موضوع عظيم؛ عنوانه: "ضوابط في إنكار المنكر".
أهمية النهي عن المنكر
أما النهي عن المنكر فإنه من الأمور العظيمة التي أمر الله بها، قال سبحانه وتعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
وقدمه الله على الإيمان به، فقال : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110].
وقدمه سبحانه وتعالى أيضاً على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع إنه فرض كفاية ومع إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فرض عين، فقال سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71] .
وبعكس ذلك المنافقون: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] قال أبو هريرة : "كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة".
وبعث الله الرسل بأعظم معروف وهو التوحيد، وأمرهم بالنهي عن أعظم منكر وهو الشرك.
ولما فرط بنو إسرائيل بهذا الموضوع ذمهم الله، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة : 78] لماذا لعنوا؟ ما المعصية التي ارتكبوها؟
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة : 79].
وأثنى الله على أمة من أهل الكتاب لهذا الأمر، فقال : مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران: 113 - 115].
وإنكار المنكر سنة نبينا محمد ﷺ كما مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غشنا فليس منا [رواه مسلم: 102].
إن أحدكم ليسأل يوم القيامة حتى يكون فيما يسأل عنه أن يقال: ما منعك أن تنكر المنكر إذا رأيته؟ [صحيح ابن ماجه].
إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها [رواه أبو داود: 4345، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 689].
إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده .
هذا العقاب في التفريط في النهي عن المنكر.
وأما الأجر والثواب: إن من أمتي قوماً يعطون مثل أجور أولهم لماذا يعطون مثل أجور أولهم؟ بأي شيء؟
ينكرون المنكر [رواه أحمد: 23181، وهو حديث صحيح].
فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له فوائد عظيمة؛ فمنها: أنه سبب للنجاة في الدنيا قبل الآخرة: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165].
ولذلك تهلك الأمة وفيها الصالحون، يأتيهم العذاب وينزل بهم ثم يبعثون على نياتهم لكن يعم الهلاك الصالحين.
لكن لو كان فيهم مصلحون لو كان أهلها مصلحون هل يشملهم العذاب؟!
ما هو الدليل؟ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117].
لكن لما سألت أم المؤمنين رسول الله ﷺ قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ ماذا قال؟ نعم، إذا كثر الخبث [رواه البخاري: 3346، ومسلم: 2880].
ما مر يمكن على الأمة الإسلامية خبث كثر بمثل ما هو متكاثر في هذه الأيام أليس كذلك؟ بلى!
ما هو الفرق بين الصالح والمصلح؟ لماذا تهلك الأمة وفيها صالحون لكن لا تهلك إذا كان أهلها مصلحون؟
لأن الصالح صلاحه لنفسه غير متعد إلى غيره.
أما المصلح فصلاحه في نفسه ومتعد إلى غيره لأنه يصلح غيره ولذلك كيف تفسد البلد وفيها مصلحون.
إذا كان أهلها مصلحين كيف تفسد البلد؟ صعب مستحيل.
ويجب تربية الأمة أفراداً وجماعات على هذا المبدأ الخطير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل كان ذلك من تربية لقمان لابنه الصغير حتى الولد الصغير يربى على هذا المفهوم وعلى هذه القضية: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17].
هل نربي أطفالنا وصغارنا اليوم على هذا المبدأ وعلى إنكار المنكر إذا رآه الولد وكان صغيرا ولو كان الذي يفعله كبيراً؟ سؤال يحتاج إلى إجابة.
وهذه الوظيفة ليست وظيفة هيئة معينة أو أناس معينين بل هي وظيفة المسلمين كلهم.
والذي يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلًا فهو جاهل بأصول الدين غير عالم بفقه الإسلام وأصول الشريعة.
فما بالكم بالبلاد التي ليس فيها هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
إذاً، هي مهمة عامة بالمسلمين، للمسلمين جميعاً لا تسقط عن واحد منهم إلا إذا قام بها البعض على صورة كاملة سقطت عن الباقين.
لكنها وظيفة كل مسلم.
أما مسألة الاحتساب ونظام الاحتساب في الدولة الإسلامية فهي مسألة مشتقة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الآمر والناهي قد يحتاج إلى سلطة ليغير بنوع من القوة إذا تواقح أهل المنكر، وتوانى الناس عن القيام بالواجبات فوجد نظام الاحتساب.
والفرق بين المحتسب وغيره، نوع من القوة والسلطة يعطى للمحتسب، ولكن الوظيفة نفس الوظيفة عامة للجميع.
وسبب إعطاء السلطة للآمر الناهي المحتسب أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهذا كلام واضح.
الحاجة إلى معرفة ضوابط إنكار المنكر
أما موضوعنا وهو: ضوابط في إنكار المنكر، فنحتاج إليه حاجة ماسة.
لماذا؟
أولًا: حتى يكون إنكارنا إنكاراً صحيحاً، وحتى لا يؤدي إلى مفاسد أعظم منه، ولأن هناك كثير خصوصاً في هذا الظرف الذي قامت به الصحوة الإسلامية وهدى الله به كثيرين، وصار الحماس لتغيير المنكر موجوداً عند الكثير من المستقيمين على شرع الله، وهؤلاء الناس يتحرقون إلى رؤية واقع نظيف، لا تنتشر فيه المنكرات ولا تظهر.
