الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فسيكون لنا -بمشيئة الله تعالى- عدة دروس في هذا الشهر الكريم في شمائل النبي المختار، في حبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله ﷺ؛ نتعرّف فيها على عدد من أخلاقه وشمائله وصفاته، وهذه الشمائل من الأخلاق والصفات والآداب التي كان يتحلّى بها ﷺ كان أمرًا مقدورًا من الله ؛ لأنه أدّبه ربه، وقال في شهادته لنبيه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
وقد سبق في السنة الماضية أن شرحنا نصف كتاب الشمائل المحمدية للترمذي -رحمه الله-، ولعلنا نلخّص في هذا الدرس بعض ما تقدم، ثم نشرع في شرح الأحاديث التي انتهينا إليها، ولعلنا نذكر أيضًا بعضًا من خصائص النبي الكريم ﷺ؛ لأن الإمام الترمذي -رحمه الله- في الحقيقة قد ألّف هذا الكتاب؛ وهو الشمائل المحمدية، وجعل فيه أبوابًا، فهناك مثلاً باب في صفة النبي ﷺ، وهذا ما يتعلق به من الناحية الخَلْقية بالإضافة إلى الناحية الخُلُقية، فنلخّص بعض ما تقدم ثم نمضي في هذا الكتاب المبارك بإذن الله تعالى.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الإمام أبا عيسى محمد بن عيسى بن سوْرة الترمذي -رحمه الله- من المحدّثين الأجلاء كان ضرير البصر، لكنه صاحب بصيرة وقلب حي، خلّد الله -تعالى- ذكره بهذه السنن التي اجتهد في جمعها ومهر فيها، وألّف عدة من الكتب والمصنّفات؛ ومنها هذا السِّفر المبارك والكتاب الجميل الجليل وهو "الشمائل المحمدية".
وتعريف الأمة بشمائل نبيها من الأمور العظام الطيبة الحسنة؛ لأن الأمة لابد أن تقتدي بنبيها وأن تتعرف عليه، وقد عقد في بداية كتابه بابًا فيما جاء في خلْق رسول الله ﷺ، وقد عرفنا سابقًا، وهذا من باب المراجعة أنه ﷺ لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير، لم يكن أبيض أمهق، يعني شديد البيا،ض ولم يكن أسمر، ولم يكن جعدًا قططًا ولا سبِطًا، وإنما كان وسطًا.
فإذن، كان أبيض مشرب بالحمرةن وكان شعره وسطًا بين السُّبوطة والاسترسال والنعومة البالغة، وبين أيضًا الشعر الجعد، فكان ﷺ وسطًا في كل شيء، وقد جاء وصفه ﷺ بأنه كان رجلاً مربوعًا وسطًا بين الرجال، لا بالطويل البائن ولا بالقصير، وأنه كان بُعيد ما بين المنكبين، وأنه ﷺ كان عظيم الجمّة، وهذا الشعر الذي سقط من الرأس ووصل إلى المنكبين فيسمى: جُمّة، وكان إلى شحمة أذنه أحيانًا، كان شعره يكون جُمّة أحيانًا وهو ما سقط من شعر الرأس ووصل إلى المنكبين، ويكون لمة أحيانًا وهو ما جاوز شحمة الأذن.
وكان ﷺ شفْن الكفين والقدمين، ومعنى ذلك أنه ﷺ كان له أصابع كبيرة غليظة وكانت رؤوس العظام أيضًا جيدة بينة، ضخم الرأس ضخم الكراديس؛ وهذه هي رؤوس العظام، طويل المسربة وهو الشعر الدقيق الذي يبدأ من الصدر وينتهي بالسُّرة.
إذا مشى تكفأ تكفأ كأنما ينحط من صبب، يتقلع تقلعًا كأنه يمشي بهذه المشية، ينحدر كأنه ينحدر يعني من سرعته وجده ونشاطه في مشيته ﷺ، ولذلك لم يكن يسحب رجليه عند المشي، لم يكن يمشي مشية الكسول، وإنما هو بغاية النشاط ﷺ.
