الأربعاء 10 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 11 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

التوسم والفراسة


عناصر المادة
المعنى اللغوي والاصطلاحي للفراسة
فراسة الصديق أبي بكر رضي الله عنه
فراسة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فراسة القاضي إياس رحمه الله
فراسة الإمام الشافعي رحمه الله
مسألة القضاء بين الناس بالفراسة
الأخذ بالقرائن في فقه أحكام الحوادث الكلية
القرائن في مسألة إقرار المريض بشيء لوارثه
المحاضرة الثانية
نماذج من فراسة القضاة والعلماء قبلنا
سرعة البديهة جزء من الفراسة
فراسة علي رضي الله عنه في القضاء
العلاقة بين القيافة والفراسة
العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى
أسباب تحصيل الفراسة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد، فحديثنا في هذه الليلة عن موضوع فيه شيء من العجب والغرابة، ولكنه سِمة من سمات المؤمنين، وصفة من صفاتهم، ذكرها الله في كتابه واصفاً بها المؤمنين فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر: 75].

المعنى اللغوي والاصطلاحي للفراسة

00:00:41

والتوسُّم والفراسة من صفات المؤمن، فأما الفراسة فإنها النظر والتثبُّت والتأمل في الشيء والبصر به، يقال: تفرسّتُ فيه الخير أي تعرّفته بالظن الصائب، وتفرّس في الشيء أي توسّمه، فالفراسة ناشئة عن جودة القريحة وحدّة النظر وصفاء الفكر، والفراسة هي: الظن الصائب الناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن.

والفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية.

وهي أيضاً: ما يقع في القلب بغير نظر وحُجّة، وقد قسمها ابن الأثير -رحمه الله- إلى قسمين، الأول: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه: اتقوا فراسة المؤمن ، وفي إسناده ضعف، ولكن معناه صحيح، أن للمؤمن فراسة وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس.

والثاني: نوع يُتعلّم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرض به أحوال الناس، وفراسة المؤمن معتبرة شرعاً في الجملة لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ  [الحجر: 75].

الفراسة نظر القلب بنور يقع فيه ويتفرّس يعني: يتثبت وينظر وفي قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ فيه أن التوسُّم هو تفعل من الوسم العلامة التي يُستدل بها على مطلوب غيرها، كما قال الشاعر يمدح النبي ﷺ:

إني توسّمتُ فيك الخير نافلةً والله يعلم أني صادقُ البصرِ

الفراسة التي هي الاستدلال بالخلْق على الخُلق.

لقد جاء عن عبد الله بن مسعود قوله: "أحسن الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا [يوسف: 21]. وابنة شعيب حين قال في موسى: يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص: 26]. [تفسير الماوردي: 3/20].

وأبو بكر الصديق حين ولّى عمر، وهذا يحتاج إلى إثبات نسبته إلى هذا الصحابي الجليل، فإن مسألة فراسة عزيز مصر في يوسف صحيحة؛ من جهة أنه لم يكن معه علامة ظاهرة، وأما بنت شُعيب -والراجح أنها بنت رجل صالح ليس بنبي الله شُعيب، وإنما هو رجل صالح غير نبي الله شعيب؛ لأن موسى لم يكن معاصراً لشعيب-، هذه المرأة كان معها علامة بيّنة، فأما القوة فعلامتها سقي موسى لغنمها وسط هؤلاء الرعاة، وأما الأمانة فبقوله لها، وكان يوماً رياحاً امشي خلفي؛ لئلا تصفكِ الريح بضم ثوبكِ إليكِ، وأنا لا أنظر في أدبار النساء، فلما رأى الريح تكشف ثوبها وهي ماشية أمامها لتدله على بيت أبيها، قال: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق" [رواه النسائي في الكبرى: 11263، والحاكم في مستدركه: 3530، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه].

فراسة الصديق أبي بكر رضي الله عنه

00:04:37

أما أبو بكر فقد عرف ولاية عمر بالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصُّحبة وطولها.

وقد كان سلفنا -رحمهم الله- فيهم من هذه الخصلة شيء كبير؛ فمن فراسة الصديق حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "نحلني أبو بكر جذاذ عشرين وسْقاً من ماله بالعالية، له نخل شجر منحها جذاذ عشرين وسْقاً؛ الجذاذ الحصاد أو القطف الذي يحصل للثمر، ولم تقبضه عائشة، وحضرت أبا بكر المنيّة وهبها إذا خرج الثمر يعطيها جذاذ عشرين وسْقاً، فلما حضرته المنية حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: "يا بُنية، إن أحب الناس إليّ غنىً أنتِ، وأعزهم عليّ فقراً أنتِ، وإني كنت نحلتكِ جذاذ عشرين وسْقاً من مالي بالعالية - المنطقة المعروفة في المدينة وفيها نخل جيد - وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه، وتُلزم الهبة بالقبض، بما أنها ما قبضته فلا زال في ملك أبيها وإنما هو مال الورثة، إذا متُ الآن لن يكون من نصيبكِ ما قبضتيه بعد، فسيكون من مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاك، الورثة، قالت: فقلت: فإنما هي أم عبد الله، يعني أسماء، أخواي عرفتهما، وأختاي ما لي إلا أخت واحدة أسماء فمن الأخت الأخرى؟ قال: "إنه أُلقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية" [رواه مالك في الموطأ: 808، والبيهقي في الصغرى: 2231، وابن أبي شيبة: 20135، وصححه الألباني في الإواء: 1619]. بنت خارجة زوجة أبي بكر الصديق قال: "أُلقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية" وهكذا حصل وصار لعائشة أخت أخرى وورثت معها.

فراسة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

00:07:04

أما عمر فإنه رجل جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وهو رجل مُلهم مُحدَّث؛ في أمتي ناس محدثون منهم عمر  [رواه البخاري: 3689]. محدّث ينطق بالحق، وما يظنه عمر يكون حقاً في الغالب وصحيحاً، هذه فراسة إيمانية، يلقيها الله في قلب من يشاء من عباده، ودخل عليه قومٌ من مُذحج فيهم الأشتر، فصعَّد عمر فيه النظر وصوبّه، وقال: "أيهم هذا؟" قالوا: مالك بن الحارث، قال: "مالَه قاتله الله، إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً" [تاريخ دمشق: 56/378]، وبعد ذلك حصل من الأشتر فتنة عظيمة على المسلمين فعلاً عرفها عمر من وجه الأشتر.

ودخل المدينة وفد من اليمن، وكان عمر مع الصحابة في المسجد فأشاروا إلى رجل من الوفد وقالوا لعمر: هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب، فكان كذلك يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة، عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك، وكان عمر يطوف بالبيت فسمع امرأة تُنْشد في الطواف:

فمنهن -يعني من النساء-

فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبرّدٍ نقاح فتلكم عند ذلك قرّت
ومنهن من تُسْقى بأخضر آجنٍ أُجاج ولولا خشية الله رنَّتِ

من النساء من تشرب عذْبا زُلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أُجاج معفن، ريحه سيئ.

فتفرّس  عمر ما تشكو؟ ماذا تريد المرأة، هذه ماذا تشكو ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه - يعني شمّ رائحة فيه - فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة، تكون في أفواه بعض الناس لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها كما يباح للمرأة طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر وتقول:

فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبرّدٍ نقاح فتلكم عند ذلك قرّت
ومنهن من تُسْقى بأخضر آجنٍ أُجاج ولولا خشية الله رنَّتِ

 

فلما أتى به عمر واستنكهه وعرف القضية وأنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمئة درهم وجارية على أن يطلّقها ففعل" [المجالسة وجواهر العلم: 4/517].

وأما عثمان فله من ذلك أيضاً نصيب جيد؛ فإنه حصل أن رجلاً مر بالسوق فنظر إلى امرأة لا تحل له، فلما دخل على عثمان نظر إليه عثمان وقال: "يدخل أحدكم علينا وفي عينيه أثر الزنا" وزنا العينين النظر قال: "يدخل أحدكم علينا وفي عينيه أثر الزنا" فقال له الرجل: أوحي بعد رسول الله ﷺ؟ قال: "لا، ولكن برهان وفراسة" [مدارج السالكين: 2/455].

