الترمذي: 3545، وأحمد: 7451، وقال محققو المسند: "صحيح، وهذا إسناد حسن"] أي لأنه لم يبرهما.
ولا ننسى أيضاً في ذكر هذا الموضوع الصلاة على بقية الأنبياء والمرسلين، إذا قلنا موسى نقول ﷺ، يوسف ﷺ، نوح ﷺ، وهكذا..
هل يصلى على غير الأنبياء؟
فإن قال قائل: فهل يصلى على غير الأنبياء؟
فالجواب: إن كان على سبيل التبعية مثل: اللهم صل على محمد وآله وأزواجه وذريته، فهذا جائز بالإجماع، وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء، هل يجوز أن يقال: فلان الفلاني من العلماء أو غيرهم من الصالحين، هل يجوز أن يقال ﷺ؟
قال ابن كثير في تفسيره: قال الجمهور من العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة؛ لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال قال أبو بكر صلى الله عليه، أو قال علي صلى الله عليه، وإن كان المعنى صحيحاً، صلى الله عليه دعاء، وإن كان صحيحاً، لكن لأنها اختصت بالأنبياء، فلا يقال لغيرهم، حتى لا توهم العبارة المساواة أو الغلو بهذا الشخص.
وضرب مثلاً فقال: كما لا يقال قال محمد ، وإن كان عزيزاً جليلاً، من جهة المعنى صحيحة، لكن لأن هذا من شعار ذكر الله لم يعد من الصحيح أن يقال: محمد ، مع أنه عزيز جليل.
كمال خلق وخلق النبي -صلى الله عليه وسلم-
مما لا شك فيه -أيها الإخوة- أن الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره، فهم أطهر البشر قلوباً، وأزكاهم أخلاقاً، اختارهم الله –تعالى- واصطفاهم لنفسه، والله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء [آل عمران: 179]، اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124].
فلم يكن بدعاً من الأنبياء أن يكون كل ما عليه نبينا ﷺ من الخلق والخلق مسترعياً للأنظار في قمة الكمال والجمال ﷺ.
وقد كان لهذا أثره الكبير في استجابة الناس له، فكم من رجل دخل في الإسلام بمجرد رؤية النبي ﷺ، فهذا عبد الله بن سلام حبر اليهود وأعلمهم بالتوراة، يقول: "لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه" أي أسرع الناس إليه، "، وقيل: قدم رسول الله ﷺ" ثلاث مرات، "، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله ﷺ" أي تحققت وتبينت منه "عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب" [رواه الترمذي: 2485، وابن ماجه: 1334، وأحمد: 23784 ، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنك تراه
فرسولنا ﷺ كان أحسن الناس وأجمل الناس، حتى لقد كان يقول قائلهم: لربما نظرنا إلى القمر ليلة البدر، فنقول: هو أحسن في أعيننا من القمر عليه الصلاة والسلام.
أحسن الناس وجهاً، وأنورهم لوناً، يتلألأ تلألأ الكوكب.
لقد جاء وصف النبي ﷺ في أحاديث كثيرة.
وحفظ الله لهذه الأمة وللأجيال المتأخرة والتالية صفة نبيها ﷺ.
لقد جاءت صفته في الأحاديث كأن الإنسان ينظر إليه إذا قرأها، وصفاً دقيقاً ونعتاً عجيباً نقله لنا الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-.