ولكن لا بد أن تكون طريقة إنكارهم صحيحة حتى يحدث المقصود.
إننا نعيش في عالم بعيد عن شرع الله ولا شك ولا يماري في هذا أحد من العقلاء.
ويسعى كل مخلص إلى أن يأتي اليوم الذي يرى فيه المجتمع الإسلامي النظيف المتقيد بشريعة الله.
ولكن هذا اليوم لن يأتي هكذا فجأة ولن يأتي مباشرة بدون جهد، لا بد للولادة من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام، ولكن فرحة الولادة تنسي آلام المخاض.
فالصبر الصبر -أيها الإخوة- على هذا الواجب كما أمر الله، حتى تتمخض هذه المحاولات الجادة والطريقة الصحيحة عن بزوغ فجر جديد وولادة المجتمع النظيف الذي يسعى إليه المخلصون.
ومن أسوأ الأمور كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: أن يذنب الرجل أو الطائفة فيحصل الشر بالذنب، ويسكت آخرون عن النهي عن المنكر فيكون الشر مضاعفاً، وينكر آخرون بطريقة خاطئة إنكاراً منهياً عنه فيكون الشر مضاعفاً أضعافاً، كثيرة فرقة تذنب وفرقة تسكت وفرقة تنهى بطريقة خاطئة، ماذا ستكون النتيجة؟
والإخلاص أهم ركيزة تضبط لنا عملية إنكار المنكر؛ لأن بعض الناس ينكرون المنكر شهرة ورياء.
وبعضهم ينكرون المنكر لأغراض دنيوية لكي يقال عنه جريء، أو.. إلخ.
ويتبين ذلك إذا كان هذا الشخص لا يفعل المعروف الذي يأمر به ويرتكب المنكر الذي ينهى عنه أين الإخلاص إذاً؟
هذا الذي يفضحه الله على رؤوس الأشهاد وتندلق أقتابه في النار فيطوف بها كما يطوف الحمار بالرحا حتى يتعجب أهل النار من حاله كما ورد في الحديث الصحيح الثابت الذي رواه أسامة عن رسول الله ﷺ.
ويتجلى عدم الإخلاص أيضاً فيما لو قام بعض الناس ينكرون على ظالم من الظلمة ظلمه واعتداءه فإذا أرضى هذا الظالم أولئك المنكرين ببعض الشيء من متاع الدنيا فينقلبون أعواناً له على الباطل، وعلى أحسن أحوالهم فإنهم سيسكتون عن إنكار المنكر.
فهنا نقول لهؤلاء: هل أخلصتم النية فعلاً عندما قمتم بالإنكار؟ أم أنكم أنكرتم لتعطون شيئاً معيناً فتسكتون عنه أو أن تيار انجرافكم لتكونوا أعوانًا للظالم سببه عدم الإخلاص أصلاً في البداية، ومن فسدت بدايته كانت نهايته فاسدة.
وأهل المنكر يحبون أن يوافقهم غيرهم على منكرهم ولا يحبون أن يكون أحد أحسن من أحد، يريدون من الجميع أن يسايروهم على منكراتهم.
فالحذر الحذر -يا أيها القائمون بإنكار المنكر- من مزالق عدم الإخلاص.
وينبغي أن نعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يشترط أن يصل إلى كل فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لو قام الآمر الناهي بواجبه.
وعندما أقول عبارة: "الآمر، الناهي" فهي اختصار للجملة: "الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر".
إذا قام "الآمر، الناهي"، بما يجب عليه لا يشترط أن يصل هذا النداء وهذا الإنكار إلى كل مكلف على وجه الأرض، فإنه إذا قام بما يجب عليه فإن الإثم والخطأ والمسؤولية تكون على الآخرين الذين لم يبلغهم هذا النهي؛ لأنهم هم الذين لم يأتوا ويسألوا عن حكم الأشياء التي يعملونها.
فلا يأتي إنسان ويقول: أنا أبقى ما أنا عليه من الواقع ولا أسأل حتى يأتي واحد وينكر علي.
نقول: لو ما جاءك أحد فأنت آثم، أنت مسؤول، لماذا لم تقم وتذهب وتستفتي وتسأل.
وهذا الضابط مهم حتى يريح المخلصين الذين يقومون بالجهد، لكن الجهد الذي يبذلونه لا يكافئ المنكر الموجود في اتساعه وشموله وقوته، فنقول لهم: ما دمتم تؤدون واجبكم ولو لم يصل هذا الإنكار إلى عشر معشار المجتمع، فأنتم مأجورون على ذلك والحمد لله، و لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى أمور كثيرة؛ فمنها: العلم، وهذا ضابط مهم، فإن "الآمر، الناهي" يحتاج إلى العلم حتى يعرف هل الذي يأمر به معروف أم لا؟ وهل الذي يريد أن ينهى عنه هو منكر في الشريعة أم لا؟
فلو كان جاهلاً لربما أمر بمنكر ونهى عن معروف.
وكم من الناس يقولون: لا تفعل هذه بدعة، خطأ، ثم يكون الأمر سنة في الحقيقة.