وكذلك من الأحاديث التي وردت في الشمائل وما صحّ منها أنه ﷺ كان ضليع الفم، وكان أشكل العين، وكان منهوس العقب، قال شعبة لسماك الراوي: "ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم" [رواه مسلم: 2339]، فلم يكن فمه صغيرًا، وكان أشكل العين، يعني طويل شق العين، فشق عينه طويل لم تكن عينه صغيرة، وأما "منهوس العقب" يعني قليل لحم العقب.
ويقول جابر : "رأيت رسول الله ﷺ في ليلة إضحيان -يعني مضيئة مقمرة-، فجعلتُ أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر ﷺ".
وكان أبيض ﷺ كأنما صيغ من فضة، رجِل الشعر، وعُرض الأنبياء عليه، وكان أشبه الخلق بإبراهيم هو محمد ﷺ، "وكان أبيض مليحًا مقصّدًا" [رواه مسلم: 2340]، والمقصّد: المعتدل القوام ليس بجسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير، فهو حسنٌ مليح.
وأيضًا فإنه ﷺ كان في ظهره خاتم النبوة، هذا الخاتم مثل زِر الحجلة، مثل بيضة الحمامة، كان غُدّة حمراء، وكانت هذه الغدة عليها ثآليل، ولم يكن ذلك تشويهًا في ظهره، وإنما كان جمالاً وكمالاً، وهذه الشعيرات المجتمعة، وكان له شعرات مجتمعات حول هذه الغُدّة تزينها أيضًا جميلة، ولما وضع سلمان يده بين كتفي النبي ﷺ ورآها وتحسسها وأكبّ عليه يقبله ﷺ، فهذه البضعة الناشزة بين كتفيه كانت جمالاً، وكانت تميل إلى كتفه الأيسر أكثر من الكتف اليمنى، وعندما رآها أحد أطباء العرب ظنها غُدّة وأنه يحتاج إلى علاج، فالنبي ﷺأرشده إلى أن الله الطبيب، وأن هذا الذي جاءه إنما هو رفيق يريد المصلحة، ولكنه لم يصب ذلك، وطبيبها الذي خلقها [رواه أبو داود: 4207، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1537].
وكذلك فإن شعره ﷺ كان يصل إلى أنصاف أذنه تارة وكان له أربع غدائر فهو ﷺ كان يضفر شعره أحيانًا، وكان يمشط شعره أيضًان وتمشطه له عائشة -رضي الله عنها-، وكان إذا امتشط بدأ بشقه الأيمن قبل شقه الأيسر، وهكذا إذا حلق شعره يبدأ بالنصف الأيمن قبل الأيسر، وهكذا إذا انتعل ﷺ، لكنه لم يكن ينشغل بتسريح شعره كل يوم ويقضي الوقت الطويل في ذلك، ولهذا "كان يترجل غِبًّا" ومعنى كلمة غبًا أي: يومًا بعد يوم، وينظّف شعره ويحسِّنهﷺ.
كان يخضب بالحناء والكتم، وكان هذا اللون هذا اللون الأسود المائل إلى الحمرة ليس سوادًا خالصًا؛ لأنه نهى عن الصبغ بالسواد الخالص، وكذلك فإنه ﷺ كان له شعرات بيض في عارضيه وفي لحيته وفي مفارق رأسه وفي العنفقة لا تزيد عن أربع عشرة شعرة بيضاء، هكذا عدها الصحابة لأنهم ما تركوا شيئًا إلا عدوه ووصفوه ونقلوه إلينا، حتى كأننا ننظر إلى نبينا ﷺ، ولذلك كان شيبه أحمر كما وصف لأنه كان يخضب ويصبغ ذلك الشيب، كان يخضب بالحناء، فهذا اللون إذن لون الحناء أو الأسود المحمر أو البني هذا اللون الذي كان ﷺ يخضب ويصبغ به شعره.
