الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فأعتذر إليكم -أيها الإخوة- عن بعض الوهن الذي ربما يحصل في إلقاء هذه المحاضرة لزكمة حصلت، ولكن أسأل الله سبحانه وتعالى أن نستفيد وإياكم مما سنقول في هذا المجلس.
مقدمة
كم يتمنى المرء المسلم أن يكون قد عاش في عهد رسول الله ﷺ هذه أمنية عزيزة، ولكن جرى قدر الله أن نكون نحن في هذا الزمان، وإلا فإننا نتحرق، وكم تطوف بنا الأماني أن تكون قد عشنا في ذلك الزمن، ورأينا رسول الله ﷺ، وتأثرنا به، وتعلمنا منه، وكنا مع أصحابه وناصرناه وجاهدنا معه، ولكن عزاؤنا أنه ﷺ ذكر أن له إخواناً سيأتون في الزمن المتأخر، وأنه ربما افتدى أحدهم رؤيته ﷺ بأهله وماله، ولعل عيشنا في هذا الزمن في زمن غربة الإسلام فيه شيء من الأجر العظيم لكل إنسان مقل أو مستكثر من الثبات على هذا الدين، ومن التمسك بسنة النبي ﷺ حين تخلى عنها الناس.
ولقد صحب رسول الله ﷺ قوماً اصطفاهم الله لصحبة نبيه، فكانوا أبر الأمة قلوباً، وأطهرها نفوساً، وأثبتها قلوباً.
وهؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- ناصروا رسول الله، ونقلوا سنته، وجاهدوا معه.
ولما مات أكملوا المسيرة، فانطلقوا مجاهدين في سبيل الله، يعلمون الناس سنة نبيهم، ويربونهم بهذا الكتاب العزيز، وهذه الأحاديث العظيمة التي قالها ﷺ.
وإن كثيراً من الصحابة -رضوان الله عليهم- لا نعرف عنهم إلا القليل، وربما يكون من مشاهيرهم من لا نعرف إلا اسمه.
فإذا سأل الإنسان نفسه: ماذا يعرف عن هذا الاسم العلم وعن هذا الشخص؟ لا يجد في ذاكرته إلا القليل.
وحديثنا في هذه الليلة عن سيرة صحابي جليل من صحابة رسول الله ﷺ وهو: عبد الله بن عمر بن الخطاب .
هذا الصحابي العظيم الذي روى لنا جزءاً كبيراً من سنة النبي ﷺ وصلت إلينا عن طريقه، والذي ربى لنا جيلاً من التابعين ساهم في نقل هذه السنة، وساهم في إنشاء وتوسيع قاعدة المجتمع الإسلامي في ذلك الزمان.
اسم ابن عمر ونسبه
أما هذا الرجل فإنه نسبته هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب.
قال الذهبي -رحمه الله-: هو الإمام القدوة شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن، القرشي العدوي المكي ثم المدني، ويجتمع نسبه مع رسول الله ﷺ في لؤي بن غالب.
وأما أمه، فهي أم أم المؤمنين حفصة، أم عبد الله بن عمر هي زينب بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون الجمحي.
هذا الصحابي الجليل الذي ولد قبل الهجرة بأحد عشر أو اثنا عشر عاماً؛ لأنه عرض على رسول الله ﷺ يوم أحد فرده وكان عمره أربع عشرة سنة، وعرض عليه يوم الخندق فأجازه وكان ابن خمس عشرة سنة.
هذا الصحابي الجليل أسلم صغيراً بعد إسلام أبيه، ولا صحة لما يتوهه البعض من أن إسلامه كان قبل إسلام أبيه.
ولعل السبب في هذا الوهم ما ذكره نافع -رحمه الله- قال: الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك ولكن عمر عام الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله ﷺ يبايع تحت الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، عبد الله بايع رسول الله ﷺ يوم الحديبية قبل أبيه، فبايعه عبد الله وذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر، وعمر ي يَسْتَلْئِمُ للقتال( أي يلبس اللأمة وهي السلاح)، فأخبره أن رسول الله ﷺ يبايع تحت الشجرة، قال: فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله ﷺ، فهو الذي يتحدث الناس أن ابن عمر بايع قبل عمر.
فهذه البيعة إذاً في غزوة الحديبية وليست بيعة الإسلام، وعبد الله أسلم بعد أبيه، أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه ولم يحتلم بعد، فكانت هجرته قبل الاحتلام، وشهد المشاهد مع رسول الله ﷺ، وشهد فتح مكة، وكان له من العمر عشرون سنة.
سمت ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما سمته ، فقد ذكر من رآه من أصحابه؛ مثل أبي إسحاق السبيعي قال: "رأيت ابن عمر آدم، جسيماً إزاره إلى نصف الساقين يطوف".
وقال هشام بن عروة: "رأيت ابن عمر له جمة يعتني بها ويرجلها، وكان إزاره إلى نصف الساق، كما أمره رسول الله ﷺ، وكان له خاتم نقشه عبد الله بن عمر يختم به الكتب، ويوقع به".
زهد ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما زهد هذا الصحابي الجليل فإن زهده قد ضرب به المثل، وكان أنواعاً متنوعة، فكان يترك لبس اللين من الثياب، وقد قال ﷺ وأخبر أن من ترك اللباس تواضعاً لله كساه الله يوم القيامة من الحلل ما شاء.
وكان زهده أيضاً في أثاث بيته، فقد قال ميمون -رحمه الله-: لقد دخلت على ابن عمر فقومت كل شيء في بيته من أثاث ما يسوى مائة درهم.
طعام ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما في طعامه، فإن حمزة بن عبد الله بن عمر قال: لو أن طعاما كثيراً كان عند أبي ما شبع منه بعد أن يجد له آكلاً.
وقد عاده ابن مطيع فرآه قد نحل جسمه فكلمه، فقال: إنه ليأتي علي ثمان سنين ما أشبع فيها شبعة واحدة.
وقد صنع له بعضهم مرة شيئاً يهضم الطعام وقدمه له، فقال: هذا شيء إذا أكلت طعامك فكربك، يعني صار الهضم متعسراً أكلت منه شيئاً فيهضمه عنك، فقال ابن عمر: ما ملأت بطني من طعام منذ أربعة أشهر.
وفي رواية: إنه ليأتي علي شهر ما أشبع من الطعام فماذا أصنع بهذا؟ فلم يكن يصاب بعسر الهضم نتيجة التخمة أبداً؛ لأنه ما كان يكثر من الطعام، وربما مر عليه الشهر لا يذوق فيه مزعة من اللحم ليس كتصوف الصوفية، أو أنه يأخذ بمذهب النباتيين، ولكنه كان يتصدق، وكان يدعو الفقراء على طعامه فيسبقونه بالأكل.
حسن مظهر ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما سمته وحسن مظهره فإنه كان يعتني بمظهره اعتناءً حسناً.
ولما ظهر الشيب في شعره كان لا يتوانى عن تغيير لونه بالصفرة.
ولما سئل عن تصفير لحيته أخبر بأنه رأى رسول الله ﷺ يفعل ذلك.
وقد حصل له بعض الفرائد التي استفرد بها عن بقية الصحابة في هذا مثل أنه كان يأخذ من لحيته ما زاد عن القبضة في الحج والعمرة، فقال بعض أهل العلم: إن هذا الفعل منه يدل على جواز أخذ ما زاد عن القبضة.
وقال بعضهم: إن هذا الفعل قد خالف فيه ما رواه هو بنفسه عن الرسول ﷺ من الأمر بإعفاء اللحية، فدل ذلك على أن فعله اجتهاد خاص به لا يتابع عليه، وأن السنة إطلاق اللحية وإعفاؤها كما جاءت الأوامر النبوية بذلك: أعفوا اللحى ((أرخوا اللحى)) ((أرجوا اللحى)) ((وفروا اللحى)) ((أوفوا اللحى)) ((خالفوا المشركين)).
ومن احتج بفعل ابن عمر على أخذ ما نقص من القبضة فليس له حجة في فعله أبداً، فإنه كان يأخذ ما زاد عليها.
