المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه هي المجموعة الثانية من سلسلة الآداب الشرعية، وقد مضت مجموعة أولى، كنا قد انتهينا منها في سلسلة سابقة في عام مضى.
وهذا الموضوع أيها الإخوة وهو موضوع الآداب عظيم؛ لأن الإنسان لا يخلو منه في حياته أبدًا في حركاته وسكناته، بل حتى إذا خلا بنفسه، وهو لا يخلو إما أن يكون في علاقة مع الله ، فالأدب بعلاقته مع الله، أو مع الخلق، الأدب معهم، أو مع النفس، الأدب مع النفس.
وقد سبق تعريف الأدب في السلسلة الأولى، وبيان أمور تتعلق به.
وفي هذه المجموعة الثانية، سنتحدث عن مجموعة أخرى إن شاء الله عن عدد من الآداب، ونستهل ذلك بأدب الحوار في هذا الدرس.
تعريف الحوار
أما بالنسبة للحوار، من حار يحور إذا رجع.
والمحاورة الجواب.
والحوار، هو تراجع الكلام، والتجاوب فيه، بالمخاطبة والرد.
وقد ذكر الله حوارات في كتابه العزيز.
وهذه اللفظة وردت في قوله تعالى: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ[الكهف: 34].
وفي قوله : وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا[المجادلة: 1].
وهذه الحوار خطاب وكلام.
وقلنا: بأن حار، عدل ورجع.
وهذه الحوار يعيد فيه الشخص ويبدي.
والمحاورة مراجعة وكلام في المخاطبة، وهي مجاورة وتجاوب، فمراجعة منطق والكلام في المخاطبة، يسمى: حوارًا.
الفرق بين الحوار والمناظرة والجدال والمحاجة
والفرق بين الحوار والمناظرة والجدال والمحاجة: أن الحوار أعمها جميعًا، وتدخل فيه؛ لأنها كلها تشترك معها في أنها مراجعة في الكلام، ومداولة له بين طرفين، فهي تدخل في معنى الحوار من هذه الجهة، ثم تفترق المناظرة في دلالته على النظر والفكر، والجدال والمحاجة في دلالتها على المخاصمة والمنازعة.
أهمية الحوار وفوائده
وأهمية الحوار في حياتنا كبيرة جداً.
فمن جهة: نحتاج أن نعرف أدب الحوار؛ لأن الدعوة إلى الله تحتاج إلى الحوار، حوار الداعي مع المدعو، والله قال: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل: 125].
وهذا أمر بالحوار في الدعوة.
ثانيًا: الوصول إلى الحق، وهذه أمنية وهدف عظيم أن يصل المسلم إلى الحق.
وثالثًا: الرد على أهل الباطل، وهذا يتم بالحوار، وإقناعهم، وهو فرع من الدعوة التي تقدم الحديث عنها.
وعلى سبيل المثال -الآن- المنافقون في عصرنا يتكلمون في تحرير المرأة، ويدلون بحجج واهية، لكن لا بدّ من الحوار مع هؤلاء لإسقاط هذه التي احتجوا بها وبيان وهنها، فمثلاً يقولون: لماذا تنكرون الاختلاط وهناك اختلاط في الحرم -مثلاً-؟
فنقول: فرق بين الاختلاط العارض، والاختلاط الدائم، فهذه حال امرأة تدخل الحرم، لكي تؤدي العمرة والحج في هذا الطواف والسعي، ثم بعد ذلك تنفصل عن الرجال في الصلاة.
ثم أنتم تقولون: تختلط في الأعمال وأماكن الدراسة والعمل طيلة العام فأين هذا من هذا؟
ثم هذه عبادة أقل شيء أن الإنسان يستحي فيها من أن يعمل شيئًا محرمًا، أو تتبرج وتتزين، أو تغري، أو أن ينجذب إليها الناس الفسقة، وغيرهم.
ثم أين هذا من وقوع ذلك يوميًا وباستمرار في الأعمال والدراسات، وأماكن الدراسة، ونحو ذلك.
ثم هذا الاختلاط في تلك الأماكن لا يخلو من زينة ودنيا، بخلاف ما يحدث في الحرم من الدين والعبادة، ونحو ذلك من أوجه الرد.