ويوصي بالإثمد ويقول: إنه يجلو البصر وينبت الشعر [رواه أبو داود: 3878، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 44]، والإثمد: حجر الكحل المعروف، وهذا له خاصية في تنقية النظر وشفاء العين بإذن الله ، وهو ينبت الشعر أيضًا، ومعروف عند العطارين.
وكان ﷺ يلبس القميص، وهو ما يشبه ثيابنا اليوم، وهذا الثوب الذي نلبسه كان يسمى عند العرب قميصًا، وكان كمه ﷺ إلى الرسغ، وكان يتوشح بثوبه ويلفه حول جسده أيضًا، له إزار ورداء وهذه هي الحلة المعروفة مكونة من قطعتين غير القميص الذي هو قطعة واحدة، فكان ﷺ يلبس الحلة، وإذا لبس الأحمر فكان يلبسه مخططًا مخلوطًا بغيره من الألوان مثل الأسود، وأما اللون الأحمر الخالص فإنه نهى عنه؛ لأنه من لباس النساء.
ولبس ﷺ جبة رومية، وهذا يدل على جواز لبس ما نسجه وصنعه الكفار، وكانت هذه الجبّة الرومية ضيقة الكمين، وكان لنعاله ﷺ قِبالان مثنيٌ شراكهما، والقبالان هما الشسعان سيور النعل، الشَّسع: الذي يكون بين إصبعي الرِّجل، والشراك: أحد سيور النعل، ويكون على وجهها، فكانت نعال النبي ﷺ ليس فيها شعرٌ أحيانًا، وكانت مخصوفة نعال النبي ﷺ كما ورد في الحديث يعني مغروزة أو مرقعة، وكانﷺ يمشي بهما وإذا أراد أن يخلعهما خلعهما، ولم يمش بنعل واحدة، وإنما يخلعهما جميعًا، وإذا بدأ بالانتعال باليمنى، وإذا خلع فإنه يخلع اليسرى أولاً؛ لتكون اليمنى أولهما تُلبس وآخرهما تُخلع.
كان للنبي ﷺ خاتم، وكان خاتمه من فضة، وكان له فصُّ حبشي، وكان يختم به ﷺ، وكان فصه منه، وفيه ثلاثة أسطر محمد رسول الله، محمد في سطر، ورسول في سطر، ولفظ الجلالة الله سطر، واتخذ الخاتم لما قيل له إن الملوك لا يقرءون الكتب والرسائل إلا مختومة، فاتخذ الخاتم وكان ﷺ يتختم في يمينه، وهل كان يخلعه إذا دخل الخلاء أم لا، في ذلك خلاف، أو هل كان يحوله ويجعل الكتابة مما يلي الكف ويقبض عليه ليستر تلك الكتابة عند دخول الخلاء، فإذا تيسر الخلع خلعه، وكان ﷺ يتختم في يمينه، ويجوز التختُّم باليد اليسرى، ولا بأس في ذلك.
وكان له سيف له قبيعة من فضة، مقبض سيف النبي ﷺ كان مطعّمًا ومحلّى بشيء من الفضة.
وكذلك فإنه ﷺ كان له درع، وهذا من اتخاذ الأسباب في القتال، وظاهر في أحد بين درعين فلبسهما اتقاء لضربات العدو، وله مغفر يتقي به الضرب على الرأس فيستر رأسه، وعلمنا بهذا اتخاذ الأسباب مع أن الله عصمه من الناس، وربه يحميه، ولكن علم الأمة كيف تعمل وتتخذ الأسباب ولا تكسل.
وكان له عمامة سوداء ﷺ، كان إذا اعتم بها سدلها بين كتفيه، وكذلك فإنها كانت دسماء: يعني تتشرب شيئًا من الطيب الذي يضعه على شعره ورأسه ﷺ.
وكان له إزار غليظ، وكساء ملبد، وكان إزاره لا يجاوز أنصاف ساقيه ﷺ، كان مشيه نشيطًا كما تقدم، وقال الصحابي الجليل أبو هريرة: "ولا رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله ﷺ كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث".
