الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
سنة الابتلاء
فإن الله تعالى قضى بالابتلاء، وابتلى هذه الأمة بأمور متعددة، تمحيصاً، واختباراً، وتمييزاً لأهل الجنة عن أهل النار، وقد أخبر النبي ﷺ ببعض هذه الابتلاءات، ومن ذلك: التغير الكبير الذي سيطرأ عليها بعد وفاة نبيها، وأخبر أنه من يعش منهم من بعده فسيرى اختلافاً كثيراً، وكذلك أخبر بالتفرق الذي سيحدث في الأمة، فقال: وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةوأخبر أنها جميعاً في النار إلا واحدة وهي التي تتبع ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه.[رواه الترمذي (2640) وأبو داود (4596) وابن ماجه (3991) وأحمد (27510). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (203).]
وحذرنا من محدثات الأمور في مواجهة هذا الابتلاء، فقال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين[رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2549).]، وأوصانا أن نعظ عليها بالنواجذ، وأخبرنا أن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، وبين الله لنا سبيل الحق في كتابه، فقال:وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَسورة الأنعام:55، ومن هؤلاء أهل البدع.
من الدين كشف الستر عن كل كاذب | وعن كل بدعي أتى بالعجائب |
فقيض الله لهذه الأمة من يكشف الحق ويبينه للناس، وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُسورة آل عمران:187،
فرقة الباطنية وسبب التسمية
وكان من الفرق الخطيرة جداً؛ إن لم تكن هي أخطر الفرق على الإطلاق، التي ابتليت بها هذه الأمة؛ ولا تزال ترزح تحت الابتلاء بها؛ فرقة الباطنية، بشتى أنواعها.
وقد سموا بذلك؛ لأنهم يظهرون شيئاً، ويبطنون آخر، ويزعمون أن نصوص الكتاب والسنة لها ظاهر وباطن، فدينهم مختلف عن دين الإسلام، بل هو متناقضات، فهي طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، ومأوى لكل من أراد هدم الإسلام، وكانوا أعوان اليهود، والنصارى، والمشركين، والذين جاءوا لغزو المسلمين، وقد أقاموا لهم كيانات في عدد من بلدان العالم الإسلامي، في القديم والحديث.
بيان اللجنة الدائمة للإفتاء في الدولة العبيدية
وينادي بعض الضلال في هذا الزمن، بإعادة مجد العُبيديين، والدولة الفاطمية، وقد أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء بياناً حول هذا الموضوع يتعلق بهذه الدولة العُبيدية الفاطمية وما تتصل به من المذهب الباطني الخبيث، فقالت اللجنة في بيانها: "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإن الله قد أمر باجتماع هذه الأمة، ونهى عن التنازع، قال تعالى: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْسورة الأنفال:46، ولن يحصل اجتماع الأمة إلا بالتمسك بالكتاب والسنة، ولهذا أمر الله بالاعتصام بحبل الله المتين، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْسورة آل عمران:103، وأمتنا الإسلامية، وهي تواجه ما يحف بها من مخاطر متنوعة في أمس الحاجة إلى التمسك بكتاب الله ، وسنة نبيه ﷺ، متوخية في ذلك نهج صحبه الكرام ، ولقد وجهنا الله إلى هذا المنهج القويم في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِسورة الأنعام:153، فاجتماع الأمة، ووحدتها، وعزها؛ في التزام ذلك الصراط المستقيم الذي سلكه نبينا ﷺ، الذي قال: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله، وسنتي[رواه بمالك في الموطأ (1661) بلفظ: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه ، وحيث إن النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم من الواجبات الشرعية وكان من النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كتابة بيان حول ما تناقلته بعض وسائل الإعلام عن بعض المحسوبين على الأمة نوضح فيه حقيقة دعواه التي حاول فيها أن يلبس على عموم المسلمين، ويخدع بها من لا يبصر الأمور، فقد ادعى ذلك المتكلم، أن الدولة المسماة بالدولة الفاطمية هي دولة الإسلام التي يكمن فيها الحل المناسب في الحاضر، كما كان حلاً في الماضي، وهذا من التلبيس، ومن الدعاوى الباطلة، وذلك لعدة أمور منها:
أولاً: أن تسمية تلك الدولة بالفاطمية تسمية كاذبة، أراد بها أصحابها خداع المسلمين بالتسمي باسم بنت رسول الله ﷺ، وقد بين العلماء، والمؤرخون في ذلك الزمان كذب تلك الدعوى، وأن مؤسسها أصله مجوسي يدعى سعيد بن الحسين، بن أحمد بن عبد الله، بن ميمون القداح بن ديصان الثنوي الأهوازي، وسعيد هذا تسمى بعبيد الله عندما أراد إظهار دعوته، ونشرها، ولقب نفسه بالمهدي فالنسبة الصحيحة لدولته أن يقال: "العبيدية" كما ذكر ذلك جملة من العلماء المحققين، ويظهر من نسب مؤسسها الذي ذكر آنفاً، أن انتسابهم إلى آل البيت كذب وزور، وإنما أظهروا ذلك الانتساب لاستمالة قلوب الناس إليهم.
قال العلامة ابن خلكان في وفيات الأعيان: "والجمهور على عدم صحة نسبهم، وأنهم كذبة أدعياء، لا حظ لهم في النسبة المحمدية أصلاً" [وفيات الأعيان (3/118).] وقال الذهبي في العبر في خبر من غبر: "المهدي عبيد الله والد الخلفاء الباطنية العبيدية الفاطمية، افترى أنه من ولد جعفر الصادق"[العبر في خبر من غبر (2/199).].
وقد ذكر غيرهما من المؤرخين، أنه في ربيع الآخر من عام 402 هـ، كتب جماعة من العلماء، والقضاة، والأشراف، والعدول، والصالحين المحدثين، وشهدوا جميعاً، أن الحاكم بمصر، وهو منصور الذي يرجع نسبه إلى سعيد مؤسس الدولة العبيدية لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أحداً من أهل بيوتات علي بن أبي طالب توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج الكذبة، وأن هذا الحاكم بمصر هو، وسلفه كفار، فساق، فجار، ملحدون، وزنادقة معطلون للإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية، وكتب هذا سنة اثنتين وأربعمائة.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في كتاب البداية والنهاية، بعد أن نقل هذا: "وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير"[البداية والنهاية (11/346).].
ثانياً: إظهارهم التشيع لآل البيت: هذه الدعوى أظهروها حيلة نزعوا إليها استغلالاً لعواطف المسلمين لعلمهم بمحبة أهل الإسلام لرسول الله ﷺ، وآل بيته.
وقال النويري: "وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن علي المعروف بأخي محسن في كتابه: أن عبد الله بن ميمون كان قد سكن بساباط أبي نوح وكان يتستر بالتشيع، والعلم، فلما ظهر عنه ما كان يضمره، ويستره من التعطيل، والإباحة، والمكر، والخديعة ثار عليه الناس.
ثالثاً: أن حال تلك الدولة العبيدية الفاطمية، أنهم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض.
قال الباقلاني رحمه الله عن القداح جد عبيد الله: "وكان باطنياً، خبيثاً، حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء، والفقهاء؛ ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه، أباحوا الخمور، والفروج، وأفسدوا عقائد الخلق"[انظر: تاريخ الإسلام (23/24)]..
وقال أبو الحسن القابسي صاحب "الملخص" الذي قتله عبيد الله وبنوه بعده: "أربعة آلاف رجل في دار النحر في العذاب ما بين عالم، وعابد، ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت" أي: أن هؤلاء العبيديين قد نحروا أربعة آلاف من المسلمين الموحدين ما بين عالم، وعابد، لأجل أنهم يترضون عن الصحابة رضوان الله عليهم.