والشاهد: أن المسألة مسألة حوار، هنا للرد عليهم، عندما تأتي امرأة صفيقة من هؤلاء لا تضع حجابًا لا على وجهها، ولا على شعرها، وتقول: لماذا تأمروننا بتغطية الوجه وكشف الوجه مذهب الأئمة الثلاثة -مثلًا-؟
فنقول: أولًا: من سمح لك أن تتكلمي في الفقه؟ ما علاقتك أنت بقضية الأحكام الشرعية؟ من الذي يتكلم في الأحكام العلماء وطلبة العلم؟
أما هذا الفاسق، وهذه الفاسقة، من هؤلاء المنافقين والعلمانيين، ما دخلهم بالعلم الشرعي؟ هل يجوز لهم أن يتحدثوا ويدخلوا في القضية، ويرجحوا وينظروا في الأدلة؟ ثم هل يريدون الوجه فقط؟
الذي يناقش من أرباب الشهوات، لا يريد الوجه فقط، هو يريد ما بعد الوجه، كشف الشعر، وبقية الجسم، والاختلاط، إلى آخره.
فإذًا، يريدون مسألة الوجه، الكلام فيها، للتوصل إلى ما بعدها من الفساد، وهكذا..
فالمقصود -الآن- أننا نحن في الواقع نتعرض لكلام هؤلاء، ويجب أن نجيب عليه، ونقوم بالحجة، وقد ندخل في حوارات مع هؤلاء، ولا بدّ أن يكون لهذه الحوارات شروطًا وآداباً.
ثم أننا نعيش أيها الإخوة حقيقة في عصر قد كثرت فيه الآراء والاجتهادات، والوصول إلى تنقيح هذه الآراء معرفة الصواب منها يحتاج إلى حوار.
نحن -الآن- في أمر مريج، قلة في العلم، وكثرة في القضايا، عندنا مشكلة -الآن- كبيرة، قلة العلم، وكثرة القضايا المطروحة، وهذا لا شك يحتاج إلى إجادة الحوار.
ثم من فوائده أيضاً: التعليم، فهناك حوارات تعليمية، كما حدث بين النبي ﷺ وجبريل في الحوار في الحديث المشهور "حديث جبريل" [رواه البخاري: 50، ومسلم: 106].
وهذا الذي ندعو إليه الشباب في إقامته كبديل نافع عن التمثيليات التي فيها شبهات من الكذب، أو تقمص الشخصيات، أو إدعاء أشياء، ونحو ذلك، فنقول لهم: إذا أردتم بديلاً عن التمثيليات التي فيها كلام كثير، فأعطونا الحوارات العلمية، أو الحوارات المفيدة، أقيموا حوارًا بين اثنين أو أكثر يظهر فيه تعليم أمور نافعة، بدلا من هذه التمثيليات التي قد لا يكون فيها غناء، أو يكون في بعضها حرمة، وفي بعضها شبهة، وكذلك فإن الحوار فيه استرجاع للصفاء عند حصول الشحناء، فإن مما يزيل الشحناء الحوار، المعاتبة، والمعاتبة حوار؛ لأن كلاً من الطرفين سيبدي معذرته، ولماذا فعل ما فعل، وإزالة الشحناء والبغضاء بالحوار، ولمعاتبة هي نوع من الحوار.
بعض الحوارات في الكتاب والسنة
حوار الله مع ملائكته
والله قد ذكر في كتابه العزيز حوارات -كما تقدم- فمن ذلك: الحوار الذي دار بينه وملائكته الكرام: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[البقرة: 30 - 33]. فهذا حوار.
حوار نوح مع قومه
كذلك دارت حوارات بين الأنبياء وأقوامهم، وهذه كثيرة جدًا: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [نوح: 5- 7] الآيات.
وبسبب هذه الحوارات دخل ناس في دين الإسلام.
والآن على شبكة الإنترنت -مثلا- حوارات بين مسلمين وكفار، ينتج عنها دخول أشخاص في الدين، في الشركات والأعمال لمن ابتغى وجه الله من الدعاة إلى الله تعالى، حوارات بينهم وبين بعض زملائهم في العمل، يهتدي بها أشخاص.
أنت تريد أن تقنع شخصًا بعدم إدخال جهاز مفسد إلى البيت حوار؛ لأنه سيبدي ما عنده من الأسباب، ويقول لك: تحتوي على أخبار، تحتوي على فوائد، تحتوي على منافع، تحتوي على أشياء تعليمية، وتحتوي على كذا.