ومن هذا كثير عن علي ، وممن اشتهر بالفراسة في التاريخ الإسلامي إياس القاضي -رحمه الله- إياس القاضي لما تولى القضاء في البصرة برح به العلماء حتى قال أيوب: "لقد رموها بحجرها" أصابوا المناسب فعلاً، الرجل المناسب في المكان المناسب، "رموها بحجرها"، وكان الحسن وابن سيرين فسلّما عليه، فبكى إياس وذكر الحديث: القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار وواحد في الجنة  فقال الحسن: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ  إلى قوله تعالى: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا  [الأنبياء: 78-79]، ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات فما قام حتى فصل سبعين قضية، حتى كان يُشبّه بشريح القاضي، وكان إذا أشكل عليه شيء بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه.

فراسة القاضي إياس رحمه الله

00:11:24

هذا إياس القاضي -رحمه الله- له قصص عجيبة في الفراسة ذكرها العلماء -رحمهم الله تعالى-.

ومن هذه القصص التي ذكروها: أن إياس القاضي جاءه رجل استودع أمانة من مال عند آخر، ثم رجع فطلبه فجحده فأتى إياساً -المجحود صاحب الحق أتى إياساً- فأخبره، فقال له إياس: "انصرف واكتم أمرك، ولا تُعلمه أنك أتيتني، ثم عُد إلي بعد يومين، فدعا إياس المودَع -المؤتمن الذي جحد- فقال: قد حضر مال كثير، وأريد أن أسلّمه إليك أفحصين منزلك؟ قال: نعم، قال: فأعدّ له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال فإن أعطاك فذاك، بعدما قال له: سأودع عندك المال، الآن رجع وطلب المؤتمن صاحب المال، وقال: اذهب الآن إلى صاحبك واطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني أخبر القاضي، فأتى الرجل صاحبه فقال: مالي وإلا أتيت القاضي وشكوت إليه، وأخبرته بأمرك فدفع إليه ماله؛ لأنه لا يريد الآن أن تُشوّه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مال كثير، وأن يجعله مقرّباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد، فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن.

وقدِم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة فقال إياس: أما إحداهن فحامل والأخرى مرضع والأخرى ثيّب والأخرى بكر، فنظروا فوجدوا الأمر كما قال، قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الحامل فكانت تكلمني وثوبها مرفوع عن بطنها فعرفت أنها حامل، وأما المرضع فكانت تضرب ثديها فعرفت أنها مرضع، وأما الثيّب فكانت تكلمني وعينها في عيني فعرفت أنها ثيب، وأما البكر فكانت تكلمني وعينها في الأرض فعرفت أنها بكر.

وكذلك من القصص التي حدثت له أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجل آخر يدّعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودِع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في البستان، قال: سلّمته المال عند شجرة في بستان، فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر" وفي رواية: "هل تستطيع أن تذهب إليها وتأتي بورق منها، قال: نعم، قال: فانطلق وجلس الآخر عند إياس الجاحد، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه، ثم استدعاه فجأة وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد، أصلحك الله ما بعد وصل، فقال: "قُم يا عدوّ الله فأدّ إليه حقّه وإلا جعلتك نكالا" فقام فدفع إليه وديعته. [الطرق الحكمية: 1/69]. وتحاكم إليه اثنان في جارية، فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس: "أيّ رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ولدتِ؟ قالت: نعم، فقال للبائع: رده رده. [الطرق الحكمية: 1/84]

وكذلك قال الثوري: "عن الأعمش دعوني إلى إياس، فإذا رجل كلما فرغ من حديث أخذ في آخر، وكان ذلك من حاله رحمه الله تعالى. [البداية والنهاية: 9/369].

فراسة الإمام الشافعي رحمه الله

00:15:53

وأما الشافعي -رحمه الله- فكان صاحب فراسة أيضاً ودخل اليمن خصيصاً لطلب كتب الفراسة وشرائها وحصل له موقف، قال: "مررتُ في طريقي بفناء دار رجل أزرق العين ناتئ الجبهة سناط، فقلت: هل من منزل أبيت عندك؟ قال: نعم، قال الشافعي: وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة، تفرّست فيه أن هذا الرجل لئيم، لكن رضي أن يؤويني فأنزلني وأكرمني، فقلت: أغسل كتب الفراسة، إذا رأيت هذا الآن صارت الفراسة فاشلة، فلما أصبحت انتهت الضيافة قلت له: إذا قدمت مكة فسل عن الشافعي، يعني من باب المكافأة بالمثل، إذا جئت إلى مكة اسأل عن الشافعي، حتى إذا جئت يرد له المقابل أو يرد له كرم الضيافة، فقال: أمولى لأبيك كنت؟ أنا عبد عند أبيك، قلت: لا قال: أين؟ ما تكلفت لك البارحة فوزنت له ما تكلفت وقلت: بقي شيء آخر، قال: كراء الدار ضيقت على نفسي فوزنت له، قال: امض أخزاك الله، فما رأيت شراً منك"، هذا كلام صاحب البيت. [الآداب الشرعية والمنح المرعية: 3/575].

ومما يذكره العلماء في الفراسة أهمية فراسة العالم مع طلابه كما ذكر الماوردي -رحمه الله- في كتاب: "أدب الدنيا والدين"، قال: وحُكي أن تلميذاً سأل عالماً عن بعض العلوم، فلم يفده، فقيل له: لم منعته؟ فقال: لكل تربة غرس، ولكل بناء أُس"، وقال بعض البلغاء لكل ثوب لابس ولكل علم قابس" [أدب الدنيا والدين: 81].

وينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسّم بها المتعلّم، ليعرف مبلغ طاقته، لتعرف كم يعطيه من العلم وقدْر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه، أو يضعه عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم، وقد روي إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم، وقال عمر بن الخطاب : "إذا أنا لم أعلم ما لم أره فلا علمت ما رأيت"[أنساب الأشراف: 10/332].

مسألة القضاء بين الناس بالفراسة

00:18:22

أما مسألة القضاء بالفراسة؛ هل يجوز أن يقضي القاضي بالفراسة؟ فإن فقهاء المذاهب في الجملة لا يرون الحكم بالفراسة، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً مدركة قطعاً وليست الفراسة منها؛ لأنها حكم بالظن والحزر والتخمين وهي تخطئ وتصيب.

ولكن هناك مسألة مهمة نبّه عليها، ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "الطرق الحكمية" وفي كلام نفيس ذكر مسألة الحكم بالقرائن  وما يظهر وما يلوح وما يفهمه القاضي وما يستشفه من الأمر قال: "أما بعد، وسألت عن الحاكم أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق والاستدلال بالأمارات، ولا يقف مع مجرد ظواهر البينات والإقرار حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين، وربما سأله عن أشياء تدل على صورة الحال، فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع... إلى آخره، ثم قال: "وإذا تأملت الشرع وجدته يعوّل على ذلك -يعني على القرائن- والحكم بها، ومستند ذلك قوله تعالى: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ  [يوسف: 26-27]، ونُقِل عن ابن عقيل -رحمه الله- قوله في مسألة اعتماد القرائن، قال: "وفي العطار وفي الدباغ إذا اختصما في الجلد أنه لمن للدباغ؛ لأن العطار لا علاقة له بالجلد؟ والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار للنجار والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر، ونحو ذلك، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات، وكذلك الحكم بالقافة" [الطرق الحكمية: 3]. القافة الذين يعرفون الأثر، وإذا رأوا أثر شخص على الأرض يعرفون من أي قبيلة كم عمره ذكر أو أنثى وإذا كانت أنثى حامل أو ليست بحامل، وربما يعرف من أثر المرأة الحامل في أي شهر هي، هذه فراسة يرزقها الله من يشاء من الناس.