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: "ومن جملة ذلك ابتداء الدولة العبيدية، وناهيك بهم إفساداً، وكفراً، وقتلاً للعلماء، والصلحاء"[تاريخ الخلفاء (1/526).]
وقال الشاطبي المالكي في كتاب الاعتصام: "العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية، زعمت أن الأحكام الشرعية إنما هي خاصة بالعوام، وأما الخواص منهم فقد ترقوا عن تلك المرتبة، فالنساء بإطلاق حلال لهم، كما أن جميع ما في الكون من رطب ويابس حلال لهم أيضاً، مستدلين على ذلك بخرافات عجائز لا يرضاها ذو عقل"[الاعتصام (2/44).].
رابعاً: موقف العلماء من تلك الحقبة: كان العلماء يظهرون الشناعة على العبيديين، وعلى أفعالهم المشينة، وقد تقدم ذكر عدد منهم.
قال السيوطي في تاريخه: "ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيديين؛ لأن خلافتهم غير صحيحة، وذكر أن جدهم مجوسي، وإنما سماهم بالفاطميين جهلة العوام"[تاريخ الخلفاء (ص4).].
خامساً: إن مما يتبين لكل أحد بعد الاطلاع على أقوال العلماء، والمؤرخين؛ أن هذه الدولة الفاطمية، كان لها من الضرر والإضرار بالمسلمين ما يكفي في دفع كل من يرفع لوائها، ويدعو بدعوتها، لذلك نجد أن المسلمين في الماضي فرحوا بزوالها على يد الملك الصالح صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في عام 567هـ فلا يجوز بعد هذا كله أن ندعو الناس إلى الانتساب إلى تلك الدولة العبيدية الضالة، ومثل هذه الدعوة غش، وخيانة للإسلام وأهله، ونصيحتنا لأئمة المسلمين، وعامتهم بالاعتصام بالكتاب، والسنة، وجمع القلوب عليهما, وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه"[انظر: هذا البيان في موقع جريدة الرياض http://www.alriyadh.com/2007/04/09/article240297.html].
بداية الدعوة العبيدية وأبرز دعاتهم
عباد الله: لقد كان هؤلاء الباطنية في تاريخ الإسلام؛ عيباً، وشناراً، وعاراً على أهل الإسلام، لقد كانوا نصراء لكل ملحد، ويهودي، ونصراني صليب ممن غزو بلاد الإسلام، أو طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وقد بدأ هؤلاء العبيديون الذين تسموا بالفاطميين زوراً؛ دعوتهم في بلاد المغرب، واعتنق ذلك كثير من البربر، حتى أن كثيراً من وزراء الأغالبة في شمال إفريقية كانوا على مذهبهم، فقد تسللوا إلى دولة الأغالبة.
وكان من أبرز دعاتهم في الأصل رجل من بلاد اليمن، له من ضروب الحيل ما لا يحصى، بدأ بنشر دعوتهم في بلاد المغرب، ثم بسط نفوذهم في شمال أفريقية، فوقعت في يده مدن عديدة، وأعلن الفاطميون قيام دولتهم سنة 296هـ إثر تغلبهم على الأغالبة في موقعة الأربس، ثم اتجهت أنظارهم إلى مصر لوفرة ثرواتها، وقربها من بلاد المشرق، وأرادوا إقامة دولة مستقلة تنافس الخلافة السنية العباسية في بغداد، فوجهوا أكثر من حملة للاستيلاء على مصر، وفي سنة 358هـ عهد الخليفة العبيدي إلى جوهر الصقلي كتاباً بالأمان، وفيه أن يظل المصريون على مذهبهم، ولا يلزم بالتحول إلى المذهب الباطني، وأن يجري الأذان، والصلاة، وصيام رمضان وفطره، والزكاة، والحج، والجهاد، على ما ورد في كتاب الله، ورسوله، ولم يكن كتاب جوهر لأهل مصر إلا مجرد مهادنة وعندما وصل المعز الفاطمي إلى القاهرة سنة 362هـ
ركز اهتمامه على تحويل أهلها إلى المذهب الباطني، واتبع الفاطميون العبيديون في ذلك طرقاً منها:
- إسناد المناصب العليا، وخاصة القضاء لأهل مذهبهم، واتخاذ المساجد الكبيرة مراكز للدعاية لهم؛ كالأزهر، وجامع عمرو، ومسجد أحمد بن طولون.