ثم أنت تبين له الأضرار والمفاسد، وتأتي مناقشات، فهذا حوار.
حوار إبراهم مع قومه
وقد كان إبراهيم الخليل ممن اشتهر بالحوار وقوة الحجة، وظهور البرهان، والقدرة على الإفحام، كما قال الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء [الأنعام: 83].
وحاور الملك الكافر: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] لما صار جدال عقيم: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ[البقرة: 258] فقطع عليه الخط، وألزمه بهذه الحجة الباهرة.
وكذلك لما حاج قومه: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ[الأنبياء: 51 - 53] هذه هي الحجة، قال: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ؟قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء: 54- 56].
ولما كسر الأصنام استدعي إبراهيم للتحقيق: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ[الأنبياء: 62 - 64] الآيات.
حوار موسى مع فرعون
وموسى كان له حوارات مع فرعون، ومؤمن آل فرعون كان له حوار جميل جداً، ذكره الله في سورة المؤمن.
الحوارات من السنة
ونبينا الخاتم ﷺ سيرته العطرة زاخرة بالمواقف، وحواراته مع المشركين، وغيرهم، ولما حاور عتبة بن ربيعة، وقال: قل يا أبا الوليد أسمع؟ وانتهت بأن مضى عتبة فزعًا مما سمع [انظر: سيرة ابن إسحاق: 4/187، وحسنه الألباني في فقه السيرة، ص: 106].
وكذلك لما جاءه ضمام بن ثعلبة وافداً إليه ﷺ دخل المسجد وقال: أيكم محمد؟ فقال الصحابة: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: يابن عبد المطلب: قال النبي ﷺ: قد أجبتك، قال: إني سائلٌ فمشددٌ عليك في المسألة فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: اسأل ما بدا لك، قال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء وبسط الأرض ونصب الجبال أألله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاةً في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ وسأله عن الحج، فلما ولى قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن [رواه البخاري: 63، ومسلم: 111].
حوار ابن عباس رضي الله عنهما مع الخوارج
وسار الصحابة على هدي نبينا ﷺ في الحوارات والمناظرات
ابن عباس يسمع جميع الشبه
ولما خرج الخوارج على علي واعتزلت الحرورية في حروراء، قال ابن عباس لعلي : يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة؟ آخر الصلاة قليلاً، فلعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك، قال: قلت: كلا إن شاء الله، فلبست أحسن ما أقدر، ثم دخلت عليهم، وهم قائلون في نحر الظهيرة -قيلولة- فدخلت على قوم لم أر قومًا أشد منهم اجتهادًا -يعني في العبادة- أيديهم كأنها كفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود.
فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس ما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم على أصحاب رسول الله ﷺ نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، قال بعضهم: لا تحدثوه، هذا من قريش، الذين قال الله فيهم: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ[الزخرف: 58].
وقال بعضهم: لنحدثنه، قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله ﷺ وختنه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول اللهﷺ معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثًا.
قال: وما هن؟
قالوا: أولهن: أنه حكم الرجال في دين الله.
رضي بالحكمين، عمرو من طرف معاوية وأبي موسى، وجعل أبا موسى من طرفه، حكم الرجال في دين الله، وقد قال الله -تعالى-: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [يوسف: 40].
قلت: وماذا؟
لا بدّ من استخراج الشبه كلها قبل الجواب؛ لأن ذهن السامع ينشغل بشبهه، حتى لو سمع جواب الشبهة الأولى.
قال: وماذا؟
قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم؟
يعني قاتل معاوية، وقاتل في الجمل، ولا أخذ سبي ولا غنائم، كيف جهاد، قتال من غير سبي ولا غنائم؟ لئن كانوا كفارًا، لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماءهم، لماذا قاتلهم أصلاً؟ قلت: وماذا؟
قالوا: محى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم، وحدثتكم عن سنة نبيكم ما لا تنكرون أترجعون؟
قالوا: نعم.
مسألة التحكيم
قال: أما قولكم: إنه حكم الرجال في دين الله، فإن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ[المائدة: 95] هو ما ذكر إذا صدت أرنبا تدفع كذا، وإذا صدت غزالا تدفع كذا، وإذا صدت حمامة تدفع كذا، قال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ.
وقال في المرأة وزوجها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [النساء: 35].
أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم الذي فعله علي وقال: هاتوا حكما، ونجتمع ونتصالح؟ أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟
قالوا: في حقن دمائهم، وصلاح ذات بينهم، رجعوا.