ومن الأحاديث العظيمة في وصفه ﷺ: حديث أم معبد الذي رواه ابن خالد أن رسول الله ﷺ حين أخرج من مكة مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليله الليثي عبد الله بن أريقط مرت هذه الكوكبة، مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت برزة كهلة عفيفة وعاقلة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك وكان القوم مرملين كانت أم معبد في قومها من أهل البادية في ذلك الوقت قد نفذ زادهم وهم في شبه المجاعة مسنتين أي مجذبين في القحط، فنظر رسول الله ﷺ إلى شاة في كسر الخيمة في جانبها، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: أبها من لبن؟ قالت: هي والله أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا بها رسول الله ﷺ فمسح بيده ضرعها، وسمى الله –تعالى- ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه فرجت رجليها استعداداً للحلب ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط إناء لو شرب منه الجماعة لثقلوا وناموا، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجاً لبناً سائلاً كثيراً، حتى علاه البهاء، بياض رغوة اللبن عند الحلب، ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب رسول الله ﷺ آخرهم، ثم أراضوا عللاً بعد نهل، أراضوا أي شربوا وارتووا عللاً بعد نهل، أي مرة بعد مرة، والنهل الشرب الأول، والعلل الشرب الثاني، ثم حلب فيه ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها وارتحلوا عنها، فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلى ضحى مخهن قليل، أي أنهن هزيلات يتمايلن من الضعف ليس في العظام نخاع، لا يكاد يوجد فيه نخاع من شدة الجوع، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد؟ والشاء عازب حيال؟ أي بعيدة المرعى، لا تأوي إلى المنزل في الليل، لم تحمل كيف جاءها اللبن، ولا حلوب في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد؟ قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أي الحسن والجمال، أبلج الوجه" أي حسن الوجه واسعه، "حسن الخلق، لم تعبه نحلة" نحلة أي النحافة، لا يعاب بنحافة ولا دقة، "ولم تزر به صعلة" والصعلة صغر الرأس، فليس بمعيب لا في نحل ولا في صغر رأسه، "وسيم قسيم" أي جميل حسن، كل أقسامه جميلة، "في عينه دعج" أي شديد سواد العين، "وفي أشفاره غطف" والأشفار جمع شفر وهو الذي ينبت عليه شعر العين الرمش هذا، غطف هو أن يطول شعر الجفن ثم ينعطف، يطول وينعطف، "يطول شعر الجفن وينعطف" هذا صفة رموشه ﷺ، "وفي صوته صهل" أي قوة وحدة مع شيء من البح، "وفي عنقه سطع" أي ارتفاع وطول في العنق، وهذا من علامات الجمال، "وفي لحيته كثاثة" أي أنها كثيفة شعرها طويل ليست بدقيقة، "أزج أقرن" أزج الزجج هو تقوس الحواجب مع طول في طرفها وامتداد، "حواجبه متقوسه وممتدة" أقرن أي أن الحاجبان قد التقى طرفاهما، "إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هزر"، لا نزر ولا هزر، ليس عنده كثير فاسد ولا هذر ولا كلام غير مفيد، "كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، ربعة لا يأس من طول، ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه في الطول، ولا تقتحمه عين من قصر، وليس قصيراً تحتقره العين إذا نظرت إليه وتقتحمه، غصن بين غصنين" فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود" محفود يخدمه أصحابه ويعظمونه، ومحشود يجتمعون إليه، "لا عابس ولا مفند" فقال أبو معبد زوج المرأة: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، "ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً" [رواه الطبراني في الكبير: 3605، والحاكم في المستدرك: 4274، والآجري في الشريعة: 1020، واللائكائي : 1437 والبغوي في شرح السنة: 3704].
وكذلك من الأحاديث التي وردت في صفته ﷺ ما جاء عن أبي هريرة قال: "ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله ﷺ وكان كأن الشمس تجري في جبهته، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله ﷺ كأنما الأرض تطوى له" أي تقطع المسافة بيسر وسهولة، يقطعها بيسر وسهولة، "إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث" نجهد أنفسنا بالسير ونبالغ اللاحق به "وهو غير مكترث لا يبالي لا يصيبه إعياء ﷺ" [رواه الترمذي: 3648، وأحمد: 8604، وقال محققو المسند: "حديث حسن"].
وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله ﷺ في ليلة إضحيان" أي مضيئة مقمرة "وعليه حلة حمراء فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو عندي أحسن من القمر" [رواه الترمذي: 2811، وهو حديث حسن، وصححه الألباني].
وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوذ صفي لي رسول الله ﷺ؟ قالت: يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة" [رواه الدارمي: 61، والطبراني في الكبير: 696 ، والأوسط:4458، والبيهقي في شعب الإيمان: 1354].