وكم من الناس يقولون: افعل هذه سنة، ويكون الذي يأمرون به بدعة من البدع.
لماذا؟
لأن العلم مفقود.
فإذا اشتبه الأمر على المسلم فلا يجوز له أن يأمر وينهى حتى يتبين، ولا يقدم على الطاعة إلا بعلم.
والعلم المقصود هنا ليس فقط العلم بهذا الأمر هو في الشريعة معروف أم لا، وهذا الأمر هو منكر في الشريعة أم لا، وإنما يشمل العلم أيضاً العلم بحال المأمور وحال المنهي، الشخص الذي تأمره والشخص الذي تنهاه، ما هو حاله؟ يجب أن تعلم حاله؛ لأنه لو كان معانداً لا بد أن يختلف موقفك منه في الإنكار عما إذا كان جاهلاً أليس كذلك؟ هل يمكن أن تأمر شخصاً جاهلاً بنفس الأسلوب الذي تأمر به شخصاً معانداً؟ أو تنهى شخصاً جاهلاً مثل ما تنهى شخصاً معانداً؟
لا يمكن.
هذا العلم هو المذكور في الضابط المشهور الذي ذكره العلماء لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالماً بما يأمر عالماً بما ينهى، رفيقاً بما يأمر رفيقاً بما ينهى، حليماً بما يأمر حليماً بما ينهى، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: والعلم قبل الأمر والنهي والرفق معه في الأسلوب أثناء الأمر والنهي، والصبر، الحلم، الصبر بعده على الأذى الذي يلاقيه الآمر الناهي.
ويحتاج كذلك في مسألة العلم: أن يعرف الأدلة التي يؤيد بها كلامه والحجج التي يستدل بها على المخالف حتى يقيم عليه الحجة، ويكون الأمر قوياً، والنهي مستنداً إلى مستند قوي، وبذلك تكون العملية فعلاً إقامة حجة الله على الخلق.
أما أن يقول: لا تفعل، بدون أدلة وبدون تقديم الحجج وبدون إقناع، ما اكتملت المسألة، هذا قام بجزء من القضية، ولكن بقيت عليه أجزاء أخرى.
وإنكار المنكر واجب على من قدر على إزالته، فإذا قدر عليه المسلم فإنه واجب عليه خصوصاً إذا كان هو الشخص الوحيد الذي يستطيع إزالة المنكر، كما يحصل أحياناً إذا لم ير المنكر إلا هو وكان يقدر على إنكاره، ولو ذهب ليأتي بآخر لفاتت المسألة فيجب عليه وجوباً عينياً أن يقوم الآن بإنكاره، لا مانع أن يستعين الإنسان بآخرين.
ولكن المقصود الوصول إلى الهدف وهو تغيير المنكر.
أحياناً نكون جماعة في مجلس من المجالس، ويحصل منكراً من المنكرات، ويقول هذا في نفسه: لعل فلاناً ينكر، ويقول الثاني في نفسه: لعل فلاناً سيتكلم، ويقول الثالث في نفسه: لعل فلاناً سيغير، ويتواكلون، ويتكل كل واحد منهم على الآخر، وفي النهاية لا يحدث الإنكار.
هذا الخطأ، عندما يقول العلماء: إنكار المنكر فرض كفاية، نعم، لكن هل الذي يحصل الآن في المجتمع أن بعض الناس قد قاموا به فأغنوا عن الباقين؟
كلا.
وكذلك أن يكون المنكر قائماً في الحال، الآن يحدث فأنت تنكره.
ولكن إذا ظهرت بوادر المنكر، فهذا يفرض عليك أن تبادر إلى الإنكار، ولا تفهم من هذه العبارة أنك تقف مكتوف اليدين حتى يحصل المنكر، وبعد ذلك تنكر، هذا خطأ.
إذا رأيت مثلا رجلًا يهم بالتدخين، وقد أخرج سيجارة وهم بقدح القداحة ليشعل تلك اللفافة السم فلا تقل: أدعه حتى يشعلها ثم يبدأ بالتدخين عند ذلك يقوم المنكر فأنكر، لا..
إذا رأيت بوادر الأمر سيحصل فعليك بالبدء بالإنكار.
وكذلك لو سمعت من شخص أنه يعزم على عمل منكر، قال لك: أنا أنوي أن أفعل كذا، أو إني أريد أن أفعل كذا، أو وصلك خبر عن فلان أنه غداً سيفعل كذا، غداً سيسافر سفراً محرماً، فعند ذلك تذهب إليه قبل أن يفعل المنكر وتنكر عليه؛ لأنك علمت أنه سيشرع فيه.
لكن هذا لا يعني سوء الظن وأنك تمسك أي واحد من الناس ولو ما بلغك عنه شيء وتقول: لا تفعل كذا، ولا تفعل كذا، وهو لن يفعل، هذا في الحقيقة يؤدي إلى نتيجة سيئة.