وكذلك فإنه كان إذا جلس يجلس جلسة المتخشع، لا جِلْسة المتكبر، وجلس القرفصاء ﷺ، وهذا معناه أنه يجلس على أليتيه ويلصق فخذه ببطنه ويضع يديه على ساقيه، وكذلك وضع إحدى رجليه على الأخرى مرة، واحتبى أيضًا مرة، واتكأ على وسادة في أحيان، وكان ﷺ يتكئ في مجلسه ويعتدل إذا أراد أن يقول كلامًا مهمًا، ليتبين للناس خطورته.
وكان ﷺ ذا عيش يسير، ما شبع من خبز قط ولا لحم إلا على ضفف، إذا نزل به ضيوف، وكذلك فإنه ﷺ ما كان يجد من الدقل وهو التمر الرديء ما يملأ به بطنه، ورفع لهم مرة كشف بطنه عن حجرين قد ربطهما على البطن؛ لأن الحجارة عند الجوع تبرد الحر في الجوف، وأيضًا تشد الظهر؛ لأن الإنسان مع الجوع ينحني، فتشد الظهر لكي يستقيم.
وكذلك فإنه ﷺ كان يقبل ضيافة أصحابه ويأكل الطيبات إن وجدت، وأكل من اللحم المشوي ﷺ، وشرب من الماء البارد، وأكل من عذق الرطب لما جيء به إليه، وكان مع ذلك في عيشه متوسطًا مقتصدًا يأكل ما يجد، ولا يتمنى ويسأل ما لا يجد، كان قنوعًا ﷺ.
وكان يلعق أصابعه ثلاثًا إذا أكل، وهذا فعل المتواضعين، لأن المتكبرين يأنفون من لعق الأصابع، ويستنكفون عن ذلك، فكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها ﷺ، وكان يبيت الليالي طاويًا لا يجد عشاء هو ولا أهله، وكان ﷺ ربما يتوالى عليه يومان لا يذوق فيهما شيئًا، وما عرف الخبز الحوارى النقي الأبيض ما عرفه، وإنما كانوا يؤتون بالشعير فينفخه أهله فيطير منه ما طار، ثم يثرونه ويعجنونه، ولا أكل في سكرجة، ولا خبز له مرقق، ولا أكل على خوان؛ وهي المائدة، ما أكل النبي ﷺ على خوان، وهو المرتفع عن الأرض الذي يوضع عليه الطعام، وليس معنى ذلك أنه حرام، ولكن من تواضعه أنه ما عرف ذلك ولا رآه، ومن زهده ﷺ وكان أكله على السفرة التي تبسط على الأرض، والنطع من الجلد الذي يمد ويوضع عليه الطعام.
وأثنى على الخل، وقال: "نعم الإدام الخل"، وحصل أنهﷺ أكل لحم دجاج كما قال أبو موسى الأشعري أنه رآه، فإذن لم يكن في زهده في الطعام؛ لأنه يحرم الطيبات أو يمتنع عنها، بل إذا وجدت أكل منها، ولكن الله ادخر الآخرة لنبيه، ولم يوسّع على نبيه في المطاعم والمشارب والملابس، وإنما رزقه منها يسيرًا وكفافًا، وأبقى لآخرته ما أبقى.
وأوصى ﷺ بالزيت وقال: كلوا الزيت وادّهنوا به [رواه الترمذي: 1851، وابن ماجة: 3320، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4498]، ولا شك أن في هذا غذاء ودواء، ولا شك أن هذا الزيت زيت الشجرة المباركة يستفاد منه دهنًا وأكلاً.
وكان ﷺ يحب الدباء؛ وهو القرع، ويتتبع ذلك فيما حواليه في الإناء، وكان يحب الحلواء والعسل، وأكل النبي ﷺ الشواء، وكذلك فإنه أُتي له بلحم فرُفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها، ولذلك اليهود وضعوا له السُّم في الذراع، وأكثروا من ذلك، فلما أكل منه عرف أنه مسموم، فلفظ ذلك، ولكن سرى شيء من السُّم إلى جسده الشريف، فكانت تنتابه نوبات من نتيجة السُّم، وجاءه أجله في إحداها، فقال لعائشة: لا زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبهري وهو عرق بين الظهر والقلب إذا انقطع مات الإنسان؛ فنستطيع أن نقول أن نبينا ﷺ مات شهيدًا مسمومًا بمؤامرة يهودية، فقد وضعوا له السُّم في اللحم.