من بني مدلج ناس مشهورين بالقيافة، كأن في بني مرة الآن ناس مشهورين بالقيافة، فالقيافة نوع من الفراسة وكذلك يمكن أيضاً من رؤية الأرجل أن يعرف هذا ولد فلان أو لا، وقد حدثت قصة على عهد النبي ﷺ وهي قصة مجزز المدلجي ، فإنه دخل على النبي ﷺ وأسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة نائمين عند النبي ﷺ قد تغطيا وأقدام أسامة ظاهرة من تحت الغطاء، وأقدام أبيه زيد ظاهرة، كان أسامة بن زيد أسود كالفحم، وكان زيد بن حارثة أبيض كالقطن، فطعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد، يعلمون أن النبي ﷺ يحب أسامة بن زيد، وزيد أبوه، وكل منهما حِب النبي ﷺ، فمن باب إيذاء النبي ﷺ كانوا يطعنون في نسب  أسامة من أبيه زيد، فدخل مجزز على النبي ﷺ وأسامة وأبوه نائمين، فنظر إلى الأقدام من غير ما أحد يسأله ولا يستشيره ولا يطلب شهادته، فنظر ما تظهر إلا الأقدام فقط فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض ما يعرف الآن من النائم ولا من الأشخاص والألوان مختلفة، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، "فسّر النبي ﷺ جداً" [رواه البخاري: 3731، ومسلم: 1459]، لأن الشهادة جاءت من شخص غير متواطئ ولا مستشار، شهد من نفسه فكانت شهادته كاتمةً ومخرسةً لألسن المنافقين.

وكذلك وحشي قاتل حمزة لما أسلم وجاءه رجلان واحد منهم معتجر بعمامته متلثم، ولما رآه وحشي سأله الشخص: تعرفني؟ فقال: لا. إلا أن تكون أنت ابن فلانة فقد حملتُكَ وأنتَ رضيع -كم القصة؟ يمكن فيها أربعين سنة- فعرفه، ومع أنه ما رآه إلا وهو رضيع من قبل، وهذه فراسةٌ عظيمة، قيافة عظيمة.

فإذن: للفراسة أشياء يستدل بها كالخلق في التقسيمات في الوجه والأعضاء واللون والهيئة يستدل بها على أمور:

على نسب شخص، وهذه مسألة لها دخل في قضية القضاء إذا ادعى عدة آباء ولداً، كل واحد يقول: هذا ولدي، وليس هناك بينة فيعمل بكلام القافة، فيؤتى بالقائف الخبير الذي جرب من قبل، يجرب يقال له: هذا ولد لم نعرف من أبوه، يقول: ولد فلان ويكون كلامه صحيحاً والثاني والثالث، نختبر القائف فإذا عرفنا خبرته وصدقه فهنا يأخذ كلامه في مثل هذه الحالة، عندما لا يدرى أن هذا ولد من، فيختصم عليه مجموعة أو اثنان أو أكثر فإنه يُعمل بقوله.

الأخذ بالقرائن في فقه أحكام الحوادث الكلية

00:24:34

وكذلك يؤخذ بالقرائن في فقه أحكام الحوادث الكلية، وفقه نفس الواقع وأحوال الناس، ويميز بها بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، وهذا من عدل هذه الشريعة ومجيئها بما يسعد الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها.

وكذلك فإن النبي سليمان قد استدل بالمحق من المبطل، لما جاءت المرأتان كل واحدة تدعي الولد، فحكم به داود عليه السلام للكبرى، فلقيهما سليمان عندما خرجتا من عنده فسألهما عن القضية فأخبرتاه أنهما اختصمتا في الولد، أختان كل واحد معها ولدها، فخرجت إلى البرية، فجاء الذئب فعدا ببنت إحداهما فأخذه، فاختصمتا في الولد، كل واحدة تقول: هذا ولدي، جاءتا إلى داود فحكم به للكبرى؛ لأن الولد كان مع الكبرى، فلما خرجتا من عنده سألهما سليمان، ثم قال سليمان: "ائتوني بالسكين أشقُّه بينكما"، نصف لها ونصف لك!

فقالت الصغرى: هو ولدها يرحمك الله، فقضى به للصغرى" [رواه مسلم: 1720]، وعرف أن الرحمة ما جاءت إلا من الأم الحقيقية، فأيّ شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة؟! فاستدل برحمة الصغرى ورضا الكبرى على ذلك، وأن الصغرى رفضت ذبح صغيرها؛ بسبب ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدّمها على إقرارها، وحكم به لها مع قولها هو ابنها.

القرائن في مسألة إقرار المريض بشيء لوارثه

00:26:35

وكذلك يُعمل بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت بمالٍ لوارثه، فإذا قال شخص وهو على مرض الموت: أنا أخذت من ولدي هذا فلان مائة ألف لانعقاد سبب التهمة، واعتماداً على قرينة الحال في قصده تخصيصهم، وكذلك في الشهادة التي ذكرها الله في كتابه: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ [يوسف:25]. الآيات. فقال: فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب.

وكذلك فإن القرينة الظاهرة التي جعلت الصحابة يحكمون بوجوب الحدّ برائحة الخمر من فِيّ الرجل أو قيئه خمراً، يعد اعتماداً على القرينة الظاهرة، ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجِد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار.

قال في الأمارات والعلامات: وكذلك إذا رأينا رجلاً مكشوف الرأس وليس ذلك عادته -عادته يلبس عمامة- وآخر هارباً أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة، حكمنا بالعمامة للمكشوف، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعاً ولا نحكم بها لصاحب اليد، ولا نقول: وجدت بيده فهي له، من القرينة القوية التي قامت" [الطرق الحكمية: 6].

ومن ذلك أن النبي ﷺ أمر الزبير أن يقرر عمّ حُيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال له: العهد قريب والمال أكبر من ذلك، فهاتان قرينتان في غاية القوة، كثرة المال وقصر المدة، والقصة بأكملها رواها ابن عمر أن رسول الله ﷺ قاتل أهل خيبر، حتى ألجأهم إلى قصرهم والحصن فغلب على الزرع والأرض والنخل فاستولى عليها بالقوة، فصالحوه على أن يُجلوا من حصونهم ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله ﷺ الصفراء والبيضاء، الذهب والفضة، واشترط عليهم النبي ﷺ ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عهد ولا أمان، يُقتلوا إذا كانوا كاذبين وغشوا، فغيبوا اليهود، أخفوا مسكناً فيه مالٌ وحليٌ لـحيي بن أخطب، كان قد احتمله معه إلى خيبر، حين أُجليت النظير. لجأ حيي بن أخطب من نظير إلى خيبر ، ومعه هذا المال والذهب، فلما أُجلي يهود خيبر أخفوا هذا، فقال رسول الله ﷺ لعم حُيي بن أخطب -وكان حيي قد قُتل-: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟  قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال النبي ﷺ:  العهد قريب والمال أكثر  ما مضى مدة طويلة على المال؛ العهد قريب والمال كثير، لا يمكن أن يكون قد ذهب بالنفقات فدفعه رسول الله ﷺ إلى الزبير، سلّم اليهودي إلى الزبير فمسَّه بعذاب، لما قامت القرينة قال له: اضربه ليعترف، وكان قبل ذلك دخل خرِبةً فقال -هذا العم لما ضرب- قال: رأيت حُيي ابن أخي يطوف في خربةٍ هاهنا، فذهبوا فوجدوا المسك في الخرِبة، فقتل رسول الله ﷺ ابني أبي الحقيق بالنكث الذي نكثوا" [رواه ابن حبان: 5199، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 5176].

ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة، وعقوبة أهل التهم، وجواز الصلح على الشرط وانتقاض العهد الذي خالفوا وإخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم، فهو سبحانه قادرٌ على أن يطلع رسوله على الكنز بالوحي، لكن جعلها تمضي لكي يعرف القضاة من بعد النبي ﷺ مسألة الأخذ بالقرائن. وكذلك قال: ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل: كل واحد يقول: أنا قتلته، فقال ﷺ: هل مسحتما سيفيكما؟  قالا: لا. قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما:  هذا قتله، وقضى له بسلبه [رواه البخاري: 3141، ومسلم: 1752]. فمن خلال السيوف عرف - بالقرائن - من هو الذي قتله فعلاً، وقضى له بسلَبه، وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع، فالدم في النصل شاهدٌ عجيب.