هل يشترط أن يحصل الانتفاع لكي يكون الإنكار واجبا؟
وهنا ضابط آخر وهو: هل يشترط أن يحصل الانتفاع لكي يكون الإنكار واجباً ؟ بعض الناس يقولون: في بعض الحالات أنا أعرف تماماً أن المنكر لن يزول، ومهما تكلمت ومهما فعلت لن يزول المنكر، فلا فائدة إذاً من الإنكار، لماذا أنكر؟
وقد يستدلون بآية: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى: 9].
ولكن إذا علمنا أن إنكار المنكر يكون لأغراض شتى.
فمنها: رجاء الثواب.
ومنها: خوف العقاب إذا تركت الإنكار.
ومنها: الغضب لله أن تنتهك حرماته وتعظيم الله وإجلاله.
ومنها: النصيحة للمؤمنين.
فعند ذلك تعلم بأن الإنكار ينبغي أن يحصل منك في جميع الحالات.
وذلك لأسباب منها أنك مطالب بإقامة الحجة على الناس، إقامة الحجة لوحدها فائدة شرعية حتى لو لم يتغير الأمر؛ لأن الله جعل أمة محمد ﷺ شهداء على الناس.
ولما سأل قوم قوماً فقالوا لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ؟ بماذا أجابوا؟
قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164].
قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ نقيم الحجة عليهم ونعذر أمام الله.
نحن نعذر أمام الله إذا أنكرنا.
إذاً هذه لوحدها فائدة تسوى الواحد ينكر، من أجل فقط إقامة الحجة، حتى ولو علمت أنه لن يتغير أي شيء.
صاحب محل الأغاني لو أني دخلت عليه الآن، وأنكرت عليه، قلت: يا أخي هذا حرام، وهذا سحت، أنت الآن تبيع هذه المحرمات لتأكل منها، وتطعم أولادك، هذا حرام.
قد يقول واحد: أنا أعلم بأنه لن يغلق المحل، ولن يترك هذا الأمر، ولن يقلع عنه بالكلية؛ لمجرد أني دخلت وأنكرت، لكن ما يدريك أن كلامك لن ينفع أليس قد ينفع؟ بلى، قد ينفع قد يكون إنكارك بالإضافة إلى إنكار غيرك بالإضافة إلى إنكار شخص ثالث على نفس هذا الشخص صاحب المنكر إذا ما نفع الآن ينفع لو بعد سنين.
ويكون كلامك قطرة في الموضوع مع قطرات أخرى يفيض الكأس، ويظهر الأثر، أليس كذلك؟
وهل وظيفتنا إلا وظيفة تبليغ الناس؟ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ [المائدة: 99].
بلغ -يا أخي- حتى لو لم تظن أنه سينفع، التبليغ وظيفة الرسل، وانه عن المنكر.
وحتى تخرج من الملامة؛ لأن الله قال بعدما أمر رسوله ﷺ: فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] فلو لم يذكر لكان ملوماً، قد وقعت عليه الملامة، فقام ﷺ يذكر.
ثم أنه قد ينفع قد يتذكر هذا الشخص ويحصل الأثر.
ولكن لا مانع أحياناً إذا رأى الشخص باجتهاده أن الإنكار لن يأتي بنتيجة أبداً، وربما أدى إلى سلبية مثلاً، قال عباس العنبري: "كنت ماراً مع أبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل بالبصرة فسمعت رجلاً يقول للرجل: يا ابن الزاني، فقال له الآخر: يا ابن الزاني، قال: فوقفت، ومضى أبو عبد الله، فالتفت إلي، فقال: يا أبا الفضل أي شيء قالا؟ يعني لماذا وقفت؟ يقول أبو العباس العنبري: قلت سمعنا المنكر قد وجب علينا يعني الإنكار، قال: امض ليس هذا من ذلك،
ترجم عليه الخلال رحمه الله: معنى العبارة ما يسع الرجل تركه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا رأى قوماً سفهاء، يعني يمكن إذا أنت نهيته يمكن يقول: وأنت بعد يا ابن الكذا.
وسوف نأتي إلى ضوابط أثناء الموضوع توضح لنا هذه النقطة أكثر.
هناك آيات في القرآن الكريم تخوف الإنسان من الأمر والنهي في ظاهرها عند بادئ الرأي، أول ما يفكر الإنسان فيها: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2]؟، وقول شعيب لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود: 88]؟
وحديث الرجل: الذي يؤتى ويلقى في النار فيقول له أهل النار: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه [رواه البخاري: 3267، ومسلم: 2989].
وحديث الخطباء الذين تقرض شفاههم بمقاريض من نار يوم القيامة.
هذه الآيات والأحاديث ممكن تجعل إنساناً صالحاً يخشى من الإنكار، يقول: أنا أولًا كيف آمر بمعروف وأنا ربما لا أفعله؟ كيف آمر واحداً بحفظ القرآن وأنا ما حفظت القرآن؟ كيف أنهى شخصاً عن منكر ربما مثلاً يرى واحداً ينظر إلى امرأة أجنبية فيقول في نفسه: وأنا يحصل مني أحيانا هذا؟
فإذاً، كيف أنهى عن المنكر؟ لو نهيته عن المنكر يمكن أصير يوم القيامة أدور في النار كما يدور الحمار بالرحى وتندلق أقتابي، إلى آخره، وتقرض شفتاي بمقاريض من نار، إذاً لا، دعني أولاً أكمل نفسي وأنتهي عن جميع المنكرات، ثم أبدأ بالأمر والنهي.