وكان ﷺ يأكل الخبز اليابس والخل، وقال للمرأة: هاتي لما قال: أعندك شيء؟ ، قالت: لا، إلا خبز يابس وخل، وقال: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام [رواه البخاري: 3411، ومسلم: 2431]، والثريد: هو الخبز المأدوم بالمرق، والغالب أن يكون معه لحم، وقد لا يكون، مجرد خبز ومرق لحم.
وأكل ﷺ الأقِط، وأكل التمر والسويق، بل جعله طعام عرسه بصفية، وكذلك فإنه ﷺ أكل الرُّطب، وكان يأكل مع الرطب ما يعدِّل حدته، كما سيأتينا إن شاء الله.
وأكل الحيس، وأكل كسرًا من خبز الشعير وضع عليها تمرة وأكلها، كسرة من خبز الشعير وضع عليها تمرة كما روي بذلك حديث ساقه الترمذي في شمائله وفي إسناده ضعف.
وأما صفة وضوء رسول الله ﷺ فإنه كان يتوضأ من الطعام المطبوخ، ويُستحب هذا ولا يجب إلا لحم الإبل، فإنه لابد أن يتوضأ إذا أكله الإنسان، وفي شهر رمضان يكثر وضعه في بعض الأطعمة المقلية أو التي تُطبخ على ما يسمى بموائد رمضان وطقوس -إن صحّت التسمية- رمضان، والتي يهلع فيها الناس، يصابون بالهلع إلى المحلات ويعبئون هذه العربات بأكوام من الأطعمة؛ لأن هناك طقوسًا يجب أن تُسلك عند بعض الناس قبل المغرب أو قبل الصلاة وبعد الصلاة، وأنواع يجب أن تكون موجودة، ولا يمكن أن يُفطر إلا إذا كانت موجودة، ويتوسعون في وصف الأكلات الرمضانية، حتى يغيبوا عن شهود شهر القرآن وما فيه، ويكون أغلب انشغالات هؤلاء بالنهار في قنوات الفضاء بأطباق اليوم والمأكولات، وفي الليل لهو ولعب، فماذا بقي؟ ولذلك فإننا إذا استعرضنا كيف كان يفعل ﷺ في طعامه، وكيف كان يعتدل فيه، وكيف كان يحمد ربه،
ولا ينسى ذكر الله ، ويقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين، وقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، هذه لما رفعت المائدة، يعني السُّفرة من بين يديه بعد الأكل، قال: غير مُودَّع [رواه الترمذي: 3456، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 164]. يعني غير متروك، يعني لا ننشغل عن حمد ربنا ولا عن ذكره، غير مودَّع ولا مستغنًا عنه ربنا .
وكان ﷺ يبين لهم أن التسمية من أسباب البركة، ولما كان عنده طعام يأكله ستة من أصحابه جاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال ﷺ: لو سمى لكفاكم ، وقال: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها [رواه مسلم: 2734].
كان للنبي ﷺ قدحًا من خشب غليظ مضببًا بحديد، هذا الذي يشرب فيه، يشرب الماء والعسل واللبن.
هذا ما تم استعراضه في السنة الماضية في شمائل النبي ﷺ، ووصلنا إلى باب ما جاء في فاكهة رسول الله ﷺ، وهذا الباب سنشرحه -بمشيئة الله تعالى في الدرس القادم- ونجعل هذه كالمراجعة لما سبق بيانه في السنة الماضية، ونعيش مع النبي ﷺ في هذه الليالي الشريفة المباركة، وهذا مقصود أن نعيش مع النبي ﷺ في رمضان، ونعرف من هديه وشمائله وأحواله وأخلاقه ما نزيد به إيماننا.