وقد روى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال: "أردتُ السفر إلى خيبر، فأتيتُ النبي ﷺ فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر ، قال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً 

الآن جابر كان عليه ديون ويريد النبي ﷺ أن يعطيه خمسة عشر وسقاً من تمر خيبر، من قبَل وكيل النبيﷺ، كيف يعرف الوكيل أن جابراً فعلاً عنده وكالة بأن يأخذ خمسة عشر وسقاً؟! فقال النبي ﷺ لـجابر: فإذا طلب منكَ آيةً فضع يدك على ترقوته  قال: وكيلي إذا طلب منك دليلاً فضع يدك على ترقوته، كان يوجد اتفاق سابق بين النبي ﷺ ووكيله قبل أن يذهب على هذه العلامة وهي: إذا جاءك شخص يدّعي شيئاً مني ووضع يده على ترقوتك اعرف أنه محق.

فهذا اعتمادٌ في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة، وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغِ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال.

قال ابن القيم: "ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لهم لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها، وكذلك فإن الأمارات والفراسة ربما تدفعهم إلى الارتياب في حال المدعي، فيسألونه عن تفاصيل زائدة، وعن صحة ما يقول: وأين كان، ونظر الحال، ونحو ذلك من الأشياء والأوصاف التي تقود في النهاية إلى معرفة الحقيقة"[الطرق الحكمية: ص: 24].

ومما حدث في التاريخ أيضاً من قصص إياس - رحمه الله - في هذا الجانب؛ مسألة العمل بالقرائن، قال: أودع رجلٌ بعض شهوده كيساً مختوماً، وذكر أن فيه ألف دينار -وضع كيساً فيه ألف دينار عند شخص بحضور شهود- فلما طالت غيبة الرجل المودع ماذا فعل المودَع عنده؟

فتق الكيس من أسفله، وأخذ الدنانير، وجعل مكانها دراهم - الدنانير ذهب والدراهم فضة قيمتها أقل - وأعاد الخياطة كما كانت، وجاء صاحبها بعد سنوات، فطلب وديعته، فدفع إليه الكيس بختمه لم يتغير، مختوم من أعلى ما تغير الختم ولا انكسر، فلما فتحه وشاهد الحالة رجع إليه، قال: إني أودعتك دنانير والذي دفعتَ إليّ دراهم، فقال: هو كيسك بخاتمك، فاستعدى عليه القاضي، فأمر بإحضار المودَع، فلما صار بين يديه قال له القاضي: منذُ كم أودعك هذا الكيس؟ -انظر الآن فراسة وحنكة القاضي، قضاة المسلمين كانوا على درجة عالية من الذكاء والخبرة والفراسة والعمل والأمارات والنباهة، ما كانوا مغفّلين ولا نائمين ولا جهلة، هذه مسألة دماء وأموال، ما يحكم فيها إلا صاحب خِبرة وعلم، هذا القاضي كان إمام البلد له وزنه- قال: منذُ خمس عشرة سنة، فأخذ القاضي تلك الدراهم وقرأ سكّتها، مسكوكة في عام كم؟ فإذا فيها ما قد ضُرب من سنتين أو ثلاث، فأمره بدفع الدنانير إليه وأسقطه ونادى عليه، أي: شهّر به وسفهه وعاقبه وحكم عليه بأن يرد الدنانير" [الطرق الحكمية: 25].

ومن هذا القبيل ما حدث في زماننا، هذا الشيخ صالح بن عثمان القاضي، قاضي عنيزة، شيخ الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-، كان قاضياً يقضي في الطريق، ويقضي عند بيته، ويقبل به الناس، وكان صاحب حلم وورع وتقوى ودِقة وخبرة وفراسة، وقد جاءه مرةً رجل يعرفه أنه من أهل الصلاح يعمل جزاراً، وآخر بدوي -شخص آخر بدوي- يقول هذا المدعِّي: جاءني هذا البدوي وباع عليّ غنمه، فأعطيته الدراهم حول المغرب، ثم جاءني ثاني يوم في النهار يقول: أعطني ثمن الغنم، فقلت: أعطيتك إياها بالأمس، فقال: ما أعطيتني شيئاً، فذهب إلى الشيخ، وكان القاضي يحمس قهوته. -ماء يفور على النار ويغليه لأجل القهوة- فقال: يا أيها البدوي في جيبك دراهم؟

قال: نعم. قال: أعطني إياها، فسكب الشيخ القاضي الماء في الإناء، ثم طرح الدراهم التي مع البدوي في الإناء، فطفا الدُّهن على سطحها، فقال: يا كذاب! هذه دراهم جزار، إذن: هو أعطاك ثمنها.

فالشاهد الآن أن هذه القرائن التي يعرف بها أهل الفراسة من القضاة وأهل العلم والخبرة يعرفون بها الأحوال فيضعون الحق في نصابه.

وكذلك يقول مُكرم بن أحمد: كنتُ في مجلس القاضي أبي حازم - و أبو حازم كان قاضياً مشهوراً - فتقدم رجلٌ شيخٌ ومعه غلامٌ حدث - جاء شخص كبير في السن ومعه غلام صغير، معه شاب حدَث - فادعى الشيخ على هذا الغلام ألف دينار ديناً، قال: هذا استلف مني ألف دينار، فقال القاضي للشاب الحدث: ما تقول؟ قال: نعم، فعلاً أخذت منه ألف دينار، فقال القاضي للشيخ: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تحبسه حتى يعيد إلي المال، فتفرّس أبو حازم فيهما ساعة، نظر في هذا وفي هذا، ثم قال: اجلس حتى أنظر في أمركما في مجلسٍ آخر.

فيقول مكرم: قلت للقاضي: لم أخرت حبسه؟ قال: ويحك، إني أعرف في أكثر الأحوال في وجود الخصوم وجه المحق من المبطل، حتى صارت لي بذلك دراية، وقد وقع إليّ أنا الآن مرتاب، بسبب سماحة هذا بالإقرار، يعني: هذا الحدث بسرعة يقر بالألف! ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على بصيرة، أما رأيت قلة تقصيهما في الناكرة وقلة اختلافهما وسكون طباعهما مع عظم المال -مع أن المال كثير ما جادل ولا ناقش ولا أحد دافع التهمة- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورُّع -هؤلاء الصغار لا يعترف بسهولة! هذا مسألة فيها شيء- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع حتى يقر مثل هذا طوعاً عجلاً منشرح الصدر يقر على المال، قال: فنحن كذلك نتحدث إذ أتى الآذن يستأذن على القاضي لبعض التجار، فأذن له، فلما دخل التاجر قال: أصلح الله القاضي، إني بُليتُ بولدٍ حدث يتلف مالي، ويظفر به في القيان عند فلان - في الأغاني واللهو - فإذا منعته - إذا لم أعطه نقوداً يلعب بها ويلهو بها، ويسافر بها أو يشتري سيارات يفحط بها - فإذا منعته احتال بحيلٍ تضطرني إلى التزام الغُرم عنه، وقد نصب اليوم صاحب القيان يطالب بألف دينارٍ حالاً، وبلغني أنه تقدم إلى القاضي يقر له فيحبسه، فما هي الخطة الآن؟

الجواب: يقول هذا الرجل: الآن الولد متفق مع صاحب الملاهي بأن يذهب عند القاضي والولد يعترف أن لصاحب الملاهي ألف دينار، فماذا يفعل القاضي؟ يحبس الولد، ثم إذا انحبس الولد قامت أمه نكَّدت عيشتي حتى أقضي الدين عن الولد وأدفع الألف دينار إلى المعترَف له، ويتقاسمانه بعد ذلك.

فلما سمعتُ بذلك بادرت إلى القاضي فتبسَّم القاضي وقال: كيف رأيته؟ فقلت: هذا من فضل الله على القاضي، فقال: عليّ بالغلام والشيخ، فأرهب الشيخ ووعظ الغلام فأقرا، فأخذ الرجل ابنه وانصرف.

فالمسألة مسألة دراسة عند القاضي؛ ولذلك يُعرف بها المحق من المبطل" [الطرق الحكمية: 26].

