الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب وعلّمنا مالم نكن نعلم وكان فضل الله علينا عظيماً.
مقدمة
أيها الإخوة، هذا الدرس هو الدرس الأخير في هذه السنة، نسأل الله أن يبلّغنا وإياكم إلى خير ونحن مقبلون على هذه الأيام العظيمة من أيام الله في أول الشهر القادم، فإن المسلم ينبغي عليه أن يتزوّد لهذه الأيام، ولا شك أن المسلم مطالب بعبادة الله في جميع الأوقات والأحيان، ووظيفة المسلم في حياته هي عبادة الله ، وهذه العبادة شرف، ويكفي أن الله خاطب المؤمنين بقوله: قُلْ يَاعِبَادِيَ [الزمر: 53]، ونحن - أيها الإخوة - مقصّرون كثيرًا جدًا في العبادة، وما سبب الهزائم والنكبات التي أصبنا بها إلا تقصيرنا في العبادة، وما ساد سلفنا ولا تقدموا ولا انتصروا إلا بالعبادة، ونحن إذا قارنا حالنا بحالهم لوجدنا البون شاسعًا والفرق عظيمًا، ولعرفنا إذا قارنا الأحوال بالأحوال لماذا نحن في المؤخرة، ينقصنا اليوم لأجل أن نكون في المقدمة ينقصنا عدد كبير من أولياء الله ، كان المتقدمون فيهم من أولياء الله من لا يحصى كثرةً، فكان لو حاربهم أحد انتصروا عليه؛ لأن الله قال في الحديث القدسي: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب [رواه البخاري: 6502]. وكم فينا اليوم من أولياء الله، الناس الذين إذا رؤوا ذكر الله ، الذين تنبعث من وجوههم أنوار الطاعة، هذا هو النقص المخل الذي دخل علينا، أولياء الله نقصهم في الأمة هو الذي أوردنا المهالك.
يوجد اليوم كثير من المنتسبين إلى الدين يقومون بعبادات لكنهم لا يصلون إلى رتبة الولاية، نحتاج حقًا إلى عدد من أولياء الله في الأمة؛ لكي تنتصر الأمة، وهذه الولاية لا تأتي إلا بعبادة، قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه [رواه البخاري: 6502]، هذه مرتبة الولاية، المشكلات الكثيرة اليوم موجودة من وراء عدم وجود العدد الكافي من أولياء الله في هذه الأمة حتى الملتزمون بالدين اليوم أو المتمسكون به، أولياء الله فيهم ندرة بالغة، وكيف نصل إلى ولاية الله؟ بالعبادة العبادة - أيها المسلمون -، وسنسمع من وصف حال أولياء الله من سلف هذه الأمة، كما هو عنوان هذا الدرس "اجتهاد السلف في العبادة" سنسمع شيئا كثيرًا، ولنحقرن أنفسنا احتقارًا عظيمًا باجتنابهم إذا ما قارنا حالنا بحالهم نحن في تقصير نحتاج إلى نظرة شاملة ومحاسبة دقيقة، وإعادة تقويم لأحوالنا وأنفسنا.
قواعد شرعية في مسألة العبادة
وقبل أن ندخل في موضوع: "اجتهاد السلف في العبادة" لا بد أن نقدم ببعض القواعد في مسألة العبادة.
موافقة العبادة للسنة
يجب أولاً أن تكون العبادة موافقة للسنة.
ولذلك فإن السلف - رحمهم الله تعالى - والنبي ﷺ على رأسهم كان مقتصداً في العبادة لما علم أن ثلاثة من الناس واحد منهم لا يريد أن ينام في الليل والآخر لا يريد أن يأكل اللحم والثالث لا يريد أن يتزوج النساء غضب ﷺ وعلمهم كيف تكون العبادة وقال لهم: إنني أنام وأقوم وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني [رواه مسلم: 1401]. واحد يريد أن يصوم فلا يفطر، والثاني يريد أن يقوم فلا ينام، والثالث يريد أن يعتزل النساء، فبين لهم ﷺ الاعتدال في العبادة فلا بد من موافقة السنة إذن، ولا أدلّ على ذلك من قصة سلمان وأبي الدرداء إن رسول الله ﷺ قد آخى بينهما فجاء سلمان يزور أبا الدرداء يومًا، فإذا أُم الدرداء متبذلة، فقال: "ما شأنك؟" قالت: "إن أخاك لا حاجة له بالدنيا يقوم الليل ويصوم النهار فجاء أبو الدرداء فرحّب به وقرب إليه طعاماً فقال له سلمان: "كل" قال: "إني صائم" قال: "أقسمتُ عليك لتفطرن" فأكل معه، ثم بات عنده فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم فمنعه سلمان وقال: "إن لجسدك عليك حقًا، ولربك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، صُم وأفطر وصلّ وائت أهلك وأعط كل ذي حق حقه" فلما كان وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت فقام فتوضأ ثم ركع ثم خرج إلى الصلاة فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله ﷺ بالذي أمره سلمان فقال له ﷺ: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا مثلما قال سلمان .
فإذن، المسألة كما قال الذهبي - رحمه الله - قلت: "الطريق المثلى هي المحمدية وهي الأخذ من الطيبات وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون: 51].
وقد قال النبي ﷺ : لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني [رواه مسلم: 1401]. فلم يشرع لنا الرهبانية ولا التمزق ولا الوصال بل ولا صوم الدهر، ودين الإسلام يُسرٌ وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه كما قال تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق: 7]، وقد كان النساء أحب شيء إلى النبي ﷺ وكذلك اللحم والحلواء والعسل والشراب الحلو البارد والمسك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله تعالى.
إذن، قضية العبادة لا تعني الرهبنة والانقطاع عن الدنيا وتحريم المباحات أبدًا.
ثم قال الذهبي - رحمه الله -: فالذي يقطع المألوفات والمطعومات، قال: من بالغ في الجوع كما يفعله الرهبان ورفض سائر الدنيا ومألوفات النفس من الغذاء والنوم والأهل فقد عرّض نفسه لبلاء عريض، وربما خولط في عقله، وفاته بذلك كثير من الحنيفية السمحة، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والسعادة في متابعة السنن تزن الأمور بالعدل، وصُم وأفطر ونم وقُم، والزم الورع في القوت، وارضَ بما قسم الله لك واصمت إلا من خير" [سير أعلام النبلاء: 14/70] وهكذا.
الإخلاص في العبادة
ثانيًا: من قواعد العبادة بعد متابعة السنة والقصد: الإخلاص فيها.
كان السلف يخفون أعمالهم وسيمر معنا أمثلة كثيرة لهذا؛ لأن الإخلاص هو الذي يرفع العبادة، والرياء هو الذي يحبطها، الإخلاص هو الذي يجعل العبادة ذات أجر عظيم عند الله فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]، وقد كان ﷺ يخفي عمله وأصحابه والسلف، إليك هذا المثال الرائع: عن محمد بن أعين، وكان صاحب ابن المبارك في الأسفار، قال: كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم ذهب ابن المبارك ليضع رأسه ليريني أنه ينام فقلت: أنا برمحي في يدي ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك، قال: فظن أني قد قمت فقام فأخذ من صلاته فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه، فلما طلع الفجر وأنا أرمقه فأيقظني وظن أني نائم وقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنم، قال: فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني ولا ينبسط إلي في شيء من غزاته كلها كأنه لم يعجبه ذاك مني لما فطنت له من العمل فلم أزل أعرفها فيه حتى مات ولم أر رجلا قط أسر بالخير منه" غضب ابن المبارك لماذا يوهمه الرجل أنه نائم وهو ليس بنائم يرمقه، لا يريد أن يطلّع عليه أحد في العبادة، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه [رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031].
الاقتصاد وعدم إملال النفس بالعبادة
الثالث من القواعد: الاقتصاد وعدم إملال النفس بالعبادة.
ولذلك قال ﷺ : القصد القصد تبلغوا [رواه البخاري: 6463]. لما رأى حبلاً معلقاً في المسجد قالوا: هذا لإحدى زوجاته إذا تعبت تعلقت به أمر بقطعه قال: إن الله لا يمل حتى تملوا [رواه البخاري: 43، ومسلم: 782]، فلا يجوز إملال النفس إذاً في العبادة لأنه يفضي إلى ترك العبادة بالكلية، وكثير من الناس أرادوا أن يكونوا عبادًا، فشرعوا في العبادة في درجات عليا وأخذوا أنفسهم بالشدة في العبادة، فكانت النتيجة أن تركوا العبادة بالكلية.
قال طارق - طارق أحد السلف -: "لأصحبن سلمان الفارسي - هذا الرجل العظيم - أنظر صحبته قال: "كنت لا أفضله في عمله، إني أذا عجنتُ خبز وإن خبزتُ طبخ، ما يمكن أن أفوقه في عمل خدمة، ما يمكن أن أخدمه ولا يخدمني، فنزلنا منزلاً فبتنا فيه، وكان لطارق ساعة من الليل يقومها، فكنت أتيقظ لها فأجده نائماً فأقول: صاحب رسول الله ﷺ خير مني نائم! فأنام، ثم أقوم فأجده نائماً فأنام، إلا أنه كان إذا تعار من الليل قال وهو مضطجع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، حتى إذا كان قبيل الصبح قام فتوضأ ثم ركع أربع ركعات فلما صلينا الفجر قلت: يا أبا عبد الله كانت لي ساعة من الليل أقومها، وكنت أتيقظ لها فأجدك نائمًا، قال: يا ابن أخي: فماذا كنت تسمعني أقول؟ فأخبرته، فقلت: يا ابن أخي تلك الصلاة، إن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتُنبت المقتلة، يا ابن أخي عليك بالقصد فإنه أبلغ الاقتصاد في العبادة وعدم إملال النفس" [رواه البيهقي في الشعب: 2996، وابن أبي شيبة: 7643].
احتساب المباحات
رابعاً: احتساب المباحات عند الله للتقوّي على العبادة.
مثل: الأكل والنوم لا بد للناس من الأكل والنوم، ولذلك الرسول ﷺ قال عن الرجل يأتي شهوته له فيها أجر استغرب الناس قال: أليس إذا وضعها في حرام كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ﷺ. [رواه أحمد: 21482، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 227].
يقول أبو موسى الأشعري : بعث الرسول ﷺ أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن، معاذ يسأل أبا موسى يقول: كيف تقرأ القرآن؟ قلت: أقرأه في صلاتي وعلى راحلتي وقائمًا وقاعدًا أتفوق تفوقًا، يعني شيئًا بعد شيء، قال: فقال معاذ: لكني أنام ثم أقوم وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، قال: وكان معاذ فُضِّل عليّ [رواه البخاري: 4341].
يعني: يرى الناس أن معاذًا أفضل.
فإذن، احتساب النومة كما تحتسب القوم واحتساب الأكلة كما يحتسب الصيام هذا شيء مهم جدًا.
فإذن، لا بد من احتساب المباحات عند الله لأنها تدخل في العبادة؛ لأن طريق الدنيا والآخرة واحد في الإسلام.
خامساً: من قواعد العبادة المواظبة ولو على القليل قالت عائشة: "كان أحب الأعمال إلى الرسول ﷺ أدومه وإن قل" [رواه مسلم: 782]. المواظبة ولو على القليل؛ لأن الشدة مع الانقطاع أسوأ من المواظبة على القليل بكثير.
وكذلك من قواعد العبادة: متابعة النفس فيما تنشط فيه.
قد تنفتح لبعض الناس طاقة على الصيام فليدخل في هذا المجال وليكثر منه، قد ينفتح لبعض الناس طاقة على كثرة قراءة القرآن فليدخل فيه وليلج هذا الباب وليكثر من قراءة القرآن، قد ينفتح لبعض الناس باب قيام الليل فيهوى ذلك ويحبه فليكثر منه مادامت نفسه تقبل على هذا النوع من العبادة فليكثر منه، بعض الناس يحبون الصدقات وكثرتها ونفسه تميل إلى ذلك فليكثر منه، لذلك كتب بعض الناس إلى الإمام مالك يلومه في أشياء يظنه مقصرًا في العبادة فكتب إليه يقول كلاما نفيساً مهماً جداً، يقول: بعض الناس ربما أحس بنفسه ميلاً إلى قيام الليل وبعضهم إلى قراءة القرآن وبعضهم إلى الصيام وبعضهم إلى كذا وإلى الجهاد وبعضهم إلى طلب العلم وتعليمه فدعني فيما أنا فيه فيما أحسنه هذا؛ لأن النفس بعض النفوس تميل إلى أنواع العبادة دون أنواع فالإنسان إذا وجد في نفسه انفتاحاً لشيء معين فليدخل فيه ولا ينسى الأنواع الأخرى لكن ليس بعيب أن يستكثر من نوع معين لا يقال: هذا إنسان مختل، لا يقال: هذا إنسان غير متزن لأن النفوس طاقات والنفوس اتجاهات وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة: 148].
ومن قواعد العبادة كذلك تعويض ما فات لو فاتك شيء أن تعوضه كان ﷺ إذا فاته قيام الليل لمرض مثلاً أو تعب صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، يشفع صلاة الليل يزيد عليها ركعة ويصلي، وهكذا كان السلف كان بعضهم له سبع من القرآن، هدي الصحابة في القرآن يقسمونه سبعة أقسام وليس ثلاثين جزء، سبعة ينتهون من كل يوم سبع، هذا عمل الصحابة كان له سبع يقرأه كل ليلة فإذا لم يقرأه أتمه في النهار، وأنس بن سيرين قال: كان لمحمد بن سيرين سبعة أوراد فإذا فاته شيء من الليل قرأه في النهار، وعن نافع أن ابن عمر كان إذا فاته العشاء في جماعة أحيا بقية الليل.
ومن قواعد العبادة كذلك عدم الغفلة عن عبادات القلب لأن بعض الناس يظن أن العبادات هي الصيام والقيام وقراءة القرآن يعني الجوارح لكن يغفل عن عبادات القلب، وعبادات القلب مهمة جداً مثل التفكر في آيات الله في القرآن وفي الكون وكان ﷺ يتفكر في القرآن ويقول: ((أُنزل عليّ آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [رواه ابن حبان: 620، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 68]. والتفكُّر: عبادة جليلة فليست العبادة فقط قيام وصيام وقراءة وتلاوة، وإنما أيضاً عبادات القلب التفكر في خلق الله في آيات الله، قال برد مولى سعيد بن المسّيب: "ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء؟ قال سعيد: "ما يصنعون؟" قال: يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافًا رجليه حتى يصلي العصر" يعني يواصل الصلاة، قال: "ويحك يا برد، أما والله إن العبادة التفكر في أمر الله والكفُّ عن محارم الله"[الطبقات الكبرى لابن سعد: 5/102].
عن عون بن عبد الله قلت لأم الدرداء: أي عبادة كان أبو الدرداء أكثر؟
قالت: "التفكر والاعتبار" [رواه النسائي في الكبرى: 11850، والأصبهاني في الحلية: 4/253].
وكان أبو الدرداء يقول: "تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة" [رواه البيهقي في الشعب: 117، والأصبهاني في الحلية: 1/209، وابن أبي شيبة: 35223].
ومن قواعد العبادة كذلك: أن يبتعد الإنسان عن محرمات وإيذاء الخلْق، فبعض الناس قد يكون صّواماً قوّاماً، لكن لا تسلم أعراض الخلق من لسانه، لا يسلم الناس من إيذائه، لا يأمن جاره بوائقه، هذه نماذج موجودة في المجتمع وناس عندهم عبادات لأنفسهم، لكن في مجال التعاون مع الخلق من أسوأ ما خلق الله، هذه عبادة منقوصة ومدخولة.
عن جعفر بن برقان قال: "بلغني عن يونس فضل وصلاح فأحببت أن أكتب إليه أسأله، فكتب إليه رد عليه قال: "أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه فأخبرك أني عرضت على نفسي أن تُحب للناس ما تُحب لها، وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذاك بعيدة، ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير، فوجدت الصوم في اليوم الحار أيسر عليها من ذلك" [سير أعلام النبلاء: 6/290]. وجدت الصوم في اليوم الحار أسهل على نفسي من ترك أعراض الناس، هذا أمري يا أخي والسلام، موعظة بليغة.
ومن قواعد العبادة الآن نقولها ترك المحرمات، قال بعض السلف: لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً، بعض الناس يشتكي يقول: أنفسنا لا تطيق القيام، أنفسنا لا تطيق الصيام، ما السبب؟ يقول بعض السلف: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك، وقال أحمد بن حرب: "عبدتُ الله خمسين سنة، فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء، تركتُ رضا الناس حتى قدرتُ أن أتكلم بالحق، وتركتُ صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الآخرة، الدنيا والآخرة ضرّتان، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى" [سير أعلام النبلاء: 11/34].
ومن قواعد العبادة كذلك المجاهدة، كيف تحصل العبادة؟ بالمجاهدة.
بعض الناس يريد أن يكون عبدًا من العباد وهو لا يجاهد نفسه، فكيف تحصل له العبادة؟ ونحن الآن مقدمون على كلام وعلى عرض حال السلف حتى نعلم ما هي المجاهدة، كيف صابر أولئك القوم أنفسهم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، لقد عملوا أعمالاً عظيمة، ونريد أن نذكّر بكلام مهم للشاطبي قبل أن ندخل في عرض أحوال السلف؛ حتى لا يحصل تضارب عندنا واستغراب واستنكار لما نسمع من الأحوال، إذا قرأت كلامًا لبعض السلف يقول أنه كان يقوم الليل ويصوم النهار مثلاً، أو رأيت أشياء من المداومة عجيبة، فتساءلت وقلت: هل هذا يتعارض مع الاقتصاد في العبادة؟ هل هذا من الإملال؟ هل هذا مخالف للسنة؟ فذكر الشاطبي - رحمه الله - ثلاثة مخارج للجواب عن مثل هذه الأشياء التي نقرأها ونسمعها من شدة السلف في العبادة وأخذ أنفسهم بالشدة فيها، قال: "إما أن يقال إنهم التزموا شيئاً كان سهلاً على أنفسهم، فما التزموا شيئًا كان يسبب لهم الملل والنفور وترك العبادة"
ثانياً: "أن نقول إنهم كانوا يفعلون ذلك أحياناً وليس دائمًا باستمرار" [الاعتصام للشاطبي: 2/185].
فلو سمعت مثلاً عن واحد من العباد أو العلماء كان يصلي الفجر بوضوء العشاء فماذا تقول؟ الرسول ﷺ كان يقول عن سنّته: أقوم وأنام وهذا رجل قرأنا سيرته، كان يصلي الفجر بوضوء العشاء فكيف بذلك؟ نقول: الجواب أنه كان يفعل ذلك أحياناً يحصل له، لكن ليس هذا ديدنه دائمًا.
المخرج الثالث: أن نقول إن المشقة تختلف باختلاف الناس، فالناس يختلفون في قوة أجسامهم وقوة عزائمهم وقوة يقينهم فإذا رأيت بعض السلف عنده شدة في العبادة على نفسه، فتعلم أن حاله ليس مثل حال غيره، فهو كان يطيق وربما غيره لا يطيق، المهم أنهم مهما عملوا كانوا لا يصلون إلى درجة الملل.
ولنبدأ الآن ولندخل في الموضوع بعد هذه المقدمة المهمة عن العبادة وقواعدها وتفسير بعض الأحداث، والوقائع التي سنسمع عنها نبدأ بسيد المرسلين وإمام الأولياء المجاهدين الصابرين محمد ﷺ رأس العابدين الزاهدين سيد الأولين والآخرين كيف كانت عبادته ﷺ؟ ماذا كان يفعل ﷺ؟ عن حذيفة أنه رأى رسول الله ﷺ يصلي من الليل فكان يقول: "الله أكبر ثلاثاً ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحواً من ركوعه، يقول لربي الحمد، ثم سجد فكان سجوده نحوًا من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه من السجود، فكان يقعد فيما بين السجدتين نحوًا من سجوده، وكان يقول: رب اغفر لي رب اغفر لي في أربعة ركعات، قرأ البقرة والنساء وآل عمران والمائدة أو الأنعام، شك شعبة، هذا كان حاله ﷺ كان يقول: شيبتني هود وأخواتها، سئلت عائشة، قال لها عبد الله بن عمير: حدّثينا بأعجب شيء رأيته من رسول اللهﷺ، فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة ذريني أتعبّد لربي قالت: قلت: والله إني لأحب قربك أحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلّ حجْره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليالي آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [رواه ابن حبان: 620، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 68].
وكان ﷺ يقرأ القرآن في قيامه ويرفع صوته ﷺ يتغنى بالقرآن؛ عن علي قال: "ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ﷺ تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح" [رواه أحمد: 1023، وابن خزيمة: 899، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 545]. وفي رواية: "فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح يناشد ربه. ﷺ"
قائم في الليل ﷺ.
وكذلك كان ﷺ يقوم حتى تتفطر قدماه فيسأل عن ذلك فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً يقوم الليل بآية يرددها حتى الصبح، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118].
بأبي وأمي يا رسول الله قمت الليل بآية واحدة بها تركع وبها تسجد وبها تدعو وقد علمك الله القرآن كله لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً ﷺ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13].
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كيف كانت عبادتهم؟ قال العباس بن عبد المطلب: "كنت جارًا لعمر بن الخطاب فما رأيت أحداً من الناس كان أفضل من عمر، إن ليله صلاة، وإن نهاره صيام، وإنه في حاجات الناس" [حلية الأولياء: 1/54]. وعن الفاروق قال: "لولا ثلاث لما أحببتُ البقاء، لولا أن أحمل على جهاد الخير في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر" [مفتاح دار السعادة: 1/120].
قرأ مرة قول يعقوب: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86]، فسُمع نشيجه من وراء الصفوف ، [الدر المنثور: 4/573]. وعثمان قارئ القرآن الذي مات وقتل ودمه على المصحف، قالت امرأة عثمان حين قُتل: "لقد قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن" قال ابن كثير: "ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: 9].
قال: "هو عثمان بن عفان" [تفسير ابن كثير: 7/78].
قال حسان بن ثابت: "ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآن
[تاريخ المدينة لابن شبة: 4/1239].
كان إذا قام يجهّز لنفسه الماء ولا يكلّف عبيده أن يقوموا ليسخنوه له.
عبّاد بن بشر الصحابي، عن جابر بن عبد الله قال: "خرجنا مع رسول الله ﷺ فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فحلف المشرك ألا ينتهي حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد ﷺ فخرج يتبع أثر النبي ﷺ، فنزل النبي ﷺ منزلاً ومعه الجيش، فقال: من رجل يكلؤنا ؟ يحرسنا الليلة فانتدب رجل من المهاجرين وهو عمار بن ياسر ورجل من الأنصار؛ وهو عبّاد بن بشر انتدبا للحراسة في سبيل الله، فقال ﷺ: كونا بفم الشِّعب فلما خرج الرجلان إلى فم الشِّعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري، فصلّى، فأتى الرجل المشرك الذي كان يتتبع الجيش، فلما رأى شخصه واقف يصلي عرف أنه ربيئة القوم، هذا المسلم مادام يصلي، فرماه بسهم فوضعه، فالصحابي يصلي، فنزع السهم حتى رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو يصلي، لم يترك الصلاة، ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه المهاجري، فلما عرف أنه قد نذروا به، لما عرف المشرك أن المسلمين أحسّوا به هرب، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري قال: سبحان الله لمَ لم تكن أنبهتني أول ما رمى؟ قال: "كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها" [رواه أبو داود: 198، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 193].
تميم الداري وما أدراك ما تميم الداري، عن جعفر بن عمر قال: "كنا فئة من أبناء أصحاب النبي ﷺ، قلنا: إن آباءنا سبقونا بالهجرة، سبقونا بالصالحات، فهلم نجد في العبادة لعلنا ندرك فضائلهم، قال عبد الله بن الزبير ومحمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة، ومحمد بن عبد الرحمن بن عبد يغوث، قالوا: فاجتهدنا في العبادة في الليل والنهار وأدركنا تميمًا الداري شيخًا كبيرًا، فما قمنا له ولا قعدنا في طول الصلاة، شباب، على تميم الداري قال: "فما قارناه ولا سبقناه ولا قاربناه في صلاته"[الزهد لأحمد بن حنبل: 163].
أبو هريرة بكى في مرضه فقيل: ما يبكيك؟ قال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بُعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي" [حلية الأولياء: 1/383].
وأبو موسى الأشعري اجتهد قبل موته اجتهاداً شديداً في العبادة فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك، قال: "إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها - يعني إذا وصلت إلى قرب نهاية شوط السباق - أخرجت جميع ما عندها والذي بقي من أجلي أقل من ذلك" [سير أعلام النبلاء: 2/393].
ولما حضر معاذ بن جبل الموت قال: "أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار مرحبا بالموت، مرحبا زائرا جاء على فاقة اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلق الذكر" [حلية الأولياء: 1/ 23].
أما الأشعريون قوم من الصحابة قال فيهم ﷺ: إني لأعرف أصوات الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا في النهار [رواه البخاري: 4232، ومسلم: 2499]. مميزين بين الناس بأصواتهم بقراءة القرآن بالليل.
كان ابن عمر كلما استيقظ من الليل صلّى، وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً بعد أن قال عنه ﷺ: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل [رواه البخاري: 1121، ومسلم: 2479].
وكان يمتد قيامه إلى السحر، فإن أخبره نافع به استغفر؛ لأن السحر طلع جلس للاستغفار.
كان لعبد الله بن عمر مهراس فيه ماء فيصلي ما قُدّر له، ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاء الطير ثم يقوم فيتوضأ ثم يصلي فيرجع إلى فراشه إغفاء الطائر، ثم يثِب فيتوضأ، ثم يصلي، يفعل ذلك من الليل أربع مرات أو خمس مرات"[مختصر قيام الليل: 47]. وعن نافع: "أن ابن عمر إذا فاتته صلاة العشاء جماعة أحيا الليل كله".
وعن نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة ثم يقول: "يا نافع أأسحرنا؟" فيقول: لا، فيعاود، فإذا قال: نعم، قعد يستغفر الله حتى يصبح" [مختصر قيام الليل: 96].
وعائشة التي ملأت الدنيا علماً كيف كانت في صلاتها وقيامها وعبادتها وصدقتها؟ قال عروة: "لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفًا وإنها لترقع جيب درعها"
جاءها مرة عطاء من معاوية وهي صائمة وزّعته، لما جاء وقت الإفطار قالت للجارية: قرّبي الإفطار، قالت: ما عندنا شيء، لو أبقيت لنا شيئًا من العطاء، قالت: "لو كنت ذكرتني لفعلت" [حلية الأولياء: 2/47].
والسلف -رحمهم الله - ساروا قرناً بعد قرن على هذا القرون الثلاثة الأولى، لماذا كانوا فضلاء؟ لماذا كانوا خير هذه الأمة؟ لماذا كان الإسلام في عهدهم عزيزاً؟ لماذا كانت الأمة رافعة رأسها في وقتهم؟ بسبب عبادتهم، ونحن اليوم طأطأنا رؤوسنا من الذل بسبب عدم إحياء العبادة في قلوبنا.
كان الفضيل - رحمه الله - إذا ذكر عند الله أو سمع القرآن ظهر به من الحزن والخوف وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من بحضرته، وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد الله بعلمه وأخذه وإعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها"، هذا الفضيل بن عياض. [حلية الأولياء: 8/ 84]
قال حماد بن سلمة: "ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يُطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً أو عائدًا - عائدًا مريضًا - أو مشيعًا لجنازة أو قاعدًا في المسجد، قال: "فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله " [حلية الأولياء: 3/28].
وعن أبي عوانة قال لو قيل لمنصور بن زاذان: "إنك ميت اليوم أو غداً ما كان عنده من مزيد، لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا" [حلية الأولياء: 6/250].
عن عطاء الخفاف قال: "ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً، فقلت: "ما شأنك؟"
قال: "أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً". [حلية الأولياء: 7/51].
كان يرى سفيان الثوري من يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق أكثر ما تسمعه يقول: اللهم سلّم سلّم [حلية الأولياء: 7/ 21]. وثابت البناني قال: "كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقعناً باكيًا أو متقعنًا متفكرًا" [العاقبة في ذكر الموت: 154].
وعن جعفر بن سليمان قال: "بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب، فجاؤوا برجل يعالجها، فقال الرجل الطبيب: أعالجها على أن تطيعني؛ قال: وأي شيء؟ قال: على ألا تبكي قال: "فما خيرهما إن لم تبكيا؟!" [حلية الأولياء: 2/323]
وعن حفص بن حماد قال: "قال لي زياد بن جرير: اقرأ عليّ، فقرأت عليه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 1- 3]، فقال: يا ابن أم زياد - يخاطب نفسه - يا ابن أم زياد أنقض ظهر رسول الله ﷺ أنقضه هذا حتى رفعه الله عنه، فجعل يبكي كما يبكي الصبي".
وعن سلام بن أبي مطيع قال: أُتي الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى وقال: "ذكرت أُمنية أهل النار قولهم: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ [الأعراف: 50]، وذكرت ما أُجيبوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [حلية الأولياء: 6/189].
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: "ما رأيتُ أحدًا أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل، كانت قراءة حزينة شهية بطيئة مترسِّلة كأنه يخاطب إنسانًا، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة تردد فيها وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعدًا، تُلقى له حصيرة في المسجد، فيصلي من أول الليل ساعة حتى تغلبه عيناه، فيلقي نفسه على الحصير، فينام قليلاً ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم، هكذا حتى يصبح وكان دأبه إذا نعس أن ينام، ويقال: "أشد العبادة ما يكون هكذا" [سير أعلام النبلاء: 7/396]، وعن عاصم بن أبي النجود قال: "كان عطاءُ أبي وائل ألفين، - عطاؤه من بيت المال- فإذا خرج العطاء أمسك ما يكفي أهله سنة وتصدق بما سوى ذلك" [تاريخ دمشق لابن عساكر: 23/172].
عن هشام بن حسان عن الحسن قال: "والله لقد أدركت أقوامًا كان أحدهم يخلف أخاه في أهله أربعين عامًا ينفق عليهم" [حلية الأولياء: 6/270]، إذا مات أخوه كدّ على أهل أخيه على عائلة أخيه بعد موت أخيه أربعين سنة ينفق عليهم أعمال بر وصدقات خفية وقيام ليل، عن الأعمش قال: "قال عمرو بن عتبة بن فرقد: "سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين وأنا أنتظر الثالثة، سألته أن يزاهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل منها وما أدبر، وسألته أن يقوّيني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها" [حلية الأولياء: 4/155].
قال رجل ابن عم لعمرو بن عتبة: "نزلنا في مرج حسن فقال عمرو بن عتبة: ما أحسن هذا المرج، ما أحسن الآن لو أن منادياً نادى يا خيل الله اركب، يعني نادى منادي الجهاد،فخرج رجل فكان في أول من لقي فأُصيب، ثم جيء به فدفن في هذا المرْج، هذا يفكر الآن ويقول، قال: فما كان بأسرع من أن نادى مناد: يا خيل الله اركبي، فأُتي عُتبة فأُخبر بذلك فقال: عليّ عمراً عليّ عمرًا، هاتوه؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل - عمرو- هذا إذا تمنى الشيء فإنه سيأتيه، فأرسل في طلبه فما أُدرك حتى أصيب، فما رآه دفن إلا في مركز رمحه، مكان ما ركز الرمح وقال: أشتهي أن أدفن هاهنا" [تهذيب الكمال: 22/142].
وعن سلمان قال: "كان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته" [تذكرة الحفاظ: 1/99]. يعني كأنه الآن قام مع أنه قام من فترة من الليل.
وعن جعفر بن سليمان قال: "سمعت أبا التياح يزيد بن حبيب الضبعي يقول: أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادّهن ولبس صالح ثيابه" [رواه البيهقي في الشعب: 9/195]. ادّهن حتى لا يشعر الناس بجفاف شفتيه ولا وجهه وإنما يشعرون أن فيه نضرة فيه رطوبة لكي يخفي أثر الصيام، ولقد كان الرجل يقرأ عشرين سنة، وما يعلم به جيرانه. وعن أم سعيد بن علقمة قالت: كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير فكنت أسمع حنينه عامة الليل لا يهدأ، قالت: ولربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همّك عطّل عليّ الهموم وحال بيني وبينك السُّهاد، وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات، فأنا في العبادة مطلوب، ولربما ترنّم في السَّحر بشيء من القرآن فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه تلك الساعة" [حلية الأولياء: 7/357]. وعن محمد بن كناسة قال: "لما مات ذر بن عمر بن ذر الهمداني، وكان موته فجأة، جاء أهل بيته يبكون فقال: مالكم؟ إنا والله ما ظُلمنا ولا قُهرنا، ولا ذُهب لنا بحق ولا أُخطئنا ولا أُريد غيرنا وما لنا على الله معتّب" فلما وضعوه في قبره وضعه والده في قبره قال: "يرحمك الله يا بُني، والله لقد كنتَ بي باراً، ولقد كنت عليك حدباً، وما بي إليك من حاجة، ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبتَ لنا بعز، ولا أبقيتَ علينا ذُل، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر لولا هول المطلع ومحشره لتمنيت ما صرتَ عليه، فليت شعري يا ذر ما قيل لك وماذا قلت، ثم قال: اللهم إنك وعدتني الثواب بالصبر عليه، اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر صلاة مني فلا تعرفه قبيحاً وتجاوز عنه فإنك أرحم به مني" [حلية الأولياء: 5/108]، هكذا كان صبرهم على مصابهم وكان يفقد أحدهم الولد العابد الزاهد القائم الصائم الصابر فيصبر عليه.
وعن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني أنه قرأ: تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 7]، قال: "تأكله إلى فؤاده وهو حي، لقد تبلّغ فيهم العذاب، ثم بكى فأبكى من حوله" [حلية الأولياء: 2/323].
وعن عبدة بنت خالد بن معدان عن أبيها قالت: "قال ما كان خالد يأوي إلى فراش المقيلة إلا وهو يذكر فيه شوقه إلى رسول اللهﷺ وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم يسميهم ويقول: "هم أصلي وفصلي وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجّل ربي قبضي إليك حتى يغلبه النوم وهو في بعض ذلك شوق إلى النبي ﷺ وأصحابه" [حلية الأولياء: 5/210].
عن موسى بن إسماعيل قال: "لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط، كان مشغولاً بنفسه، إما أن يحدِّث، وإما أن يقرأ، وإما أن يسبّح، وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال" [سير السلف الصالحين: 989]، وعن شجاع بن الوليد قال: "كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما كاد يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا" [حلية الأولياء: 7/13]. فالذي يظن أن العبادة صيام وقيام لا يدخل فيها دعوة إلى الله ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ولا مجاهدة ظالم ولا قول الحق في وجه طاغية، ولا جهاد في سبيل الله، فهو إنسان مقصّر في نظرته، قاصر في فهمه لهذا الدين، فإن هذا الدين عبادة بجميع أنواعها، وابن المبارك كان يقوم الليل وهو في الجهاد ما نسي الجهاد، قال مصعب: "سمع عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، سمع هذا الرجل الذي اسمه عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام سمع المؤذن يؤذن وهو يجود بنفسه، فقال: "خذوا بين يدي" فقيل: إنك عليل، قال: "أسمع داعي الله فلا أجيبه؟!" فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب فركع ركعة ثم مات فيها.
قال أبو نعيم: سمعت سفيان يقول: "إني لأفرح بالليل إذا جاء، قال سفيان: "إذا جاء الليل فرحتُ، وإذا جاء النهار حزنتُ من خلطة الخلق الذين يشغلونني عن طاعة الله" [سير أعلام النبلاء: 5/220].
كان سفيان إذا ذكر الموت مكث أيامًا لا يُنتفع به؛ مما يصيبه من الغمّ والهمّ بذكر الموت، فإذا سُئل عن شيء وهو في حاله قال: ما أدري ما أدري؟
وعن عبد الرزاق قال: "أضاف سفيان برجل من أهل مكة فقرب الطعام فأكل أكلا جيدًا، سفيان، ثم قُرِّب إليه التمر فأكل أكلا جيدًا، ثم قُرِّب إليه الموز، فأكل أكلا جيدًا، ثم قام فشدّ وسطه وقال: يُقال أشبع الحمار ثم كُدّه، فلم يزل منتصباً حتى أصبح، قيام الليل". أكل سفيان الثوري ليلة فشبع فقال: إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله فقام الليل حتى أصبح"[الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/96].
وعن أبي خالد قال: "صحبت سفيان في طريق مكة فكان يقرأ في المصحف كل يوم، فإذا لم يقرأ فيه فتحه ونظر فيه فأطبقه" قال يوسف: "قال لي سفيان الثوري: ناولني المطهرة أتوضأ ونحن في المسجد، فناولته، فوضع يمينه على خدّه الأيمن، ووضع يساره على خده الآخر، ثم نمت أنا، فاستيقظتُ وقد طلع الفجر وهو على حاله، فقلت: يا أبا عبد الله طلع الفجر، فقال: ما زلت أفكر في أمر الآخرة منذ ناولتني المطهرة إلى الساعة" اليوم الآخر طويل خمسين ألف سنة التفكُّر فيه يا ترى كم يحتاج من وقت؟
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "ربما كنا مع سفيان فيقول: النهار يذهب ونحن في غير عمل، ثم يقوم فزعًا، فما نراه يومًا" [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/94]. وكان سفيان الثوري إذا أصبح مدّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل، سفيان الثوري سيرته مجهولة من كثير من شباب المسلمين، سفيان الثوري يقارع الطغيان، ويصارع الظالمين، ويذهب فيختبئ ويدرس وهو يدرس من ظلم الظالمين، ويخبئ كتبه ثم يستخرجها بعدما دفنها خوفًا عليها، ومع ذلك هو عابد زاهد صوام قوام - رحمه الله - ويسافر ويجمع الحديث.
والأوزاعي وما أدراك ما الأوزاعي "كنتَ إذا رأيته قائماً يصلي كأنما تنظر إلى جسد ليس فيه روح"، كما قال عبيدة بن عثمان، [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/218]. وقال عقبة بن علقمة: "لقيت الأوزاعي يوم الجمعة رائحًا إلى الجمعة على باب المسجد، فسلّمت عليه، ثم دخل فتبعته، فأحصيت عليه خروج الإمام صلاته أربع وثلاثين ركعة كان قيامه وركوعه وسجوده حسنا كله" [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/218].
قال أحدهم: إذا وعظ الأوزاعي الناس كنت أقول في نفسي ترى في المجلس أحد لم يبك، قال أحمد بن سنان الواسطي: "رأيت وكيع بن الجراح إذا قام في الصلاة ليس يتحرك منه شيء لا يزول ولا يميل على رجل دون الأخرى، لا يتحرك كأنه صخرة قائمة" [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/222].
قال أحمد بن أبي الحواري: "سمعت وكيع بن الجراح يقول: "ما نعيش إلا في ستره، لو كُشف الغطاء لكشف عن أمر عظيم" يعني يقول: أنا عندي مصائب، ولكن الله يسترها عليّ لو كشف الغطاء عني لكشف عن أمر عظيم، وسمعت وكيعًا يقول: "الصدق النية" [سير أعلام النبلاء: 9/158].
وعن عبدة بن سليمان: "كان ابن المبارك إذا صلّى العصر أتى مسجد المصيصة الجامع فاستقبل القبلة يذكر الله ولم يكلم أحداً حتى تغرب الشمس" [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/269].
وكان سلام بن أبي مطيع يقول:" ما كان يونس بأكثرهم صلاة" يعني يونس بن عبيد ولا صومًا، ولكن لا والله ما حضر حق لله إلا وهو متهيئ له" [تهذيب الكمال: 32/525]. الاستعداد للمناسبات والاستعداد للعبادات.
نظر يونس إلى قدميه عند الموت فبكى، فقيل: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: "قدماي لم تغبرا في سبيل الله" [حلية الأولياء: 3/19].
التأسف على فوات الطاعات فهل نتأسف مثلهم أو عشر معشارهم؟
عبد الرحمن بن أبان بن عثمان كان يصلح للخلافة، كان يشتري أهل البيت فيعتقهم ويكسوهم ويقول: "أستعين بهم على غمرات الموت، فمات وهو نائم في مسجد" [سير أعلام النبلاء: 5/10]. كان كثير العبادة والتألُّه.
أما مسروق - رحمه الله - قالت امرأته: "والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام، وكنت أجلس خلفه فأبكي رحمة به، وكان - رحمه الله - إذا طال عليه الليل وثب ثم صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير".
وأما ثابت بن أسلم البناني الذي كان رجلاً من العُبّاد، قال: "كابدتُ الصلاة عشرين سنة ثم تنعّمت بها عشرين سنة فإذا قلت: يا أيها المسلم كيف نبلغ ما بلغوا ؟ كيف نحاول اللحوق؟ كيف نقتدي؟ فنقول: المسألة لا بد لها من مجاهدة، كل عمل أو فكرة بدون مجاهدة فهي فاشلة وقال: ما شيء أجده في قلبي ألذ عني من قيام الليل، وكان رحمه الله يقوم الليل فإذا أصبح يأخذ قدميه بيديه فيعصرهما ثم يقول: "مضى العابدون وقُطع بي والهفاه".
عبد الله بن عون كان يقول: "أحب لكم يا معشر إخواني ثلاث هذا القرآن تتلونه آناء الليل والنهار، ولزوم الجماعة والكفُّ عن أعراض المسلمين".
والمنذر بن مالك أبو نضرة كان يستحب إذا قرأ الرجل الآية: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف : 97]، أن يرفع بها صوته ليذكر الناس، وحسان بن أبي سنان قالت امرأته: "كان يجيء فيدخل في فراشه" هذا مثال على الإخلاص، تقول المرأة: "كان يجيء فيدخل في فراشه ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني قد نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم فيصلي، فقلت: يا أبا عبد الله كم تعذّب نفسك؟ ارفق بنفسك، فقال: "اسكتي ويحك إني أوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانًا" وقيل له في مرضه: ماذا تشتهي؟ قال: "ليلة بعيدة ما بين الطرفين أحيي ما بين طرفيها" وسعيد بن جبير الذي سمع يردد آية وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59]، حتى أصبح.
وقال: "خصيف رأيت سعيد بن جبير يصلي ركعتين خلف المقام قبل صلاة الصبح فصلّيت إلى جنبه وسألته عن آية فلم يجبني فلما صلى الصبح قال: إذا طلع الفجر فلا تتكلم إلا بذكر الله حتى تصلي الصبح" [حلية الأولياء: 4/ 281]، وهذا وقت يُغتنم في الذكر والدعاء، وكان له - رحمه الله - ديك يوقظه إلى الصلاة، وقد ثبت أنه ﷺ في صحيح البخاري كان إذا صاح الصائح قام إلى الصلاة" الصائح الذي يصيح هو الديك يوقظه لصلاة الليل ﷺ كان له ديك يوقظه إلى الصلاة فلم يصح ليلة من الليالي، فأصبح سعيد ولم يصلّ فشقّ عليه ذلك، فقال: "ماله قطع الله صوته" قال فما سُمع صياح الديك بعد ذلك أبدًا فقالت له أمه: "أي بني لا تدع على شيء بعدها" [حلية الأولياء: 4/274].
منصور بن المعتمر من رجالات السلف المجهولون عند شباب الخلف كان صواماً قواماً، كان يصلي في سطحه فلما مات هذا الرجل يصلي في سطحه أعلى السطح، فلما مات منصور بن المعتمر قال غلام لأمه - غلام الجيران قال لأمه -: يا أمه الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه قالت: "يا بُني ليس ذلك جذع ذلك منصور قد مات"
وكانت بنتان لا تصعدان إلى السطح إلا في الليل من الستر فلما مات أحد السلف قالتا لأمهما يا أمه أرأيت المشجب -المشجب الذي يعلق عليه الثياب-، أرأيت المشجب الذي كان على سطح جيراننا لم نعد نراه قالت: ليس ذلك بمشجب، كان فلان يقوم الليل فمات فلم تعودا ترياه، هذا منصور بن المعتمر الذي كان يصلي تقول له أمه: إن لعينيك عليك حقًا، ولجسمك عليك حقًا، فيقول لها: دعي عنك منصور، فإن بين النفختين نومًا طويلاً، فإذا كان الصُّبح كحل عينيه ودهن رأسه وفرّق شفتيه وخرج للناس" [حلية الأولياء: 5/41].
وقال زائدة بن قدامة: "كان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلتَ: قد أُصيب بمصيبة؛ منكّص الطرف منخفض الصوت رطب العينين، إن حركّته جاء عينيه بأربع - يعني تنهال بالدموع - ولقد قالت له أمه يومًا: "ما هذا الذي تصنع بنفسك؟ تبكي عامة الليل لا تكاد تسكت لعلك يا بُنيّ أصبت نفسًا - لعلك قتلت قتيلاً - فيقول: "يا أمه أنا أعلم بما صنعت بنفسي، قال تميم بن مالك: كان منصور إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه، فيحدّثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائمًا على أطرافه كل ذلك ليخفي العمل.
وعمر بن عبد العزيز، وما أدراك ما عمر - رحمه الله -، قالت زوجته فاطمة بنت عبد الملك: "يا مغيرة، إني أعلم أنه قد يكون من الناس من هو أكثر صلاة وصومًا من عمر، فأما أن أكون رأيت رجلاً أشد فرقًا من ربه من عمر فإني لم أره، كان إذا صلى العشاء الآخرة ألقى نفسه في مسجده فيدعو ويبكي حتى تغلبه عينه حتى ينتبه فيدعو ويبكي حتى تغلبه عينه فهو كذلك حتى يصبح" وقالت: "إن عمر - رحمه الله - فرّغ نفسه للناس فكان يقعد لهم يومهم فإذا أمسى عليه بقية من حوائج الناس وصله بليلته، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه فدعا بسراجه الذي كان يُسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعا واضعًا رأسه بين يديه تسيل دموعه على خده، يشهق الشهقة أقول: قد خرجت روحه، أو انصدعت كبده، فلم يزل ليلته حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائمًا"، وصلّى مرة في الليل فلما بلغ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل: 14]، صلى مرة بالناس وقرأ سورة الليل: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل: 1]، فلما بلغ قول الله : فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى بكى فلم يستطع أن يجاوزها، مرتين أو ثلاثاً يحاول المجاوزة فلم يستطع، فانتقل إلى آية أخرى. [الطبقات الكبرى: 5/285].
دخلت امرأة من أهل زوجة الأوزاعي على امرأة الأوزاعي، فنظرت فوجدت بللاً في موضع سجود الأوزاعي، فقالت لزوجته: ثكلتك أمكِ، أراك غفلتِ عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ، فقالت لها امرأة الأوزاعي: "ويحكِ هذا يصبح كل ليلة أثر دموع الشيخ في مسجده، هذا ليس من بول الصبيان هذا دموع الشيخ في مكان سجوده تبقى من كثرتها" وكان أبو حنيفة يصلي وكان يسمى الوتد لكثرة صلاته، عن مسعر بن كدام قال: "أتيت أبا حنيفة في مسجده فرأيته يصلي الغداة، ثم يجلس للناس في العلم إلى الظهر، ثم يجلس إلى العصر يصلي العصر، ويجلس إلى المغرب إذا صلى المغرب جلس إلى العشاء، فقلت في نفسي: هذا الرجل في الشغل مع الناس متى يتفرغ للعبادة؟ لأتعاهدنه الليل، قال: فتعاهدته فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد فانتصب إلى الصلاة إلى أن طلع الفجر ثلاث ليال، وصلّى مرة ليلة يردد في قيامه: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور: 27]، إلى الصبح، وقام ليلة بهذه الآية بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46]يرددها ويبكي يتضرع إلى الله.
وهارون الرشيد ظلموه وغمطوه حقه - رحمه الله - من المستشرقين إلى أذنابهم، إلى جهّال الناس اليوم، كان يغزو عاماً ويحجُّ عاماً، كان إذا حجّ حجّ معه مائة من الفقهاء وأبناؤهم، وإذا لم يحجّ أحجّ ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة" يخرجهم على نفقته، قال ابن كثير - رحمه الله -: "كان يصلي في يوم مائة ركعة تطوُّعاً، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن يعرض له شيء من المرض ونحوه"، وقال الفضيل: "ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري" قال: "فلما مات الرشيد وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر الصدع بخلق القرآن وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوّفه الفضيل، قال منصور بن عمار: "ما رأيت أغزر دمعًا عند ذكر الله من ثلاثة: فضيل، وأبو عبد الرحمن الزاهد، وهارون الرشيد، هذا الرجل - هارون الرشيد الذي غمطوه - فهم اليوم يسمون المطاعم مطعم هارون الرشيد، سمعته بين الناس أنه صاحب بطن وشهوات، وهو الذي كان يحجُّ عامًا ويغزو عامًا - رحمه الله -، كان مانعًا للفتنة رافعًا للسنة مجاهدًا للزنادقة مقرّباً للعلماء قائماً بالليل - رحمه الله -.
قال محمد بن يوسف: "كان الثوري يقيمنا بالليل فيقول: "قوموا يا شباب، صلّوا ما دمتم شبابًا، إذا لم تُصلّوا اليوم فمتى؟ وكان - رحمه الله - يخرج يدور بالليل وينضخ الماء في عينيه حتى يذهب عنه النعاس".
قال وكيع بن الجراح: "كان علي والحسن ابنا صالح وأمهما قد جزؤوا الليل ثلاثة أجزاء فكان علي يقوم الثلث ثم ينام ويقوم الحسن الثلث، ثم ينام وتقوم أمهما الثلث، ثم ماتت أمهما فجزآ الليل بينهما، فكان يقومان حتى الصباح مثل أبي هريرة وزوجته وخادمه أو ابنه وخادمه يجزآن الليل واحد يقوم الثلث ثم يوقظ الآخر وينام هو فالثاني يقوم الليل الثلث ثم يوقظ الآخر وينام والثالث يقوم الليل ما بقي من الليل، وهكذا يتواصون بقيام الليل.
الشافعي كان يقرأ ويجزئ الليل ثلاثة أجزاء الجزء الأول يكتب والثاني يصلي والثالث ينام.
وكان عبد العزيز بن أبي رواد - رحمه الله - يُفرش له الفراش فيضع يده عليه ويقول: "ما ألينك، ولكن فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم إلى صلاته"[الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/96]،.
أحمد بن حنبل أشهر من أن يُذكر وأن يُعرّف به، قال إبراهيم بن شمّاس: "كنت أرى أحمد بن حنبل يحيي الليل وهو غلام، قال عبد الله بن الإمام أحمد: "كان أبي يقرأ في كل يوم سُبُعا، يختم كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو"
قال عبد الصمد بن سليمان: "بتُّ عند أحمد بن حنبل فوضع لي ماء، فلما أصبح وجدني لم أستعمله، فقال: "صاحب حديث لا يكون له وردٌ في الليل؟" قال: قلت أنا مسافر؟، قال: "وإن كنت مسافرًا، حجّ مسروق فما نام إلا وهو ساجد" وقال أبو عصمة البيهقي: "بتُّ ليلة عند أحمد، فجاء بالماء فوضعه فلما رجع نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له وِرد من الليل؟" [حلية الأولياء: 9/ 358].
والبخاري ليله عبادة ممزوجة بعلم ودعاء، قال محمد بن أبي حاتم الورّاق: "كان أبو عبد الله البخاري إذا كنتُ معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانًا، كنت أراه يقوم في الليلة الواحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين، في كل ذلك يأخذ القدّاحة فيوري نارًا بيده ويُسرج، ثم يخرّج أحاديثه فيعلّم عليها، ثم يضع رأسه، وكان يصلي في وقت السحر ثلاثة عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني؟ قال: "أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك"
كتب كتاب: "التاريخ الكبير" في الليلة المقمرة في المسجد النبوي وما كتب ترجمة من تراجم الجامع الصحيح إلا تطهّر وصلّى ركعتين" ولما اضطُهد البخاري وضُيّق عليه قال في دعائه: اللهم إني قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فما أتمّ الشهر إلا وقد قبضه الله إليه" [حلية الأولياء: 9/328].
والنووي - هؤلاء أتباع السلف -، كان كثير العبادة، سأله البدر بن جماعة عن نومه فقال: "إني إذا غلبتني عيناي غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه، قال أحد تلاميذه: كنت ليلة في أواخر الليل في جامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة وهو يردد قول الله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 24]، مرارًا بخوف وخشوع حتى حصل عندي من ذلك أمر عظيم". [حلية الأولياء: 9/345].
وابن تيمية - رحمه الله - كان في ليله منفردًا عن الناس، خاليًا بربه ضارعاً إليه، مواظبًا على تلاوة القرآن، مكرراً لأنواع التعبدات الليلة والنهارية، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة.
قال الذهبي: "لم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه"
وفي السجن أقبل على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد وختم القرآن في إقامته في القلعة ثمانين مرة أو إحدى وثمانين ختمة وصل في آخرها إلى قوله عز وجل في سورة اقتربت الساعة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54، 55]، وفاضت روحه، نام وفاضت روحه، يُرجى له حُسْن الختام - رحمه الله - بهذه الآية.
وابن القيم تلميذه كان ذا عبادة وتهجُّد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، قال ابن رجب: "لم أُشاهد مثله في عبادته وعلمه بالقرآن، ولقد امتُحن وأُوذي مرات وحُبِس مع شيخه - شيخ الإسلام - في المرة الأخيرة منفردًا عنه، حُبِس انفرادي ولم يُفرّج عنه إلا بعد موت الشيخ، وكان في مدة حبسه مستقلاً بتلاوة القرآن ومشتغلاً بها وبالتدبر والتفكر ففتح الله عليه وحجّ مرات وجاور بمكة وكان أهل مكة يتعجبون من كثرة طوافه وعبادته"
وابن قدامة - رحمه الله تعالى - ابن قدامة الذي كان من عبادته شيء عظيم كما ذكره أصحاب التراجم وكما ذكره الذهبي - رحمه الله - في سير أعلام النبلاء سيرته عظيمة، ابن قدامة رحمه الله وغيرهم وغيرهم كثير من السلف ومن بعدهم. ونختم لكم بهذه القصة: قال منصور بن عمار: "نزلت سكة من سكك الكوفة، فخرجت في ليلة مظلمة مستحلكة فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي وهو يقول: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سوَّلت لي نفسي فأعانتني عليها شقوتي، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي، فإلى من أحتمي، ومن من عذابك يستنقذني، ومن أيدي زبانيتك من يخلّصني، وبحبل من أتصل إذا أنت قطعت حبلك عني، واسوأتاه إذا قيل للمخفين وللمثقلين: حطوا فياليت شعري مع المثقلين أحطُ أم مع المخفّين، كلما طال عمري وكبُر سنّي كثُرت ذنوبي وكثُرت خطاياي، فيا ويلي كم أتوب وكم أعود ولا أستحي من ربي، واشباباه، قال منصور: "فلما سمعت هذا الكلام وضعتُ فمي على باب داره وقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، قال منصور: "ثم سمعت للصوت اضطرابًا شديدًا وسكن الصوت، فقلت: "إن هناك بليّة، فعلّمت على الباب علامة ومضيت لحاجتي، فلما رجعت من الغد إذا أنا بجنازة منصوبة، وأكفان تُصلّح، وعجوز تدخل الدار وتخرج باكية، فقلت: يا أمة الله من هذا الميت منك؟ قالت: إليكَ عني لا تجدد عليّ أحزاني، هذا ولدي ومن زل عن كبدي ومن كنت أظن به سيدعو لي من بعدي، كان ولدي إذا جن عليه الليل قام في محرابه يبكي على ذنوبه وكان يعمل هذا الخوص فيقسم كسبه أثلاثاً فثلث يطعمني، وثلث للمساكين، وثلث يفطر عليه، فمر علينا بالبارحة رجلاً لا جزاه الله خيرًا، فقرأ عنده آية فيها ذكر النار، فلم يزل يضطرب ويبكي حتى مات رحمه الله" [حلية الأولياء: 10/189].
هؤلاء القوم الذين سبقونا لما صدقوا مع الله وحسُنت عبادتهم صاروا من كبار أولياء الله، فأي جيش يهزمهم، وأي عدو يخوفهم؛ لما حسُن عملهم أثّرت حالهم في الناس، إذا وعظوا وجلت القلوب وذرفت العيون؛ لأن حالهم يؤثّر في السامعين، ولذلك كانوا إذا وعظوا تأثر الناس، قال أبو الدرداء في أهل دمشق لما رأى انشغالهم بالبنيان: "يا معشر أهل دمشق ألا تستحيون تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وتأملون ما لا تبلغون، قد كان لقرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويؤمّلون فيطيلون، ويبنون فيتقنون، فأصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالاً وأولادًا، فمن يشتري مني تركة آل عادٍ بدرهمين؟" [حلية الأولياء: 1/217].
ووعظ الحسن يوماً الناس، فقال: "إن لله عبادًا كمن رأى أهل الجنة في الجنة، وكمن رأى أهل النار في النار مخلّدين، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيامًا قصاراً تعقب رحلة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم تسيل دموعهم على خدودهم يجأرون ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض" [حلية الأولياء: 2/151].
وقال يحيى بن معاذ: "طوبى لعبد أصبحت العبادة حرفته، والعزلة شهوته، والآخرة همته، وطلب العيش بُلغته، وجعل الموت فكرته، وشغل في الزهد نيته، وأمات بالذل عزته، وجعل إلى الرب حاجته، يذكر في الخلوات خطيئته، أرسل على الوجنتين عبرته، وشكا إلى الله غُربته، وسأله بالتوبة رحمته، طوبى لمن ذلك صفته، وعلى الذنوب ندامته، بكاء إلى الله في الأسحار وقيام في الليل والنهار يناجي الرحمن ويطلب الجنان ويخاف النيران" [حلية الأولياء: 10/58].
ثم نسأل فنقول أخيرا: هذا حالنا وهذا تقصيرنا، فمن أين أوتينا؟ وبأي شيء ابتلينا؟
فنقول: السبب منا نحن قبل أن يكون من الأعداء، نحن ضيعنا وفرطنا، وقصّرنا وتخلفنا عن القوم، فلم نعرفهم ولم نقتدي بهم، قست القلوب بفعل هذه الدنيا، وانشغل الناس بالوظائف والدراسات، والنعيم الذي يزول عن النعيم الذي لا يزول، ولذلك صار حالنا إلى ما ترون، فكيف الحل؟ إنها العودة، ومحاولة الاقتداء بهؤلاء القوم، واللحوق بالركب، والله الذي لا إله إلا هو لو أن عندنا أولياء لله، فعلاً إنه ينقصنا كما قلنا في البداية أولياء الله، ما فينا ندرة، نقرأ عن حال السلف يقال: رجل كان إذا رئي ذكر الله، فلان كان إذا رئي تحسب النور يخرج من وجهه، فلان خشع الناس لما رأوه، أين هؤلاء فينا اليوم؟ أين هؤلاء؟ عباداتنا تقصير، وصلاة الفجر في ضياع، وتبكير إلى الصلاة معدوم، وقراءة القرآن على عجل وتمضي السنة ولا نكاد نختم، والصيام قليل، قيام الليل وهذا حال السلف فيه، إننا فعلاً إذا نظرنا إلى أنفسنا بالمقارنة بهؤلاء لوجدنا أننا فعلاً في غاية الحقارة، ولو أن عندنا من مثل هؤلاء القوم ولو عدد والله لنصر المسلمون بدعائهم، نحن السبب ومنا التقصير، فنسأل الله أن يجعل أمرنا إلى خير وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتقصيرنا،، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.