لونه عليه الصلاة والسلام
لونه ﷺ كان أزهر اللون وهو الأبيض المستنير الناصع البياض وهو أحسن الألوان، لم يكن بالأبيض الأمهق الشديد البياض كالبرص، ولم يكن بالآدم الشديد السمرة.
وكان بياضه ﷺ مشرباً بحمرة، حتى كان الصحابة -رضي الله عنهم- كثيراً ما يتمثلون بنعت عمه أبي طالب إياه في لونه حيث يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
وهذا كان في قصيدة قالها أبو طالب لما عزم على نصرة النبي ﷺ لما آذى قريش النبي ﷺ ثم آذوا بني هاشم بسببه.
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سمعت أنس بن مالك يصف النبي ﷺ يقول: كان ربعة من القوم" ربعة متوسط بين الطول والقصر، "ربعة بين القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون" أبيض مستنير "ليس لأبيض أمهق ولا آدم" ليس شديد السمرة ولا شديد البياض جداً كالبرص، "ليس بجعد قطط، ولا سبط رجل"[رواه البخاري: 3547] فهو ليس شديد التواء الشعر ولا شديد الجعودة وفي الوقت نفسه ليس مسترسلاً شديد الاسترسال، بل إن شعره وسط بين هذا وهذا.
وعن الجريري عن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله ﷺ وما على وجه الأرض رجل رآه غيري، فقلت له: فكيف رأيته؟ قال: كان أبيضاً مليحاً مقصداً" [رواه البخاري: 2340] المقصد المعتدل لا جسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير.
وعن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله ﷺ أبيض مشرباً بياضه بحمرة" [رواه الترمذي: ].
وعن محرش الكعبي أن النبي ﷺ خرج من الجعرانة ليلاً فاعتمر ثم رجع فأصبح بها كبائت فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة".
وهكذا كان شبهه في صفاء لونه وبياضه بسبيكة الفضة ﷺ، والحديث [رواه أبو داود وهو في صحيح سنن أبي داود].
صفة وجهه عليه الصلاة والسلام
وكذلك جاء في صفة وجهه ﷺ: أنه كان أحسن الناس وجهاً، كان وجهه كالقمر، كان وجهه مستديراً ﷺ كأنه يتلألأ، كأن العرق في وجهه كاللؤلؤ، كان أسيل الخدين سهلهما ﷺ، أي ليس فيه نتوء، قليل اللحم في الخد، أقنى الأنف، أي أن أرنبة الأنف رقيقة مع حدب في وسط الأنف، ضليع الفم، حسن الثغر، براق الثنايا، إذا ضحك كاد يتلألأ.
وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً [رواه البخاري: 2337].
وعن أبي إسحاق قال: سئل البراء أكان وجه النبي ﷺ مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر" [رواه البخاري: 3552].
كأن السائل أراد أن يقول وهذا السائل تابعي لم ير النبي ﷺ فهو يروي عن البراء أنه سئل، السائل كان يسأل هل وجه النبي ﷺ طويل مثل السيف؟ فرد عليه البراء قال: "بل مثل القمر" في التدوير.
ويحتمل أن يكون قصد السائل: هل وجه النبي ﷺ مثل السيف في اللمعان؟
فقال: بل هو فوق ذلك، وعدل البراء عدولاً عجيباً لطيفاً رفيقاً دالاً السائل على صفة أحسن من تشبيه هذا بالسيف أنه مثل القمر، أنه مثل القمر في الإضاءة والتدوير.
وعن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله ﷺ عظيم العينين" العين واسعة، "أهدب الأشفار، مشرباً بحمرة" [رواه الإمام أحمد: 684، وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح"].
كان أسود الحدقة، السواد المستدير وسط العين البؤبؤ.
كان أسود الحدقة، أهدب الأشفار.