وكذلك قال: وقع من الفراسة أن ابن عمر لما ودّع الحسين قال: "أستودعك الله من قتيل" ومعه كتب أهل العراق، فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم، وفعلاً قُتل الحسين. [الطرق الحكمية: 29]

ومن ذلك أيضاً أن عثمان بن عفان لما تفرّس أنه مقتول ولا بد، أمسك عن القتال وعن الدفاع عن نفسه؛ لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو.

هذه طائفة من الأخبار التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- في: "الطرق الحكمية" في هذا الموضوع.

المحاضرة الثانية

00:45:01

قد سبق الكلام على مسألة الفراسة، وأن فراسة المؤمن من علاماته، وأن الله تعالى ذكر ذلك في قوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] وأنها إلهامٌ يقذفه الله تعالى في قلوب من يشاء من عباده المؤمنين.

وكذلك فقد اتصف بهذه الصفة عددٌ من أولياء الله ، وعلى رأسهم كبار أصحاب النبي ﷺ، وكذلك كان القضاة المسلمون قد اتسموا بهذه الميزة وهذه الصفة، وكذلك فقد حفل التاريخ الإسلامي بأحوالٍ متعددة من القضاة الذين كانوا ينظرون بنور الإيمان والفراسة، ويعلمون المحق من المبطل.

نماذج من فراسة القضاة والعلماء قبلنا

00:46:06

وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله  نماذج من فراسة العلماء والقضاة ممن كانوا من قبلنا، ومن هؤلاء إياس -رحمه الله تعالى-، وكان من كبار القضاة، كما تقدم الكلام عن فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وكذلك فراسة أُبي بن كعب ، فإنه قد حدث في عهده من القصص التي تبين أن هذه الصفة من صفات المؤمنين.

وقد ساق - رحمه الله تعالى - في كتابه: "الطرق الحكمية" نماذج لما كان عليه أهل العلم في هذه المسألة، وتكملةً لما سبق الكلام عنه في هذا أنه قد ادعى عند إياس -رحمه الله- رجلان في قطيفتين إحداهما حمراء والأخرى خضراء، فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتي، ثم جاء هذا فوضع قطيفته تحت قطيفتي، ثم دخل فاغتسل فخرج قبلي وأخذ قطيفتي فمضى بها، ثم خرج فتبعته، فزعم أنها قطيفته، فقال: ألك بينة؟ قال: لا. قال: ائتوني بمشطٍ فأُوتي بمشطٍ فسرح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوفٌ أحمر، ومن رأس الآخر صوفٌ أخضر، فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر، وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر.

وكذلك فإن مما حدث أيضاً، مما يُنسب إليه - رحمه الله تعالى - أنه كان مرةً ينظر، فجاء رجل فجلس على دكانٍ مرتفع للمربد، فجعل يترصد الطريق، فبينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه - أي: هذا الجالس على الدكة والمكان المرتفع - نظر فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه ثم رجع إلى موضعه، فقال إياس: "قولوا في هذا الرجل"، قالوا: ما نقول؟ قال: "رجل طالب حاجة وهو معلّم صبيان قد أبق له غلامٌ - أي: عبدٌ - أعور فقام إليه بعضنا فسأله عن حاجته، فقال: هو غلامٌ لي آبق، قالوا: ما صفته؟ قال: كذا وكذا وإحدى عينيه ذاهبة، قلنا: وما صنعتك؟ قال: أعلم الصبيان، فقلنا لإياس: كيف علمتَ ذلك؟ قال: رأيته جاء فجعل يطلب موضعاً يجلس فيه، فنظر إلى أرفع شيءٍ يقدر عليه فجلس عليه، فنظرتُ في قدْره فإذا ليس قدره قدر الملوك، فنظرتُ فيمن اعتاد في جلوسه جلوس الملوك، فلم أجد إلا المعلّمين، فعلمتُ أنه معلّم صبيان"، فقلنا: كيف علمتَ أنه أبق له غلام؟

قال: "إني رأيته يترصد الطريق ينظر في وجوه الناس"، قلنا: كيف علمتَ أنه أعور؟

قال: "بينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً قد ذهبت إحدى عينيه، فعلمتُ أنه اشتبه عليه بغلامه".

وهكذا حصل أيضاً أنه قد جاءت امرأةٌ عند عمر بن الخطاب ، فشكرت عنده زوجها، وقالت: هو من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى الصباح، ويصوم النهار حتى يمسي، ثم أدركها الحياء، لم تستطع أن تكمل، فقال: "جزاك الله خيراً فقد أحسنت الثناء"، فلما ولّت قال كعب: يا أمير المؤمنين! لقد أبلغت في الشكوى إليك، فقال: "وما اشتكت؟" قال: زوجها، إن هذا الكلام هو شكوى لزوجها؛ إنها أثنت عليه أثنت عليه ثم سكتت، فقال: هذه شكوى، قال: "عليّ بهما"، فقال لـكعب بن سَور: "اقضِ بينهما"، قال: أقضي وأنت شاهد؟ قال: "إنك قد فطنتَ إلى ما لم أفطن له"، قال: إن الله تعالى يقول:  فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ  [النساء:3].

صُم ثلاثة أيام وأفطر عندها يومك، وقُم ثلاث ليالٍ وبت عندها ليلة، فقال عمر: "هذا أعجب إليّ من الأول فبعثه قاضياً لأهل البصرة، فكان يقع له في الحكومة من الفراسة أمورٌ عجيبة" أي: الحكم بين الناس يقع له في أمورٍ عجيبة، فهذا الرجل فهم من ثناء المرأة على زوجها ثم سكوتها أنها تشتكي زوجها.

وكذلك لما جيء به فصار على هذه الصفة من العبادة، وهو لا يعطي زوجته حقها لانشغاله بالعبادة، استنبط من قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. أنه إذا أراد أن يقوم الليالي فإنه يأتي زوجته ليلة، وإذا أراد أن يصوم الأيام فإنه يفطر يوماً من كل أربعة، من أجل حق زوجته.

قال شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله -: "ومن أنواع الفراسة ما أرشدت إليه السنة النبوية من التخلص من المكروه بأمرٍ سهلٍ جداً، من تعريض بقولٍ أو فعلٍ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: "قال رجلٌ: يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني، قال: انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق  فانطلق فأخرج متاعه؛ - أخرج الأثاث إلى الشارع - فاجتمع الناس إليه، فقالوا: ما شأنك؟ قال: إن لي جاراً يؤذيني - فما تحملت فأخرجت الأثاث إلى الخارج - فجعلوا يقولون: اللهم العنه اللهم أخرجه" - صارت الناس تسبُّ الجار المؤذي - "فبلغه ذلك" - أي: الجار المؤذي – "فأتاه فقال: ارجع إلى منزلك فو الله لا أؤذيك أبداً" [الطرق الحكمية: 33].

والقصة أيضاً رواها أبو داود وصححها الألباني.

فهذه وأمثالها هي الحيل التي أباحتها الشريعة؛ وهي تحيُّل الإنسان في فعلٍ مباحٍ على تخلصه من ظلم غيره وإيذائه، لا الاحتيال على إسقاط فرائض الله واستباحة محارمه.

وفي السنن عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قال رسول الله ﷺ: من أحدث في صلاته فلينصرف  يعني: إذا أحدث في الصلاة يقطع الصلاة ويمشي، لا يحتاج إلى سلام؛ لأنه قطعت للحدث - فإن كان في صلاة جماعة،  فليأخذ بأنفه ولينصرف  [رواه الحاكم: 656، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 286]. 

وإذا كان في وسط الجماعة فإن إحراجاً عليه بين الناس أن يمشي فليأخذ بأنفه كأنه أصابه رعاف، فالناس يقولون: خرج لأجل الرعاف، وفي الحقيقة أنه خرج لأجل الحدث، فقال: هذه دلّت عليه السنة لتخليص الإنسان من الحرج دون كذب، فإنه لا يقول: إن بي رعافاً ويأخذ بأنفه وينصرف، وحتى الذي يعرف هذا الحديث من الناس، إذا رأى رجلاً آخذاً بأنفه لا يدري هل أصابه رُعاف أم أنه خرج منه حدثٌ أو ريح؟، قال: "وفي السنة كثيرٌ من ذكر المعاريض التي لا تُبطل حقاً ولا تُحق باطلاً".