طيب رائحة ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما طيبه فإنه كان طيب الرائحة، وكان يتطيب خصوصاً للجمعة والعيد، ويجمر ثيابه ثلاث مرات من أجل الجمعة والعيد.
حسن وفاء ابن عمر -رضي الله عنه- للقرض
وقد كان حسن التعامل فكان إذا أقرض أحداً قرضاً وفاه وزيادة؛ كما حصل لبعضهم أنه أقرض ابن عمر ألفي درهم فبعث إليه ابن عمر بألفي واف، فوزنها فوجدها تزيد مائتي درهم، فقال الرجل في نفسه: ما أرى ابن عمر إلا يجربني، يعني يختبرني هل أرد الزيادة أم لا، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنها تزيد مائتي درهم، فقال: هي لك.
خدمة ابن عمر -رضي الله عنه- لتلاميذه في السفر
وكان إذا خرج مع تلاميذه في سفرهم يخدمهم كما يخدمونه حتى قال مجاهد بن جبر: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني أكثر.
كف ابن عمر -رضي الله عنه- نفسه عند الغضب
وأما تمالكه لنفسه، فإنه كان يضبط نفسه فيمنعها من الثوران والهيجان عند خطأ الخادم والعبد، وكان لا يلعن شيئاً، قيل: إنه مرة واحدة في عمره لعن خادماً فأعتقه.
وقيل: أن هذه المرة قال فيها: اللهم الع.. فلم يتمها، وقال: ما أحب أن أقول هذه الكلمة.
فضائل ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما فضائله، فإنها على عهد رسول الله ﷺ ثابتة، فقد روى سالم عن أبيه (وسالم هو ولد عبد الله بن عمر) قال: كان الرجل في حياة رسول الله ﷺ إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله ﷺ، وكنت غلاماً عزباً شاباً، فكنت أنام في المسجد، فرأيت كأن ملكين أتياني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر ولها قرون كقرون البئر، فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك، فقال: لن تراع، فذكرتها لحفصة، فقصتها حفصة على رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ، فكان بعد لا ينام من الليل إلا القليل فأثرت فيه كلمة رسول الله ﷺ في حثه على قيام الليل، فكان لا ينام إلا قليلاً، هذه رواية صحيحة.
وفي رواية أخرى قال: رأيت في المنام كأن بيدي قطعة استبرق وليس مكان من الجنة إلا طارت بي إليه، قال: فقصصته على حفصة فقصته حفصة على رسول الله ﷺ فقال: أرى عبد الله رجلا صالحا .
وفي رواية للترمذي: إن أخاك رجل صالح.
فهذه الرؤيا الأولى فيها تبشير له بنجاته من النار.
وهذه الرؤية الثانية فيها تبشير له بدخول الجنة.
ثناء أقران ابن عمر -رضي الله عنه- عليه
وأما أقرانه فقد شهدوا له بالصلاح، كما قال عبد الله بن مسعود: "إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد الله بن عمر".
وقال: "ما منا أحد أدرك الدنيا إلا وقد مالت به ومال بها إلا ابن عمر".
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: "مات عبد الله بن عمر وهو في الفضل مثل أبيه".
وقال أبو إسحاق: كنا نأتي ابن أبي ليلى وكانوا يجتمعون إليه، فجاء أبو سلمة بن عبد الرحمن فقال: أعمر كان أفضل عندكم أم ابنه؟ فقال: بل عمر، فقال: إن عمر كان في زمان له فيه نظراء، عمر كان في الوقت الذي كان فيه له فيه أشباه، وإن ابن عمر بقي في زمان ليس له فيه نظير؛ لأن وفاة عبد الله بن عمر تأخرت؛ لأنه مات في الثمانينات من عمره، فعاش حتى أدرك زماناً صار فيه لا مثيل له بين الناس.
ثناء التابعين على ابن عمر -رضي الله عنه-
وشهد له التابعون؛ مثل ميمون بن مهران قال: "ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس".
وقال سعيد بن المسيب: "لو أشهد لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لابن عمر" قال الذهبي: "رواه ثقتان عنه".
وقال قتادة: سمعت ابن المسيب يقول: " كان ابن عمر يوم مات خير من بقي".
وقال طاوس: "ما رأيت أورع من ابن عمر".
بكاء ابن عمر -رضي الله عنه- عند قراءة القرآن
وأما بكاؤه -رحمه الله-، فإنه كان عند قراءة القرآن كثيراً، وكان لا يقرأ قول الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] إلا بكى.
ومرة حضر في مجلس وعظ، قال الراوي: "فرأيت ابن عمر ودموعه تهراق، ما ذكر النبي ﷺ إلا بكى".
حتى قال بعضهم: "لو أن الواعظ يسكت رفقا بهذا الشيخ".
صلاة ابن عمر -رضي الله عنه- بالليل
وأما صلاته، فإنه كان يقوم من الليل فإذا فاتته صلاة العشاء في جماعة أحيا الليل كله.
وكان له مهراس فيه ماء كما ذكر ابن حجر في "الإصابة" فيصلي ما قدر له ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاءة الطائر ثم يقوم فيتوضأ ثم يصلي فيرجع إلى فراشه فيغفي إغفاءة الطائر، ثم يثب فيتوضأ ثم يصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس.
ولما احتضر ابن عمر قال: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر؛ لأنه كان يكثر الصيام، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا، يعني الحجاج.
وكان يمشي إلى مسجد قباء فقال أحدهم: أقبلت من مسجد بني عمرو بن عوف بقباء على بغلة لي قد صليت فيه، فلقيت عبد الله بن عمر ماشياً، فلما رأيته نزلت عن بغلتي، ثم قلت: اركب يا عم، قال: أي ابن أخي لو أردت أن أركب الدواب لوجدتها، ولكني رأيت رسول الله ﷺ يمشي إلى هذا المسجد حتى يأتي فيصلي فيه فأنا أحب أن أمشي إليه كما رأيته يمشي، قال: فأبى أن يركب ومضى على وجهه.
فإذاً، كان يفعل السنة في المشي إلى مسجد قباء.
ومن تيسر له إذا ذهب إلى المدينة أن يمشي إلى مسجد قباء فيصلي فيه ركعتين فإن له أجر عمرة كما أخبر عنه ﷺ كما جاء في الحديث الصحيح.
تواضع ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما تواضعه ؛ فعن أبي الوازع قلت لابن عمر: "لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم؟ فغضب وقال: إني لأحسبك عراقياً وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه" حديث حسن.
وعن نافع: أن رجلاً قال لابن عمر: "يا خير الناس أو يا ابن خير الناس، فقال: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه.
وهذا فعل عبد الله بن عمر لما وجه بعبارات المدح.
فبعض الناس اليوم إذا جاءته عبارات المدح أصغى أذنه لها وفرحت نفسه بها وسكت، بل يطلب المزيد.
وهؤلاء الناس الأتقياء يرفضون ذلك.
بذل ابن عمر -رضي الله عنه- وإنفاقه في سبيل الله
وأما بذله في سبيله فكثير جداً، قال نافع: ما أعجب ابن عمر شيء من ماله إلا قدمه، فبينما هو يسير على ناقته إذ أعجبته فقال: إخ إخ فأناخها، وقال: يا نافع حط عنها الرحل، فجللها وقلدها وجعلها في بدنه؛ لأنه كان ذاهباً إلى الحج وخصص إبلاً من أجل هدي الحج فلما أعجبته ناقته أدخلها في هدي الحج.
وعن الأعمش عن نافع قال: مرض ابن عمر فاشتهى عنباً أول ما جاء فأرسلت امرأته بدرهم فاشترت به عنقوداً، فأتبع الرسول سائل، سائل رأى هذا المرسول من بيت ابن عمر يذهب ليشتري العنب فراح وراءه، فلما دخل قال السائل: السائل السائل، فقال ابن عمر: أعطوه إياه، ثم بعثت بدرهم آخر، امرأته قال: فأتبعه السائل فلما دخل، قال: السائل السائل، فقال: أعطوه إياه فأعطوه، ثم أرسلت صفية إلى السائل تقول: والله لئن عدت لا تصيب مني خيراً ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به.