وهذه الشبهة موجودة في عقول كثيرين ، وتقف حائلاً بينهم وبين الأمر والنهي، يظنونها من باب الورع، ولكنه في الحقيقة ورع فاسد، قال القرطبي -رحمه الله-: "اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر" [تفسير القرطبي: 1/366].
وقال الشنقيطي -رحمه الله-: "واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكره الله يعني في كتابه، وفي الحديث من اندلاق الأقتاب وقرض الشفاه بمقاريض من نار ليس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما على ارتكابه هو للمنكر عالماً بذلك، فالحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط عن صالح أو طالح" [أضواء البيان: 1/463].
وحتى أبين لكم هذه المسألة فاستمعوا إلي في هذه المراتب الثلاثة التي سأذكرها الآن.
الناس ثلاثة أصناف في قضية المنكر:
واحد: لا يأتيه وينهى عنه، هذا بأي المراتب؟
الأولى، أعلى مرتبة، لا يأتي المنكر وينهى عنه.
المرتبة السفلى: أسفل مرتبة: واحد يأتي المنكر ولا ينهى عنه.
ما هي المرتبة الوسط؟
أنه يأتيه، وينهى عنه.
إذاً، أليس الذي يأتي المنكر وينهى عنه أفضل من الذي يأتي المنكر ولا ينهى عنه؟
بلى، هو أفضل منه، لماذا؟
لأن الذي يأتي المنكر وينهى عنه عليه إثم إتيان المنكر، لكن الذي يأتي المنكر ولا ينهى عنه كم إثم عليه؟
إثمان: إثم إتيان المنكر، وإثم عدم النهي عنه.
فانتبهوا لهذه المسألة فإنها تزيل كثيراً من الإشكالات في الأذهان.
ولكن:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى | طبيب يداوي الناس وهو مريض |
لكن في نفس الوقت نقول: لا يعني هذا والله أن الواحد الآن يستريح، ويقول: الحمد لله أنا علي إثم واحد خلني أسوي المنكرات وأنهى عنها، ولا أسوي المعروف وآمر به وأنا أصير بخير، وربما أنه أمري يكون له أجر يغطي على سيئاتي في ترك المعروف ونهيي يكون له أجر يغطي على سيئاتي في فعل المنكر وأطلع منها كفافاً لا لي ولا علي؟
نقول لك: لا، لا يمكن أن يكون هذا منطقاً سليماً.
هذا مذموم لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] مذموم لا شك في ذمه، وهو آثم لا شك في إثمه إلا أن يسامحه الله ويتجاوز عنه، لكن هو أقل سوءاً من المرتبة الأخيرة التي ذكرناها.
فإذاً، انظر إلى عظمة الإسلام يجعل المؤمن بين حدين يقول له: ترى لو أنت سويت المنكر ونهيت عنه ترى أنت مذموم : لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ؟ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة: 44]؟
وفي نفس الوقت يقول له: ترى لو فعلت المنكر ولم تنه عنه ترى عليك إثم أكبر فيصبح الواحد بين إثمين، بين هذا الإثم وهذا الإثم، فيخرج عنهما إلى تهذيب النفس وإنكار المنكر والانتهاء عنه والأمر بالمعروف والإقدام عليه وفعله.
وهذا لا يعني أن الواعظ أحياناً يعظ الناس ويذكر الناس لكن مرة من المرات تحدث له تذكرة نفس فيتوقف لشيء كما في هذه القصة، قال الحسن لمطرف بن عبد الله: "عظ أصحابك فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول؟ ويود الشيطان أن قد ظفر بهذا، فلم يأمرنا أحد بمعروف ولم ينه عن منكر، يقول ترى الشيطان وده من الكلام اللي أنت تقوله الآن أني ما أعظ ولا أنهى حتى أكمل نفسي تماماً، فيقول الحسن: والله هذا ود الشيطان أن يصل إلى هذه النتيجة، ليش؟
لأنه لا يأمر أحداً ولا ينهى أحداً بعد ذلك.
وقال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى أحد عن منكر، قال مالك: وصدق، من هو الذي صدق؟ سعيد.
من ذا الذي ليس فيه شيء.
ولكن أحيانا قد يقف الإنسان وهو ينهى قد يقف أحيانا ويراجع نفسه في موقف من المواقف، ويقول: يا ترى هل أنا؟ يتذكر حديث الخطيب وحديث الذي تندلق أقتابه بالنار فيعظ نفسه مرة من المرات، لكن لا يتوقف عن النهي، وعن الأمر، قال أبو عمر بن مطر: حضرت يوماً مجلس أبي عثمان الحيري، فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير فسكت، حتى طال سكوته، هذا دائماً يعظ، المرة هذه جاء وجلس على الكرسي وسكت، حتى طال سكوته، فناداه رجل بعد فترة كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئاً؟ يعني طولت، لماذا جالس هنا؟ قل حاجة؟ فأنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى | طبيب يداوي والطبيب مريض |
ما زاد عليها، فارتفعت الأصوات بالبكاء، هذا يعظ دائماً لكن هذه المرة تحرج لا بأس هذا شيء طيب، أحياناً الواحد يراجع نفسه يقول: أنا آمر وآمر وأنهى وأنهى مع.. صحيح كذا إذاً، يحاول أن يصلح نفسه، لكن لا يتوقف نهائياً.