وكذلك لما سُئل أبو بكر الصديق عن النبي ﷺ: قيل له: من هذا بين يديك؟ قال: "هادٍ يدلُّني على الطريق" ما يريد أن يخبر أن هذا النبي ﷺ، خطأ، وهو هارب من مكة وكيف لو أصاب الخبر، فقال: "هذا هادٍ يدلني على الطريق"، وفعلاً النبيﷺ هادٍ يدل على طريق الإسلام والحق.

وكذلك الصحابة من بعده، وأيضاً من الأمثلة على ذلك: ما حصل لعبد الرحمن بن أبي ليلى - الفقيه - وقد أُقيم على دكانه بعد صلاة الجمعة - على مكان مرتفع -، فقام على الدكان وقال: إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب، فالعنوه لعنه الله!.

هذا عبد الرحمن بن أبي ليلى أُتي به مكرهاً من قبل واحد ممن كان يكره علي بن أبي طالب، وقيل له: نريدك أن تصعد أمام الناس وتلعن علي بن أبي طالب!، فقام على المكان المرتفع، فقال: "إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب، فالعنوه لعنه الله"، قصده في (العنوه) على الأمير.

ومن ذلك تعريض الحجاج بن علاط بل تصريحه لامرأته بهزيمة الصحابة وقتلهم، حتى أخذ ماله منها، وكانت على الشرك وهو على الإسلام.

ومن الفراسة الصادقة؛ فراسة خزيمة بن ثابت حين قدم وشهد على عقد التبايع، بين الأعرابي ورسول الله ﷺ ولم يكن حاضراً، تصديقاً لرسول الله ﷺ.

 ومنها هذا يدخل في سرعة الأمر، فراسة حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله ﷺ عيناً إلى المشركين، فجلس بينهم، تسلل وجلس بينهم في معركة الخندق، فقال أبو سفيان وكان رئيس المشركين فجأة: "لينظر كلٌ منكم جليسه"، قال: أخشى أن يكون محمداً قد أرسل إلينا عيناً، تجسسوا علينا، كل واحد ينظر من بجانبه يتفقده؛ فـحذيفة بادر قبل أن يسأله جاره المشرك، وهو مندس بين المشركين، فقال لجليسة: من أنت؟

قال: فلان بن فلان، فاطمأن ذلك الشخص ولم يسأله.

وكذلك من هذا الباب: فراسة المغيرة بن شعبة وقد استعمله عمر على البحرين فكرهه أهلها فعزله عمر عنهم، فخافوا أن يردّه عليهم، فقال دهقانهم: إن فعلتم ما آمركم به لم يرده علينا، قالوا: مُرنا بأمرك؟ قال: تجمعون مائة ألف درهم حتى أذهب بها إلى عمر، وأقول: إن المغيرة اختان هذا ودفعه إليه - نتهم المغيرة عند عمر، نقول: إنه اختلس هذا المبلغ ووضعه عندي -، يخشون أن يرجع عليهم المغيرة أميراً فيقولون: نذهب ونتهمه عند عمر، فجمعوا المال للدهقان، فأتى الدهقان إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! إن المغيرة اختان هذا فدفعه إليّ! اختلسه ووضعه عندي أمانة، فدعا عمر المغيرة فقال: هذا يقول إنك اختلست ألفاً ووضعتها عنده، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على ذلك؟ قال: العيال والحاجة، فقال عمر للدهقان: ما تقول؟ - يعني: هذا المدعي أيضاً صار مختلساً مائة - فقال: لا والله لأصدقنكم، والله ما دفع إليّ قليلاً ولا كثيراً ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على هذا؟ - يعني: على هذه الكذبة - قال: إن الخبيث كذب علي فأردت أن أخزيه.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومن أحسن الفراسة فراسة عبد الملك بن مروان، لما بعث الشعبي إلى ملك الروم فحسد المسلمين عليه" ملك الروم لما رأى نجابة الشعبي وذكاءه وفطنته وعلمه، حسد المسلمين عليه – "وأراد أن يدبر له مكيدة لعله يُقتل أو يُحبس، فبعث معه ورقةً لطيفة إلى عبد الملك - رسالة -، فلما قرأها - أي: عبد الملك الخليفة - قال للشعبي: أتدري ما فيها؟ قال: في نص الرسالة عجبٌ كيف مَلَّكَتِ العرب غير هذا؟" - يقول له ما ذكره في الرسالة: عجيب أمر العرب! كيف يملكون غير هذا الشعبي - يقول عبد الملك بن مروان : أفتدري ما أراد؟ قال: لا. قال: حسدني عليك فأراد أن أقتلك، قال الشعبي: لو رآك - يا أمير المؤمنين - ما استكبرني، فبلغ ذلك ملك الروم فقال: والله ما أخطأ ما كان في نفسه" [الطرق الحكمية: 38].

ومن دقيق الفطنة ودقيق الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارةٍ فكسب مالاً فدفعه إلى امرأته، ثم طلبه منها، فذكرت أنه سُرق من البيت، ولم يرَ نقْباً ولا أمارة - الجدران سليمة وما عليها أثر اقتحام للبيت أو سرقة - فقال المنصور : منذُ كم تزوجتها؟ قال: منذُ سنة، قال: بكراً أو ثيباً؟ قال: ثيباً، يعني: كانت عند زوج من قبل، فوقع في نفسه احتمال أن تكون متعلقة برجل من قبل، قال: فلها ولدٌ من غيرك؟ قال: لا. فدعا المنصور بقارورة طيبٍ كان يتخذُ له، حاد الرائحة غريب النوع لا يوجد له أي مثيل، فدفعها إليه، وقال له: تطيب من هذا الطيب فإنه يُذهب غمّك، فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحدٌ منكم، فمن شمّ منكم رائحة هذا الطيب من أحدٍ فليأت به، وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته، فلما شمّته بعثت به إلى رجلٍ كانت تحبه، وقد كان للذي دفعت إليه المال، سرقت من زوجها وأعطت الرجل، والآن أعطته الطيب، فتطيّب منه ذلك الرجل ومر مجتازاً ببعض أبواب المدينة، فشمّ الموكّل بالباب رائحته عليه، فأتى به إلى المنصور، فسأله من أين لك هذا الطيب؟ فلجلج في كلامه، فدفعه إلى والي الشرطة، وقال: إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخلِّ عنه، وإلا فاضربه ألف سوط، فلما جُرّد للضرب حتى أحضر المال على هيئته، فدعا المنصور صاحب المال، فقال: الآن المال سوف يرد إلى صاحبه، لكن بقيت لدينا مشكلة ما هي؟ تعلُّق المرأة بذلك الرجل، فيريد أن يحل المشكلة أيضاً، فقال المنصور للرجل: أرأيت إن رددت عليك المال تحكِّمني في امرأتك -تقضي لي الحكم فيها-؟ قال: نعم. قال: هذا مالك وقد طلّقتُ المرأة منك؛ لأجل إتاحة المجال للآخر بالحلال أن يعود إليها، والرجل صاحب المال راضٍ بهذا.

سرعة البديهة جزء من الفراسة

01:03:40

ومما يدخل في الفراسة سرعة البديهة، وهي جزء من أجزاء الفراسة أو نوعٌ منها، فمن ذلك أن شريكاً؛ وهو قاضٍ عالم فاضل دخل على المهدي، فقال للخادم - الآن المهدي خليفة أمامه واحد من عظماء المسلمين وعلمائهم الكبار- قال: هاتِ عوداً للقاضي يعني: البخور، فجاء الخادم بعودٍ يُضرب به - الخادم غبي أتى بعود مما يُعزف به، فوضعه في حجر شريك - فصارت الآن المشكلة الكبيرة للمهدي الخليفة، أن هذا العالم الجليل يأتي للعود ويوضع في حجره، فقال شريك: ما هذا؟ فبادر المهدي وحضرته البديهة فقال: هذا عودٌ أخذه صاحب العسس البارحة - الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من العسس - صادره بالأمس، فأحببتُ أن يكون كسره على يديك، فدعا له وكسره.