وفي حديث يزيد الفارسي في رؤيته المنامية لرسول الله ﷺ التي قصها على ابن عباس وأقره عليها، قال له في الوصف لما قال رأيت النبي ﷺ في المنام، قال: صف لنا ما رأيت؟
لو جاء واحد وقال: رأيت النبي ﷺ في المنام، كيف نعرف رآه وإلا ما رآه؟ نقول: صف ما رأيت؟
فإن وصفه على هذا النعت الدقيق والدقيق جداً عرفنا أنه الذي رآه هو هو ﷺ؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، ولا يظهر في صورة النبي ﷺ في المنام، لا يمكن الشيطان يتمثل بصورة النبي الحقيقية ﷺ، لكن يمكن الشيطان يتمثل بأي صورة أخرى يزعم أنه رسول الله في المنام، لكن لا يمكن يأتي الشيطان على وصف النبي ﷺ في المنام، ولذلك ابن عباس سأل الرجل، حتى يعلم هل هو الذي رآه فعلاً هو النبي ﷺ أو غيره، قال: صفه صفه؟ قال: "رأيت رجلاً" إلى أن قال في الوصف "حسن المضحك، أكحل العينين" [رواه أحمد: 3410] سواد يكون في مغاري الجفن، خلقة، إلخ...
فبين له أنه لم يعدوه، هو الصفة التي وصفها هو هو، كأنك تصفه وأنت ترى.
صفة رأسه -صلى الله عليه وسلم- ولحيته
وأما من ناحية رأسه ﷺ ولحيته، فقد كان رسول الله ﷺ عظيم الرأس، ذا لحية عظيمة، حسنة كثيرة الشعر سوداء تكاد تملأ نحره، إذا تكلم في نفسه عرف ذلك من خلفه باضطراب لحيته لعظمها.
ومن الأحاديث الذي وردت في ذلك ما يلي:
عن علي بن أبي طالب في وصف النبي ﷺ قال: "كان ضخم الهامة"، والهامة هو الرأس [رواه الإمام أحمد: 1122، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: ].
وعن علي بن أبي طالب في وصف رسول الله ﷺ قال: "كان رسول الله ﷺ عظيم اللحية" [رواه الإمام أحمد: 944، وحسنه الألباني].
وعن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله ﷺ كث اللحية" [رواه أحمد: 684، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"] أن أصولها وشعرها كثيفة فيها كثافة ليست دقيقة فيها كثافة ﷺ.
وفي رواية: "كان كثير شعر اللحية" [رواه مسلم: 2344].
وعن أبي هريرة في وصف النبي ﷺ قال: "كان رسول الله ﷺ أسود اللحية" [رواه البيهقي: وقال ابن حجر: إسناده قوي"].
صفة شعره عليه الصلاة والسلام
وأما صفة شعره ﷺ فإنه ليس بشديد الجعودة ولا شديد السبوطة، بل هو بينهما، وسط بينهما، شديد السواد، يبلغ إلى أنصاف أذنيه وتارة شحمة أذنيه وتارة بين أذنيه وعاتقه، وتارة يضرب منكبيه، وكان أول أمره قد سدل ناصيته بين عينيه، ثم فرقه بعد ذلك فجعله فرقتين، وكان ربما جعله غدائر أربعاً يخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها، ويخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين يكتنفانها.
وبهذا جاءت الأوصاف عنه ﷺ، ومن ذلك:
ما رواه البخاري -رحمه الله- عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله ﷺ رجل الشعر ليس بالسبط ولا بالجعد القطط" [رواه أحمد: 13519، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"].
وكذلك جاء عن أبي الطفيل قال: "رأيت رسول الله ﷺ يوم فتح مكة فما أنسى بياض وجهه مع شدة سواد شعره" الحديث قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
وكذلك جاء عن أنس قال: "كان شعر رسول الله ﷺ إلى أنصاف أذنيه" [رواه مسلم: 2338].
وكذلك جاء عن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله ﷺ رجلاً مربوعاً له شعر يبلغ شحمة أذنيه" يبلغ شحمة أذنيه، اللين من الأذن في أسفلها وهو معلق القرط الذي تضعه النساء، عليه حلة حمراء، "ما رأيت شيئاً قط أحسن منه" [رواه البخاري: 3551].
وفي رواية عنه في شعر النبي ﷺ أنه كان يضرب منكبيه" [رواه مسلم: 2337].
فهكذا كان ﷺ في شعره.