عتق ابن عمر -رضي الله عنه- لألف من العبيد
وكان يكثر من عتق العبيد جداً يبتغي وجه الله حتى قال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد.
وكان كثير الإنفاق في وجوه الخير، أتي مرة باثنين وعشرين ألف دينار فلم يقم من مجلسه حتى فرقها كلها.
وأعطاه ابن جعفر في مولاه نافع عشرة آلاف درهم، فقال: أو خيراً من ذلك؟ جاء واحد يريد أن يشتري نافع مولى ابن عمر بعشرة آلاف درهم، فقال ابن عمر: خيراً من ذلك؟ هو حر لوجه الله.
قال محمد العمري الراوي: فكان يخيل إلي أنه كان ينوي قول الله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.
واشترى غلاماً بأربعين ألفاً فأعتقه، فقال: يا مولاي قد أعتقتني فهب لي شيئاً أعيش به، فأعطاه أربعين ألفاً أخرى.
وكان رقيق ابن عمر يعرفون ذلك منه، يعرفون أنه إذا لمس صلاح العبد أعتقه، فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد فإذا أتاه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول له بعض أصحاب ابن عمر، يقولون لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن: والله ما بهم إلا أن يخدعوك؟ يصلون في المسجد ويطيلون الصلاة من أجل أن تراهم على العبادة فتعتقهم؟ فقال: من خدعنا لله انخدعنا له، ما خدعنا أحد بالله إلا انخدعنا، فكثر عتقاؤه جداً.
وكان يتملس صدق العبد فيعتقه ويتفطن لصلاح من صلح منهم فيبدأ به في العتق؛ فعن عبد الله بن دينار قال: خرجت مع ابن عمر إلى مكة فانحدر علينا راع من جبل، فقال له ابن عمر: أراع؟ قال: نعم، قال: بعني شاة من الغنم قال: إني مملوك قال: قل لسيدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله ؟ قال ابن عمر: فأين الله؟ ثم بكى، ثم اشتراه بعد فأعتقه.
وفي رواية ابن أبي راود عن نافع: فأعتقه واشترى له الغنم" رجاله رجال الصحيح، خلا واحد وهو ثقة.
بعد ابن عمر -رضي الله عنه- عن الملاهي ومحاربته لها
وأما ابتعاده عن الملاهي ومحاربته لها فهو كثير، فكان مرة يمر مع غلامه نافع في طريق فسمع مزمار راع من بعيد ، فوضع إصبعيه في أذنيه، فقال لي بعد أن بعدنا: يا نافع هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا فرفع أصبعيه من أذنيه.
وهذا الفعل منه احتياطاً وإلا لا يجب على الإنسان إذا سمع صوت موسيقى في الشارع أن يسد أذنيه، لكن ينصرف بقلبه عنها، ويشتغل بذكر الله، وفعل ابن عمر ورعاً وزيادة احتياط منه .
وكان ينكر اللعب بالنرد، والنرد معروف، وهو حجر الزهر يلعب فيه عدة ألعاب مثل لعبة الطاولة المعروفة اليوم.
وكان ابن عمر يعتبر النرد كالميسر لاعتماده على الحظ، فكان إذا وجد أحداً من أهله يلعب النرد ضربه وكسرها ثم أمر بها فأحرقت بالنار، وأنكر اللعب بالشهارد أو الجهارد وهي ما يعرف اليوم بالإدريس، وكانت تسمى قديماً: بالأربعة عشر، فمرة دخل على بعض أهله يلعبون بها فأخذها فكسرها.
وتحريم النرد معروف من سنته ﷺ كما قال ﷺ: من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله وفي رواية: ((فكأنما غمس يده في لحم خنزير أو دمه** فكل لعبة فيها زهر فهي حرام.
إيثار ابن عمر -رضي الله عنه- للفقراء على نفسه
وكان يؤثر الفقراء على نفسه، ويشتري السكر ويتصدق به لأنه يحبه، ومرة أحب جارية له حتى ما كان شيء أحب إليه منها من النساء، فقال: هي حرة لوجه الله فأنكحها مولاه نافعاً، فأتت له بالولد، فكان ابن عمر يأخذ الولد فيشمه ويقول: ريح رُمَيْثة .
وكان لا يأكل إلا وعلى خوانه يتيم أو فقير، يبحث عن اليتامى ليأكلوا معه .
يسر وسهولة ابن عمر -رضي الله عنه- في تزويج بنته
وكان سهلاً في تزويجه لابنته كما حدث عنه عروة قال: خطبت إلى ابن عمر ابنته ونحن في الطواف فسكت ولم يجبني بكلمة، فقلت: لو رضي لأجابني، والله لا أراجعه بكلمة، سأغلق الموضوع، فقدر له أنه صدر إلى المدينة قبلي، ثم قدمت فدخلت مسجد الرسول فسلمت عليه، وأديت إليه حقه ﷺ، فسلمته عليه، سلم على ابن عمر وأديت إليه حقه فرحب بي، وقال: متى قدمت؟ قلت: الآن، قال: كنت ذكرت لي سودة، ونحن في الطواف نتخايل الله بين أعيننا، وكنت قادراً أن تلقاني في غير ذلك الموطن، يعني سكت لأنه ما هو من المناسب أن تفتح معي موضوع الزواج ونحن نطوف حول الكعبة، فقلت: كان أمراً قدر، قال: فما رأيك اليوم؟ قال: كنت أحرص عليه قبل، فدعا ابنيه سالماً وعبد الله وزوجني، أشهد ولديه على الزواج وزوجه مباشرة.
ورع ابن عمر -رضي الله عنه-في القضاء وتوقيه في الفتوى
وكان ورعاً، ومن أجل ذلك رفض منصب القضاء، فقال له عثمان: اقض بين الناس، فقال ابن عمر: لا أقضي بين اثنين ولا أؤم اثنين، فقال عثمان: أتعصيني؟ قال: لا، ولكنه بلغني أن القضاة ثلاثة، وذكر تتمة الكلام.
وكان يتوقى الفتوى فقد حدث أن رجلاً سأله عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع المسألة فقال الرجل له: يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألون عنه، اتركنا يرحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك.
فقد سأل ابن عمر رجل عن مسألة، فقال ابن عمر: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي به ولذلك كان يقول: العلم آية محكمة، أو سنة ماضية، أو لا أدري.
وهذا ما يبين ورعه في الفتوى، يبين فعله مع ابن عباس في الحج ،فكان ابن عباس وابن عمر يجلسان للناس عند مقدم الحاج، قال نافع: فكنت أجلس إلى هذا يوماً وإلى هذا يوماً، فكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما سئل عنه، حبر بحر، وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي، توقياً منه في الفتيا، ولذلك فإنه مرة لما ألح عليه شخص في الجواب ورفض، قال لصاحبه: إن هؤلاء يريدون أن يجعلوا من وراء ظهورنا جسوراً يعبرون عليها فوق جهنم.
المشاهد والغزوات التي شهدها ابن عمر -رضي الله عنه-
وأما جهاده ، فإنه شهد المشاهد مع النبي ﷺ وعرض نفسه في أحد، وكان صغيراً ورد، وكان يتمنى القتال، ولما صار في الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة وافق رسول الله ﷺ على انضمامه للجيش، وخرج بعد ذلك في المشاهد وفي الحديبية وفي فتح مكة كان عمره عشرين عاماً.
وبعد فتح مكة بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة، وكان عبد الله بن عمر جندياً في هذه السرية التي كانت مهمتها الدعوة وتبليغ خبر الفتح، فيقول عبد الله بن عمر: بعث رسول الله ﷺخالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، عبارة ظاهرها الكفر، وخالد يأخذ بهم أسراً وقتلاً، على ظاهرهم، قال: ودفع إلى كل رجل منا أسيراً حتى إذا أصبح يوماً أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، قال: فقدموا على النبي ﷺ فذكروا صنيع خالد فتبرأ منه، ذلك لأنه أخطأ خالد فعامل الناس بما ظهر منهم في المرة الأولى، مع أن المفروض أن يتحقق أكثر.