وكذلك كان للمعتضد - رحمه الله - عجائب في هذا، منها: أنه قام ليلةً فإذا غلامٌ قد وثب على ظهر غلام، فاندسّ بين الغلمان فلم يعرفه، فجعل يضع يده على فؤاد كل واحد، واحداً بعد واحد فيجده ساكناً حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام، فإذا به يخفق خفقاً شديداً، فركضه برجله واستقرّه فأقرّ فقتله، يعني: على فعل الفاحشة.

وكذلك: رُفع إليه أن صياداً ألقى شبكته في دجلة فوقع فيها جراب فيه كفٌ مخضوبةٌ بحناء، كف مقطوعة، وأُحضر بين يديه، فهاله ذلك، وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هناك، ففعل، فأخرج جراباً آخر فيه رجلٌ - كف ورجل - فاغتمّ المعتضد وقال: معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه؟!! ثم أحضر ثقةً له وأعطاه الجراب وقال: طُف به على كل من يعمل الجُرب بـبغداد، فإن عرفه أحدٌ منهم فاسأله عمن باعه منهم، فإذا دلّك عليه فاسأل المشتري عن ذلك، وانقل عن خبره، فغاب الرجل ثلاثة أيام، ثم عاد فقال: ما زلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي اشتراهما مع عشرة جوارٍ وشكا البائع شره وفساده، ومن جملة ما قال: إنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيّبها، فلا يعرف لها خبر، وادعى أنها هربت والجيران يقولون: إنه قتلها، فبعث المعتضد من ذهب إلى منزل الهاشمي وأحضره وأحضر اليد والرجل وأراه إياهما، فلما رآهما انتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف. ثم بعد ذلك أنفذ فيه الحكم.

وكذلك قال: "من محاسن الفراسة في تحسين اللفظ بابٌ عظيم له شواهد كثيرةٌ في السنة، وهو من خاصية العقل والفطنة، فقد روينا عن عمر أنه خرج يعسُّ المدينة بالليل، فرأى ناراً موقدةً في خباء، فوقف وقال: "يا أهل الضوء - يريد أن يناديهم وهم في الخيمة وقد أوقدوا ناراً - وكره أن يقول: يا أهل النار؛ لكي لا يسميهم بأهل النار؛ مع أنهم أوقدوا ناراً، ولكن لكي لا يسميهم بأهل النار؛ لأنه اسمٌ قبيح، فقال: "يا أهل الضوء".

وكذلك سُئل العباس: "أنت أكبرُ أم رسول الله ﷺ؟ فقال: "هو أكبر مني وأنا ولدتُ قبله".

وكذلك فإن الله  قال للمؤمنين: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ   [الإسراء:53]. فينتقي الإنسان الكلمة الطيبة ولا يقول الكلمة الخبيثة حفاظاً على مشاعر أخيه المسلم.

ومن عجيب الفراسة ما ذُكر عن أحمد بن طولون، أنه رأى مرةً يوماً حمالاً يحمل صِناً وهو يضطرب تحته، فقال: لو كان هذا الاضطراب من ثقل محمول لغاصت عُنُق الحمَّال، وأنا أرى عنقه بارزةً! وما أرى هذا الأمر إلا من خوف، واحد حمّال يحمل قفة ويضطرب وعنقه ليست بداخلةٍ من الثقل- فأمر بحط الصن فإذا فيه جاريةٌ قد قتلت وقطعت، فقال: اصدقني عن حالها؟ قال: أربعة نفرٍ في الدار الفلانية أعطوني هذه الدنانير وأمروني بحمل هذه المقتولة، فضربه وقتل الأربعة.

وكان يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قراءة الأئمة، فدعا ثقته وقال: خذ هذه الدنانير وأعطها إمام مسجد كذا، فإنه فقيرٌ مشغول القلب"، ففعل هذا الرجل وجلس مع الإمام هذا وباسطه فوجد زوجته قد ضربها الطلق وليس معه ما يحتاج إليه من المال، فقال: فالآن تنبه وعرف أنها فطنة الخليفة، ولكن كيف اكتشف أنه محتاج؟

قال: "عرفتُ شغل قلبه في كثرة غلطه في القراءة" قال: صلّيتُ وراءه فإذا به يخطئ كثيراً في القراءة، فعلمت أن قلبه مشغول، ولذلك صار يغلط في القراءة كثيراً"  فلعل شغله فقرٌ فدفع إليه المال.

فراسة علي رضي الله عنه في القضاء

01:10:34

وكذلك مما ذكر - رحمه الله تعالى - قال: "ومن قضايا علي أنه أُتي برجلٍ وجد في خربةٍ بيده سكينةٌ ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحّط في دمه، فسأله فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه؟ فلما ذُهب به أقبل رجلٌ مسرعاً، فقال: يا قوم! لا تعجلوا ردُّوه إلى علي، فردوه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله؟" قال: يا أمير المؤمنين! وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقفٌ وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خرِبة فخفتُ ألا يُقبل مني، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبتُ نفسي عند الله، قال علي: بئس ما صنعت فكيف كان حديثك، كيف أدى بك الحال إلى هذا الموضع؟ قال: إنني رجلٌ قصاب - جزّار - خرجت إلى حانوتيٍ في الغلس فذبحت بقرةً وسلختها، فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي، أخذني البول فأتيتُ خربة كانت بقربي فدخلتها فقضيت حاجتي وعدتُ أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي وأخذوني فقال الناس: هذا قتل هذا! فأيقنتُ أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه، فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ قال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعتُ حسّ العسس فخرجت من الخربة، واستقبلتُ هذا القصاب على الحال التي وصفها، فاستترت منه ببعض الخربة، حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرتَ بقتله علمتُ أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفتُ بالحق" [الطرق الحكمية:  51].

فإذن، هذا قتل شخصاً، ثم انتهز فرصة خلو الجزار من الدكان فوضعه في دكان الجزار، فلما جاء الجزار بيده سكينه المعتادة وإذ بالناس قد جاءوا إلى هذا المكان وقبضوا عليه.

وكذلك قال - رحمه الله تعالى -: "وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن امرأة وقع عليها رجلٌ في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروهٍ على نفسها، فاستغاثت برجلٍ مرّ عليها وفر صاحبه - الفاعل فر وهذا المستغاث به صار هو في المشهد - فمر أناس فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر وهرب، فجاءوا بهذا المستغاث به يقودونه فقال: أنا الذي أغثتكِ وقد ذهب الآخر، فقالت: كذب هو الذي وقع عليّ، فقالوا: انطلقوا به فارجموه، فقال رجل: لا ترجموه وارجموني؛ جاء الفاعل واعترف؛ فأنا الذي فعلتُ هذا الفعل.

ولذلك فإن القاضي عليه ألا يستعجل، فإنه ربما ظهر الحق بعد مدة، وأن يتأمل في الموضوع، فإنه ربما يظهر بالتأمل حالٌ جديدة، أو يظهر فيها حق ولو استعجل لأُزهقت روح بريئة.

وكذلك من هذا القبيل: بينما علي جالس في مجلسه إذ سمع ضجةً، فقال: "ما هذا؟ فقالوا: رجلٌ سرق ومعه من يشهد عليه، فأمر بإحضاره فدخلوا، فشهد شاهدان عليه أنه سرق درْعاً، فجعل الرجل يبكي ويناشد علياً أن يتثبّت في أمره، فخرج علي إلى مستمع الناس بالسوق، فدعا بالشاهدين، فناشدهما الله وخوّفهما، فأقاما على شهادتهما، فلما رآهما لا يرجعان، فدعا بالسكين وقال: "ليمسك أحدكم يده ويقطع الآخر" أنتما شاهدان عليه بالسرقة، والآن وجب تنفيذ الحد، أحدكم يمسك يده والآخر يقطعّ - فتقدما ليقطعاه فهاج الناس واختلط بعضهم ببعض، وقام عليٌ عن الموضع، فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا، فقال علي: من يدلُّني على الشاهدين الكاذبين؟" فلم يقف لهما على خبر، فخلّى سبيل الرجل وهذا من أحسن الفراسة، فإنه ولىّ الشاهدين ما توليّا، وأمرهما أن يقطعا بأيديهما يد من اتهماه بألسنتهما.