فليس شرطاً في الناهي أن يكون سليماً من المعصية، بل لا بد أن ينهى العصاة بعضهم بعضاً، من عظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال العلماء: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس، كؤوس الخمر، فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً وهم يتعاطون الكؤوس، استدلوا بالآية: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة: 79] ذم الله بني إسرائيل لماذا؟ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ .
فإذاً، هم يفعلونه ومع ذلك ذمهم؛ لأنهم لا يتناهون عنه، يعني لا ينهى بعضهم بعضاً، تصوروا عظم المسألة يجب على الشراب وهم يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً، من شدة المسألة من عظم الواجب والقضية.
ويجب الاستعانة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأهل العدل والصدق والاستقامة، وإذا تعذر ذلك بالأمثل فالأمثل، وإن كان في المستعان به كذب أو ظلم؛ لأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
بعض الأحيان بعض الناس هو يرضى لنفسه المنكر لكن لا يرضاه لغيره بعض الآباء ممكن يدخن لكن لا يرضى أن ولده يدخن.
وبعض الآباء يسافرون إلى الخارج ليفجرون لكن لا يرضون الفجور لبناتهم أو زوجاتهم.
فإذاً، في بعض الناس ممكن ينهى ويستخدم سلطته في إيقاف المنكر مع أنه هو نفسه فاجر.
هل يجوز الاستعانة به؟
نعم؛ لأن المقصود إزالة المنكر حتى لو اضطررت إلى الاستعانة بفاجر.
أحياناً السلطة تكون في يد فاجر، وليس هناك غيره ليمنعه، ولو دخلت عليه وذكرته بالله، وقلت: يا أخي حرام اتق الله في شركتك يحدث كذا وكذا أنت ترضى بهذا، فقد يصدر قراراً ويأمر أمراً يوقف المنكر مع أنه في مكتبة الخاص قد يفعل هذا.
فإذاً، لا يمنعنا فجور بعض الناس خصوصاً الذين لديهم القوة أن نستعين بهم على إنكار المنكر إذا لم يؤد ذلك إلى مفسدة أكبر منه.
وهذه المسألة وجود صالحين ضعفاء وفجرة أقوياء من التناقضات الموجودة في المجتمع التي قد لا نستطيع التغلب عليها ومجاوزتها، ولا بد أن نتعامل معها بواقعية ونشكو أمرنا إلى الله، ولذلك كان عمر بن الخطاب يقول: "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة" "جلد الفاجر" قوة الفاجر "وعجز الثقة" يعني الصالح المستقيم.
هذه من المصائب يوجد فجرة أقوياء وصالحون ضعفاء.
ولذلك نحن نقول: يمكن الاستعانة بهم ، ونقول كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: لماذا فرح المسلمون بانتصار الروم النصارى على الفرس الكفار مع أنهم كلهم كفار؟
لأنهم أقرب إلى الإسلام، صحيح أنهم كفار، لكن أقرب إلى الحق، على الأقل عندهم كتاب نزل عليهم، جاءهم رسول يوم من الأيام، فهم أقرب إلى الحق من الفرس الوثنيين عباد النار، إذاً كانوا يفرحون.
وكذلك يوسف تولى خزانة مصر في عهد ذلك الملك الكافر، ولكن لأنه كان يعلم أنه يصلح ولن يفسد، وعلى الإنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير.
وطبعاً هذا يقودنا إلى نقطة أن مسؤولية إنكار المنكر تعظم وتكبر بازدياد السلطة، كلما علت القدرة وعلت القوة وزادت السلطة كلما زادت مسؤولية الإنكار وعظمت وارتفعت ويحاسب الأب أمام الله عن الأسرة غير ما يحاسب الابن ويحاسب مدير الشركة عند الله عن المنكرات التي تحدث في الشركة أكثر ما يحاسب الموظف في الشركة، ويحاسب المدير العام أو مالك الشركة عما يقع في الشركة أكثر مما يحاسب فرع من الفروع مثلًا، فكلما ازدادت السلطة بيد الإنسان كلما صار عليه المسؤولية أكبر، ويحاسب أمام الله أكثر.
وكان العلماء يستعينون بمن له سلطة في إنكار المنكر كما ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- قصة في "إنباء الغمر بأنباء العمر": وفي سنة 780 للهجرة توجه شخص من أهل الصلاح يقال له: عبد الله الزيلعي إلى الجيزة فبات بقرب أبو النمرس فسمع حس الناقوس، فسأل عنه ما الناقوس هذا؟ فقيل له: إن بها كنيسة يعمل بها ذلك كل ليلة حتى ليلة الجمعة وفي يومها، والخطيب يخطب على المنبر، وهم يدقون الناقوس، فسعى عند جمال الدين المحتسب في هدمها فقام في ذلك قياماً تاماً إلى أن هدمها وصيرها مسجداً.