فهذا يبين أن ابن عمر لم يكن يطيع وهو مغمض العينين، وإنما كان يتدبر الأمور، فلما يرى الخطأ خطأ لا يوافق عليه ولا يتابع عليه.
وشهد غزوة حنين، وبعد وفاة رسول الله ﷺ حضر عدة معارك من الفتوحات، وكان منها معركة نهاوند، وحصل لابن عمر موقف مع اليهود، لما خرج مرة إلى خيبر في حاجة مع صاحبه، كان هذا الموقف سبباً في إجلاء يهود خيبر عن الجزيرة، فقال: خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا، فعدي علي تحت الليل وأنا نائم على فراشي، ففدعت، يعني ضرب حتى زالت مفاصل اليدين من أماكنها، ففدعت يداي من مرفقي، فلما أصبحت استصرخ علي صاحبي فأتياني فسألني: من صنع هذا بك؟ فقلت: لا أدري، قال: فأصلحا من يدي ثم قدما بي على عمر فقال: هذا عمل يهود، ثم قام في الناس خطيباً فقال: أيها الناس إن رسول الله ﷺ كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر ففدعوا يديه كما قد بلغكم، مع عدوانهم على الأنصار الذين قبله؛ لأنهم قتلوا واحداً لا نشك أنهم أصحاب هذا العدوان، ليس هناك عدو غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإني مخرج يهود، فأخرجهم .
وشهد ابن عمر فتح مصر واختط بها، وبنى بها، وروى عنه أكثر من أربعين نفساً من أهلها، وقدم الشام والعراق وبصرى وفارس غازياً، وقال نافع: بارز ابن عمر رجلاً في قتال أهل العراق فقتله، وأخذ سلبه.
وانظر -سبحان الله- كيف حدث أن بنات الملوك صاروا تحت أبناء الصحابة، فلما قاتل ابن عمر وغيره في الفرس كان ليزدجرد ملك فارس ثلاث بنات سبين في زمن عمر بن الخطاب، فحصلت واحدة لعبد الله بن عمر، فأنجب منها سالماً ولده، والأخرى بنت كسرى الذي اسمه يزدجرد ملك فارس صارت البنت الأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق، فأولدها القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والأخرى للحسين بن علي فأولدها علياً زين العابدين، فكل الثلاثة بنو خالة، وكانوا فقهاء المدينة.
وكان من غزوات ابن عمر غزوة القسطنطينية في سنة تسع وأربعين، غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم حتى بلغ القسطنطينية، ومعه جماعات من سادات الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري، فكان هذا الجيش أول من غزاها، وما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهد، فانطبق عليهم حديث الرسول ﷺ: أول جيش يغزو مدينة قسطنطينية مغفور لهم فكان ابن عمر في ذلك الجيش وحصل بعد عثمان من الفتن ما حصل.
رفض ابن عمر -رضي الله عنه- للإمارة
وصارت الخلافة إلى علي بن أبي طالب فأراد أن يسكن الشام بعبد الله بن عمر، فعن ابن عمر قال: بعث إلي علي بن أبي طالب، فقال: يا أبا عبد الرحمن إنك رجل مطاع في أهل الشام فسر إليهم فقد أمرتك عليهم، فقلت: أذكرك الله وقرابتي من رسول الله وصحبتي إياه إلا ما أعفيتني، فأبى علي، فاستعنت عليه بحفصة فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة، فقيل له: إنه قد خرج إلى الشام فبعث في أثري فجعل الرجل يأتي المربد فيخطم بعيره بعمامته ليدركني، قال: فأرسلت حفصة إنه لم يخرج إلى الشام إنما خرج إلى مكة فسكن علي" رواته ثقات.
فكان لا يريد إمارة، ولا يريد خلافة، فلما احتدم الصراع على الخلافة عرضوا عليه الخلافة عدة مرات منها لما شهد التحكيم بين معاوية وعلي، عرضت الخلافة على ابن عمر فرفضها، وعرضت عليه الخلافة في أيام يزيد، وغير ذلك، وكل ذلك يرفض ابن عمر الخلافة، وقال له بعضهم : لو أقمت للناس أمرهم فإن الناس قد رضوا بك كلهم فقال : أرأيتم إن خالف رجل من المشرق قالوا: إن خالف رجل يقتل وما قتل رجل في صلاح أمة، فقال ابن عمر: والله ما أحب لو أن أمة محمد أخذت بقائمة رمحه وأخذت بزجه، يعني ما أحب أن يقتل واحد من أجلي، فرفض الخلافة، وزهد فيها، وقالوا له: يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تخرج يبايعك الناس، أنت صاحب رسول الله وابن أمير المؤمنين وأنت أحق الناس بهذا الأمر قد اجتمع الناس كلهم على ما نقول، قال: نعم إلا نفر يسير، لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة، ولذلك اطمأن من اطمأن ممن يريد أن يولي أولاده الخلافة إلى أن ابن عمر لا يريد الخلافة وإلا فقد كانوا يخشون أن ابن عمر يقبل بالخلافة.
عدم مشاركة ابن عمر -رضي الله عنه- في فتنة ابن الزبير
ولما حصل القتال لم يشارك فيه عبد الله بن عمر، فقد أخرج البخاري عن نافع عن ابن عمر: أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبي ﷺ فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} فقال: قاتلنا يعني مع رسول الله ﷺ حتى لم تكن فتنة، وكسرت الأصنام حول الكعبة كلها، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله، فرفض القتال ورفض الخروج.
ولكن هذا لا يعني أن مواقفه من الفتنة لم يكن فيها نفع، فإنه كان يدافع عن عثمان، فلما حاصر الفجرة عثمان ، هؤلاء الثيران، كان من الصحابة الذين دافعوا عن عثمان عبد الله بن عمر، وكان يدافع عنه بسنانه ولسانه، فلو قال قائل: لماذا لم يقاتل ابن عمر من أراد الهجوم على بيت عثمان ليقتله؟
فالجواب: أن عثمان هو الذي طلب من الصحابة عدم القتال لكي لا يقتل أناس بسببه، ففدى عثمان الأمة بدمه.
فإن قال قائل فلماذا لم يقاتل عبد الله بن عمر مع علي مع أن الخليفة الشرعي؟
فالجواب -كما قال بعض أهل العلم- إنه ظن أن علياً مستكف بمن معه في القتال ولا يحتاج إلى جنود زيادة، فلماذا يخرج؟ ومع ذلك كان ابن عمر في نفسه شيء، لماذا لم يقاتل مع علي؟ ولكن له وجهة نظر في الفتنة بينها، سنبينها إن شاء الله.
دفاع ابن عمر -رضي الله عنه- بلسانه عن عثمان
وكان من دفاعه عن عثمان بلسانه وهؤلاء الصحابة يعلمون درساً في ذب الإنسان عن عرض أخيه المسلم، قال البخاري في صحيحه: جاء رجل من أهل مصر حج البيت فرأى قوماً جلوساً، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني؟ الآن عبد الله بن سبأ كان يمر على بلدان المسلمين بلداً بلداً يحرض الناس على خليفتهم عثمان وينشر الشبهات، وهذا واحد من ضحايا عبد الله بن سبأ ولكن هداه الله إلى ابن عمر، جاء إلى مكة، قال: إني سائلك عن شيء فحدثني هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب يوم بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم، قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان ولم يشهدها؟ قال: نعم، فقال الرجل: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحت بنت رسول الله ﷺ وكانت مريضة، فانشغل بتمريضها، فقال له رسول اللهﷺ: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله ﷺ عثمان إلى أهل مكة ليتفاهم معهم، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة في أثناء غيابه، فقال النبيﷺ بيده اليمنى: ((هذه يد عثمان)) فضرب بها على يده ﷺ فقال: هذه لعثمان، فقال له ابن عمر : اذهب بها الآن معك، هذه الردود على الشبهات.