وجاء عن ابن العباس -رضي الله عنهما- قال: "كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم" ومعنى يسدلون أشعارهم أنهم يرسلونها على الجبين، يرسلونها على الجبين، سدل شعره إذا أرسله ولم يضم جوانبه، ف "كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون" يفرقون الشعر من الوسط، يفرقونه يجعلون فيه فرقاً من الوسط، "وكان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به" شيء ما جاء فيه تشريع ولا دليل ولا أوحي إليه فيه بشيء يوافق أهل الكتاب، لأنهم أقرب من المشركين في هذا الأمر الذي ليس فيه تشريع، "فسدل رسول الله ﷺناصيته" سدلها شعر مقدم الرأس سدله "ثم فرق بعد" [رواه البخاري: 5917، ومسلم: 2336].
فإذاً، السدل من فعله ﷺ كان يفعله لما كان المشركون يفرقون الشعر، فخالف الأكفر والأضل خالفه فلم يفرق وسدل، لما قضي على المشركين وفتحت مكة وانتهى الشرك، ما عاد في مشركين حتى يخالفهم، فماذا فعل؟
خالف أهل الكتاب، فلأنهم كانوا يسدلون صار هو يفرق شعره ﷺ بعد ذلك.
هل كان في شعر النبي –صلى الله عليه وسلم- شيب؟
هل كان في شعر النبي ﷺ شيب؟
الجواب: نعم، كان فيه قليل من الشيب، وكان أكثر شيب رأسه ﷺ في فودى رأسه، والفودان حرفا الفرق، وحرفا الفرق جانبا الفرق، وإذا مس ذلك الشيب الصفرة صار كأنه خيوط الذهب، يتلألأ بين ظهري سواد شعره ﷺ، كان شيبه قليل جداً.
والأدلة على ذلك ما يلي:
عن أنس بن مالك قال: "وقبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء" قال ربيعة: "فرأيت شعراً من شعر رسول الله ﷺ"؛ لأن بعض الصحابة احتفظوا ببعض شعره بعد موته ﷺ، "فإذا هو أحمر، فسألت: أنتم تقولون أنه أسود"، لماذا الآن أحمر الشعر، فقيل من الطيب"[رواه البخاري: 3547، ومسلم: 2347].
من الطيب الذي كان يدهن به احمر بعض الشعر.
وعن محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك: أخضب رسول الله ﷺ؟ يعني صبغ بالحناء صبغ شعره بالحناء، قال: "إنه لم ير من الشيب إلا قليلاً" [رواه مسلم: 2341]، ولذلك لم يكن هناك حاجة للخضابة.
وكذلك جاء عن أنس أن النبيﷺ: "لم يختضب إنما كان البياض في عنفقته"[رواه مسلم: 2341].
والعنفقة هذا الشعر الذي يكون أسفل الشفة السفلى وهو تابع للحية فلا يجوز حلقه.
كان في هذه العنفقة شعرات بيضاء في شعر النبيﷺ "وفي الصدغين وفي الرأس نبذ" [رواه مسلم: 2341].
إذاً، الشيب هذا كان في العنفقة وفي الصدغين، والصدغان الشعر الذي بين الأذن وبين العين، بين الأذن وبين العين هذا الصدغ، وفي الرأس نبذ، يعني أشياء متفرقة يسيرة، أشياء متفرقة ويسيرة.
وكذلك قال جابر بن سمرة: كان رسول الله ﷺ قد شمط مقدم رأسه ولحيته" ومعنى "شمط" أي بدأ فيه الشيب "وكان إذا ادهن ومشط لم يتبين، وإذا شعف رأسه تبين" [رواه مسلم: 2344]، فإذا بعد العهد بالغسل وتسريح الشعر بان شيء من الشيب في شعره ﷺ.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبيﷺ كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس" [رواه أبو داود: 4210، والنسائي: 5244، وقال محقق: "إسناده حسن"].
فكان يصبغ بالورس ﷺ وهو نبات أصفر باليمن، يؤتى به من اليمن، يستعمل في الصبغ، يعطي اللون الأصفر.
فالنبي ﷺ في الراجح أنه قد خضب.
قال ابن كثير -رحمه الله-: ونفي أنس للخضاب معارض بما تقدم عن غيره من إثبات الخضاب.