ومن هاهنا قال العلماء: إنه يبدأ الشهود بالرجم، إذا شهدوا بالزنا، وأما إذا اعترف الرجل الزاني فالذي يبدأ بالرجم القاضي الذي اعتُرف عنده، احتياطاً من الشريعة وبأرواح العباد.

وكذلك قال: "وحكم الفراسة على ذلك من الكتاب والسُّنة وعمل سلف الأمة، قال الله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ  [البقرة:273]. وأن الأخذ بالسيماء والعلامة معتمد شرعاً، قال: "حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام وعليه زُنّار - وهذا لباس أهل الذمة من النصارى - وهو غير مختون ماذا نحكم؟ أنه نصراني، لا يُدفن في مقابر المسلمين، ويقدّم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، لأن النصارى: كثيرٌ منهم لا يختتنون، وقال الله تعالى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف:18]. قال عبد المنعم بن الفرس: "روي أن إخوة يوسف لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقاً ولا أثر نابٍ من النياب المزعوم، فاستدلّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟! فلما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله تعالى بهذه العلامة علامة تعارضها؛ وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص، ويسلم القميص، وأجمعوا على أن يعقوب استدل على كذبهم بصحة القميص، فيعقوب جزم: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً  [يوسف:18] عرف ذلك من العلامات.

قال: ومن الحكم بالعلامات أيضاً: ما جاء في قوله تعالى:  وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ   [يوسف:26-28].

فهذه أمارات قد حكم بها وعرف بها البريء من الظالم، وكانت دليلاً على براءة يوسف ، والذي تكلم على الراجح هو رجلٌ كبير ذو لحية كما جاء عن ابن عباس ، أما كونه صغيراً قد تكلم في المهد فلم يثبت هذا عن النبي ﷺ، وإنما الذي شهد شاهدٌ من أهلها رجلٌ كبيرٌ ذو لحية كان عنده عقلٌ وتمييزٌ وفراسة، فأمره بأن يُعمل بهذه العلامة، وألهمه الله ذلك ليقوله، فيبرأ يوسف .

العلاقة بين القيافة والفراسة

01:20:16

وكذلك فإن هناك علاقة بين القيافة والفراسة؛ والقيافة: هي العلامات التي يعرف بها القائف نسب الشخص من أبيه عندما يتفرس في خلقتهما، ولما لاعن النبي ﷺ بين عويمر العجلاني وامرأته - وكانت حاملاً - قال ﷺ:  إن جاءت به أحمر قصيراً كأنه وحرةٌ فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها)) لما رماها بالزنى ((وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلا قد صدق  [رواه البخاري: 5310، ومسلم: 1497].

 فجاءت به على المكروه من ذلك، يعني: أنها قد فعلت الفاحشة وأن زوجها صادقٌ فيما رماها به من الزنى.

وجاء في الروايات في البخاري كان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله، خدلج الساقين آدم كثير اللحم جعداً قططاً، فقال النبي ﷺ:  اللهم بيِّن 

فجاءت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، جاءت على النحو المكروه.

والوحرة: دويبةٌ حمراء تلصق بالأرض، والأعين: واسع العينين، والآدم شديد الأُدمة وهي: سمرةٌ بحمرة، والخدلج: كثير لحم الساقين، والقطط: شديد جعودة الشعر، فهذا يُعمل به.

ولما جاءت امرأة إلى النبي ﷺ تسأل: "أو تجد المرأة ما يجد الرجل؟"  يعني: من إنزال ووجوب الغسل عليها؟ فقال تربت يداكِ ومن أين يكون الشبه؟ [رواه أبو داود: 237، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 237]. يعني: إن مني المرأة ومني الرجل يحدث شبهاً في الولد في الأبوين، فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب، ويعرف من الشكل أن هذا - مثلاً - ولدي يشبهني فهو مني، هذا من القرائن ومن العلامات.

وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل عليّ رسول الله ﷺ ذات يومٍ مسروراً فقال: يا عائشة ! ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل عليّ فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض  [رواه البخاري: 3731، ومسلم: 1459].

وسبق الكلام على أن بعض المنافقين طعنوا في نسب أسامة من أبيه زيد؛ لأن أسامة كان أسود وزيد كان أبيض، والنبي ﷺ كان يحبهما جداً، فَطُعِنَ في نسب هذا من هذا، فجاء هذا الرجل شاهداً من تلقاء نفسه، وكان خبيراً بالقيافة، فعندما نظر إلى الأرجل الخارجة من تحت الغطاء قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.

وكذلك فإن في هذا الذي حصل دليلاً على وجود الفراسة لدى بعض الناس يعرفون بها هذا ابن هذا أو لا، ولذلك يكون هناك طريقة لإثبات النسب عند ادعاء الابن لأكثر من شخص، إذا اختلفوا وليس هناك بينة.

العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى

01:24:18

وما العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى؟

هناك علاقة كبيرة بين هذا وذاك، فإن كثيراً ممن يؤول الرؤى تأويلاً صحيحاً لديه نوعٌ من الفراسة، يعرف بها تأويل الرؤى، وتفسير المنامات قد اتسعت تقيداته وتشعبت تخصيصاته وتنوعت تعريفاته، ولا يمكن الاعتماد على أقوال الناس، إلا ما ورد في القرآن العظيم والكتاب والسنة، وأما جعل ضوابط فإنه لا يمكن في تفسير المنامات والأحلام؛ لأنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وما يُلقى في قلب المفسر للرؤيا عندما تُقص عليه بإلهام يلهمه الله فيتكلم بذلك، فلا يجوز الكلام فيما لا يعرفه الإنسان في تأويل الكلام وعده العلماء من الفُتيا بغير علم.

أسباب تحصيل الفراسة

01:25:39

وأخيراً: في هذا الموضوع نأتي إلى أسباب تحصيل الفراسة، فلو قال القائل: هل هناك أسباب لتحصيل الفراسة؟

الجواب: إن من شروط ذلك: الاستقامة وغض النظر عن المحارم، فإن المرء إذا أطلق نظره تنفس الصعداء في مراءاة قلبه فطمست نورها: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

وقال بعض السلف: "من غضّ بصره عن المحارم، وكفّ نفسه عن الشهوات، وعمّر باطنه بالمراقبة، وتعوّد أكل الحلال، لم تخطئ فراسته"[حلية الأولياء: 10/237].

فإذن، إذا أراد الإنسان أن يكون له فراسة، ونظر صائب في الأمور، ويكتشف المحق من المبطل، ويعثر على الحق، ويتبين إذا اختلطت الأشياء وتشابهت، فإن عليه أن يقوم بهذه الأشياء وهي:

غض البصر عن المحرمات، وكف النفس عن الشهوات، وتعوّد أكل الحلال، وأن يكون مراقباً لله ، فكلما زادت تقوى المؤمن ألهمه الله تعالى التبصُّر بالأمور وسرعة الفهم، فكانت فراسته أثبت ممن كان أقل تقوى منه، وهذه الفراسة في غض البصر لها علاقة مباشرة بها؛ لأنه يورث نور القلب، وقال في قوم لوط: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، فهذا تعلق بالصور المحرمة، وسكر القلب بل جنونه، فلا يمكن أن يكون معه فراسة كما قيل:

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين

                                                 أي: العشق أعظم من الجنون:

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يُصرع المجنون في الحين

[الداء والدواء: 1/418].

وكان شهاب بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة؛ وكف نفسه عن الشهوات، وأكل الحلال لم تخطئ له فراسة"[حلية الأولياء: 10/237].

من غض بصره عن الحرام فأطلق الله تعالى له نور البصيرة وفتح عليه باب العلم والمعرفة فيظهر عليه من الفراسة ما الله به عليم.

هذه بعض ما يورث الفراسة وهذا موضوع جدير بالاهتمام وله علاقة مباشرة في الإيمان، وهو مذكورٌ في القرآن في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ  [الحجر:75]. ويلزم أن يكون من صفات كل من يحكمون بين العباد، نسأل الله أن ينور قلوبنا بالإيمان.

هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.