الآن نريد أن ننكر، المنكرات على نوعين: فيه منكرات ظاهرة، ومنكرات مستترة، منكرات علنية، ومنكرات خفية، فنبدأ بأي شيء؟
بالمنكرات الظاهرة؛ لأن أثرها أكبر وتشيع الفاحشة في الناس، اللي يفعل المنكر علانية يتأثر به غيره ويفعلون مثله لكن الذي يفعله في بيته فجوره على نفسه، ولذلك لا يجوز التجسس للوصول إلى المنكر، أما لو كان ظاهراً فيقام بالإنكار عليه، سمع أحمد بن حنبل -رحمه الله- حس طبل في جواره فقام إليهم حتى أرسل إليهم فنهاهم.
ومر محمد بن مصعب العابد بدار فسمع صوت عود يضرب فقرع الباب.
هذه قصة عظيمة تبين قضية الرفق والصبر، أنا ا أريد أن أتكلم في هذا الدرس عن أهمية الرفق والأسلوب والحكمة فيه بشكل موسع، وقد تكلمت عن ذلك في محاضرة بعنوان: "مقومات النصيحة الناجحة" عن قضية الأسلوب والحكمة فيه بالذات، فلذلك لن أطيل الكلام عليها هنا، ولكن هذه قصة تبين لنا أهمية الرفق، مر محمد بن مصعب العابد بدار فسمع صوت عود يضرب فقرع الباب فنزلت جارية، فقال لها: يا جارية قولي لمولاتك تحدر العود حتى أكسره.
-سبحان الله- المنطق القوة العزة، قولي لمولاتك تنزل العود حتى أكسره.
طبعاً أنت وأنا ما نتوقع أن النتيجة تكون بهذه السهولة، فصعدت الجارية فقالت لمولاتها: شيخ بالباب قال كذا وكذا، قالت: هذا شيخ أحمق، فضربت بالعودين.
ماذا فعل الشخص؟
هذه النقطة هنا تظهر مسألة الحكمة والذكاء الذي يولده الإيمان في الرجل الذي يقوم بالإنكار.
هذا الرجل كان شجي الصوت، وكان صوته في القرآن جميل فجلس على باب البيت، على العتبة، وشرع يقرأ القرآن بصوت شجي مؤثر، فاجتمع الخلق، كل المارة والناس يسمعون صوت قراءة مؤثرة اجتمعوا من كل مكان سمعوه جاءوا قعدوا يستمعون، فاجتمعت الأصوات بالبكاء، ويقرأ آيات مؤثرة بصوت مؤثر، فبدأ الناس يبكون، وارتفع البكاء، لمن وصل الصوت؟
إلى المرأة في البيت، فسمعت المرأة الضجة، فسألت الجارية، قالت الجارية: يا مولاتي تعالي انزلي واسمعي، شوفي ويش صار تحت، فلما سمعت الموقف الآن الناس تحت يبكون، وصياح وعالم مجتمعين وقرآن، وهي جالسة تعزف بالعود، قالت: احدري العودين حتى يكسرهما، نزليه خذه خلاص، نزل العود كسره.
لن تعدم وسيلة جميلة وحكيمة في إنكار المنكر لو بحثنا بدقة وفكرنا بتأن واستعن بالله قبل كل شيء.
المشكلة العنف الذي يستخدمه البعض فيحطم كل شيء.
وسأتكلم عن هذا بعد قليل، مرة من المرات كان في مكان حفل سيئ منكرات ومجتمعين على منكرات، ووجهت الدعوة وانتشرت الدعوة في المكان الفلاني في الليلة الفلانية، نصحوا ما في فائدة، الحفل قائم قائم، فذهب رجل من الصالحين من المؤثرين قبيل موعد الحفلة، فوقف عند الباب، فلما بدأ الناس يتوافدون إلى المكان قام يخطب خطبة مؤثرة يعظهم ويذكرهم ويتلو عليهم آيات العذاب، ويتلو عليهم الآيات اللي فيها غضب الله، وانتقام الله ويتكلم ويذكر ويعظ ويخوف الناس، فالناس بدلاً من أن يدخلوا من الباب، أين ذهبوا ؟ عند الرجل، قعدوا يستمعون، ألغيت الحفلة، ممكن ما تلغى في بعض الأحيان، لكن المهم ماذا ؟ حاولنا، فعلنا شيئاً، ما في مضرة، فيه حكمة حتى نمنع وقوع المنكر.
لكن لو كان المنكر خفياً فلا يجوز أن نتجسس، سئل الإمام أحمد عن القربة المغطاة، شفنا قربة مغطاة مع واحد هل يجب نقل له: تعال فك هذه يمكن فيها خمر؟ فقال: لا تعرض له.