والقاعدة تقول: أن الإثبات مقدم على النفي، والمثبت معه زيادة علم ليست مع النافي.
صفة خاتم النبوة
ماذا أيضاً من صفاته عليه الصلاة والسلام؟
كان له خاتم النبوة، يقول عبد الله بن سرجس : "رأيت النبي ﷺ وأكلت معه خبزاً ولحماً، فقلت يقول عاصم لعبد الله: أستغفر لك النبي ﷺ، قال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] قال: ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى، جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل" [رواه مسلم: 2346].
أما ناغض الكتف فهو أعلى الكتف، قيل: هو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف وهو يتحرك أثناء حركة الكتف، ولذلك سمي ناغضاً لتحركه، عند ناغض الكتف اليسرى جمعاً، أي أنه كجمع الكف بعد تجمع الأصابع وتضامها، هذه هيئة خاتم النبوة، عليه خيلان والخيلان جمع خال والخال هي الشامة في الجسد، كأمثال الثآليل، وهي الحبيبات تعلو الجسد جمع ثؤلول، مثل قدر بيضة الحمامة، خاتم النبوة مثل قدر بيضة الحمامة، حوله مثل هذه الثآليل مثل الخيلان حبة الخال المجتمعة عند ناغض الكتف الأيسر، جاء في رواية جابر بن سمرة: "كان وجه رسول الله ﷺ مثل الشمس والقمر مستديراً، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده" [رواه مسلم: 2344].
فهذا هو مقداره، هذا الخاتم الذي كان مذكوراً في الكتب المقدسة وصفه خاتم النبوة، ولذلك لما جاء سلمان الفارسي دار حول النبي ﷺ ليراه من الخلف ويتأكد.
والنبي ﷺ انتبه فأرخى الرداء الذي عليه، أرخاه ونزله حتى يستطيع سلمان أن يراه، فرآه، فعرف أنه رسول الله ﷺ.
لم يكن هذا الخاتم تشويهاً وإنما كان جمالاً في ظهره ﷺ، وآية منبئة عن نبوته، وأنه رسول الله.
صفة منكبيه عليه الصلاة والسلام
أما المنكبان، فجاء عن البراء قال: "كان رسول الله ﷺ بعيداً ما بين المنكبين" [رواه البخاري: 3551، ومسلم: 2337].
إذاً، عريض المنكبين.
وعن أبي هريرة في نعت ذراعي النبي ﷺ قال: "كان شبح الذراعين" [رواه الإمام أحمد: 9787، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2095].
ومعنى: شبح الذراعين، أي إنه كان عريض الذراعين ﷺ، أو طويل الذراعين ﷺ.
صفة كفيه عليه الصلاة والسلام
وأما بالنسبة للكفين، فقد جاء عن أنس كان النبي ﷺ ضخم اليدين، حسن الوجه" [رواه البخاري: 5907].
وجاء في حديث علي: "كان النبي ﷺ شثن الكفين" [رواه الترمذي: 3637، وأحمد: 944، وقال محققو المسند: "حسن لغيره"]، ومعنى شثن الكفين يعني غليظ الأصابع والراحة، غليظ الكف، في أنامله غلظ دون قصر.
وكان أيضاً ﷺ عظيم المشاش، هذه مفاصل الأصابع.
وكان ﷺ بالرغم من ضخامة كفه وعظم الأصابع كان كفه في غاية اللين، ولذلك يقول أنس : "ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله ﷺ" [رواه البخاري: 1973، ومسلم: 2330، وهذا لفظ مسلم].
صفة ساقيه عليه الصلاة والسلام وقدميه وعقبيه
أما عن ساقيه ﷺ، فإنه قد جاء أنهما كانتا في غاية البياض، وذلك في حديث سراقة أنه نظر إلى ساقي النبي ﷺ قال: "كأنها جمارة" والجمار قلب النخلة وشحمتها وهو في العادة أبيض، فكأنه طلع النخل من بياض ساقيهﷺ، كان في ساقيه ﷺ هذا البياض في اللون.
وأما القدمان، فكان ضخم القدمين ﷺ؛ كما جاء في حديث أنس عند البخاري [رواه البخاري: 5908].