نبينا ﷺ له الشفاعة العظمى كما نعلم ولا أحد يقوم مقامه في هذا الأمر، لأن الله لم يجعل هذا المقام إلا له، وهو أول شافع وأول مشفع، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأول من يؤذن له أن يرفع رأسه، ولا يفتح باب الجنة إلا به، واختص من بين الأنبياء بأنه ادخرت له دعوة مستجابة شفاعة لأهل الكبائر من أمته يوم القيامة، وهو أكثر الأنبياء تابعًا، وأول من ينشق عنه القبر، وبيده لواء الحمد يوم القيامة، وأول من يجيز على الصراط، وهو خاتم الأنبياء لا نبي بعده، وقد نصر بالرعب مسيرة شهر، وبعث للناس عامة، وله نهر الكوثر، ومن رآه في المنام فقد رآه حقيقة، إذا رآه على صفاته المعلومة؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، وقد أخرج منه نصيب الشيطان في شق صدره وهو صغير، ومرة أخرى قبل أن يعرج به إلى السماء، وغسل صدره بماء زمزم، وأباح الله له القتال في مكة ساعة من نهار، ونصر بالصبا؛ وهي الريح التي تجيء من ظهرك إذا استقبلت القبلة وتسمى بالقبول؛ لأنها تقابل باب الكعبة، ويُدفن حيث يُقبض، كما أن كل نبي يدفن حيث يموت، ورؤياه في المنام حق، وهو معصوم من الكبائر بالإجماع، وقد أسلم قرينه من الجن، لأنه ما من إنسان إلا معه قرين من الجن يأمره بالشر كافر، وأما قرينه ﷺ فقد أسلم، وكذلك فإنه يجوز التبرُّك بشعره وعرقه ونحو ذلك خاصة من بين الصالحين من البشر -على الراجح- من أمته، ولا يجرد من ثيابه عند الغسل بعد موته،
وكذلك فإن من الواجبات التي خص بها ﷺ قضاء دين أي واحد مات من المسلمين وهو معسر، وأنه يجب عليه تخيير نسائه في فراقه كما ورد في الآية: قُلْ لأزواجكَ إنْ كنتنّ تُردنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها [الأحزاب: 28]، وكراهة أكل ما تؤذي رائحته من البقول؛ لأنه يناجي من لا نناجي نحن.
وكذلك فإنه لا يتصور منه القراءة ولا الكتابة ولا عمل الشعر ونظم الشعر، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48].
وكذلك يحرم عليه إذا لبس لأمته درع الحرب أن ينزعها حتى يقاتل، ويحرم عليه خائنة الأعين، ومعنى ذلك: أن يضمر في قلبه غير ما يظهر للناس، ولذلك فإنه لا يومئ الإيماءات الخفية التي فيها أشياء يفهمها أصحابه ضد أحد ممن حضر.
وكذلك فإنه أُبيح له الوصال في الصوم، ولما سأله أصحابه إنك تواصل، قال: إني لستُ كأحد منكم إني أبيت أطعم وأسقى [رواه البخاري: 1961، ومسلم: 735].
وأيضًا فإنه لا يورث كالأنبياء، وما تركه لبيت مال المسلمين، ولا يأخذ أحد من أهله من إرثه شيئًا من المال، ولا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعًا.
ويباح له الجمع بين أكثر من أربع نسوة، ويباح له النكاح إذا وهبت له امرأة نفسها ولا يجوز ذلك لأي واحد آخر من الناس، لا نكاح إلا بولي، وزوجاته اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدًا.
ويرى وهو في الصلاة من خلفه من المأمومين دون أن يلتفت حتى ووجهه إلى القبلة، فإنه يرى كل من خلفه وما يحدث خلفه إلى آخر ذلك من الخصائص النبوية للنبي -عليه الصلاة والسلام-.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد نبيك وعبدك ورسولك، إمامنا، وقدوتنا، حامل لواء الحمد، والشافع المشفّع، والحاشر الذي يُحشر الناس بعده، والمقفّى الذي لا نبي بعده، صلى الله عليه، وعلى آله، وأزواجه، وذريته الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله.