الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فضل العلم والعلماء
الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله ﷺ أهل الجاهلية والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هؤلاء العلماء شهداء الله في أرضه، هؤلاء العلماء الذين رفعهم الله : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ سورة المجادلة11 العلماء فوق المؤمنين: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ سورة آل عمران18 فبدأ بنفسه وثنى بملائكته وثلث بأهل العلم، وكفاهم بذلك شرفاً وفضلاً وجلالة ونبلاً: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَسورة الزمر9 ولذلك أحال الله الأمة إليهم: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَسورة النحل43، وهذه آياته لا يعقلها إلا العالمون، وهذا كتابه مستودع في صدورهم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ سورة العنكبوت49، فهم أهل الخشية حقاً: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءسورة فاطر28، وهم خير البرية بعد الأنبياء: أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِسورة البينة7، هم أهل الخشية: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُسورة البينة8، هم الذين أراد الله بهم خيراً: ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين[رواه البخاري71 ومسلم1037]، ورثوا أنبياءه والعلماء ورثة الأنبياء، وهذه درجة المجد والفخر، وبهذه الرتبة الشرف والذكر فلا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا شرف فوق شرف وارث تلك النبوة، وفضل العالم على العابد كفضل النبي ﷺ على أدنى واحد فينا، هؤلاء تستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض من مخلوقات الله ، فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب[رواه أبو دواد3641]، لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء لهم وتضع أجنحتها من أجلهم، هؤلاء الذين ألهمت الحيوانات والدواب في قاع البحر وداخل الجحر أن تستغفر لهم، من فضلهم علم الله دواب الأرض التي لا تعقل أن تستغفر لهم، هؤلاء الذين عبدوا الله بالعلم وخافوه بالخشية والتقوى وحملوا هذا الدين وبلغوه للناس، شرحوا للناس كتاب ربهم وسنة نبيهم ﷺ، والذي يعظمهم يعظمه ربه لأنه عظم الذين يشرحون رسالات الله إلى الخلق، هؤلاء أهل العز حقاً، وهؤلاء رؤساء العلم صدقاً، تعلموا العلم وطلبوه وذاكروا به وبحثوا عنه وبذلوه وعلموه، أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء، ومن أراد النظر إلى ميراث الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، هنا تقسم تركة محمد بن عبد الله ﷺ، وما عبد الله بمثل الفقه، إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء لله فليس لله ولي، كما قال الشافعي رحمه الله تعالى، هؤلاء الذين اشتغلوا به اشتغلوا بالعلم لكي ينقذوا بكتاب الله تعالى وسنة النبي ﷺ أهل الضلالة والجهالة، فكم من إنسان قد اهتدى من بعد ضلالة، وكم منهم قد تعلم من بعد جهالة.
عباد الله: إن العلم قبل القول والعمل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ سورة محمد19، هؤلاء ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَاسورة فاطر32 والوارث قائم مقام الموروث فله حكمه فيما قام مقامه، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر[رواه الترمذي2682] فالعلماء أصحاب النصيب الوافر، أصحاب الحظ العظيم الكامل، هؤلاء الذين سهل الله لهم طريقاً في الآخرة، وطريقاً في الدنيا بما وفقهم إليه من الأعمال الصالحة، جاءت البشائر بفضلهم، هؤلاء أهل الخشية وليسوا أهل الترخيص والتسهيل، أهل الكتاب والسنة، وليسوا أهل التحجر والتعصب والتقليد الأعمى، هؤلاء أهل السنة وليسوا بأهل البدعة، فيموت من أهل البدعة رأس، ويموت من أهل السنة رأس، ويشاء الله ذلك، لكن ليعلم أهل الإخلاص والدين والسنة من هم أهل العلم حقاً.
عباد الله: إنه قد يشتهر في الناس كثير لكن الذين يخشون الله ويعلمون الناس دينه يختلفون عن حال أولئك الذين تفخموهم وتعظموهم تلك الوسائل.
أيها المسلمون: إن الذي يريد أن يعرف العالم حقاً فلينظر إلى مكانة دينه وقوته في أمر الله وإنكاره للمنكر، ولينظر إلى نصحه للمسلمين، وليس إلى التساهل والترخيص المقيت.
عباد الله: إن لهؤلاء علينا حقوقاً ولا شك، إن لهؤلاء علينا حقوقاً في أمور كثيرة، إن طاعة العلماء عبادة، وهم الذين ذكر أهل العلم بالتفسير أنهم من أولي الأمر الواجب طاعتهم، وهم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، والأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، ووارثوا الأنبياء، هؤلاء الذين أبانوا الحق للناس، هؤلاء الذين صمدوا في الفتن، فلنذكر صبر الإمام أحمد رحمه الله تعالى وإبانته الحق للناس، وهكذا صمد ابن تيمية رحمه الله أمام التتر وقاد الأمة للجهاد، وهكذا جدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الدين يوم كانت الدنيا تمتلئ شركاً وقبوراً، وهكذا سار أهل العلم يجدد الفقه الشافعي رحمه الله، وعالم المدينة مالك،
وهكذا من قبل ومن بعد، علماء كثر، إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة يردها الناس فيستقون منها، هؤلاء أهل العلم الصحيح من الكتاب وسنة النبي ﷺ لا من البدع والتراهات، لا من الشرك والكفر، أهل الإخلاص في طلبه وتبليغه للناس، ليسوا بأهل دنيا ولا جماعون للأموال ولا مرتادون للفارهات، إنما هم أهل الزهد والخشية الذين كانت سيرتهم في أنفسهم دليلاً على خشيتهم لربهم، هؤلاء الأعزة الذين علموا الناس دين الله، الذين كانوا كثيراً ما يستخفون من الناس، ولكن الله يظهر فضلهم ومواقفهم، هؤلاء أهل التواضع الذين لو كثر الناس من حولهم وكثر تابعوهم ومن مشى وراءهم، فإن ذلك لا يحملهم على الترفع والتكبر، هؤلاء أهل الحق الذين يجانبون الهوى فلا تميل بهم الأهواء، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءسورة فاطر28، هؤلاء الذين يتكلمون بالعلم لا بالظن فإذا جاءوا إلى مسألة لا يعرفونها قال الواحد منهم: لا أدري، وتوقف عن الفتيا وهو من هو في العلم جبل عظيم.
الأدب مع العلماء
أيها المسلمون: لذلك كان حقيقاً على كل واحد منا أن يتحراهم، ويتتبع أخبارهم، ويأخذ من علمهم، ويستفتيهم، ويلجأ إليهم، هؤلاء الذين لا يخفون على أهل البصيرة، أما أهل الجهل والبسطاء فيظنون كل من لبس لباساً معيناً عالماً، ويظنون كل من أظهر إظهاراً معيناً فقيهاً؛ ولذلك فإن المسألة بحق تحتاج والله إلى فقه وبصيرة حتى من قبل العامة فيمن يلجئون إليه للاستفتاء والسؤال، هذا دين، وهذه أمانة، ولذلك ينبغي على المسلمين أن ينقبوا تنقيباً عن أهل العلم ولو سافروا إليهم، ولو وقفوا الساعات الطويلة على هواتفهم وأبوابهم، هؤلاء الذين يستدل من طلبة العلم عليهم من هو العالم الذي نسأله، من هو العالم الذي نستفتيه، العلماء الواجب نحوهم الأدب ولذلك فإنه يتلطف في سؤاله، ولا يضرب بأقوال بعضهم البعض، ولا يحمل الإنسان التعنت على مجادلتهم، والمشقة عليهم، هؤلاء الذين ينبغي أن يتلطف معهم غاية التلطف عند توجيه الأسئلة، هؤلاء الذين ينبغي على الإنسان أن يعمل بفتواهم ويجانب الهوى وليس أن يتتبع الرخص ويسأل الأسهل الذي يسهل، هؤلاء أيها الإخوة ينبغي أن يكون لنا معهم موقف شرعي في عدم الغلو بهم وعدم مجالبتهم وترك الأدب معهم، وإنما هو أدب معهم وإنزال لهم منازلهم، حق العالم على الإنسان أعظم من حق الوالد، من علم الناس كان خير أب، ذاك أب الروح لا أب النطف، هؤلاء الذين ينبغي التأدب معهم حتى في طريقة إتيانهم فلا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تشر في وجهه بيدك، ولا تفشي له سراً، ولا تمشي أمامه، ولا تتبرمنَّ من طول صحبته، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر ما يسقط عليك منها، القعدة بين أيديهم، كقعدة جبريل التي علمنا إياها، هؤلاء الذين تستر أخطاؤهم وعيوبهم ولا يشنع عليهم، وهؤلاء الذين يدعى لهم، وحتى عند الاستفتاء ما تقول رحمك الله، ما تقول رضي الله عنك، ما تقول وفقك الله وسددك ورحم والديك، يتقرب إلى الله بخدمتهم والتواضع لهم، تعظم حرمتهم وتستر زلاتهم وتقضى حوائجهم ويدخل السرور عليهم، بل ويتحف أولادهم، هؤلاء الذين ينبغي أن يدعى لهم، كان بعض العلماء يدعو لمشايخه في كل ليلة، هؤلاء الذين لا يصح الإفتاء بحضرتهم، فكيف يتزببوا ولم يتحصرم بعد، هؤلاء الذين يصبر على جفوتهم وتبذل لهم الأعذار إذا أخطئوا، ومن الذي لا يخطئ من البشر؟ لا تدخل مجالسهم إلا بالاستئذان، ولا يشق عليهم، ولا تطرق الأبواب عليهم في حين راحتهم.
كان ابن عباس يجلس في طلب العلم على باب زيد حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: ما دققت على محدث بابه قط، وكان صبرت حتى يخرج إليَّ وتأولت قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْسورة الحجرات5.
وكذلك تحرم غيبتهم جداً، ولحومهم مسومة، وعادت الله في الانتقام من شانئيهم معلومة، وهكذا ينبغي علينا أن نسعى في نشر علمهم، وهذا هو المكسب يا عباد الله العلم ونشره، نشر العلم من الصدقات الجارية، ولو لم تكن صاحب علم فإذا نشرت كتاباً أو وزعته أو صورة فتوى ونحو ذلك من العلوم كان لك من الأجر مثل أجر من انتفع، كان لك أجر الانتفاع بها، فاحرص يا عبد الله على نشر العلم فإنها من الصدقات الجارية.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الفقه في الدين، وأن يرزقنا اتباع طريق سيد المرسلين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم فقهنا في ديننا يا رب العالمين، واجعلنا من أهل الإخلاص لا من أهل الهوى، إنك سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، أشهد أن لا إله إلا الله العليم علام الغيوب، وأشهد أن محمداً رسول الله علمنا فأحسن تعليمنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي العلم والنهى، صلى الله عليهم وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مصيبة فقد العلماء
عباد الله: إن فقد العلماء مصيبة، وإن ذهابهم رزية، وإن موت العالم العظيم ثلمة في الإسلام، إنها مصيبة ينبغي أن تقدر حق قدرها، وينبغي أن نعلم ماذا خسرنا حقاً، لا لأجل أن ننوح ونصيح ولكن لأجل أن نسعى في استدراك النقص، وأن نسعى في الوصول إلى الطرق التي تؤدي إلى التعويض يا عباد الله: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَاسورة الرعد41 كان ابن عباس يقول: موت علمائها وصلحائها، وكثير من أهل التفسير ذهبوا إلى أنه نقصان بلاد الشرك بفتحها من قبل أهل التوحيد.
إن فقد العلماء مصيبة، وإن ذهابهم رزية، وإن موت العالم العظيم ثلمة في الإسلام، إنها مصيبة ينبغي أن تقدر حق قدرها، وينبغي أن نعلم ماذا خسرنا حقاً، لا لأجل أن ننوح ونصيح ولكن لأجل أن نسعى في استدراك النقص
لعمرك ما الرزية فقد مال | ولا شاة تموت ولا بعير |
ولكن الرزية فقط فذ | يموت بموته خلق كثير |
فعندما يودع العالم قبراً يتأسف على العلم الذي يدفن بموته، فيدفن في القبر علم كثير غزير، فمن بمثل اجتهاده وقدرته على النظر في الأمور، الكتب كثيرة يا عباد الله لكن الفقه والقدرة على الاجتهاد والاستنباط من الذي يقوم بها؟
لا الآلات الحاسوبية ولا غيرها إنما هي عقول العلماء، إنما هي تلك القلوب الحية التي يعقلون بها.
المصيبة بفقد الشيخ ابن عثيمين
وقد فجع المسلمون بوفاة شيخهم، وعالمهم، وصاحب الاجتهاد والفقه محمد بن صالح العثيمين رحمه الله رحمة واسعة، الذي ذهب إلى ربه ورحل عن هذه الدنيا، وكان قد استمر حتى آخر عمره في التعليم ونفع الناس والحرص على ذلك، رحل بعد مرض نرجو أن يكون له شهادة عند ربه، خلوت به قبل موته فقلت له مواسياً: يا شيخنا إن عشت فهو خير ونفع عظيم لنا إن شاء الله، وإن رحلت فليس في هذه الدنيا كبير شيء يؤسف عليه والحمد لله أنك تركت علماً كثيراً، فقال: أقول كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما رواه البخاري عنه، ماذا قال عمر بن عبد العزيز؟ "إن للإيمان فرائض، وشرائع، وحدوداً، وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص".
رحل ولم يترك أرصدة في بنوك، ولا قصوراً فارهة، ولكن ترك العلم بهذه المؤلفات والفتاوى، وهذا ميراث الأنبياء، لقد كانت الجنازة مشهودة، والقاعدة السلفية تقول: آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز، وإن الناظر في العدد الكبير من الحضور والكم الهائل من البشر الذين شهدوها ليذكر قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّاسورة مريم96.
وكذلك نذكر حديث النبي ﷺ لما قال أنس: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي ﷺ: وجبتثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبتفقال عمر : ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض[رواه البخاري1367ومسلم949]، وفي رواية: شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض[رواه البخاري2642].
وهكذا استنبط شيخ الإسلام رحمه الله من هذا أن من أثنى عليه المسلمون خيراً واجتمعت كلمتهم على الثناء عليه أنه يكون من أهل الجنة إن شاء الله، واجتماع العدد الهائل ومئات الألوف والمنظر الغريب لأهل مكة في اختراق شوارعهم من أعداد الناس صغاراً وكباراً شيباً وشباناً وكهولاً، حيث تعطلت الشوارع وخرجت الجنازة بعد العصر مباشرة فلم يفرغ إلا قبل المغرب بمدة يسيرة.
أيها المسلمون: هذا فيه درس عظيم لنا في حسن السيرة، إذا أحسنا سيرتنا فإن الله يقيض من ألسنة المسلمين من يثني علينا خيراً، وبالتالي يكون حكم المسلمين عند الله ثابت: أنتم شهداء الله في الأرض[رواه البخاري1367ومسلم949]، فأين حسن السيرة وحسن الدين وحسن الطريقة والتزام الحق المبين؟
لا شك أن الفجيعة عظيمة ولكن ليس لنا بد من الصبر، فماذا نفعل إلا الصبر، وهل عندنا غير الصبر؟ وهل يطيب العيش إلا به؟
تباركت ربي حين تعطي وتمنع | تباركت ربي حين تدني وترفع |
تباركت ربي عزة وجلالة | إليك إذا ما احلولك الخطب نفزع |
لك الخلق تقضي حكمة وتلطفاً | وكل إلى الله المهيمن يرجع |
لكم الحكم إن ضاقت علينا وإن بغت | ففضلك يا منان أرضى وأوسع |
لك الأمر إن لاحت خطوب جسيمة | فحفظك يا رحمن أقوى وأنفع |
تباركت ثبت مهجة قد تفطرت | وقلباً على وقع الرزايا يفزع |
أتاك لظى دمعي وهمي وغربتي | وآهات روحي والفؤاد المفجع |
أعالج جمراً في الحشى وصبابة | وتصلى على نار المصيبة أضلع |
وأبكي فأستعزي بذكر حبيبنا | فأسلو وما يجديك أنك تجزع |
لعمري وإن كانت حياة طويلة | فكل له في صولة الدهر مصرع |
غرور وأحلام وهم وحسرة | وظل تولى والجديد يرقع |
أأبكيك شيخ الزهد والعلم والتقى | وقد حق أن أبكي فؤاداً يصدع |
وتسلمنا الدنيا لبلوى ومحنة | وللشر أنياب بها السم يلمع |
لأن غبت جثماناً فوالله لم تغب | وذكرك بين الناس أبقى وأرفع |
تراثك موصول وعلمك خالد | وخيرك للغادي مصيف ومربع |
وما مات من زانت بساتين فكره | وفتواه في العلياء كالشمس تسطع |
وما مات من أسدى إلى الحق عمره | وقلبك بالأخرى شغوف مولع |
يهل كأن القطر من حسن قوله | فتثمر أغصان ويزهر بلقع |
ركبت مطايا العزم تقوى وهمة | وأنت لفعل الخير أدنى وأسرع |
وأسديت ثوب الزهد ثوباً مسربلاً | وذلك ثوب ليس والله يخلع |
ومن ذاق طعم الأنس بالله حقبة | فليس له في عيشة الزيف مطمع |
وغيرك يستعلي عروش كسيحة | وأنت على عرش القلوب تربع |
تفكرت في دنياك والأمن سابغ | لمن كان لله المهيمن أخشع |
صلاة وقرآن وذكر ومسجد | وحولك أجيال وعان وموجع |
فأنى لظلم النفس حظ وإنما | شغلت بفعل الخير والدرب مهيع |
وكم قمت في عين الملمات فانثنت | وأنت لحصن الدين باب ممنع |
وقفت بشهر الصوم طوداً على الضنا | تبش فلا تشكو ولا تتوجع |
بلاء لو استعلى على رأس شاهق | لخر من البلوى طريحاً يصدع |
بليت وفي البلوى طهور ورفعت | وفي غمرة السكرات تفتي وتنفع |
ومن حولك الأجيال من كل بقعة | وأرواحهم تشتاق والدهر يسمع |
فأنساهم خوف عليك من الردى | فوائد حبر عن قريب تشيع |
تركتهم جمعاً أقاموا على الأسى | أعيذهم بالله من أن يضيعوا |
ستخلد يا ذكر العثيمين معلماً | على هامة الأيام تاج مرصع |
فوالله لا تنفك تغليك أمتي | ويأسى على ذكراك قلب ومدمع |
فتاواك أنوار وصوتك رحمة | ونصحك مثل الغيث والشرح ممتع |
ونعشك أجفاني وقبرك مهجتي | وذكرك للصحب المحبين منبع |
لأن أودعوك اليوم في طيب الثرى | فقد علموا من في ثرى الطيب يودع |
وجاورت قبر الباز حباً وصحبة | عسى أن يكن في جنة الخلد مجمع |
تخلد أعمال الدعاة وتزدهي | وفاء إذا ما زال كسرى وتبع |
عليك سلام الله ما هل هاطل | وما هب نسم وانحنى متضرع |
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَسورة الزمر30 قوموا فلنمت على ما مات عليه رسول الله ﷺ، تلك العبارات العظيمة تلك الآية العظيمة والقاعدة الجليلة التي لأجلها وعليها استمر الصحابة بعد النبي ﷺ.
واجبنا نحو العلماء
أيها المسلمون: إن عزاءنا في فقده علمه الذي تركه، إن عزاءنا في فقده علمه الذي تركه، فهو الذي ينبغي الاستفادة منه ونشره مع نشر فتاوى أهل العلم، خصوصاً في هذه القضايا المعاصرة التي تكلموا فيها ولا توجد في كتب الفقه من قبل.
أيها المسلمون: إننا ولله الحمد نعتقد اعتقاداً جازماً بأن ما عند الله خير للأولياء المتقين مما في الدنيا، وهذا الذي يخفف المصاب، وإننا لنعتقد أن الله لا يضيع دينه، وأن الله جاعل في هذه الأمة خيراً، وأن الله لا بد أن يقيض لهذه الأمة من يرفع شأن الدين، لا يزال في هذه الأمة طائفة منصورة على الحق، لا يزال في هذه الأمة مجتهد وقائم لله بالحجة، وإنها فرصة أن نذكر أعداء الدين من المنافقين أن عناية الله بدينه مستمرة، وأنهم لا يصح لهم أن يفرحوا وإنما هو مسلسل مستمر، وأن السيد سيخلف السيد إن شاء الله، وأن الله ما أنزل دينه إلا ليستمر، وأنه لا يخلو الزمان من إمام قائم لله بالحجة، وإننا في الوقت الذي نقدر فيه خطورة الموقف بتوالي ذهاب العلماء، وخصوصاً الثلاثة الكبار الذين رحلوا عنا: عبد العزيز بن باز، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحمد الصالح العثيمين، فإننا في الوقت نفسه نؤكد على أن العلم لا بد أن يستمر مشواره، وأنه لا بد أن تبذل الأوقات من أجله، وأنه لا بد أن يحرص على طلبه.
أيها المسلمون: إننا نريد أن نوجه عواطفنا توجيهاً إيجابياً لأجل إنقاذ العلم واستمراره والحرص عليه.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل العلم الحريصين عليه، وأن يجعلنا من المستفيدين من فتاوى أهله، وأن يجعلنا من الذين ينشرونه.
اللهم ارحم الشيخ محمداً وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء، اللهم انفع بعلمه وفقهه، اللهم انفع بعلمه وفقهه، اللهم انفع بعلمه وفقهه، واجزه به الجزاء الأوفى، اللهم اجعله مع الرفيق الأعلى، اللهم اجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم إنا نسألك أن تغيث هذه الأمة غوثاً عاجلاً يا رب العالمين، اللهم انصر أهل العلم والجهاد واقمع أهل البدعة والفساد، اللهم من أراد إفساد ديننا فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.