- أمعنوا في إظهار شعائرهم المخالفة لأهل السنة في الأذان والاحتفال بالعاشر من محرم، وهم أول من ابتدع عيد المولد النبوي.
وقد صنف العلماء في بيان حقيقتهم كما تقدم، وصنف الباقلاني كتابه: "كشف الأسرار وهتك الأستار" في بيان فضائحهم.
إنجازات هؤلاء العبيديين
فما هي إنجازات هؤلاء العبيديين الذين تسموا بالفاطميين؟!
لما غزا الصليبون بلاد الشام، وكان فيها أصلاً من أهل ملتهم من فيها من أهل الصليب، وكذلك الحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام حتى أخذوا القدس، ونابلس، وعجلون، والغور، وبلاد غزة، وعسقلان، وطبرية، وبانياس، وصور، وعكا، وصيدا، وبيروت، وصفد، وطرابلس، وأنطاكية، وجميع ما وراء ذلك من البلاد حتى آمد، والرها، ورأس العين، وقتلوا من المسلمين خلقاً وأمماً لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء، والولدان في هذه البلاد التي فتحها الصحابة؛ من الذين كانوا يمدهم ويعينهم؟ إنهم الباطنية الخبثاء.
ولما قبض الحاكم بأمره زمام الأمور، عمد إلى إصدار كثير من الأوامر والقوانين المبنية على مذهب الباطنية، ومن ذلك:
نقش سب الصحابة في جدران المساجد، والأسواق، والشوارع، والدروب، وصدرت الأوامر إلى العمال بمراعاة ذلك، وكذلك فعلوا لما ظهروا بتونس، وأظهروا الباطنية القبيحة، وسب الصحابة.
حال أهل السنة أيام الدولة العبيدية
وكان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد، - أي: زمن هذه الدولة الفاطمية - في حال شديدة من الهضم، والتستر، والإستضعاف؛ كأنهم أهل ذمة، ولما أظهر بنو عبيد أمرهم، ونصبوا حسين الأعمس سبَّباً في الأسواق للسب بأسجاع لقنها، ومنها: ألعنوا الغار وما وعى، والكساء وما حوا، ولا شك أن الغار كان فيه النبي ﷺ وأبو بكر.
وعُلقت رؤوس الأكباش، والحمير على أبواب الحوانيت، وعليها قراطيس معلقة، مكتوب عليها أسماء الصحابة، وأشتد الأمر على أهل السنة جداً، ثم غلا بعض دعاتهم في عبيد الله المهدي حتى أنزله منزلة الإله، وأنه يعلم الغيب، وأنه نبي مرسل، وهكذا قام من هؤلاء العبيديين من ادعى الألوهية.
جرائم وخيانات العبيديين
- قال ابن كثير رحمه الله في سنة 411هـ: "مات الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك؛ لأنه كان جباراً، عنيداً، وشيطاناً مريداً، كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه، وكان يدعي الألوهية كما ادعها فرعون فأمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس أثناء الخطبة على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره، واحتراماً لاسمه، وبلغ شره الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجداً له حتى أنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، وكذلك أمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في الإسلام ثم أذن لهم بالعودة إلى دينهم، وابتنى مدارس لليهود، وازداد ظلمه حتى عنَّ له أن يدعي الربوبية، وأمر الناس أن يقولوا إذا رأوه يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت"[انظر : البداية والنهاية (12/10) بتصرف.].