توضيح ابن عمر -رضي الله عنه- لموقفه من فتنة ابن الزبير
ابن عمر يوضح موقفه فيقول في الفتنة: كففت يدي فلم أندم، والمقاتل على الحق أفضل.
وضرب مثالاً جميلاً يوضح موقفه في الفتنة، ولماذالم يقاتل، فقال: إنما مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها، طريق واضح، فبينما هم كذلك إذا غشيتهم سحابة وظلمة فأخذ بعضهم يميناً وشمالاً، فأخطأ الطريق وأقمنا حيث أدركنا ذلك محل ما جاءتنا السحابة، ووقفنا في مكاننا حتى جلى الله ذلك عنا فأبصرنا طريقنا الأول، فعرفناه فأخذنا فيه، إنما هؤلاء فتية قريش يقتتلون على هذا السلطان، وعلى هذه الدنيا، ما أبالي ألا يكون لي ما يقتل عليه بعضهم بعضا بنعلي هاتين الجرداوين.
وجاءه معاوية فقال لعبد الله بن عمر: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع، يعني يريد يبايع ابنه يزيد فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم بايعته، ولو كان عبداً مجدع الأطراف، فربما هو لم يرض بخطأ أن يكون الملك وراثياً فلم يوافق من البداية، لكن قال: أما إذا بايع الناس كلهم أنا أبايع وراءهم؛ لأنه ما يجوز الخروج الآن عن الرجل الذي قد أصبح في عنقه البيعة.
من مواقف ابن عمر -رضي الله عنه- في الفتن
ومن مواقفه في الفتن: أنه نصح الحسين بن علي بعدم الخروج إلى أهل العراق، وأهل العراق كانوا قوماً غدرة، ينكثون الوعد، كتبوا إلى الحسين يقولون: تعال لنا ونحن نؤازرك ونناصرك ونخرج معك وبايعناك أنك خليفة، ولا نريد هذا الملك الذي ملك، الحسين لما جاءته هذه الرسالات والمكاتيب والخطابات أراد أن يخرج، فكان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال، فقال: أين تريد؟ قال العراق؟ وإذا معه طوامير وكتب، فقال الحسين: هذه كتبهم وبيعتهم، قال: لا تأتهم، فأبى، فقال ابن عمر: إني محدثك حديثاً، إن جبريل أتى النبي ﷺ فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله، والله ما يليها أحد منكم أبداً، ابن عمر كان يعرف أنه ما في أحد من آل البيت سيتولى الخلافة، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، الحسين باجتهاده أصر على الذهاب، فاعتنقه ابن عمر وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيل.
وفعلاً ذهب الحسين وقتل .
ولذلك كان تعنيف ابن عمر لأهل العراق شديداً فلما جاءوا يسألونه عن حكم قتل البعض أو القمل في الطواف، تعجب منهم:واعجباً لكم أهل العراق تسألون عن دم البعوض وتقتلون ابن بنت رسول الله ابن فاطمة -رضي الله عنها-.
جرأة ابن عمر -رضي الله عنه- في مواجهة الظلمة
ومع أن ابن عمر كان موقفه مسالماً في الفتنة فإن ذلك لا يعني أنه كان ضعيفاً لا يجرؤ على مواجهة الظلمة، بل إنه كان جريئاً جداً، فقد أخرج البخاري: دخل الحجاج على ابن عمر فقال: كيف هو؟ فقال: صالح، قال: من أصابك؟ ابن عمر حصل له حادث، قال: من أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله، ومن الذي أمر بحمل السلاح؟
الحجاج.
وخطب الحجاج مرة، فقال: إن ابن الزبير بدل كلام الله لأن ابن الزبير بويع بالخلافة، وخلع خليفة بني أمية، وبايع أناس كثيرون ابن الزبير، فأما ابن عمر فلم يبايع لأن في عنقه بيعة لخليفة بني أمية فلم يخلعها لا هو ولا أهل بيته، حتى جاء الحجاج فأنهى خروج ابن الزبير، وقتله، وخطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير بدل كلام الله، فعلم ابن عمر فقال: كذب لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت، فقال: إنك شيخ قد خرفت، قال: أما إنك لو عدت لعدت، يقول ابن عمر.
وخطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير حرف كتاب الله، فقال ابن عمر: كذبت كذبت، ما يستطيع ذلك ولا أنت معه، قال: "اسكت فقد خرفت وذهب عقلك، يوشك شيخ أن يضرب عنقه، فيخر قد انتفخت خصيتاه، يطوف به صبيان البقيع" [إسناده صحيح].
هذا من ظلم الحجاج وفحش كلامه وتعديه على ابن عمر.
ولذلك لما دخل الحجاج عليه يعوده في مرضه لم يكلمه ابن عمر، وأغلظ له في القول، وجرأ عليه.
وكان يسبقه في المناسك إلى المواضع التي كان فيها رسول الله ﷺ في الحج.
ولم يكن ابن عمر يرضى أبداً بالنفاق للسلطان، فجاءه رجل فقال: إننا ندخل على السلاطين فنقول لهم الكلام الذي يعجبهم فقال ابن عمر: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله ﷺ.
وكتب ابن عمر لعبد الملك بن مروان لما طلب منه عبد الملك البيعة، قال: من عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان أما بعد فالله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، وقد بلغني أن المسلمين قد اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون، والسلام، فبعض الوشاة أرادوا أن يثيروا الخليفة على عبد الله بن عمر قالوا: بدأ باسمه قبل اسمك قال: من عبد الله بن عمر إلى عبد الملك بن مروان، ولكنه لم يستطع أن يفعل له شيئاً.
وهذه الجرأة التي كان عليها هذا الرجل ولا شك أنه تأثر من أبيه.
تشبه ابن عمر -رضي الله عنه- بأبيه وترسمه لخطاه
وقد ذكر أكثر من واحد الشبه بين عبد الله بن عمر وأبيه وترسمه لخطاه.
وأما من جهة العلم فإن عبد الله بن عمر كان رجلاً فطناً من مبدأ أمره، ويدل على ذلك حديث البخاري وغيره أن رسول الله ﷺ قال مرة في أحد المجالس: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت لأنه في أبو بكر وعمر، وكبار الصحابة كيف أتكلم أنا وأقول الجواب، ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: ((هي النخلة)) فأخبر ابن عمر أباه، فقال: لو أنك تكلمت كان أحب إلي من كذا وكذا، يعني كان الرسول ﷺ عرف قدرك، وعرف علمك وذكاءك وفطنتك، وربما اختصك واهتم بك بشيء من العلم، زيادة.
فهذا كان من مبدأ أمره كان فطناً، فأدرك شيئاً لم يدركه كبار الصحابة في ذلك المجلس.
وعبد الله بن عمر هو أحد العبادلة الأربعة العبادلة الأربعة عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولم يذكر منهم عبد الله بن مسعود لأنه كان أكبر منهم سناً، أما هؤلاء الأربعة فكانوا في أسنان متقاربة، وتقدمت وفاته عن هؤلاء، وهؤلاء عاشوا طويلاً بعده، واحتاج الناس إلى علمهم.
هؤلاء العبادلة الأربعة نقل عنهم الناس فتاوي كثيرة جداً، وابن عمر كما يقول النووي: أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن النبي ﷺ، وهم: أبو هريرة، ثم ابن عمر، ثم أنس، وابن عباس، وجابر، وعائشة.
وابن عمر أسلم متقدماً في مكة، وخالط الرسول ﷺ وأخته حفصة زوجة الرسول ﷺ فكان يدخل على النبي ﷺ بسببها، وعاش بعد النبي ﷺ فروى لنا كما قال بعض الإحصائيين قريباً من ألفين وستمائة وثلاثمئة حديث، أخرج له البخاري ومسلم مائتين وثمانين حديثاً، اتفقا على مئة وثمانية وستين حديثاً منها، وانفرد البخاري بواحد وثمانين حديث، ومسلم بواحد وثلاثين حديثاً، وأحاديثه في الكتب الستة والمسانيد وسائر السنن.
