الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].
أما بعد، فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
مقدمة
أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة كما تعلمون هو عن: "الحسد" وهذا داء خطير يصيب الأفراد والمجتمعات، فتكون فيه الهلكة السريعة، ويكون فيه التقحُّم في النار لمن غلب هذا الطبع على نفسه، فيورثه عذاب الله -جل وعلا- وسُخْطه في الدنيا والآخرة، ومع انتشار هجوم الحياة المادية اليوم، واستيلائها على عقول الناس وعلى قلوبهم، أقول: مع انتشار هذه الهجمة المادية، وما فُتِح من الدنيا على عباد الله في هذه الأزمان، كان سببًا مباشرًا وقويًا لانتشار مرض الحسد في المجتمعات.
المعنى اللغوي والاصطلاحي للحسد وضابطه
ونحن نريد بادئ ذي بدء أن نتكلم على تعريف الحسد، حتى نعلم ما هو الحسد؟
لقد وضح علماؤنا تعريف الحسد بما لا يدع غبشاً فيه مطلقًا، وأنا أسوق لكم بعض تعريفاتهم حتى تتبينوا ما هو هذا الحسد؟ الحسد عرفه بعض العلماء بأنه: تمنِّي زوال النعمة عن الغير، أن يتمنى الإنسان زوال النعمة عن غيره.
وعرّفه ابن حجر - رحمه الله تعالى - تعريفًا أدق، فقال - رحمه الله -: "الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها" [فتح الباري لابن حجر: 10/482].
لأنه قد يكون الشخص غير مستحق لها، ففي هذه الحالة تمني زوال النعمة منه ليس بمحرم.
فمثلاً: كافر أعطاه الله مالاً، وصار يستخدم هذا المال في الصدّ عن سبيل الله، أو فاسق من المسلمين يستخدم ماله في ارتكاب المحرمات، وفي أنواع الفجور والفسق، هذا الشخص غير مستحق لهذه النعمة، ولكن الله أعطاه إياها من باب الابتلاء والاختبار، فيكون حسده وتمني زوال هذه النعمة عنه خارجًا عن تعريف الحسد المذموم شرعاً، لكن يجب أن يفتّش الإنسان في نفسه إذا تمنى زوال النعمة عن كافر أو عن فاسق، أن يفتّش في نفسه لو أسلم هذا الكافر، أو صلُح حال هذا الفاسق، فهل سيبقى في نفسه تمني زوال النعمة عنه؟ فإذا كان الجواب نعم، فيكون الحسد في هذه الحالة حسدًا مذمومًا؛ لأنه سيحسده بكل حال، يعني الحسد الذي في نفسه عام سواء أسلم هذا الكافر أو صلح هذا الفاسق، الحسد معه مستمر، أما إذا تيقن بأنه إنما حسده وتمنى زوال نعمته أو النعمة التي لديه بسبب كفره أو فسقه؛ ولأنه يستخدم هذا المال في الصد عن سبيل الله وفي ارتكاب المحرمات، فعند ذلك يكون هذا الحسد ليس بمذموم شرعًا.
وهذا الحسد الذي عرّفه بعض العلماء بأنه: تمني زوال النعمة عن المحسود، قد يتصور البعض أنه يتمنى زوال النعمة لتأتي من المحسود إلى الحاسد، يعني واحد يتمنى أن تزول نعمة المال عن فلان وتأتي إليه، هذا ليس فقط التعريف؛ لأن بعض الناس والعياذ بالله ممن استشرى هذا المرض في نفوسهم يتمنى أن تزول النعمة عن فلان حتى ولو لم تأت إليه، يعني من خبث طويته وفساد نيته يتمنى أن تزول النعمة عن فلان، حتى ولو لم تجئ إليه، حتى ولو زالت عنه وعن غيره، يعني يقول عليّ وعلى أعدائي من بعدي! هكذا، فهذا طبعاً من الحسد المذموم.
وكذلك يعرف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الحسد فيقول: "الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حُسن حال المحسود" [مجموع الفتاوى: 10/111]. يعني: أن تبغض وتكره ما ترى من حُسن حال المحسود، لكن إذا أبغضتَ وكرهتَ رجلا ليس في واقعه حُسن، ولا النعمة التي عليه صالحة، فإنه في هذه الحالة لا يدخل في الحسد.
أقسام الحسد
ويقسِّم العلماء -رحمهم الله تعالى- الحسد إلى أقسام: فمن هذا الحسد ما يكون مذمومًا، ومنه الشيء الذي ذكرناه الآن ومنه ما يكون مباحًا، فيقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الفوائد يقول: "الحسد هو المنافسة في طلب الكمال، والأنفة أن يتقدم عليه نظيره، فمن تعدّى ذلك صار بغيًا وظلمًا، ومتى نقص عن ذلك صار دناءة"
[الفوائد لابن القيم: 140]. يعني: إذا كان الواحد ما يهمه الناس، زاد إيمانهم وزادت نعمتهم أو نقص عملهم، هو غير مهتم بنفسه، ليس بمهتم أن يلحق بالركب الصالحين، فهذه الحالة دناءة، يعني لا بد للإنسان يكون عنده في نفسه نوع من الاستشراف للحوق بأهل النعم الصالحة، وإلا إذا صار لا يهمه مطلقًا، يعني فلان صار أحسن منه في الطاعات، أو ما صار أحسن منه في الطاعات ما يهمه هو باق على حاله وعلى مستواه المتردي فهذا ليس بمحمود، هذه دناءة.
لكن إذا كان حسده حسد منافسة؛ وهو أن يطالب الحاسد نفسه أن يكون مثل المحسود لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود، فإذا صار حاله وواقعه ما ذكرنا أن يتمنى أن يصل إلى ما وصل إليه المحسود من الأعمال الصالحة وأنواع البر، فهذا لا شيء فيه، هذا لا يكون شيئًا محرمًا، أن تتمنى أن تصل إلى ما وصل إليه فلان، هذا النوع الأخير سماه الرسول ﷺ بالغِبطة.
أسباب الحسد
إذا أردنا أن نتعرف على أسباب الحسد، لماذا ينشأ الحسد في النفوس؟
ينشأ الحسد في النفوس من عدة أسباب من هذه الأسباب: الكبر، يكون الإنسان في نفسه كبر، هذا الكبر والترفُّع المحرم يؤدي إلى الحسد، من هذا النوع ما حسد الكفار نبينا محمداً ﷺ على نعمة الرسالة التي أعطاه الله إياها، فلما أرسل الرسول ﷺ قام كفار مكة وقالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]. قالوا: لماذا نزل القرآن على محمد؟ لماذا لم ينزل على فلان؟ عندهم كِبْر، لماذا نزل على محمد؟ لماذا لم ينزل على فلان؟ وقالواً أيضاً يحسدون عباد الله المؤمنين: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53]. يعني: هؤلاء هم الصالحون، هؤلاء هم الطبقة المثلى في المجتمع، وقال الكفار أيضًا لرسلهم: قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [يس: 15]. لما رأو النبوة والرسالة قالوا: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [يس: 15]؟ أنتم بشر! فهذا الكبر الذي في أنفسهم أدى إلى أن حسدوا الأنبياء على الرسالة.
الرياسة وحب الجاه
وأيضا قد تسبب الرياسة وحب الجاه في الحسد، فإذا كان الرجل عديم النظر في مجال من المجالات، وصار الناس يثنون عليه ويمدحونه، وأنه فريد عصره ووحيد دهره، فإذا سمع هذا الإنسان بنظير له في محل من أنحاء العالم حسده مباشرة؛ لأن النفس بطبيعتها إذا كانت على مستوى معين، تكره أن يكون لها مماثل، لو واحد عنده سيارة ليس مثلها في العالم، صمّم تصميماً خاصًا وصار مشتهر بين العالم كله أن هذا عنده السيارة الفلانية التي مواصفاتها كذا وكذا، هذا إذا سمع بأن إنسانا آخر في العالم حتى ولو في أقصى الدنيا عنده مثل هذه السيارة يحسده حتى ولو لم يره لا هو ولا سيارته؛ لأن النفس تحب التفرُّد بالنعمة أو بالميزة، وتكره أن توجد هذه النعمة وهذه الميزة لأي إنسان آخر ولذلك فإن النفس تكره من يشاركها في العلم أو الشجاعة أو العبادة أو الصناعة أو الثروة، أو غير ذلك.