وأما بالنسبة للعقبين، فإنه "كان منهوس العقبين" [رواه مسلم: 2339] منهوس يعني قليل لحم العقب، قليل لحم العقب الذي في القدم، وكان ﷺ يطأ بقدميه جميعاً، ليس له أخمص، كان يطأ بقدميه جميعاً ليس له أخمص، أي الأخمص ما داخل بطن القدم الذي لا يصيب الأرض، التجويف الذي داخل بطن القدم من أسفل، الأشخاص العاديون عندهم هذا التجويف الأخمص، هذا لا يصيب الأرض عند المشي.
النبي ﷺ لم يكن له أخمص، كان يطأ بقدميه جميعاً على الأرض، وليس من عيب، بل كان عدوه سريعاً، فسابق عائشة وسبقها وكان يمشي مشياً نشيطاً سريعاً يعجز الصحابة أن يلحقوا به ﷺ.
هذه الأوصاف الدقيقة التي شاء الله –تعالى- أن تحفظ وأن تنقل من جيل لجيل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وسطرت في الكتب وجاءتنا بالوصف الدقيق لنبينا ﷺ صفة وصفه كأنك تراه، ومع ذلك قال في ناس من صدق إيمانهم في آخر الزمان: يود أحدهم لو رآني بأهله وماله [رواه مسلم: 2832].
وذلك لأن رؤيته ﷺ يترتب عليها ميزة عظيمة جداً جداً وهي الصحبة، وأجر الصحبة لا يعدلها أجر إطلاقاً، ومهما فعل أحدنا من الأعمال الصالحة لا يمكن أن يتفوق ولا يزيد على أجر صحبة النبي ﷺ.
كمال خُلق النبي -عليه الصلاة والسلام-
وقد جمع الله له مع كمال خلقته، جمع له أيضاً كمال الخلق ﷺ.
لقد كان ذا سكينة باعثة على الهيبة والتعظيم داعية إلى التقديم والتسليم كان مهاباً في النفوس، حتى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع اعتيادهم للملوك والدخول عليهم، لكن ارتاعوا لما جاؤوا، وكان في نفوسهم أهيب، وفي أعينهم أعظم من سائر ملوكهم.
وكان فيه عليه الصلاة والسلام طلاقة موجبة للمحبة الباعثة على المصافاة والمودة.
وكان صلوات الله عليه محبوباً، استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتى لم يقله مصاحب، يعني لم يكره أحد ولم يبعد عنه أحد ولم يتباعد منه مقارب.
وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب الماء البارد على الظمأ.
وكان حسن القبول تميل إليه القلوب وتسرع إلى طاعته وتذعن لموافقته.
وكان من رأى منظره ﷺ ارتاح وعرف أنه صاحب الحق، مالت النفوس إليه، وانقادت لموافقته، وثبتت معه على الشدائد.
وهذه أخلاقه التي منها رجاحة عقله، وصدق فراسته، وصواب رأيه، وحسن تدبيره، وتألفه للناس.
كان ثابتاً في الشدائد صابراً على البأساء والضراء وهو مكروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يخور في شديدة ولا يستكين بعظيمة، قد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهد السلاسل، ولكنه كان صابراً صبر المستعلي ثابتاً ثبات المستولي.
كان زاهداً في الدنيا معرضاً عنها، ومع أنه ملك من أقصى الحجاز إلى عذاري العراق ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان وهو أزهد الناس فيما يقتنى ويدخر، لم يخلف عيناً ولا ديناً، ولا حفر نهراً، ولا شيد قصراً، ولا ورث ولداً ولا متاعاً ولا مالاً ليصرف أهله عن الرغبة في الدنيا، وإنما أراد أن يكونوا على مثل الحال التي مات عليها.
لقد كان هذا الرجل عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات حقيق ألا يتهم بكذب ولا يخون، وأنه ﷺ في تواضعه وخفض جناحه لأصحابه.