قال: أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
مسألة قتال علي بدون سبي ولا غنم
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم؟
الآن حصل أنه كان في الطرف الآخر في القتال في الجمل عائشة، أتسبون أمكم؟ ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ تأخذون عائشة في السبي فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أمكم فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] فإذا قلتم: لستم أمنا كذبتم الله، وإذا قلتم: أمنا تسبون أمكم وأنتم مترددون بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم؟ أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
الجهاد في الإسلام والقتال، يكون لأسباب، فمنها جهاد الكفار الذين رفضوا الإسلام، وأن ينتشر في بلادهم، ووقفوا سدًا أمام الدعوة، فيقاتلون لكسر شوكتهم، ليكون الدين لله.
لكن لو فتحوا لنا بلادهم، قالوا: ادخلوا إلى بلادنا، واحكموها بالإسلام، ما نقاتل.
لكن لو قالوا: لا تدخلوا بلادنا، ولا تحكموها بالإسلام، نقاتلهم: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه[الأنفال: 39].
قتال آخر، وهو: قتال الدفع.
إذًا في جهاد هجومي، وجهاد دفع.
والذي ينكر الجهاد الهجومي، كذاب أشر، منهزم، بغيض، سفيه، جاهل؛ لأنه ما فعل الصحابة في عهد عمر بن الخطاب؟ جهاد فارس والروم هذاك هجومي، وهذاك دفاعي، فارس والروم هجموا على المدينة، الذي ينكر أن في الإسلام جهاد هجومي: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه[الأنفال: 39] مثل ... الانهزام، العقلانيين، أصحاب المدرسة التنويرية الذين ينكرون الجهاد الهجومي على الكفار، ما الذي حملهم على ذلك؟
الانهزام، هزيمة نفسية.
فقالوا: وين نودي وجوهنا من الكفار؟ يقولون: أنتم تهاجمون وتظلمون؟
فإذًا، الجهاد في الإسلام فقط للدفاع عن النفس.
وماذا فعل النبي ﷺ والصحابة؟ كانوا يفعلون الباطل والظلم والاعتداء على الناس؟
فتبًا لهم.
وهناك جهاد الدفع، إذا هاجم الأعداء يلزم دفعهم وجهادهم.
وهناك قاتل شرعي، مثل لو خرج طائفة على إمام المسلمين وخليفتهم، فعند ذلك إذا أبوا الرجوع، وتسلحوا، يقاتلون لإرغامهم على الدخول في بيعة الخليفة: إذا بويع خليفتان فاقتلوا الآخر منهما[رواه مسلم: 4905] هذا قتال شرعي، يعني بين مسلمين لكن قتال شرعي.
وعلي قاتل من هذا الباب، ولا يلزم أن يكون قتال لعلي لمن خرج عن بيعته، وهو الخليفة، ما يلزم يكون مثل جهاد المشركين الذي فيه سبي وغنائم، لكن الخوارج ما فهموا هذا، فسووا، قالوا: علي قاتل معاوية؟ وقاتل عائشة؟ لماذا ما أخذ غنائم للمسلمين؟
مسألة تنحي علي عن كلمة أمير المؤمنين
قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله ﷺ دعا قريشًا يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه كتابًا، فقال للكاتب وهو علي : اكتب، هذا ما قضى عليه محمد رسول الله فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وقاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال: فوالله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا علي؛ محمد بن عبد الله ورسول الله ﷺ كان أفضل من علي، فلما جاء علي يكتب الصلح بينه وبين معاوية، وقال: كتب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ورفضت كلمة: أمير المؤمنين، وتركها علي، لأجل الصلح، وهذا رسول الله ﷺ ترك كتابة رسول الله، للمصلحة الشرعية، ولعقد الصلح الذي أمره الله به، أيهما أعظم؟ ورسول الله كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. [المستدرك على الصحيحين: 2656، والبيهقي في السنن الكبرى: 6740، والنسائي في السنن الكبرى 8522].
ضوابط الحوار وآدابه
العلم بالمسألة المتحاور فيها
قبل الدخول في الحوار، في أي حوار، لا بد من علم بالمسألة التي يكون الحوار عنها، وتكون محور الحوار، وإذا لم يكن الإنسان ذا علم بما يحاور من أجله، فلا يجوز أن يدخل في الحوار أصلا، قال الله -تعالى-: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ[الحـج: 8].
فبعض الناس يدخلون في حوارات بدون علم، فيفسدون أكثر مما يصلحون؛ لأنه إما أن ينزلق الإنسان بغير علم، والكلام في دين الله بغير علم، وهذه مصيبة، أو أن يخرج الطرف الآخر منتصرًا عليه، وهذه مصيبة وكارثة أخرى، أن صاحب الباطل يخرج منتصرًا، لأن صاحب الحق، دخل في الحوار دون إعداد، دون علم.
فإذًا، لا بدّ من علم بشرع الله المطهر، كتابا وسنة، وبالواقع الذي يتعلق بالموضوع الحوار والنقاش، قال لأهل الكتاب: هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[آل عمران: 66].
فهم حجج الطرف الآخر فهماً صحيحاً
ثم لا بدّ أن يكون هناك حسن فهم لحجج الطرف الآخر، وأدلته، وأقواله، والخلفيات المؤثرة في واقعه، وتصرفاته.
وفي كثير من الأحيان يتحاور الطرفان، ويطول الحوار، وتتشعب المسائل، ويستمر الخلاف، ولا يصلان إلى نتيجة، والسبب: أن كل واحد منهما لم يفهم مراد الآخر.
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا | وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ |
ولذلك لا يرد أحد أبدا على آخر حتى يفهم كلامه، إذا لم يكن لك حسن فهم؛ أسأت إجابة، وأسأت فهما.
ولذلك كيف الإنسان يناقش ويدخل في حوار وهو لم يفهم مراد الطرف المحاور؟
فسماع حجج الطرف الآخر، نصف الطريق، ولا بدّ من هذه الخطوة.
ومن أسباب سوء الفهم في النقاشات التي تحدث بين الناس عمومًا وبين الشباب، وبين الدعاة والمدعوين، وين الدعاة وبعضهم البعض، وبين العامة وبعضهم البعض: إما أن يكون راجع إلى قلة العلم، أو يأخذ جزء من حديثه، ويترك أجزاء.
فتجد الواحد أول ما يسمع كلام الثاني، يقول: بس، وقف.
ثم ينهال عليه، ولم يسمع بقية كلامه، سمع جزءًا ولم يسمع الآخر، ثم يكون ما رد عليه موجود في كلامه الآخر، وليس هو موضوع النقاش أصلاً، ولو أنه تأنى وسمع الباقي، لاكتفى ضياع وقت كثير.
ثم أحيانًا من أسباب سوء الفهم: أن الإنسان يقرأ أقوال الآخرين، أو يسمعها من خلفيات عنده معدة مسبقًا، يحمل عليها أقوال الآخرين حملاً، عنده خلفيات مسبقة، كأن تسمع من شخص أشياء، ثم تأتي تتناقش معه، فكل كلامه تفسره بناءً على ما سمعت عنه، وقد يكون ما سمعت عنه غير دقيق، وغير صحيح، فتبدأ من باب اتهام النيات، تفسر كلامه على ما في ذهنك أنت، ولا تتجرد، بحيث تفهم كلامه على حقيقته، والإنسان لا يخلو من خلفية معينة عند نقاش، مع أي شخص.
وأحيانًا يكون سبب سوء الفهم: عدم اللقاء بين المتحاورين، وإنما يعتمدان على المراسيل، وعلى الرواة والنقلة: قل له كذا، يقول لك كذا، قله كذا، يقول لك كذا.
وقد يكون الناقل غير دقيق، فيسيء النقل من هذا لهذا، ومن هذا لهذا، فيزداد الفرقة، وتعظم الهوة بينهما، لو أنهما التقيا في مجلس واحد لاتضحت لديهما الصورة، وزال اللبس.
ولا يلزم أن يكون اللقاء علنيا، أمام الناس، إذا لم يكن من المصلحة النقاش أمام العامة، ليكن في مجلس خاص.
ثم أحيانا من أسباب سوء الفهم: الاختلاف في استخدام الألفاظ والمصطلحات، وقد يستخدم إنسان مصطلحاً الآخر يفهمه فهما آخر، فأحياناً لا بد من تعريف المصطلحات قبل النقاش.
قصة لطيفة
وهذه قصة لطيفة حصلت في مجلس زواج عند القاضي، جاءت المرأة وأبوها، وجاء الشخص الذي يريد الزواج، ومعه شهود، وأخوه، وجلسوا عند القاضي، قال القاضي لأبي الفتاة: ابنتك هذه بكر؟ قال: لا، فهذا الشاب يقول: اسقط في يدي، وكأن الشيطان صار جالساً بجانبي، وجلست أضرب أخماساً في أسداس، كيف يقول الآن البنت .. الآن أنا أبغى نتزوج، وهم أعرف بأنه ما سبق لها الزواج، والآن القاضي يقول له: بكر؟ يقول: لا، يقول: وتلون وجهي بجميع الألوان، وصرت في أمرٍ مريج، وكأن صاعقة وقعت في المجلس، ووجم الناس والشهود، فوجئ الجميع بهذه العبارة، يقول: حتى تدخل واحد بنباهته، وقال: يا أخ فلان، لأبي البنت: عفواً ما تعريف كلمة بكر عندك؟ قال: بكر، أي: أول الأولاد، قال القاضي: يا أخي! لكل مقامٍ مقال، نحن الآن ما نسألك عن بكرك، يعني بنت أول أولادك؟ نحن نقول: البنت بكر؟ قال: إيه، هذه بكر.
وسبحان الله! الواحد قد يفهم بوجهٍ غير الوجه الذي يفكر فيه الآخرون.
فلا بد من تفسير المصطلحات؛ لأنه أحيانا يكون النقاش في الجدال عقيماً بسبب كل واحد يفهم الكلمة فهما.
لو وحد المفاهيم اختصروا جزء من الوقت.
تحديد الأصول والمراجع عند الاختلاف
ثم النقاش حتى يكون مفيدا، لا بد أن يكون هناك أصول يرجع إليها، والأصول التي يرجع إليها في النقاشات -وخصوصاً النقاشات العلمية- يرجع إلى الكتاب والسنة بطبيعة الحال؛ لأن الله قال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى: 10]. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[النساء: 59].
فلا بد أن يكون هناك تسليم بهذا، وليس إذا أتيت له بآية، قال: لا. أنا ما..
كما قال الشيخ عبد الرحمن عبد الصمد رحمه الله قال: لما أراد أن يناظر واحداً من الصوفية في بلاد الشام، فدخلوا في قضية الاستغاثة بالأموات والمقبورين، فقال الشيخ: يعين هذا الميت الذي تقولون عنه ولي، هو إنسان بشر لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وكيف يملك لكم أنتم نفعاً، كيف يملك لغيره نفعاً وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟ قال: بلى عنده ما عنده، فأتى الشيخ بالآية، وقال: قال الله -تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ[الأعراف: 194] فقال ذاك الصوفي: يا ابني هذه آية وهابية إيش لك فيها؟
فسبحان الله! صار القرآن مقسماً إلى قرآن وهابية، وقرآن صوفية، وقرآن.. مصيبة!.
فإذًا، لا بد أولاً من التسليم بالمرجع، يعني نحتكم إليه، إذا تنازعنا.
الآن نجري حوارا ونقاشا، جميل، لكن إذا تنازعنا، ما هو الفيصل؟ والمحتكم إليه؟ والحكم بيننا؟: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59].
مناظرة بين الشافعي وإسحاق رحمهما الله
ولذلك لما جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق رحمهما الله، تناظرا في كراء بيوت مكة، ما حكم تأجير بيوت مكة؟ والمسألة الأخرى؛ ما حكم تملك بيوت مكة؟ هل يجوز أو أن الإنسان يأتي يسكن وإذا انتهت حاجته يمشي، ويأتي واحد آخر، ما في بيع؛ لأن هذا المكان لمن جاء للحج والعمرة، ونحو ذلك.
منهم من منعه، ومنهم من أجاز، ومنهم من أجاز البيع، ومنع الإجارة، يعني البيع ينتقل إلى غيره، انتهى، أما الإجارة، فهذا يمتلك البيوت فلا يجد القادم مكانا يسكن .. إلخ.
فالمهم الشافعي -رحمه الله- كان يرى جواز التملك، والإجارة، خلاص ما دام أنه ملكه فليفعل فيه ما يشاء، وإسحاق كان لا يرى ذلك، في مسألة كراء بيوت مكة، فقال الشافعي في النقاش والحوار، وعرض الأدلة، قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [الحشر: 8] فنسب الديار إلى مالكها أو إلى غير مالكها؟
الإضافة هذه: ديارهم تدل على أن هذه ملك لهم.
وقال النبي ﷺ: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن[رواه مسلم: 4724] فنسب الديار إلى أربابها أم إلى غير أربابها؟
واشترى عمر بن الخطاب داراً للسجن من مالكٍ أو من غير مالك؟ كما احتاج الدار للسجن في مكة عمر اشترى دارا من صاحبها، أليس الذي اشتراه مالكا لها؟ اشترى ملك؟ مالكا لها؟
فقال إسحاق: الدليل على صحة قولي: أن بعض التابعين قال: كذا كذا، فقال الشافعي لبعض الحاضرين: من هذا الذي يناقش؟ فقيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، قال إسحاق: هكذا يزعمون، قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك، فكنت آمر بعرك أذنيه، يعني: لو غيرك أمامي كان عركت أذنيه، أقول: قال رسول الله ﷺ، وأنت تقول: قال عطاء وطاووس والحسن وإبراهيم، وهل لأحد مع رسول الله ﷺ حجة؟
فإذًا، لا بد أن يكون هناك مرجعا عند الاختصام، أصولاً وضوابط يرجع إليها، لكي يكون الحوار مجدياً.
تحديد موضوع الحوار والحذر من التشعبات
ثم لا بد من تحديد الهدف، وتحديد الهدف مسألة مهمة، والشافعي رحمه الله كان إذا ناظره إنسان في مسألة فدخل في غيرها، قال: نفرغ من هذه المسألة، ثم نصير إلى ما تريد.
يعني: دعنا نأخذها واحدةً واحدةً.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في ذكر آداب الجدل والمناظرة: "ويكون كلامه يسيرًا جامعًا بليغًا, فإن التحفظ من الزلل مع الإقلال دون الإكثار, وفي الإكثار أيضًا ما يخفي الفائدة, ويضيع المقصود, ويورث الحاضرين الملل" [الفقيه والمتفقه، ص: 365].
وقال الجويني رحمه الله: "وعليك بمراعاة كلام الخصم، وتفهم معانيه على غاية الاستقصاء، فإن فيه أماناً من اضطراب ترتيب حصول الكلام عليك، فيسهل عليك عند ذلك وضع كل شيءٍ موضعه، وإن طول عليك كلامه -لو في النقاش الطرف الآخر أسهب، واستطرد- بعباراته الطويلة فلخص من جميعها موضع الحاجة إليه، فتحصرها عليه -يعني: تقول في النهاية: يا أخي طيب خلاصة كلامك ورأيك أنك تقول: كذا كذا، تلخيص لكلامه الطويل الذي قاله، فإن وافق على هذا التلخيص، فاشرع في نقد ما قاله وتفنيده إذا كان ضد الحق بحسب ما تعلمه أنت.
فإذًا، لا بد من حصر موضوع النقاش؛ لأن التشعبات والنقاشات الكثيرة جداً تضيع المقصود، وتدخل في متاهات، وهذا كثيراً ما يلاحظ في الحوارات العقيمة.
الإخلاص عند الحوار والمناظرة
ثم لا بدّ أن يتصف المحاور بالإخلاص، كل الأطراف، وأن يكون القصد وجه الله -تعالى-، ويخلص النية في جداله، بأن يبتغي وجه الله، وليس المغالبة للخصم.
الشافعي -رحمه الله- قال: ما ناظرت أحداً قط على الغلبة -ما دخلت في نقاش مع أحد قط ونيتي أن أغلبه قط- وإنما دخلت في النقاش للوصول إلى الحق مني أو منه، وعندي أو عنده، المقصود هو طلب الحق.
فإذا توافرت الرغبة للوصول إلى الحق لدى الطرفين وصلا إليه -بإذن الله-، لكن المشكلة أن يكون الغرض من الحوار أن ينصر الإنسان رأيه، بغض النظر عن كونه خطأً أو صحيحاً، ولذلك لا بد أن يدخل الإنسان ساحة الحوار وهو يبحث عن الحق، حتى لو كان عند خصمه، قال الله -تعالى- في حوار أهل الكتاب: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[سبأ: 24].
وينبغي أن يكون المحاور ليس عنده فرق بين أن يظهر الحق على يده أو على يد الآخر، المهم الوصول إلى الحق.
ومن إخلاص الشافعي رحمه الله قال: "ما ناظرت أحدا قط على الغلبة، ووددت إذا ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه".
وقال: "ما كلمت أحدا قط إلا وددت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ". [المجموع شرح المهذب: 1/28].
وهذا تجرد صعب، لكن من أراده وفقه الله تعالى إليه.
بل ربما وصلت القضية إلى أن بعض المتحاورين من السلف لما تحاورا رجع كل منهما إلى الطرف الآخر، فهذا إسحاق ناظر الشافعي -والإمام أحمد موجود في المجلس- في جلود الميتة إذا دبغت، ما حكم استعمال جلود الميتة إذا دبغت؟ قال الشافعي: دباغها طهورها، إذا دبغت طهرت، يعني: تستعمل.
قال إسحاق: ما الدليل؟
فقال الشافعي: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ميمونة: أن النبي ﷺ مر بشاة ميتة، فقال: هلا انتفعتم بجلدها؟[رواه البخاري: 1492، ومسلم: 833]، فقال إسحاق: حديث ابن عكيم: كتب إلينا رسول الله ﷺ قبل موته بشهر: لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ -أي جلد- ولا عصب [رواه أحمد: 18804، وصححه الألباني في الإرواء: 38].
وهذا الحديث أشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة، حديث ميمونة يقول: هلا انتفعتم؟ وهذا يقول: "لا تنتفعوا" وهذا الثاني متأخر قبل موته بشهر، الذي فيه المنع، فقال الشافعي: هذا كتابٌ، وهذا سماع، يقول: حديثي الذي احتججت به سنده بالسماع السند بالسماع، وحديثك -يا إسحاق- بالكتابة "كتب إلينا رسول الله" يريد أن يقول: إن حديثي أقوى، السماع أقوى من الكتابة- فقال إسحاق: إن النبي ﷺ كتب إلى كسرى وقيصر رسائل وكانت حجة عليهم عند الله، فسكت الشافعي؛ لأن إسحاق أتى له بالحديث المتأخر، وهو حديث حجة ولو كان كتاباً؛ بدليل أن رسائل النبي ﷺ قامت بها الحجة على كسرى وقيصر، فلما سمع ذلك أحمد بن حنبل ذهب إلى حديث ابن عكيم، وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي، فأفتى بحديث ميمونة، يعني انتهى النقاش بأن تبنى هذا رأي الآخر، وكان قضية السكوت له اعبتار...، وإلا الإنسان ممكن أن يرد بأي كلام.
المناظر يذكر ما له وما عليه
ثم من أدب الحوار: أن الإنسان يذكر ما له وما عليه، يعني: لو أراد أن يناقش في مسألة فقهية؛ كطهارة الدم، أو قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية وراء الإمام، أليس كلا الطرفين في المسائل الخلافية؟ أليس لكل منهما أدلة؟
بلى.
فإذًا، نورد ما لهذا القول وما عليه.
لو واحد تبنى رأي فقهي، وأراد النقاش، يأتي بما له ولما عليه، وليس له أن يخفي أدلة الفريق الآخر، هذا من الإنصاف.
من اللبس والتلبيس -إخفاء وكتم-.
ولذلك بعض الجهلة -مثلا- إذا أرادوا النقاش مع النصارى، يخفون فضائل عيسى ، يقولون: فقط نتحدث عن فضائل محمد ﷺ.
بل بعضهم يبتدع، لما رأوا الرافضة يسبون أبا بكر وعمر، قال واحد منهم:
سبوا علياً كما سبوا عقيقكم | كفرٌ بكفرٍ وإيمانٌ بإيمان |
[الصارم المسلول على شاتم الرسول: 5/200].
واحدة بواحدة، سبوا صاحبنا، نسب صاحبكم.
فإذًا، عندما ندخل في حوار نقيم الوزن لحجج الطرف الآخر.
وفي كثير من الأحيان -خصوصاً المسائل الاجتهادية والآراء- ما تستطيع أن تقول رأي الآخر صفر، صعب جدا، لكن نقول: يا أخي هناك رأيان، وأرى أن أدلة هذا الرأي أقوى، وأرجح فقط، أما أن تقول: هذا حق، وهذا باطل، فهذا لا يأتي في المسائل الاجتهادية، وإلا ما صارت اجتهادية، وما صار الخلاف فيها سائغ، ولكن نتكلم الآن على قضية الرجحان.
سنكمل إن شاء الله بقية الموضوع في الحلقة القادمة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.