لماذا حسد علماء اليهود نبينا محمدًا ﷺ؟ حسدوه على العلم الذي آتاه الله إياه، لماذا؟ لأنهم خافوا أن تزيل رياستهم، خافوا من زوال الرياسة فحسدوا الرسول ﷺ؛ لأنه سيأتي ويغطي عليهم ويبدأ الناس يتلقون من الرسول ﷺ ويتركوا علماء اليهود، فحسدوا الرسول ﷺ لأنهم خافوا أن تزول الرياسة، فانظروا كيف صار حب الرياسة سببًا ودافعا لظهور هذا الحسد في نفوسهم.
خبث النفس وشحها على عباد الله
وقد يكون سبب الحسد هو خبث النفس وشحها على عباد الله، فذلك أن بعض الناس ما عندهم اشتغال برياسة، ولا عندهم تكبُّر، ولكن إذا وصف عندهم إنسان أنعم الله عليه بنعمة ما في الدنيا، شقّ ذلك عليهم، يعني إذا حصل في المجلس كلام على واحد عنده مال أو عنده نعمة من الله ، يشق ذكر هذه القضية عليهم، ثقيلة على أنفسهم، لا يستحملون ذكر هذا الرجل الموصوف بهذه النعمة، ثقيل على مجلسهم، لكن إذا سمعوا خراب العالم واضطراب أحوال الناس والفقر الذي حل في البقعة الفلانية، أو تردي أوضاع الناس إذا سمعوا هذا الكلام ينبسطون جدًا، ويُسرون، بعض الناس هذه طبيعتهم، أما إذا صار الكلام فلان وسّع الله عليه، وهؤلاء الناس جاؤوا بالرزق الفلاني، هؤلاء نزل عندهم مطر، وكذا حسدوا إذا سمعوا أن هؤلاء قحط، وهذا فلّس، التاجر الفلاني، وهذا جاءه مرض تجده يُسر ويستأنس وينبسط من هذه الحالة لماذا؟ خبث، نفسه خبيثة، ماذا تتوقع منه أن يحصل إلا مثل هذه الآفات.
الحسد بين الأقران
يقع الحسد غالباً بين الأقران، وهذه نقطة مهمة جداً خصوصاً لمن كان على طريق النبي ﷺ في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتربية الناس، الذي يشتغل بتربية الناس لا بد أن يُنتبّه إلى هذه النقطة؛ وهي أن الحسد ينتشر غالباً بين الأقران والأمثال، فينتشر مثلاً على مستوى الأقارب؛ بين الإخوة وأبناء العم؛ لأنهم في طبقة واحدة، الإخوة يشتركون مع بعضهم في شأن واحد؛ وهو أنهم كانوا من نسْل الأب الفلاني، فيقع بينهم الحسد، الطلبة في الفصل؛ لأنهم في مرحلة دارسة معينة، يتساوون أقران، يقع بينهم من الحسد ما لا يقع في غيرهم، يعني لا تجد طالب ابتدائي يحسد طالب جامعة، ولا تجد طالب جامعة يحسد طالب متوسط، لكن تجد غالبًا الحسد ينتشر بين الأقران المتماثلين، وتجد مثلاً العلماء الذين يستخدمون علمهم في الشر، والذين أوتوا ذكاًء ولم يؤتوا زكاًء، يعني تزكية النفس، وإنما قد يكون أوتي ذكاء استطاع به أن يتعلم يحسد بعضهم بعضًا، حتى وصفهم بعض السلف بأنهم مثل التيوس يتناطحون، قد تجد في طبقة التجار يحسد التجار بعضهم بعضًا، حتى على مستوى الفرق الدنيئة في المجتمع، مثل الإسكافي؛ وهو الذي يصلح النعل، تجد الإسكافي يحسد من هو مثله، ولذلك ما تجد مثلاً تاجر قماش يحسد صانع الأحذية، أو الذي يصلح الأحذية، ولا تجد العالم يحسد التاجر، لكن تجد الحسد منتشر في طبقة العلماء، في طبقة التجار، في طبقة الحذائين، في طبقة الناس الذين يشتركون أو يتماثلون في مهنة معينة أو حرفة معينة أو صنعة معينة.
مبعث الحسد بين الأقران
ما هو مبعث الحسد بين الأقران؟ مبعث الحسد بين الأقران: التزاحم على قطاع ضيق من قطاعات الدنيا، بخلاف الآخرة، لنضرب مثالاً: رجل متزوج بأربعة نسوة ضرائر الآن، كل امرأة تتمنى أن يكون لها الحظ الأوفر والكامل من زوجها، فالآن المحل ضيق وهو الرجل، يعني لا تتسع له أُمنيات النسوة الأربع، كل واحدة ما تستطيع أن تشبع أمنيتها وآمالها في هذا الرجل، فنظراً للتزاحم على محل واحد يحصل الحسد، لذلك لا تجد الناس يتحاسدون في النظر إلى السماء؛ لأن السماء واسعة جدًا، كل واحد ينظر على كيفه، ما أحد يحسد فلاناً لماذا ينظر إلى السماء وهو أحسن مني، لا، لكن تجد من هذه الحالة النساء اللاتي لم يثبت الإيمان في قلوبهن يحصل بينهن الحسد إذا كن لزوج واحد، أما النساء اللاتي أوتين إيمانًا وحكمة وعلمًا ويقينًا، فإن هذه الأشياء تكون بعيدة عن نفوسهن، زينب -رضي الله عنها-، إحدى نساء الرسول ﷺ كانت في المنزلة عند الرسول تنافس عائشة، تسامي عائشة، لكن لما صارت حادثة الإفك واتُهمت عائشة -رضي الله عنها- بالفاحشة، اتهمها المنافقون وأرجفوا وأشاعوا هذا الخبر، فتلقفته نفوس المسلمين الضعيفة واشتركت في إشاعته، الآن واحدة مثل زينب -رضي الله عنها- تتنافس هي وعائشة في محبة الرسول ﷺ لهما، تتنافسان، الآن هذه فرصة جيدة جدًا لزينب أن تقتنصها وتتكلم في عائشة، فرصة الآن الأخبار مشاعة، وعائشة ما ثبتت براءتها بعد، وصار الناس يتكلمون حتى علي بن أبي طالب قال للرسول ﷺ كلامًا طيبًا، ليس من الإشاعات، قال: "النساء غيرها كثير" [تفسير القرطبي: 1/267]. يعني ممكن زينب تتكلم بكلام مثل هذا أو أشد منه، تشترك في هذا الجو؛ جو الإشاعات حتى تنال من عائشة؛ لأنه هناك تنافس، ولكن زينب - رضي الله عنها - أُم المؤمنين أُمنا جميعًا بتثبيت الله لها وبثبات الإيمان في نفسها وبيقينها بربها سلِمت من الفتنة، ولم تتكلم بحرف واحد تسيء فيه إلى عائشة، هذا الموقف صعب، صعب أن تتحمل واحدة مثل زينب وتحبس نفسها عن الكلام في هذا الجو، وهي بهذه المنزلة من الرسول، هي وعائشة تتنافسان، ولكن حبست نفسها، هذا يعني أن الحسد لم يدخل إلى قلبها، وإلا لو دخل لتكلمت بمثل هذا الكلام، أو أشد.
حسد إبليس لأبينا آدم
كذلك من أسباب الحسد وهو ما كان غلطة إبليس عليه لعنة الله يتجلى في قول الله جل وعلا على لسان إبليس في القرآن الكريم قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12]. لما أمر الله الملائكة وأمر كذلك إبليس بالسجود امتنع إبليس، لماذا امتنع إبليس؟ قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لما سأله الله قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فالذي يبعث على الحسد، إبليس حسد آدم، كيف يسجد له الملائكة، الملائكة أعداد هائلة كلهم يسجدون لآدم، حسده على هذه المنزلة، فدبّ في نفسه الحسد، كان من أسباب الحسد ازدراؤه لآدم، قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ازداره واحتقره، هذا كان من أسباب الحسد، الشيء الثاني: قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ هذه الكلمة أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ تفضيل نفسه على آدم، كان من أسباب الحسد.