كان مطاعاً يمشي بالأسواق ويجلس على التراب ويمتزج لأصحابه ويداعبهم ويمازحهم ويسلم على الصغير. وكان حليماً وقوراً ليس فيه طيش يهزه أو خرق يستفزه، كان أحلم الناس في النفار وأسلم في الخصام من كل سليم، وقد مني بجفوة العرب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفظ عليه بادرة لا طاش ولا اشتد ولا نبا بكلمة ولا آذاهم مع أنهم آذوه.
وكذلك كان حافظاً للعهد وفياً بالوعد، يرى الغدر من كبائر الذنوب، يرتكب الأصعب لحفظ العهد وبالوفاء بالوعد حتى يبتدئ معاهدوه بنقضه، فيجعل الله فرجاً ومخرجاً، كما حصل في الحديبية، وسلم صاحبه الذي جاء مستنجداً به سلمه للكفار لأجل المعاهدة التي كانت بينه وبينهم، فجعل الله له من تقواه فرجاً ومخرجاً وهرب ذلك الصحابي حتى جعل الكفار يناشدون النبي ﷺ ألا يرد من جاء إليه، لقد أوتي حكمة بالغة وعلوماً باهرة وهو أمي من أمة أمية لم يقرأ كتاباً ولا درس علماً ولا صحب عالماً ولا معلماً، أتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما جاء به من الأحكام.
وكذلك فإن الله قد هيأ له ذهناً صحيحاً وصدراً فسيحاً.
وكذلك آتاه جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً، فصار يأتي بجوامعه وأوتي من مستحسن الأخلاق ومستحسن الآداب من صلة الأرحام والعطف على الضعفاء والأيتام، وغير ذلك ما جعله بحق أعظم الناس على الاطلاق.
كان لسانه محفوظاً، لا يكذب ﷺ، كان يلزم الصدق دائماً، وكان يتحرى في كلامه ويتوخى ولا يهذي هذياناً، وكان كثير الصمت كثير الفكرة، وكان أحسن الناس سمتاً، وأفصح الناس لساناً، وأوضحهم بياناً، وأجزلهم ألفاظاً، وقد دون الكثير من جوامع كلامه وشرح في المجلدات الكبار ولو مزجت كلامه بكلام غيره لتميز لك كلامه عن كلام غيره، ولظهر التنافر بين كلامه وكلام غيره من الخطباء والشعراء.
حسنت سيرته وصحت سياسته واستقرت قواعد دينه بعد أن قامها ﷺ، جمع بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع، حتى اجتمع الفريقان على نصرته، وقاموا بحقوق دعوته، كلاهما تتابعه الراغب والراهب وشرعه وسط لا غلو ولا تقصير.
وكذلك فإنه ﷺ لم يحتج لأهل الكتاب في شيء وإنما احتاجوا إليه في كثير من معاملاتهم ومواريثهم وجاءوا لشرعه وأقبلوا على درسه وأخذوا منه أموراً كثيرة ﷺ، انتصب لجهاد الأعداء وأظهر الشجاعة الفائقة، وكان بطلاً وكان يتقى به عند البأس، وكان يصابر العدو ويدافعهم بقلب آمن وجأش ساكن، عضده الله بأنجاد وأمجاد فنحاز وصبر وأمده الله بالنصر.
وكان صاحب سخاء وجود، حتى جاء بكل موجود وآثر بكل مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير طعاماً لأهله، كذا صاع من شعير لطعام أهله، مع أنه قد ملك جزيرة العرب وكان فيها ملوك وأقيال لهم خزائن وأموال يقتنونها ويتفاخرون بها، فما أخذ منها درهماً ولا ديناراً، أكل الخشن ولبس الخشن وأعطى الجزل الخطير ووصل الجم الغفير وهو على الجوع وعلى القلة ﷺ، ليس في بيته إلا إهاب وسرير مرمل، وهكذا كان في تخففه من الدنيا ﷺ، وكان ولا شك هو أعظم الأنبياء وإمامهم ومقدم الناس وسيدهم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر ﷺ.
فهذه طائفة من أخلاق نبينا ﷺ وشمائله ووصفه عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله أن يلحقنا به، وأن يجعلنا من أهل سنته، وأن يميتنا على دينه وسيرته ﷺ، ويرزقنا شفاعته يوم الدين.