- وقال ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان": عن ابن سيناء الذي يجهل كثير من المسلمين أنه من الملاحدة الباطنية "وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ، ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى"[إغاثة اللهفان (2/266).].
وهؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى آل البيت زوراً، وعدواناً، قال ابن كثير في اعتدائهم على الحجر الأسود في حوادث سنة 413هـ: فيها جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، فقد جاءوا مع الحجيج من مصر فلما طافوا، وكان يوم النفر الأول، انتهى أحدهم إلى الحجر الأسود، وقد أخفى آلة في يده، فضرب الحجر بدبوس عظيم كان معه، ثلاث ضربات متوالية، وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر، ولا أحد يمنعني فإني أهدم البيت اليوم، حتى استطاع الحجاج على التغلب عليه، وسقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدى ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة محبباً مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك، وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت فاستمسك الحجر، واستمر على ما هو عليه الآن وهو ظاهر لمن تأمله"[انظر : البداية والنهاية (12/14) بتصرف.]أي: أثر هذه الخدوش فيه.
وكذلك لما قامت الفرنجة الصليبية بغزو ديار الإسلام، كانوا قد اتفقوا معهم، ودعوهم إلى مصر، وفعلاً جاء الفرنجة، وحاصروا دمياط في سنة 565هـ، وضيقوا على أهلها، وقتلوا أمماً كثيرة، وجاءوا من البر، والبحر، وكان من فضل الله أن رد كيد الفرنجة والعبيديين الذين كاتبوهم ففشلت تلك الحملة.
ومن خياناتهم: أنه لما أقبلت جحافل الفرنج إلى الديار المصرية، وبلغ ذلك أسد الدين شيراكوه فاستأذن الملك نور الدين محمود من أهل السنة في الذهاب إليها للتصدي لهم، فلما بلغه أنهم قد اجتمعوا، واستشار من معه خافوا، وهموا بالرجوع إلا واحداً من المسلمين في جيش أسد الدين شيراكوه قال: أما من خاف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم على العدو، وقال مثل ذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فانتصر المسلمون، والحمد لله.
كان العبيديون أصحاب تسلط، وجور، وقد سجنوا من المسلمين من سجنوا، وحرموا الإفتاء بمذهب مالك رحمه الله، ومن يتجرأ على ذلك يضرب، ويسجن، ويقتل أحياناً، وأجبروا الناس على الفطر قبل رؤية الهلال، ومن القصص التي حدثت قصة الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة محمد بن الحُبلى، أتاه أمير بُرقة من جهة العبيديين فقال: غداً العيد، قال القاضي: نرى الهلال ولا أفطِّر الناس، وأتقلد إثمهم، قال: بهذا جاء كتاب الخليفة العبيدي، وكان ممن يفطر بالحساب ولا يعتبر الرؤيا، فلم يُر الهلال، فأصبح الأمير بالطبول، والبنود، وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج، ولا أصلي، فأمر الأمير رجلاً خطب، وكتب إلى العبيدي بما حصل، فطلب القاضي إليه، وقال: تنصل واعف عنك، فامتنع، فعلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلا يسقى، وصلبوه على خشبة، فلعنة على الظالمين.
فهذا بعض من جرائمهم، نسأل الله أن يرد كيد الحاقدين على أهل الإسلام، ونسأله سبحانه أن يعلي السنة وأهلها، وأن ينصر الموحدين، وأن يعز الدين، إنه قوي متين.
الخطبة الثانية
زوال آثار الخلافة على أيدي العبيديين
عباد الله: لقد أزال أولئك العبيديون آثار الخلافة في كثير من الأنحاء، وأصدروا الأوامر بإزالة أسماء من بنى الحصون، والمساجد من المسلمين، وجعلوا أسماء بديلة، ودخلت خيلوهم المساجد، فلما أنكر عليهم قال قائلهم مستهزئاً: إن روثها وأبوالها طاهرة، وهذا وإن كان صحيحاً من الناحية الفقهية، لكنَّ تقذير المساجد حرام، ودخول الدواب إلى مكان الصلاة إهانة لمكان الصلاة.