التنافس في غير طاعة الله
كذلك من أسباب الحسد أيضاً: التنافس في غير طاعة الله، أما إذا كان التنافس في طاعة الله فقد حثّ الله تعالى عليه وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26]. حث على التنافس لنيل الجنة قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26]
من أسباب الحسد: الشماتة، يقول الله - جل وعلا - عن الكفار: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران: 120]. هذا الفرح هو فرح الشماتة، لماذا يتشمتون بالمسلمين؟ وإذا نزلت بهم مصيبة فرحوا؟ من الأسباب: أنهم يحسدونهم.
إعجاب الحاسد بنفسه
كذلك من أسباب الحسد: إعجاب الحاسد بنفسه، إذا أُعجب الحاسد بنفسه، واحد يرى نفسه فيها مزايا على الناس، ولا يفكر، أو لا يتفطن للعيوب، فلذلك يقع في الحسد.
كذلك نقطة مهمة هل يقع الحسد بين المؤمنين؟ سئل الحسن البصري هذا السؤال، قيل له: يا أبا سعيد، أيحسُد المؤمن؟ قال: "لا أُمّ لك، أنسيتَ إخوة يوسف؟ قال: نعم يَحسُد، المؤمنون يحسُد بعضهم بعضًا، قد يقع بينهم الحسد فقال له: "أنسيتَ إخوة يوسف" [عيون الأخبار: 2/12].
الآن إخوة يوسف، كانوا مسلمين، الإسلام هو الدين الذي بُعث به جميع الأنبياء، الإسلام واحد، ولكن اختلفت الأحكام والتشريعات، وكل واحد بُعث يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، فإخوة يوسف كانوا مسلمين، كانوا على دين أبيهم يعقوب، ويوسف كذلك كان مسلمًا، لكن مع كونهم مسلمين ما منع ذلك من وقوع الحسد بينهم وبينه، فحسدوه على نعمة محبة أبيه له واصطفائه له على إخوانه؛ لأنه كان يستأهل ذلك الاصطفاء، فكان أتقاهم وأعبدهم واجتمع فيه الصفات، ولذلك أحبه أبوه ،كان أفضل من إخوانه في تقوى الله والعبادة.
ذمُّ الشريعة للحسد والتحذير منه
كذلك لا بد أن نتكلم عن شيء مما يتعلق بما ورد عن العلماء في ذمّ الحسد يقول الرسول ﷺ وهو سيد العلماء وأعلم البشر على الإطلاق، يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم: إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ يعني كيف ستكونون إذا فتحت؟ قيل: نكون كما أمر الله فقال: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض [رواه مسلم: 2962]. يقول لهم ﷺ: أنا أخشى عليكم إذا فُتحت الدنيا أن تتنافسوا فيها وتجمعوا الأموال، وهذا الجمع والسعي وراء الدنيا سيسبب الحقد والبغضاء، ويسبب الحسد، الحسد سيسبب التدابر والتقاطع والقتال في النهاية، وحدث هذا من ضعاف النفوس، ممن فُتحت عليهم الدنيا، وفتْح فارس والروم عاصره ناس من التابعين من الذين جاؤوا بعد الصحابة، والتحاسد الذي وقع، والتقاطع والإقبال على الدنيا، كان من بعد عصر الصحابة، يعني لما انتشرت الأموال وصار هناك ترفٌ عظيم ولم يكن هناك نفوس تقية، استشرى بالناس داء الحسد، واستشرى بذلك التباغض والتقاطع والتقاتل فيقول أحد السلف في ذم الحسد: "الحاسد عدو نعمة الله؛ لأنه ساخط على قضائه غير راض بقسمته بين عباده" هذا الذي يحسد الناس على النعمة، هذا ساخط على قضاء الله؛ لأن الله -عز وجل- هكذا قسم النعم بين الناس، فهذا الرجل إذا حسد معناها أنه غير راض بهذه القسمة، فلذلك هو يحسد ويقول أحدهم: ما من حاسد إلا وعاد حسده عليه، ألم تر أن الله يقول: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]. المكر السيئ يحيق بأهله في النهاية، وإذا ما أحاط به في الدنيا يحيط به في الآخرة.
وقال أحد السلف: "أول ما عُصي الله به في السماء والأرض الحسد" [بهجة المجالس وأنس المجالس: 89].
أول معصية في السماء وأول معصية في الأرض كانت الحسد، أول معصية في السماء ذكرناها؛ وهو الحسد بسبب المعصية؛ وهو عصيان إبليس لله بالسجود لآدم، وأما أول معصية في الأرض من الحسد فهي ما حسد به أحد ابني آدم، حسد به أخاه قابيل وهابيل حسد أخاه على نعمة وهي أن الله تقبل منه قربانه، فحسده على هذه النعمة، وأدى الحسد إلى قتله.
وقال بعض الشعراء:
كل العداوة قد ترجى إماتتها | إلا عداوة من عادك من حسدِ |
[الرسالة القشيرية: 1/290].
يعني: عداوة الحاسد من أشد أنواع العداوة.
وقال ابن مسعود: "لا تعادوا نعم الله ".
قيل: ومن يعادي نعم الله؟
قال: الذين يحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"[تفسير القرطبي: 5/251].
وقال الحسن البصري: "ليس أحدٌ من خلق الله إلا وقد جُعِل معه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء، ولذلك ذمّ الله أهل الكتاب الذين قال عنهم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109].
هم عرفوا أن هذا هو الحق وأنكم اتبعتموه فهم حسداً ما يريدون أن تتنعموا بنعمة الهداية والإيمان، فيمتنون من داخل أنفسهم أن تزول هذه النعمة عنكم ويردونكم من بعد إيمانكم كفاراً، وقد وقع كثير من أمنياتهم وتحقق في هذا العصر، كثير من تمني الكفار هذا أن يردونكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم وقع في هذا العصر فقد ارتد كثير من أجيال المسلمين، ليس أبناء المسلمين، أجيال من المسلمين ارتدت عن دين الله - جل وعلا -، فتنصّر منهم من تنصّر، ودخل في الشيوعية من دخل، وفي المذاهب الإلحادية، وبعضهم اعتنق اللادينية، صاروا بغير دين، وبعضهم خرج من الإسلام بأنواع من الكفر، ترك الصلاة بالكلية، وسبّ الدين، وعدم فعل أي نوع من أنواع الخيرات، فتحقق للكفار شيء عظيم مما كانوا يتمنونه فارتد كثير من أبناء المسلمين والعياذ بالله تعالى.
كذلك ذمّ رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح الحسد فقال: لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرًا ثم سدّد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد رواه أحمد والنسائي والحاكم عن أبي هريرة. وهو حديث صحيح. [رواه النسائي: 3109، والحاكم: 2394، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7620].
وقال بعض السلف: "الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ولا ينال عند الملائكة إلا البغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعًا وغمًا، ولا ينال في الآخرة إلا حزنًا واحتراقًا، ولا ينال من الله إلا بُعْدًا ومقتًا، ولهذا قيل في انتشار الحسد قال ابن تيمية -رحمه الله- نقلاً عن بعض السلف: "ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه" [أمراض القلوب وشفاؤها: 21]. والحسد شر من البخل؛ لأن البخيل يمنع النعمة عن نفسه، لكن الحاسد يريد أن يمنع النعمة عن الناس كلهم، ولذلك صار الحسد أشرّ من البخل وأطم.
أنواع الحسد
واعلموا أن الحسد أنواع؛ فمن الحسد أن يتمنى الإنسان زوال النعمة عن الغير، وهذا ذكرناه، لكن نحتاج إلى بعض التفصيل في الغبطة؛ وهو الحسد المباح الذي قال فيه رسول الله ﷺ: لا حسد إلا في اثنين فهذا تفصيل أن يحب الإنسان حال الغير، ويتمنى أن يكون مثله وهو ما عنى رسول الله ﷺ بقوله: لا حسد إلا في اثنتين لفظ البخاري لفظ مهم في معرفة هذا النوع من الحسد المباح، يقول في حديث أبي هريرة عن الرسول ﷺ: لا حسد إلا في اثنين، رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه بالليل والنهار فسمعه رجل فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا لاحظ الكلام، قال: يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا ما قال: ياليته راح عن هذا وجاء إلي قال: يا ليتني أُوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه بمثل ما عمل هذا، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق [رواه البخاري: 73، ومسلم: 816].