حرص الناس على مجالسة ابن عمر -رضي الله عنه- وسماعهم لكلامه
وكان الناس يحرصون على الجلوس وسماع الكلام منه، قال البخاري رحمه الله : أصح الأسانيد مطلقاً: مالك عن نافع عن ابن عمر، وتسمى هذه السلسلة بسلسلة الذهب، أو مسبك الذهب؛ لأن هؤلاء الرواة أحفظ وأفقه، حفظ في فقه، مالك عن نافع عن ابن عمر هي أعلى الأسانيد على الإطلاق.
وفقه عبد الله بن عمر كثير جداً، وكان يستفتى وهو شاب حدث.
صحيح أن وجود عمر قد غطى على أخذ الناس من ولده شيئاً ما، ولكن ابن عمر عاش بعد أبيه كثيراً، فبرز بروزاً عظيماً؛ لأنه توفي وعمره أربعة وثمانون سنة، فأفتى للناس ستين سنة.
ولذلك إذا رأيت في كتب التاريخ أو كتب الرواة: أن فلاناً من الناس له تلاميذ كثر جداً، فهذا يدل على سعة علمه؛ لأن التلاميذ كانوا ينتقون المشايخ، فإذا ركز التلاميذ على شيخ، وتزاحموا عليه، فتعرف من ترجمته بأن ذلك دال على سعة علمه؛ لأنه استقطب التلاميذ، الذهبي رحمه الله ذكر في السير أكثر من مائتي نفس ممن روى عن ابن عمر، إذا رأيت في التلاميذ أناساً بارزين في العلم، فهذا يدل أكثر على عظمة هذا الشيخ، ولذلك صار من تلاميذ ابن عمر: ثابت البناني، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، وطاووس، وابن أبي مليكة، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن سيرين، والقاسم بن محمد، وميمون بن مهران، ومكحول الأزدي، وغيرهم من كبار علماء الأمة.
تعليم ابن عمر -رضي الله عنه- لأهل بيته
وكان ابن عمر لا ينسى أهل بيته في التعليم، ولذلك كان من الرواة عنه ابنه زيد وابنه سالم وابنه عبد الله وابنه عبيد الله، وحفيده أبو بكر بن عبد الله، كانوا من الرواة عنه، فكان يهتم بتعليم أهل بيته.
اجتهاد ابن عمر -رضي الله عنه- في المسائل التي لا نص فيها
وكان يأخذ من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، ويجتهد إذا لم يجد نصاً، وربما رجع من نقاش مع أحد طلبة العلم، ومن هذا ما قاله ميمون بن مهران لواحد قال: أتعرف فلاناً النصيبي فإنه كان صديقاً لابن عمر أخبرني أنه قال لابن عمر: ما ترى في الزكاة فإن هؤلاء لا يضعونها في مواضعها؟ يقول هذا الرجل لابن عمر: أيش رأيك ندفع الزكاة للولاة؟ لأن الأصل أن الزكاة تدفع لولي الأمر، يرسل أناساً يقبضونها ثم يوزعها هو، ولي الأمر أو من ينوب مقامه، فجاء رجل وقد اضطربت الأمور وظهر ولاة فيهم فسق وظلم، فقال الرجل لابن عمر: ما ترى في الزكاة فإن هؤلاء لا يضعونها في مواضعها؟ فقال ابن عمر: ادفعها إليهم، أعطهم إياها، يتحملون المسؤولية، قلت: أرأيت لو أخروا الصلاة عن وقتها أكنت تصلي معهم؟ قال: لا، قال: فهل الصلاة إلا مثل الزكاة؟ يعني إذا أنت لا توافقهم على باطلهم في تأخير الصلاة أجل نعطيهم الأموال يصرفونها في غير وجوهها الشرعية؟ نعطيهم الزكاة يصرفونها في غير وجوهها الشرعية؟ فقال ابن عمر: لبسوا علينا لبس الله عليهم.
ثم جاءت فتوى ابن عمر متأخرة بعد ذلك بعدم إعطائها لمن تولى الأمور إذا كان عرف أنه لا يصرفها في مصارفها الشرعية.
تأثر ابن عمر -رضي الله عنه- بفقه أبيه
ولا شك أن ابن عمر -رحمه الله- تأثر من فقه أبيه، ولذلك جاءت فتاوى كثيرة لابن عمر توافق فتاوى والده، فمن ذلك عدم جواز تأجير دور مكة للحجاج والمعتمرين، وعدم جواز شراء الصدقة، وكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، وكراهة صيام رجب، وتربص امرأة المفقود أربع سنوات، وغير ذلك.
ولكن كون ابن عمر يتلقى من أبيه الفقه لا يعني أنه ليست له شخصية مستقلة، أو أنه يقلد أباه في كل شيء، فقد كان لابن عمر كيانه وعقله وذهنه الوقاد، وكان له اجتهادات، ولذلك خالف أباه في مسائل، فمن هذه المسائل: أن عمر كان يوجب الزكاة في حلي النساء -بغض النظر عما هو الأرجح لكن نبين فقط بعض المسائل التي خالف فيها ابن عمر أباه- كان عمر يوجب الزكاة في حلي النساء، وكان ابن عمر يرى بأن زكاة الحلي إعارته، وكان عمر يرى أن الخلع طلاق بائن، إذا خلع خلاص ما يرجع لها، وكان ابن عمر يرى أن الخلع فسخ لا طلاق، وكان عمر يرى أن ما يدركه المسبوق من صلاته مع الإمام هو أول الصلاة، يعني إذا جئت في الركعة الثالثة والرابعة، وقمت تقرأ بعد ذلك فيما بعد سلام الإمام تكون بالنسبة لك على كلام عمر اللي تقوم لها هي الثالثة والرابعة، اللي أدركت مع الإمام الثالثة والرابعة هي الأولى والثانية، فمثلا لا تقرأ سورة بعد الفاتحة في الركعة الثالثة والرابعة؛ لأنه بالنسبة لك ثالثة ورابعة واللي أدركت مع الإمام الأولى بالنسبة لك، ابن عمر كان يرى العكس فيرى ان ما يدركه المصلي مع الإمام المسبوق هو آخر صلاته، فلذلك لو قام يجيب الفاتحة وسورة، مع أن قراءة السورة بعد الفاتحة سنة، وكان عمر يرى أن أحق الناس بالصلاة على الميت وليه، وكان عبد الله بن عمر يرى أن أحق الناس بالصلاة عليه هو أمير البلد، وكان عمر يرى أن المطلقة البائن لها النفقة في العدة، وكان ابن عمر يرى أن المطلقة البائن لا نفقة لها، وهكذا...
احتياط ابن عمر -رضي الله عنه- وتوقيه في بعض المسائل
وقد اشتهر ابن عمر باحتياطه وتوقيه الشديد، ولذلك فمن أشيائه التي كان يفعلها -ولا يجب علينا أن نتابعه عليها لكن نذكرها من باب معرفة احتياطه -رحمه الله ورضي عنه-: استئذانه لدخول حوانيت السوق، كان يرى أن حانوت السوق مثل البيت، وأنه ينبغي الاستئذان للدخول، وكان يتوضأ دائماً لذكر الله، وكان يرى غسل داخل العينين في غسل الجنابة، وهذا ليس بواجب أبداً، ولكن كان يفعله احتياطاً وتوقياً من حرصه.
ومن آرائه التي فيها نوع من الشدة: تحريمه نكاح الكتابيات، كان يقول لما يسأل عن الزواج من نصرانية يقول: ما أرى أعظم شركاً من أن تقول أن عيسى ربها، هذه كانت وجهة نظره مع أن القرآن الآية تنص على جواز نكاح الكتابية إذا كانت محصنة، ابن عمر يقول : لا تنكحوا المشركات وهذه ما أعلم شركاً أكبر من أن تقول أن عيسى ربها.
اعتناء ابن عمر -رضي الله عنه- بالسنة وإنكاره على المبتدعة
وأما اعتناؤه بالسنة فإنه شيء عظيم جداً، ولذلك فإنه كان ينصح الناس جداً في هذا الأمر، فمن تمسكه بالسنة ما نقله إلينا من صفة الصلاة وصفة الحج، ووصف لنا بدقة أين كانﷺ يقف، وفي البخاري تجد حديثاً طويلاً جداً من كلام ابن عمر في الأماكن التي صلى فيها ﷺ في الطريق من المدينة إلى مكة، موصوفة بالدقة بالصخرات وبالأشجار وبالمرتفعات والمنخفضات ومساقط المياه والأودية ويميناً وشمالاً بالدقة، وكان من حرصه يتحرى الأماكن التي صلى فيها ﷺ فيصلي فيها، حتى أن عمر كان ينكر على ولده هذا، ويقول: إن هذا ليس فيه فضل أن تأتي الأماكن التي صلى فيها أو اختلى فيها فتختلي فيها، هذا غير صحيح، هذا يفتح باباً لأن يقيم الناس فيها معابد أو يقيمون فيها أشياء، فقد تعبد من دون الله في المستقبل، ابن عمر طبعاً لا يخشى عليه هذا الأمر، لكن عمر كان ينهى ولده ويخالف ولده في هذا لحكمة يراها ببعد نظر، ابن عمر كان يتحرى الأماكن يعتقد أنه من موافقة السنة بدقة أن يطابق خف بعيره خف بعير رسول الله ﷺ، فكان إذا عرف مكان شجرة ينزل عندها رسول الله ﷺ نزل عندها، وربما فعل أكثر من ذلك.
وكان إذا جاء بالطعام جمع عليه الناس كالسنة في اجتماع الطعام، ولما رأى رجلاً أناخ بدنته لينحرها قال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد ﷺ.
وكان يخرج هو وأبو هريرة يوم العيد يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، نشراً للسنة بين الناس.
ولما قال رسول ﷺ: لو تركنا هذا الباب للنساء مرة من المرات، قال: نخصص باب للنساء حتى لا يصير اختلاط في المسجد، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات، ما دخل من ذلك الباب.
وكان ينكر على المبتدعة إنكاراً شديداً، ومن ذلك: أنه جاء مرة إلى الصفا والمروة ومعه ناس فجاءه رجل طويل اللحية من مؤذني الكعبة، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أحبك في الله، فقال ابن عمر: ولكني أبغضك في الله إنك تلحن في الأذان، وتأخذ عليه أجراً.
كان صريحاً وواضحاً في كلامه .
ورأى مرة رجلاً يتكلم والإمام يخطب فأشار إليه أن يسكت بالسبابة على الشفتين، ولا يتكلم للحديث الوارد في النهي عن الكلام.
ورأى سائلاً شحاذاً يسأل أثناء الخطبة فحصبه بالحصى، وكان مرة في الخطبة فجاء رجل يعني مثل موظف عند شخص يقول للشخص: تأخرنا ، قم، نمشي، فقال الشخص: اسكت، دعنا نسمع الخطبة، فلما انتهت الخطبة، قال ابن عمر للرجل: اما صاحبك فحمار وأما أنت فليس لك جمعة، ليش؟ لأنه صح عن النبي ﷺ أنه قال عن الذي يتكلم والإمام يخطب كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول لصاحبه يوم الجمعة: أنصت، فلا جمعة له، فقال ابن عمر: أما صاحبك هذا الذي قال لك: هيا نمشي فحمار وأما أنت فلا جمعة لك.
وكان هذا المبعث على التمسك بالسنة ولا شك نتيجة ما سمعه من الرسول ﷺ، فلما كان مرة في إزاره استرخاء مر على النبي ﷺ والحديث في مسلم فقال النبي ﷺ: يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته ثم قال: زد فزدت فما زالت أتحراها بعد فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين.
وكان من حرصه على السنة والعبادة في عهد الرسول ﷺ: يتراءى الهلال حتى مرة ثبت الهلال برؤية ابن عمر فقال: تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله ﷺ أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه.
وابن عمر من حرصه على السنة كان يرفض الزيادة عليها، ولذلك لما عطس رجل فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله فقال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله لكن ما هكذا علمنا رسول الله ﷺ علمنا إذا عطس الرجل أن يقول: الحمد لله فيقول له صاحبه: يرحمك الله.
فلا يقولن أحد هذا ذكر طيب، لماذا لا يزيد الإنسان: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدين يطلع واحد يقول: وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعدين يطلع واحد يقول: والتابعين ومن تبعهم وذي النورين والحسن والحسين، وهكذا تمتد سلسلة البدعة إلى ما لا نهاية.
ومن مقاومته للبدع: أن رجلاً لما جاء لابن عمر قال : إن عندنا ناس بالكوفة يقولون: إنه لا قدر وأن الأمر أنف كما حصل لمعبد الجهني وغيره من المبتدعة لما نشروا بدعة القدر وأن الأمر الآن ابتدأ ما هو مقدر ومكتوب فقال: أخبرهم أني براء منهم وأنهم براء مني يعني حتى يؤمنوا بالقدر.
وجاءه عرفجة فقال: إني أريد أن آتي الطور فقال ابن عمر : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد النبي ﷺ والمسجد الأقصى، أما الطور فلا تأته، ما ورد أن الرحال تشد له.
وكان حريصاً على مقاومة المنكرات التي تتعلق بتزويق البيوت، وربما تعلم هذا من أبي أيوب فإنه مرة حصل أن ولداً لابن عمر أولم وليمة عرس فدعوا الناس، ابن عمر دعا الناس وكان فيمن دعا أبا أيوب فجاء أبو أيوب فوجد في البيوت أن جدار البيت قد ستر بخميلة خضراء، فقال: ما هذا؟ قال: ستر الجدار، فابن عمر استحيا من أبي أيوب، وقال: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب، قال: من كنت أخشى أن تغلبه النساء فلا أخشى أن يغلبنك، ثم قال: والله لا أطعم لكم طعاماً ورجع.
الموقف هذا أثر في ابن عمر، حضر مرة في بيت فيه تزويق وستر الجدران فقال: يا فلان متى نقلت الكعبة عندكم تنجدون البيت مثل الكعبة ليهتك كل رجل ما يليه، فكل واحد من الحاضرين مزق قطعة.
علاقة ابن عمر -رضي الله عنه- بأبيه
وأما علاقته بأبيه فإنها علاقة ذات شجون، فإن عبد الله بن عمر كان باراً بأبيه جداً في حياته وبعد موته، وكان يشير على أبيه في الأشياء وكان يطيعه، ولما علم ابن عمر أن أباه لن يستخلف بعده لما طعن قال: دخلت علي حفصة ونوساتها يعني خصلات شعرها تنطف يعني تقطر ماء، فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف فقلت: ما كان ليفعل، قالت إنه فاعل، قال: فحلفت أن أكلمه بذلك فسكت حتى غدوت ولم أكلمه فكنت كأنما أحمل بيميني جبلاً حتى رجعت فدخلت عليه فسألني عن الناس وأنا أخبره، قال: ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك، زعموا أنك غير مستخلف وإنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها لرأيت أنه قد ضيع فرعاية الناس أشد، قال: فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي فقال : إن الله يحفظ دينه وإن لا أستخلف فإن رسول الله ﷺ لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوالله إلا أن ذكر رسول الله ﷺ وأبا بكر فعلمت لم يكن ليعدل برسول الله ﷺ أحداً، وأنه غير مستخلف.
وكان من بره بأبيه عند موته لازمه، ويخدمه، وأرسله إلى عائشة ليستأذنها في أن يُدفن مع رسول الله ﷺ وأبي بكر في القبر في المكان الثالث الباقي، كانت عائشة احتفظت بالمكان لها، وابن عمر كان رسولاً من أبيه يستأذن عائشة فآثرت عائشة عمر على نفسها، فوافقت.
من تطييب خاطر ابن عمر، عمر لما أوصى للستة قال: يكون معكم عبد الله مشرف، وليس له من الأمر شيء، لا يستخلف.
وجاء مرة إلى عمر شخص قال: استخلف ابنك فيه مزايا ومواصفات فرفض رفضاً شديداً أن يكون يحابي ولده بالخلافة.
وبعد وفاته كان من بر عبد الله بأبيه القصة التالية: خرج إلى مكة وكان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار إذا مر به أعرابي، فقال: ألست فلان ابن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا، والعمامة، فقال: اشتدت بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ فقال إني سمعت النبي ﷺ يقول: إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي يعني الأب، وإن أباه كان وداً لعمر، أبو هذا كان صديقاً لأبي عمر وأنا من بري بأبيه أعطيت هذا الولد ولد صديق أبي العمامة والحمار.
وفاة ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-
أما وفاته رضي الله تعالى عنه، فإنه توفي سنة ثلاث وسبعين للهجرة أو أربع وسبعين للهجرة وله من العمر قرابة أربعة وثمانين أو خمس وثمانين سنة.
وكانت وفاته بمكة، أوصى أن يدفن خارج الحرم، وقال لابنه سالم لما اشتد به المرض: يا بني إن أنا مت فادفني خارجاً من الحرم فإني أكره أن أدفن فيه بعد أن خرجت منه مهاجراً، فقال: يا أبت إن قدرنا على ذلك، فقال ابن عمر: تسمعني أقول لك وتقول: إن قدرنا على ذلك، قال: أقول: الحجاج يغلبنا فيصلي عليك، يعني يدفنك في مكة بالقوة، فسكت ابن عمر.
سبب وفاة ابن عمر -رضي الله عنه-
ما هي قصة موت ابن عمر؟
الحقيقة: أن الروايات التي جاءت تشير إلى ابن عمر قتل شهيداً، بمعنى أنه قتل قتلة تشابه قتلة أبيه، بسبب الحجاج الظالم.
والسبب: أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان أمير الناس في الحج فجعل عبد الله بن عمر يتقدمه في المواقف في عرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي ﷺ قد وقف فيها، فاغتاظ الحجاج، ولما قام الحجاج يخطب، قال له ابن عمر: عدو الله استحل حرم الله وخرب بيت الله وقتل أولياء الله، يعني هذا الحجاج، قصف الكعبة بالمنجنيق، وقتل أولياء الله قتل عبد الله بن الزبير، وحتى ابن عمر كان يمر على عبد الله بن الزبير وهو مصلوب، ويقول: السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، أما والله قد كنت أنهاك عن هذا، يعني عن الخروج، فلما علم الحجاج أمر بإنزال جثة عبد الله بن الزبير المصلوب ودفنه.
المهم: أن ابن عمر احتج على الحجاج، خربت بيت الله، واستحليت حرم الله، وقاتلت في مكة، ورفعت السلاح، وقتلت أولياء الل،ه فقال الحجاج: من هذا؟ فقيل: عبد الله بن عمر، فقال له الحجاج : اسكت يا شيخاً قد خرف، ومضى الحجاج في خطبته فأطالها فاعترضه ابن عمر قال: إن الشمس لا تنتظرك وقت الصلاة، فقال له الحجاج: لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك، فقال ابن عمر: إن تفعل فإنك سفيه مسلط، فأمر الحجاج رجلاً من أعوانه فسم زج رمحه، نصل الرمح، نقع في السم وزحم ابن عمر في الطريق عند الجمرة فجرح بها ظهر قدم ابن عمر بهذه الحربة المسمومة، فمرض من ذلك بسبب السم والجرح، فأتاه الحجاج يعوده، انظر إلى خبث الحجاج فقال: لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه، فقال عبد الله: أنت الذي أصبتني قال: كيف ؟ قال: يوم أدخلت حرم الله السلاح، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إدخال السلاح في مكة ثم جعل الحجاج يكلمه فأغمض ابن عمر عينيه ولم يرد عليه.
ثم بعد أيام مات رحمه الله تعالى ورضي عنه فيما نحسب أنه شهادة.
ولما مات غلبهم الحجاج وصلى عليه ودفن في الحرم.
ولا يضره أين دفن رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
الخاتمة
وبعد:
فهذه درر من سيرة ابن عمر .
وينبغي على أهل الإسلام وشباب الصحوة بالذات أن يدرسوا شخصيات أولئكم الصحابة، فإنه ﷺ قد رباهم بإشرافه، واهتم بهم في حياته، وساروا على نهجه بعد وفاته.
عبد الله بن عمر مدرسة، شخصيات الصحابة تمتاز بالتكامل، إن جئت للعبادة عباد، وللزهد زهاد، وللورع أورع الناس، وللعلم أعلم الناس، وللجرأة أجرأ الناس، وللجهاد مع المجاهدين.
نحن الآن نحاول أن نسترد رأس المال الذي أعطانا إياه الصحابة، هم الذين فتحوا جمهوريات روسيا الآن الإسلامية هم الذين نشروا فيها الإسلام، ابن عمر وصل إلى أذربيجان، نحن الآن ما وصلنا إلى أذربيجان.
نحن الآن نحاول أن نمد شيئاً من الجسور مع مسلمي تلك البلاد وجهود قليلة جداً، ملايين المسلمين السبب في إسلامهم الصحابة.
كابل التي فتحها الصحابة، ووصلوا بلاد العالم شرقاً وغرباً، وأنت تتعلم تكافلهم وتعاونهم مع بعضهم وأخوتهم بين بعضهم لبعض.
حقاً إن سيرة أولئك النفر يجب أن تدرس وينبغي أن يكون مع أعمدة التربية الإسلامية في هذا الوقت دراسة شخصيات الصحابة والسلف.
وأقول لكم -كما قلت في مطلع الحديث-: كثير من الشخصيات نعرف الاسم فقط نعرفه اسمه لكن حاله مجهول عندنا.
وعندما نقرأ في أحوالهم نرى عجباً عجاباً، وإن الإنسان فعلاً ليقتدي ويتأثر بتلك الشخصيات.
وأوصيكم بالقراءة في كتابين "البداية والنهاية" لابن كثير، و "سير أعلام النبلاء " للذهبي، فإنهما كتابان عظيمان جداً في التاريخ والسير وتراجم العلماء الأعلام من هذه الأمة.
ونحن أمة لنا تاريخ وماضي، نحن لسنا أمة من أمم الكفر الذين زوروا تاريخهم، مقطوعون ليس لهم تاريخ.
نحن أمة تاريخها ضارب في جذور الزمن، لنا قادة وقدوات.
وإذا كنا نريد العودة إلى العز فعلا فيجب علينا العودة إلى دراسة سير هؤلاء، واقتفاء آثارهم، والسير على منوالهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وإن الذي ينظر في شخصيات الصحابة ليقتبس منها ليرى خيراً كثيراً جداً، فعليكم رحمكم الله بالاقتداء، ونحن ما حللنا الآن ولا أخذنا الدروس والمستنبطة كثيراً.
كانت وقفاتنا قليلة، والوقت ربما لم يتسع إلا للسرد أكثر منه للتحليل والاستنباط، لكن اللبيب بالإشارة يفهم، وإيراد القصة بحد ذاتها فيها تربية.
ومرورنا على الأحداث فيه تربية.
ونحن نسمع هذه الأحداث وهذه العبر والعظات، نحس كأننا نعيش في ذلك الزمن، هذه فائدة قراءة التاريخ الإسلامي، وسير هؤلاء الأعلام.
وربما يكون من علاج الهم والغم والحزن الذي ينزل بك في قارعة من قوارع الزمان هذا أن تذهب وتقرأ في سير أولئكم النفر الأجلاء فتحس أن همك، قد ذهب وأنك انتقلت من هذا العصر أو من هذا الزمان زمان الفتن إلى ذلك العصر لنستلهم من أولئكم النفر.
اللهم إنا نسألك أن تحشرنا في زمرتهم، وأن ترزقنا هديهم، وأن تجعلنا من المخلصين والمستقيمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.