وكانوا يعتمدون على اليهود في التوزير، وجباية الضرائب، والزكاة، وكانوا يستشيرونهم في شؤون الاقتصاد، والعلم، والطب، ولما تولى العزيز الفاطمي الخلافة، جعل وزيره اليهودي يعقوب بن كلس، وجعل له أمر تعليم الناس فقه الطائفة البغيضة الباطنية التي ينتمون إليها، حتى ألف هذا اليهودي كتاباً في فقه هذه الطائفة، ولا عجب أن يثيروا المؤامرات، والفتن، والدسائس في طول البلاد وعرضها، فهكذا ديدنهم دائماً.
وقد ابتلوا أهل السنة ابتلاء عظيماً، وكانت جرائمهم عبر التاريخ شاهدة على مذهبهم من الضلال، وسوء الاعتقاد، واتباع خطوات الشيطان، والشرك الجلي والخفي، واستحلال الدماء.
وقد انطووا على الضغينة، والكراهية، ولما كانت لهم دول عبر التاريخ الإسلامي؛ ساموا فيها المسلمين أشد العذاب؛ كدولة بني بويه، ودولة العبيديين وكذلك الدولة الحمدانية، على تفاوت فيما بينهم في الاضطهاد، وكانت فرق الحشاشين، والقرامطة تقوم بأنواع الغارات، والسلب، والنهب.
ضلوا السبيل أضل الله سعيهم | بأس العصابة إن قلوا وإن كثروا |
لا يؤمَنون وكل الناس قد أمَنوا | ولا أمان لهم ما أورق الشجر |
لا بارك الله فيهم لا ولا بقيت | منهم بحضرتنا أنثى ولا ذكر |
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة: "وأن أصل كل فتنة وبلية، ومن انضوى إليهم، وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام -يعني إراقة الدماء- إنما كانت من جهتهم، وبهم تسترت الزنادقة"[منهاج السنة (6/370) وما بعدها.]، وكانوا يعظمون القبور، والمشاهد، والأضرحة، وكانوا يتلبسون بآل البيت تلبساً، كما أظهر ذلك جدهم، وكبيرهم، ومؤسس مذهبهم الكلبي السبأي، الذي أعلن عقيدته بعد ذلك، وكان يتخفى في ما شرع لهم من التخفي والتستر ويقول: إن علياًَ لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا، وقد نشروا الإباحية، والتحلل، وجعلوا الصحابة شراً من إبليس.
قال في المنهاج: "فعلم أنهم أقرب الطوائف إلى النفاق، وأبعدهم عن الإيمان"[منهاج السنة (6/426) وما بعدها]، وإذا تمكنوا لا يرقبون في مؤمن إلاً، ولا ذمة، ومن ذلك أنهم أعانوا التتر على ما أوقعوه من المذابح في المسلمين، ومنهم ابن العلقمي الباطني الذي قضى على خلافة المسلمين، وكان جيش المسلمين قرابة مائة ألف، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة ألآلاف، فكاتب التتر، وأطمعهم في أخذ بلاد المسلمين، فنزل هولاكو على بغداد في الجانب الشرقي منها، وهكذا جعل يتواصل مع ابن العلقمي الخبيث حتى أقنع الخليفة المستعصم أن يخرج إليه بمن معه من الأماثل، والأفاضل، والفقهاء، وأشراف الناس، ووجوههم على أن يعطى الأمان، فلما وصلوا إليه، واستكملوا قتلوهم جميعاً رحمهم الله.
وقال ابن كثير رحمه الله: "وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف... والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الغلاء، والوباء، والفناء، والطعن، والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون"[البداية والنهاية (13/202-203)].