يعني: يقضي على هذا المال، حتى يأتي على هلكته، يعني: حتى ينفقه كله في الحق، فهذا معنى "يهلكه" فقال رجل: ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا يعني من المال فعملت فيه مثل ما يعمل هذا فهذا أراد علماً مثل علم هذاك ليعلم الناس وأراد مالاً مثل مال ذلك لينفقه في سبيل الله، فعلى ذلك من كان عنده علم لا ينتفع به، يعني من كان عنده علم لا يعمل به ولا يعلمه لغيره، فإنه لا يُحسد، يعني لا يغبط على هذا، انتبهوا معي، هذا الحديث، هذه الغبطة حديث الغبطة الذي يُغْبط هو العالم الذي يتعلّم العلم ويعلّمه ويعمل به، فإذا كان الواحد عنده علم، لكن لا يعمل به ولا يعلمه لغيره، فهذا لا يُغبط، وكذلك الذي عنده مال لا ينفقه في طاعة الله هذا لا يغبط، يعني لا يصير الواحد يقول في نفسه: ياليت عندي مثل فلان، لذلك في القرآن الكريم العلماء الصالحون من قوم قارون أنكروا على من قال من قومه: يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص: 79] هناك ناس قالوا: يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ، هؤلاء الناس ما تمنوا زوال النعمة عن قارون وإتيانها إليهم، قالوا: يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ، لكن علماء بني إسرائيل الصالحين من العلماء ماذا قالوا لهم؟ قالوا: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص: 80].
يعني: لا تتمنوا هذه الأمنية؛ لأن قارون كان ينفق ماله في معصية الله، فحتى هذا لا يكون فيه غِبطة مثل هذا الموطن لذلك كان صحابة رسول الله ﷺ يتنافسون في الخير ويغبط بعضهم بعضًا.
واسمعوا إلى هذه القصة التي ثبتت في الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: "أمرنا رسول الله ﷺ أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي" يعني صادف أمره بالصدقة، "صادف مالاً عندي" صادف أنه كان عند عمر بن الخطاب في ذلك الوقت مال كثير، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، يعني كل مرة أبو بكر دائمًا ينفق أكثر فقال عمر في نفسه وهو عنده المال: الآن أسبق أبا بكر، قال: "فجئت بنصف مالي"، آخذ نصف هذا المال الكثير وأذهب به إلى رسول الله ﷺ فقال لي رسول الله ﷺ: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، أبقيتُ لأهلي مثل هذا المال الذي أتيتك به؛ لأنه أخذ النصف، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله ﷺ: ما أبقيتَ لأهلك
قال: "أبقيتُ لهم الله ورسوله"، فقلت - يقول عمر -: "فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدًا" [رواه أبو داود: 1678، والترمذي: 3675، والحاكم في مستدركه: 1510، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3675].
لا يعني: لا أفعل الخير، ولكن يعني: لا يخطر على بالي في المستقبل أني سأسبقك في عمل من أعمال الخير، فهذا ما فعله عمر من المنافسة، والغِبطة أمر مباح، لكن يبقى أبو بكر في هذا الموطن أفضل من عمر؛ لأنه ما جاء في نفسه حتى الغبطة، يعني ما جاء في نفس أبي بكر ولا نوع من أنواع الحسد.
الفرق بين الغِبطة والحسد
ومن هذا النوع نوع الغبطة ما حصل لموسى في قصة المعراج ما حصل له من البكاء ثبت في الصحيحين أن الرسول ﷺ لما تجاوز موسى وهو صاعد إلى الله بكى موسى فقيل له ما يبكيك قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي [رواه البخاري: 3887]. يعني يبكي؛ لأن الرسول ﷺ سيدخل من أمته أكثر مما يدخل من قوم موسى، فبكى موسى لا حسدًا للرسول، ولكن غبطة يغبطه على هذه النعمة التي أنعم الله تعالى عليه، يقول ابن تيمية في تعليق لطيف: وعمر كان مشبهاً بموسى، ونبينا ﷺ أفضل حال من موسى؛ لأنه لم يكن عنده شيء من ذلك لا حسد ولا غِبطة، فهذه المنافسة في الخير، الغبطة هذه مطلوبة شرعًا، من أمثلة هذه المنافسة المنافسة التي كانت تحصل بين الأوس والخزرج في الطاعات، فكانوا يتنافسون في ميدان القتال، من يُقْدِم منهم في المعركة، ومن يقتل في المعركة دفاعًا عن الله ورسوله، ومن يذود عن الرسول ﷺ في معركة أُحد مثلاً، وإذا ذهب واحد من هؤلاء ليقتل عدوًا من أعداء الإسلام، مثل ما حدث في قصة سلام بن أبي الحقيق انتبذ آخرون لقتل عدو آخر فكانوا يتنافس الأوس والخزرج في هذا المجال، وهذا مهم للدعاة إلى الله أن يتنافسوا في الخير تنافساً شريفاً، لا حسد بينهم ولا تباغض ولا تدابر ولا تقاطع، وإنما يتنافسون في الدعوة إلى الله ، يحاولون في الناس؛ من يحاول أن يعلّم أكثر، من يحاول أن يهدي أكثر من الناس في الدلالة والإرشاد، من يحاول أن يفتح نفوس الناس ويجذبهم إلى الحق، من يحاول أن ينفق أكثر في طاعة الله، من يحاول أن يسهر أكثر في الدعوة إلى الله، من يحاول أن يُتعب نفسه أكثر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من يحاول أن يجاهد نفسه أكثر بتعلُّم العلم الشرعي، هذه مجالات منافسة شريفة، لا شيء فيها؛ لأنها بعيدة عن الحقد والبغضاء والحسد المذموم.
أما إذا كانت منافسة غير شريفة، فيها حقد وفيها بغضاء وفيها أهواء وفيها تعدٍ، فعند ذلك لا يكون هذا تنافسًا، حتى ولو كان ظاهره محمودًا كما ذكرنا، لكم من أنواع التنافس أو الحسد الذي يحدث بين بعض طلبة العلم أو العلماء الذين لم يؤتوا إيمانًا وحكمة، فلهذا هنا سؤال: لماذا لم يذكر الرسول ﷺ المجاهد في حديث الغبطة؟ يعني الرسول ﷺ قال: لا حسد إلا في اثنتين [رواه البخاري: 73، ومسلم: 816].
فذكر صنفين من الناس: قارئ القرآن العامل به يعلم الناس، ورجل ينفق من مال كثير وهو عنده أو ينفق من ماله حتى يهلكه في الحق لماذا لم يذكر المجاهد؟ يجيب عن هذا السؤال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - فيقول: "والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم، فلهذا لم يذكر الجهاد، وإن كان أفضل" هذه نقطة مهمة نفيسة، يعني: الناس عموماً إذا رأوا واحد في تعب وفي مشقة وفي جهد، ما يحسدونه، الناس يحسدون الذين في عملهم نوع من السهولة.
فإن قلت لي: ما وجه السهولة، أو ما هو وجه الحسد؟
لماذا حسد العالم الذي يعلّم الناس والغني، أو صاحب المال الذي ينفق؟
فيقول ابن تيمية - رحمه الله -: "لأن هذه الأعمال التعليم والإنفاق يحصل فيها تعظيم للشخص من قبل الناس ويسودونه بما يحصل من تعليمه وإنفاقه" [مجموع الفتاوى: 10/114]. يعني العالم الآن بين الناس له نوع من السيادة، هذا يسبب نوع من الحسد، لكن واحد راح يقاتل في المعركة ويقتل ويجرح ويكلم ويصير عليه مشقة شديدة وجهد، فمثل هذا عادة الناس أنهم لا يحسدونه، ولذلك لا يحسد الناس الفقير أو الشحاذ لا يحسدونه، حتى لو أكل أحسن منهم، وصار هو في متعة النكاح أحسن منهم، لا يحسدونه، فقضية تمني زوال النعمة عن المحسود أمرٌ خطير؛ وهو وإن زالت النعمة عن المحسود فإن الحاسد لا يبرأ من مرض الحسد.
يعني لو واحد حسد ثاني على ماله فذهب المال وأفلس من ثاني يوم، هل يزول الحسد من قلب الحاسد؟
يقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "هذا الذي حصل لا يسبب راحة للحاسد، فإنه مثل المريض الذي عُولج بما يسكِّن وجعه" يعني إذا واحد حسد هذا على مال وأفلس، هذا الإفلاس بمثابة الإبرة المخدّرة في جسد الحاسد، لكن لا يعنى هذا أنه برئ من مرض الحسد، فإنه يظل غير مرتاح، ولذلك فإنه إذا جاء للتاجر هذا ربح مرة أخرى وأتى له مال، يتجدد الحسد، بل إذا أتى مال إلى شخص آخر غير الذي أفلس يتجدد الحسد أيضًا، فهو لا يبرأ من مرض الحسد؛ لأنه قد تعود عليه وصار داء فيه، ولهذا أمر الله تعالى بالاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد، فقال - جل وعلا - في سورة الفلق: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق : 1 - 5]. هنا كلمة إذا حسد تعنى شيئًا؛ وهو الاستعاذة من شر الحاسد في حالة وقوع الحسد منه بالقول أو بالعمل، أما إذا بقي في نفسه فلن يكون هناك شرٌ منه، إذا بقي الحسد في نفس الحاسد ما أظهره لا بالقول ولا بالعمل، معنى هذا أنه لن يؤذيك، فلذلك أمر الله تعالى بالاستعاذة من شر الحاسد إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]، يعني إذا أظهر حسده في القول والعمل.
حسد إخوة يوسف ليوسف عليه السلام
كذلك من أنواع الحسد: حسد إخوة يوسف ليوسف، لماذا حسد إخوة يوسف أخاهم يوسف؟ قالوا: أنه أحب إلى أبينا منا، قالوا: يُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف: 8].
نحن كلنا ما أعجب فينا إلا بيوسف فدبّ إليهم داء الحسد لذلك يعقوب كان حكيمًا، فأوصى يوسف ابنه قال له: قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5].
لماذا أمره بإخفاء النعمة؟ لأن هذه الرؤيا رؤيا صالحة، أمره بإخفاء النعمة وألا يحدث بها لأن يعقوب يعلم حال بنيه ويعلم أن فيهم حسد فلذلك أمر ابنه يوسف بألا يقصص رؤياه على إخوته، فيكيدوا له كيداً.
والحسد يؤدي إلى أمور شنيعة، فمثلاً هنا في قصة يوسف أدى الحال بإخوة يوسف إلى أن تكلموا في قتله، وفي التخلص منه، وتآمروا على إهلاكه، وفعلوا هذا، وخططوا له، ونفذوه، ورموه في البئر، وتسبب هذا في أن يوسف أصبح عبدًا للكافرين، يعني بيع يوسف في مصر لقوم من الكفار، انظروا ماذا سبب الحسد؟ سبّب أن صار واحداً حُراً من المسلمين صار عبدًا عند كافر من الكفار، هذه عاقبة وخيمة، هذا مثال على ما يؤدي إليه الحسد.
حسد قابيل لأخيه هابيل
المثال الآخر المذكور في القرآن قصة قابيل وهابيل حسده على أن تقبل الله قربانه، فبسط إليه يده فقتله، فأدى الحسد إلى القتل، لذلك صار على ابن آدم هذا القاتل صار عليه وزر مثل أوزار كل من قتل من القتلة على وجه الأرض إلى قيام الساعة؛ لأن من سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
كذلك التحاسد ليس من الضروري أن يقع بين اثنين فأكثر؛ لأنه قد يفهم من حديث الرسول ﷺ: لا تحاسدوا [رواه البخاري: 6064، ومسلم: 2558].
المحاسدة هنا من المفاعلة، يعني: وقوعها بين طرفين، يعني ما يقع بين اثنين فأكثر هذا معنى: لا تحاسدوا ، ولكن البخاري -رحمه الله تعالى- كان فقيهًا عندما بوّب على هذا الحديث بعنوان: "باب ما يُنهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5].
فأشار البخاري بذكر الآية فقهه بهذه الترجمة أنه أشار بذكر الآية إلى أن النهي عن التحاسد ليس مقصورًا على وقوعه بين اثنين فصاعدًا، بل الحسد مذموم ومنهي عنه ولو وقع من جانب واحد؛ لأن وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ يمكن حاسد يحسدك وأنت ما تحسده.
السكوت عن غيبة المحسود في المجلس
كذلك من ضمن أنواع الحسد أن بعض الناس أو حالات الحسد أن بعض الناس كما يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - تعالى: "بعض الناس لا يظهرون حسدهم ولا يؤذون غيرهم"، يعني ما يؤذيه بقول وفعل ولا يسبُّه ويشتمه ويغتابه والنميمة وغير هذا، ولا يؤذيه بأنواع الإيذاء، "ولكن إذا كان هذا الحاسد في مجلس وذم المحسود إنسانا آخر" واحد حاسد في مجلس وأهل المجلس تكلموا وحسدوا إنساناً آخر، فالذي لم يتكلم عليه ابتداء، لم يتكلم عليه ولم يسبه ولم يشتمه ولم يؤذه، لكن إذا جاء في مجلس وتكلم الناس على المحسود الذي يحسده هو لا يدافع عنه يسكت، وهذا يمكن من تلبيس الشيطان، يقول له: أنت ما فعلتَ شيء، أنت سكت وما شاركت في المنكر، ولكن ينبغي عليه مثل هذه الحالة أن يدافع عنه، إذا أراد أن يخرج الحسد من قلبه لا بد أن يدافع عنه وهو في حالة الذم، وكذلك يقول ابن تيمية: "وكذلك لو مدحه أحد لسكت"[مجموع الفتاوى: 10/125].
يعني هذا الحاسد لو مدح المحسود في المجلس سكت لا يشارك في المدح المفروض أن يثني عليه إذا أراد إخراج الحسد من قلبه أن يثني عليه فيقول ابن تيمية: "قد لا يكون هؤلاء من الناس الحاسدين؛ لأنه ما ظهر منهم شيء لا يكون له عقاب الحاسدين، لكن يكون له عقاب آخر" يقول: "وجزاؤهم أنه يُبخسون حقوقهم، فلا يُنصفون في مواضع، ولا ينصرون على من ظلمهم، كما لم ينصروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب"[مجموع الفتاوى: 10/125].
يعني: هؤلاء الله قد يعاقبهم بعقوبة أخرى؛ وهو أنهم إذا ذُموا في مجالس ما وجدوا من يدافع عنهم، مثلما امتنعوا عن الدفاع عمن يحسدونه إذا وقع له ذم.
الحسد على النعمة المتوقع حصولها مستقبلاً
كذلك قد يكون الحسد على نعمة موجودة، وقد يكون على نعمة من المتوقع أن تحدث، مثال على ذلك قول الله -جل وعلا - سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ المنافقون الذين تخلفوا يقولون للمؤمنين أحيانًا على عهد الرسولﷺ يقولون لهم إذا انطلقوا إلى مغانم مثل غزوة أو غنيمة سهلة، يقولون: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ دعونا نأتي معكم، المنافقون يقولون هذه؛ لأن القضية سهلة ولا يتوقعون قتالاً، ولم يتعرضوا للقتل، ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلً لماذا؟ قالوا: بَلْ تَحْسُدُونَنَا ، يقولون: يا أيها المسلمون أنتم تحسدوننا ما تريدونا نذهب معكم؛ حتى لا نحصل على الغنائم، فواضح من الآية أن الحسد يكون على شيء على النعمة المتوقع حصولها، وليس من الضروري واللازم أن يكون على النعمة الموجودة الآن.
علاج هذا الحسد
كذلك نأتي الآن على الجزء المهم وهو علاج الحسد، يعني كيف يعالج الحسد؟ المفروض أساساً أن تكون النفوس في المجتمع الإسلامي سليمة، ولكن الناس مثلما قال: قلما يخلو جسد من حسد، لذلك مدح الله الأنصار مدحاً عظيماً جدًا في القرآن الكريم، ومن تصور المدح أو الشيء الذي مُدحوا به فإنه شيء عظيم، يقول الله - جل وعلا - عن الأنصار يقول: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا تدبر معي هذا الجزء من الآية، الآن المهاجرون هاجروا إلى المدينة، وكانوا فقراء ففرض لهم شيئاً من الفيء، يعني كان جزء من مصارف الفيء يذهب إلى المهاجرين فقط، ما يذهب للأنصار، والرسول أعطى في غزوة حنين المهاجرين، وما أعطى الأنصار غنائم، أيضاً الله فضّل المهاجرين على الأنصار في القرآن الكريم، المهاجرون أفضل من الأنصار؛ لأن لهم سبق قدم في الإسلام، يعني قدمهم في الإسلام كانت أسبق من الأنصار، وأوذوا في مكة مالم يؤذ الأنصار، وصبروا مالم يصبر الأنصار على العذاب، فلذلك فضّلهم الله على الأنصار درجة، هذه نعمة؛ سواء كانت نعمة جزء من الغنيمة، جزء من الفيء، أو سواء كانت نعمة الرِّفعة في الدرجة، الشيطان سيدخل ويقول في نفس الأنصاري: كيف هذا يأخذ من الغنائم وأنت ما تأخذ؟ أو يأتي له ويقول له: ماذا يعني؟ لأنه كان قبلك في الإسلام تصير أنت دونه ويصير هو أفضل منك؟ فالأنصار ما استجابوا لنداء الشيطان في نفوسهم واستعاذوا من شره، ولم يدخل في نفوسهم شيء على إخوانهم المهاجرين، لذلك قال الله - جل وعلا - مادحاً لهم: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا يعني: أوتي المهاجرون، لا يجد الأنصار في نفوسهم حاجة يعني: حسدًا ولا غلا ولا حقدًا ولا بغضًا لما أُتي المهاجرون من النعمة، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وهذا المفروض؛ أن تكون القرون الثلاثة المفضلة الأولى وعلى رأسهم المهاجرون والأنصار، هذه حالهم وسيرتهم، عُرضت وسطّرت في التاريخ كتب السيرة، لماذا حتى نحن نستفيد منها من رحمة الله أنه ما جعل الإسلام مبادئ نظرية لم تُطبق، وأعطانا إياها، بل كان لدينا رصيد تجربة، يعني هذه المبادئ من السماء التي نزلت طُبّقت في مجتمع إسلامي وظهر آثارها وثمراتها، ثم أُمرنا بأن نتبع النظري والعملي، فأُمرنا أن نتبع الأحاديث والآيات المسطرة، وأُمرنا أن نقتفي أثرهم، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]. وأن نكون مثلهم، فمعرفة حال مثل هؤلاء الناس هذا يساعد في العلاج، هذ أمر.
أمران يساعدان في علاج الحسد
والذي يساعد في علاج الحسد أمران: علمي وعملي، فالعلمي مثل علمنا بحالهم وسيرتهم، ومثل علم الحاسد، كذلك أن حسده يضره في الدنيا والآخرة، يضره في الدنيا؛ لأنه يعيش دائماً في غمّ وفي همّ، وتجده قلق في الليل والنهار، يفكر وفي نفسه هذا الحسد يثور، وهذه البغضاء والحقد وهي مستعرة على أخيه المسلم، هذا هو، بالنسبة لنفسه لذلك لا يوجد ظالم يشبه المظلوم مثلما يشبه الحاسد يعني الحاسد هو ظالم، ولكنه في نفس الوقت مظلوم؛ لأنه يظلم نفسه؛ لأن الحسد هذا يجعله يعيش في عذاب نفسي رهيب، فيجعله يفكِّر ويقلق، هذا عذاب نفسي، لذلك تجد بعض الناس نفوسهم عوجاء من هذه الناحية، يعني إذا جلست معه وسمعت كلامه في الحسد وكيف يتكلم على الناس الآخرين الذين أوتوا النعمة، تجده يعيش في عذاب فعلاً، تجده يعيش في جحيم، هذا في الدنيا قبل الآخرة، وكذلك إذا اشتغل الإنسان بنفسه وبرفع مستواه؛ سواء كان دينيًا أو دنيويًا، فاشتغاله بنفسه هو العقل وهو علاج من علاجات الحسد، وعندما يفكر الحاسد بأنه بحسده هذا يعارض قضاء الله وينكر قسمة الله - جل وعلا - الله قال: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف: 32].
فالله هو الذي قسم المعاش بين الناس، يعني الحاسد إذا جاء يحسد واحد يقول في نفسه: الله هو الذي قسم في الناس المعايش وهو الذي أعطى فلانًا هذه الأموال الكثيرة، وأعطى فلانًا الصوت الجميل، وأعطى فلانًا جاذبية الشخصية، وأعطى فلانًا العلم، فالله هو الذي قسم، هذا هو بحكمته وقدره قسم هذا، لماذا أنا أعارض قدر الله وأقول: لماذا يعطى فلان؟ وأتمنى أن تزول النعمة من عنده، فإذا فكر في نفسه مثل هذا التفكير، فإنه من أسباب زوال الحسد من نفسه.
تمني مثل النعمة التي عند الغير
كذلك من علاجات الحسد أن الإنسان يتمنى أن يحصل على نعمة مثلما عند الناس الآخرين من أصحاب النعمة ولكنه في حالة معينة، يجب أن يصرف نفسه عن هذا التمني، ما هي؟ مثل هذه الحالة هي التي ينطبق قول الله - جل وعلا - فيها وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء: 32].
قد يقول: هذا جزء من آية، وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فلو واحد قال: كيف أنا الآن إذا تمنيت أن يكون عندي علم مثل فلان، وعندي مال مثل فلان، وعندي... هل هذا يدخل في النهي؟ هل فيه تناقض فيه تعارض؟ قال المفسّرون في قول الله - جل – وعلا: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ يعني: في الأمور المستحيل أن تحصل لك، لما تكلموا عن سبب النزول في التفاسير قالوا من ضمن سياقات أسباب النزول: أن بعض نساء الصحابة قالوا في نفوسهن: لماذا لا نجاهد مثل الرجال ونخرج في المعارك ونقاتل ونموت شهداء في سبيل الله؟ لماذا الواحدة منا شهادتها بنصف شهادة الرجل؟ لماذا صارت شهادة الرجل مثل شهادة امرأتين؟ فبعض نساء الصحابة قد يكون وقع في نفوسهن التمني أن يحصلن على رتبة مثل رتبة الرجال، فلذلك نهى الله عن هذه الحالة قال: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء: 32]. وهذه تريح المرأة جدًا، الآن دعاة تحرير المرأة يزبدون ويتكلمون في صحفهم ومجالاتهم وإذاعتهم عن تحرير المرأة ويجب مساواة المرأة بالرجل، كيف تأخذ نصف مال الرجل في الميراث؟ كيف شهادتها بنصف شهادة الرجل؟ كيف تُمنع من القتال؟ وقال رسول الله: حجكن جهاد، النساء ما عليهن جهاد، ما يجب عليهن الجهاد، وإنما حجهن الجهاد، ففي هذه الحالة؛ لأنه من المستحيل، انتهى، الله قضى في الأمر، قضى أن المرأة ليس عليها جهاد، وقضى أن المرأة تقر في بيتها، وقضى أن المرأة لها نصف ما للرجل في الميراث، وقضى أن شهادة امرأتين بشهادة رجل، قضى هذا، فالآن ليس هناك مجال للنساء أن يتمنين أن يصرن مثل الرجال، فإذا استقرت هذه الحقيقية في نفوس المرأة تستريح تمامًا، وهؤلاء الذين يطنطنون حول الكلام في تسوية المرأة تزهد في أقوالهم، وتعلم أنها كلها باطلة، ومما يريح المرأة أكثر أن الله بفضله وكرمه على المرأة أنه ما جعل أجرها نصف أجر الرجل، يعني ما قال: إن الرجل إذا عمل عملاً أخذ حسنة وإذا عملت المرأة مثله تأخذ نصف حسنة، لا، المرأة لها مثل ما للرجل من حسنات تمامًا، المساواة، وماذا تريد أكثر من ذلك؟ أن تكون لها المساواة في الأجر ورفعة الدرجة والجنة عند الله - جل وعلا - فإذا استقر في نفسها هذا المفهوم وهذا التصور اجتثت جذور الفتنة التي يرفعها ويثيرها أعداء الإسلام في نفوس النساء، كذلك هل يجوز للواحد أن يتمنى أن يكون نبياً؟ النبوة نعمة، هل يجوز لأي واحد أن يتمنى أن يكون نبياً؟ لا يجوز، لأن النبوة انتهت، الرسول خاتم الأنبياء فلذلك هذا يدخل في قول الله وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء: 32]. يعني: فضّل المرسلين فجعلهم رسلاً وأنبياء، ولما كانت القضية خاصة فيهم مستحيل أن تكون لغيرهم صار تمني النعمة هذه محرم، فهذا معنى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
أن يفرّق الإنسان بين صيغ التمني
من ضمن العلاج أن يفرق الإنسان بين صيغ التمني، كيف؟ يقول أحد السلف: لا تقل ليت لو أن لي مال فلان وأهله، عنده مال وعنده أهل ممتازين، لا تقل في تمنيك: ياليت يصير لي مال فلان وزوجته أو أهله، لا تقل كذا، وإنما قل: ياليت لي مثل ما لفلان وأهله، لاحظ الفرق، الفرق دقيق؛ لأنك عندما تقول: ياليت لي مال فلان وعلم فلان، معناها أنه يذهب من عنده ويأتيك؛ لأن هذا المال معين محصور، لكن تقول: مثل مال فلان أو مثل علم فلان أو مثل أهل فلان، فعند ذلك لا يكون فيه بأس.