ثم استمر حقدهم إلى أن وصل إلى بيت الله العتيق، فقام عدو الله أبو طاهر القرمطي بالإغارة على مكة، وقتل الحجيج في فجاج مكة، وعرا البيت، وقلع بابه، واقتلع الحجر الأسود وأخذه، وطرح القتلى في بئر زمزم، وفعل أفعالاً لا يفعلها اليهود ولا النصارى أبداً، وأخذوا الحجر إلى هجر، وبقي عندهم حتى أعاده الله إلى المسلمين، وكان أبو طاهر كان يقف على باب الكعبة، والمسلمون يقتلون أمامه في المسجد الحرام، وهو يقول يوم التروية: أنا لله وبالله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا.[البداية والنهاية (11/160)]
قال ابن كثير رحمه الله: فكان الناس يفرون منهم، ويتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك شيئاً، وأمر بقلع كسوتها، وشققها بين أصحابه، وجعل يستهزأ بالناس وهو يقتلهم، ويقول أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل.[البداية والنهاية (11/161)]
لمثل هذا يذوب القلب من كمد | إن كان في القلب إسلام وإيمان |
وهكذا اعتدوا على قوافل الحجاج، وكانوا يعطونهم الأمان، ثم يقتلونهم، ومن فتنهم العظيمة التي جرت فتنة البساسيل، وكان واحداً من رؤوسهم، وهكذا صاروا يغيرون على أهل السنة، ويفتنونهم.
قصة الإمام أبي بكر النابلسي معهم
ومن ضحاياهم الإمام أبو بكر النابلسي رحمه الله تعالى، فإن المعز العبيدي أحضره بين يديه وقال له: بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة، ورميتنا بالعاشر، قال ما قلت هذا، فظن العبيدي أن الإمام أبا بكر النابلسي قد رجع عن قوله، قال: فكيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ونرميهم بالعاشر، قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بأن يضرب ضرباً مبرحاً بالسياط، ثم أمر بسلخه، وجاء بيهودي ليسلخه، وجعل الإمام أبو بكر يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت في سلخه تلقاء قلبه طعنته بالسكين، وهذا شهيد نابلس عليه رحمة الله تعالى.[البداية والنهاية (11/284).]
فهذا بعض ما فعلته هذه الطوائف الباطنية من العبيدية، والبويهية، والحمدانية، وغيرهم.
والقرامطة ممن عاثوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، ثم يقوم اليوم من يدعو إلى إعادة الخلافة الفاطمية، ودولة العبيديين.
عباد الله: هذه أمة مرحومة، جعلت عافيتها في أولاها، وسيصيب آخرها بلاء وفتنة، ولذلك فإن المسلم يسأل الله العافية، ويتمسك بالكتاب والسنة، ويسأل الله أن يحييه على التوحيد، وأن يميته عليه، وأن يجعله مستمسكاً بالسنة طيلة حياته، وهذا رأس مالنا إذا فقدناه فماذا بقي؟! وفي التاريخ عبر وعظات، وكثير من الناس لا يعرفون من شأن هؤلاء الباطنيين شيئاً، أو نزراً قليلاً، والمسألة كما قلنا أخطر من اليهود، وعباد الصليب، وذلك فإن الابتلاء القائم في هذه الأمة يدفع المسلم إلى الاستمساك بالكتاب والسنة، وأن يربي نفسه وأهله عليها.
اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد، أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك أن تؤمننا في بلادنا، اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والبلاء، يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان، اللهم من أراد أن يعكر أمننا فخذه، اللهم من أراد أن يعبث بأمننا وإيماننا فانتقم منه، اللهم كف يده، واقطع دابره، اللهم اكفنا شره، اللهم إنا نسألك لبلادنا هذه السلام، والأمان، والاستمساك بالإسلام، وسائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين، اللهم دافع عن بلادنا، وبلاد المسلمين، ومن أرادنا بشر فامكر به، اللهم إنا نسألك أن تجعل خاتمتنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تجعل خروجنا من الدنيا على ما تحب وترضى.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.