كذلك يقول الله : وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32]. لما تكلم على قوله: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف: 32].
قال: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ما عليك فلان ماذا عنده؟ وفلان كم يملك؟ اسأل الله من فضله؛ لأن خزائن الله لا تنفد، قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاق [الإسراء: 100]. لو الناس عندهم خزائن الله، لو فرض هذا، وينفقون بنفس الكيفية، وبنفس الكمية، فسيمسكون، يعني يبخلون لأن الله يعطي الناس عطايا عجيبة هائلة جدًا، فلذلك لا تفكر؛ فلان ماذا عنده؟ وفلان ماهي ممتلكاته؟ وإنما اسأل الله من فضله، ترى واحداً عنده أموال كثيرة تقول: يا رب ارزقني مالًا وأغنني ولا تطغني، ترى واحداً عنده علم، تقول: اللهم علّمني، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]. تسأل الله من فضله ويذهب ذهنك إلى فضل الله أو إلى نعم فلان وفلان، أيضاً من ضمن العلاجات فيه علاجات وقائية مثل الواحد فينا يدفع الحسد عن نفسه حسد الآخرين.
وكذلك يحاول أن يخرج الحسد من قلبه بأن لا يكون حاسدًا فمن ضمن العلاجات الوقائية الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد، فلذلك الرسول ﷺ حثّ على قراءة المعوذات، ومنها: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق [الفلق: 1]. وحث على قراءتها قبل النوم وفي أدبار الصلوات وفي الصباح والمساء، حث عليها في اليوم الواحد، إذا الواحد طبّق السنة قد يذكرها تسع مرات، هذه قل أعوذ برب الفلق، فكل يوم تصور تسع مرات، تستعيذ بالله من شر حاسد إذا حسد، وهذا الدعاء يدفع الله به عنك شر الحساد.
وقال بعض السلف: "علاج الحسد الرضا بالقضاء والزهد في الدنيا" وتفكُّر ما يعقب النعمة من الهم وحساب الآخرة، الآن بعض الناس يتمنى أن يكون ملكاً، ويتمنى أن يكون غنياً، ويتمنى أن يكون رئيساً، لكن لو تفكر في المصائب التي عند رئيسه في العمل، والبلايا التي تصادف المصاعب التي تواجه الحاكم أو الرئيس لزهد فيها، يعني إذا تصور المشاكل التي هو فيها لتمنى ألا يكون مثله، كذلك إذا تفكر في أموال فلان يقول: هذا الله سيسأله يوم القيامة عن كل ريال عمله، واحد عنده مئتي مليون، ثروة، إذا تصور الإنسان أن هذا الله سيسأله يوم القيامة ويوقفه ويسأله عن كل ريال عنده، يسأله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ولذلك فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة عام، هذا الوقت الخمسمئة عام ذهب في السؤال، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 24]. فعندما يتفكر في هذه العاقبات التي تعقب النعمة هذه، ينصرف ذهنه عن تمنيه، يقول: والله ما أريد المشاكل، دع فلوسهم لهم، أنا يكفيني قناعتي ورزق الله ، ولذلك تجد بعض الناس الذين الله أعطاهم أموالاً أو رياسة إذا جئته وناقشته حقيقة وجلست معه وفتح صدره لك، لسان حاله يقول: ياليتني ما أعطيت هذه الأعطية، ليتني ما كنت في هذا الوضع الذي أنا فيه، وكذلك هذه الآية نعيدها مرة أخرى وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء: 32]. وسأل أحد السلف تلميذه فقال: "كم قضيتَ معي؟ قال: "قضيتُ معك ثلاثين عامًا" قال: "ماذا تعلّمتَ مني؟" فذكر له ستة أشياء تعلمها منه من هذه الستة يقول له: "ورأيت العداوة التي تقع بين الناس أصلها من الحسد، فاجتهدتُ حتى أخرجتُ الحسد من قلبي، حتى صار قلبي بحال لو أصاب المؤمن همٌّ في المشرق جعلت أهتم كأنه أصابني، ولو أصاب مسلم خيرًا في المغرب أُسر به حتى كأنه أتاني" [تنبيه الغافلين للسمرقندي: 468].
الصبر على كيد الحسَّاد
كذلك من علاج الحسد الصبر على كيد الحساد، قال بعض الحكماء: يكفيك من الحاسد أن يغتمّ في وقت سرورك" وقال:
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله | فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله |
[أدب الدنيا والدين: 270].
هذا الحسد في قلب الحاسد مثل النار تستشري، فإذا ما صار له طريقة ينفّس فيها الحاسد، هذا يأكل بعضه بعضًا لذلك تجد عنده السكر والضغط وهذه الأمراض الآفات كلها بسبب هذا الحقد وهذا الحسد الذي في نفسه.
أن يتفكر الحاسد بالضرر الذي سيحدثه
وكذلك لا بد أن يتفكر الحاسد بضرر هذه القضية عليه في الدنيا والآخرة، ويتفكر أيضًا بأنه مهما حسد فهذا الشخص صاحب النعمة لن تزول نعمته إذا ما قدّر الله له ذلك، يعني إذا قدّر الله أن تبقى النعمة فلو حسد من الآن إلى آخر الدنيا، لن تزول النعمة عن الشخص المحسود، لو تفكر في هذا يمتنع عن الحسد.
وكذلك لو يتفكر أيضًا فيما يصيبه في الآخرة من العقوبات على هذا الحسد، فإنه أيضًا يتوقف عن الحسد، ومثل بعضهم الحاسد قال: مثل الحاسد مثل رجل رمى عدوه بحجر فارتد الحجر على عينه اليمنى فقلعها، فرماه بحجر آخر فارتد الحجر على عينه اليسرى فقعلها، ثم رماه بحجر ثالث فارتد على رأسه وشدخه فهلك؛ بسبب حسده.
أن يُلزم الحاسد نفسه بالتواضع
فمن علاجات الحسد كذلك أن الإنسان إذا كان الحامل على الحسد في نفسه الكبر، يتكبر على الناس، ولذلك يحسدهم، فإنه يُلزم نفسه بالتواضع، وكذلك إذا لاحظ أن سبب الحسد هو الحقد والقدح في فلان وفلان وذمّهم، فإنه يُلزم نفسه بالثناء عليهم، يعني عكس الذي تهواه نفسه يفعله، وإذا لاحظ أن الحسد يسبب أن يكفّ من إنعامه على المحسود، يهديه ويعطيه، فلما صار عنده حسده، فيُلزم نفسه باستمرارية العطاء.
كتم الحوائج وعدم إظهارها للجميع
وكذلك من العلاجات حديث عظيم، حديث صحيح يقول الرسول ﷺ فيما يرويه معاذ بن جبل عنه: استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان - بكسر الكاف - فإن كل ذي نعمة محسود حديث صحيح. استعينوا على قضاء حوائجكم)) حديث ضعيف، الحديث الصحيح الذي يغنينا عنه: استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود [رواه الطبراني في الكبير: 183، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 943].
كيف؟ يقول شارح الجامع الصغير عبد الرؤوف المناوي: يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرشد الناس بكتم الحوائج، يقول: "لأنكم إذا أظهرتم حوائجكم إلى الناس حسدوكم" [فيض القدير: 1/493].
مثال: واحد يخطط يفتح مشروعاً، لو جلس يتكلم بهذا في المجالس، أنا أريد أفتح مشروعاً وأعمل كذا وأعمل كذا، ويكون لي الربح الفلاني، هذا يسبب حسد الناس له، فيؤذونه بما قد يزيل هذه النعمة ويعرقلون عليه مشاريعه ويفسدون عليه خططه.
وكذلك يجب على المخلصين من أهل الإسلام الذين يدعون إلى الله - عز وجل - أن يكتموا حوائجهم؛ حتى لا يعلم بها أعداء الإسلام فيفسدونها، الآن تكلمنا أن اليهود والنصارى يحسدون أهل الإيمان ويودون لو أنهم يقضون عليهم بأي وسيلة، فلو أن المخلصين من المسلمين أذاعوا ما عندهم وأعلنوا حوائجهم، فهذا يكون ذريعة للكفار للقضاء عليهم؛ لأنهم أصحاب نعمة؛ نعمة الإسلام، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم محسودون على هذه النعمة، فلذلك قال رسول الله ﷺ: استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود [رواه الطبراني في الكبير: 183، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 943].
فلو قال إنسان: "الله يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]. هل يتعارض هذا مع الحديث؟ نقول: أنه لا يتعارض والحمد لله، فإن نصوص القرآن والسنة لا تتضارب ولا يقع التناقض فيها والحمد لله، فإنها كلها منزلة من عند الله - جل وعلا -، فإن قال إنسان: كيف يكون ذلك؟ نقول: الإخبار بالنعمة المطلوب إنما يكون بعد وقوعها وثباتها، يعني: بعد وقوعها وثباتها وتأكدها ورسوخها وحصولها في الواقع على الأمر الذي لا يزول إلا بأمر الله - جل وعلا - عند ذلك تحدّث بها، فلو علمتَ أن حاسدًا من الممكن أن يحسدك؛ لأنك تذاكر خمس ساعات في اليوم أو أربع ساعات - مثلاً - فلا تتكلم بعدد ساعات المذاكرة أمامه، وأنت تعلم أنه حاسد ولا تتكلم بنعمة الله عليك في القدرة على التركيز إلا بعد أن تنجح ويستقر أمر نجاحك وتظهر النتيجة، وتتيقن أنك نجحت عند ذلك تخبرهم ولا بأس، وأيضًا لا تخبر بالأشياء إلا من تحب؛ لأن الناس الذين يحبونك لا يحسدونك، فلا تخبر بنعم الله عليك ولا بحوائجك إلا من تحب، وكذلك إذا شعرت بأن إخبارك بالنعمة سيسبب كيد الحسّاد على اليقين فلا تخبر بها؛ لأن الأمر بالتحدُّث في هذه النعم على وجه الاستحباب أو لو قلنا على سبيل الوجوب، فإنه لو حدث مفسدة أكبر من هذا الواجب، فيكون العمل بهذا الواجب مؤجلاً إلى فترة أو غير معمول به في هذا الوضع وهذه الحالة الذي تتأكد فيه المفسدة.
وكذلك يوصي الله - جل وعلا - الناس جميعاً، يقول على لسان الرسول ﷺ: وكونوا عباد الله إخواناً لما قال ﷺ: لا تتحاسدوا ولا تدابروا قال: وكونوا عباد الله إخواناً [رواه البخاري: 6064، ومسلم: 2558]. فالإخوة والإخوان كما وصفهم الله - جل وعلا - وصفهم بأنهم إخوان وبأنهم إخوة في القرآن الكريم لا يحصل بينهم حسد، ومن ضمن هذه الأشياء ونهى الإسلام أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ونهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه" من هذا الباب؛ لأنه قد يحسده على خطبته فيروح يخطب على خطبته أو يحسده على هذه البيعة الموفقة التي باعها فيبيع على بيعه فيحسده، فنهى الإسلام وقطع دابر الشر فمنع بيع المسلم على بيع أخيه وخطبة المسلم على خطبة أخيه، هذه أشياء ذكرناها عن قضية الحسد، ولكن نقول مع ذلك بأن المسألة صعبة جداً، يعني ليست سهلة إلا على من يسر الله جل وعلا سلوك هذا السبيل المستقيم عليه فإنه يوفقه، من الأدلة على أنها صعبة حديث نختم به الكلام رواه أحمد والبغوي بإسناد حسن أن رسول الله ﷺ قال في مجلس بين الصحابة: يطلع عليكم من هذا الفج الفج يعني: الطريق الواسع، يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة فطلع رجل فبعض المسلمين أحب أن يعرف فذهب فقال له: أنا أريد أن أجلس عندك وأعرف ماذا تفعل؟ أو قال له: إني لاحيت أبي، خاصمته وأقسمت ألا أدخل عليه البيت ثلاثاً، فإن شئت أن تؤيني في بيتك فعلت" يعني: جئت، فقال: أهلاً وسهلاً، ذهب معه البيت وجلس ثلاثة أيام، جلس يلاحظ هذا الرجل الذي جزم الرسول ﷺ له بأنه من أهل الجنة، وبشّره بالجنة قبل أن يموت ماذا يعمل؟ فوجد أنه ما يقوم من الليل وأعماله طبيعية، ما له حظ من زيادة عمل، ففي نهاية اليوم الثالث قال له: يا فلان إنه لم يكن بيني وبين أبي ملاحاة" ما صار بيني وبين أبي شيء "ولكن أحببت أني أعرف أنت ماذا تفعل"؟ يعني لماذا قال الرسول ﷺ: إنك من أهل الجنة وأنا ما شفت منك أعمالاً فقال له: "إني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشًا ولا حسدًا على خير أعطاه الله إياه" لكن الصحابي هذا فقه قال له: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق، قال له: هذه التي بلغتك الجنة وهي التي لا نطيق" يعني فعلاً يا جماعة، إذا كون الواحد تسلم نفسه تمامًا 100% من الحسد وعدم تمني زوال النعمة عن الآخرين، وأن لا يجد في نفسه حقداً ولا بغضاء على أحد من المسلمين، هذه قضية صعبة جدًا، فلذلك لأن نفس هذا الصحابي طهرت منها فبُشّر بالجنة لهذه النتيجة، فنسأل الله - جل وعلا - أن يوفقنا وإياكم لتطهير أنفسنا من هذا الحسد والابتعاد عما يغضبه جل وعلا.
نصيحة للمعلمين والمربين
وأود أن أنبه كذلك إلى أمر ينبغي على المعلمين والمربين أن يجتنبوا إدخال الحسد على نفوس من يعلمونهم ويربونهم؛ لأن بعض الأحيان يكون الشخص هو سبب الحسد بين الناس، يعني معلّم في الفصل مدرس في الفصل أو مربي مع أناس يربيهم، إذا عامل المدرس في الفصل، إذا عامل واحداً من الطلبة معاملة متميزة على باقي الطلبة من غير سبب وجلس يثني عليه في الفصل ويكرمه ويعطيه جوائز وعلامات وأشياء ويخصه بالأمور الخاصة، هذا يسبب إشاعة الحسد في نفوس باقي الطلبة، صح أن المفروض أنهم ما يجدوا في أنفسهم لكن المفروض كذلك المفروض أن المعلم ينتبه لهذه النقطة، ولا يفعل هذه الأفعال التي تدخل الحسد بالقوة في نفوس الناس، وكثير من المخلصين يشتكون أحياناً إلى معلميهم يقول: أنت اللي أدخلت الحسد في نفسي، أنت جالس تعامل فلاناً غير ما تعاملني وتعامل فلاناً وفلاناً وفلاناً فأنت الذي سببت لي أن أحسده وأن أعاديه وأن أبغضه، وقد يكون فعلاً، قد يبوء هو بنصيبه من الإثم، قد يبوء هذا المعلم بنصيب من إثم الحاسد؛ لأنه هو الذي تسبب بهذا الحسد، فأيضًا الواجب الانتباه إلى هذه المسألة في عملية التعليم والتربية، وفقنا الله وإياكم، وصلى الله على محمد.