ولذلك ما نتجسس، نشوف من الباب هذا هل في نساء أجنبيات ونضع مسجلاً ونسجل كلامه، لا، لا يجوز التجسس، لكن لو وصل إلينا خبر بطريق غير مباشر أنه يوجد في هذا البيت منكر، بغير تجسس، هكذا بطريقة عادية جاءنا خبر، في هذا البيت فيه منكر، هنا نقوم بالإنكار، نطرق عليهم يا جماعة، نتأكد أولاً لأنه قد يكون الخبر كذباً، قد يكون إشاعة، وقد يكون القائل وهم، أو أخطأ، فأول شيء نتأكد، فإذا تأكدنا طرقنا عليهم: يا جماعة اتقوا الله سمعنا كذا وكذا، ونبدأ نعلمهم، ونبين لهم، وننكر عليهم، ولو استطعنا أن ننكر بالقوة لأنكرنا بالقوة، لو استعدينا من يستطيع يستدعي الهيئة استدعينا الهيئة، وقامت باللازم، الشرطة الجهات المسؤولة لتقوم باللازم.
لكن لو كان المنكر الخفي هذا متعدياً ضرره إلى آخرين، ناس عندهم مصنع خمر في بيت، أو يزرعون الحشيش، يصنعون المخدرات، هل نقول: والله ما لنا شغل ما دام ما أعلنوا المنكر، نحن ما لنا دخل، نحن لا نتدخل في هذه الأشياء الخفية، لا، هؤلاء بلاء على البلد وعلى أهل البلد، فلا بد من القيام والاتصال بالجهات المسؤولة، والتي نقدر أنها ستفعل شيئاً وتغير حتى يزول هذا الأمر، وإلا مشكلة أن يكون هذا في البيت ونحن نسكت.
مثال آخر: أنت مرة من المرات وأنت تسير وإلا تطالع من شرفة المنزل وإلا من شباك الدار وإذا بك ترى امرأة الجيران تعرفهم أنت وتعرف هذه زوجة من وإلا هي تمشي مثلا بعيدا عن بيتها إلى حارة أخرى ويقف شاب بسيارة وتركب معه وتمشي والعملية مريبة، ليش ابتعدت عن البيت وما طلعت من باب البيت؟ ليش ما جاء هذا من أمام البيت وأخذها؟
إذاً، أنت صار عندك ريبة، وتأكدت تكررت الحادثة وعرفت هذه المرأة متزوجة، وهذا الرجل ما هو معروف سألت ولدها: من فلان؟ قال: ما نعرفه.
إذاً، ما هو المناسب في هذه الحالة؟
أنت عندك يقين، ظن، أن هذا منكر يحدث الآن ما تقول: أنا والله ما علي، خلها تروح بكيفها في جهنم، لا يا أخي وأنت يمكن الآن ترى منكراً، ما يجوز، يمكن أنت بعد تروح وراءها.
طيب ببساطة نكتب رسالة: إلى أم فلان أيتها المرأة المسلمة: لقد رأينا منك أمراً منكراً في الوقت الفلاني، أو كلاماً عاماً، ونسأل الله ألا تكوني قد وقعت في حرام، ولكن نذكرك بأن الخلوة بالرجل الأجنبي كذا وكذا، وعقوبتها، وأن الفاحشة عقوبتها كذا وكذا، ونسأل الله ألا تكوني قد انزلقت إلى هذا، ونذكر ونتكلم ونذكر آيات وأحاديث عن هذا المنكر ، ولن نخبر أحداً إلا إذا اضطر الأمر إلى هذا، ولم يحصل الامتناع منك. فاعل خير. أنا أقول: هذا مثال وإلا لو أنت تفكر تجد لك صيغة أحسن، ترسل هذا الخطاب مع صبي لهم أو مع واحد لن يدل عليك من أنت وإلا من تحت الباب ويصل إليها بطريقة حتى لا يصل إلى زوجها وتصير المشكلة أكبر يصل إليها بطريقة خاصة تقرأ وتشوف أنت النتيجة بعد ذلك هل هذا ساعد ثم بعد ذلك إذا اضطررت أن تخبر زوجها ليقوم بالإنكار؛ لأنه ما في فائدة، فهنالك يجب عليك أن تفعل هذا الغرض من الإنكار ما هو؟ ما هو الغرض من إنكار المنكر؟
إزالة المنكر، أنت تقصد في النهاية أن تزيل المنكر، فإذا كان عندك طريقان طريق سهل وطريق صعب، فأيهما تسلك؟ الطريق السهل طبعاً.
المقصود إزالة المنكر بأيسر طريق وأسهل طريق، لو كان عندك طريقة في الإزالة تفضح العالم والناس والعائلة هذه، وطريقة تغير المنكر لكن ما تفضح فيها أحداً فأيهما تسلك؟
هذه الحكمة.
البدء بالأهم فالمهم في إنكار المنكر
ومن الضوابط والقواعد في إنكار المنكر: البدء بالأهم فالمهم فالأقل أهمية، ما هو الدليل؟
عن ابن عباس -رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله أول شيء فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب حديث صحيح [رواه البخاري: 1496].
فبدأ بأي شيء؟ هؤلاء ناس مشركين أول شيء ويش نبدأ بهم؟ أول شيء ندعوهم إلى التوحيد أول حاجة إلى شهادة ألا إله إلا الله، فإن هم أجابوا نبدأ بالشيء الذي بعده.
وهذه قاعدة عامة: لو شفت شخصاً يزني ويستمع الموسيقى ماذا تبدأ بالبداية؟
بالزنى طبعاً؛ لأنه أكبر، وهكذا، وقس على ذلك، لكن أحياناً هناك قرائن وأحوال تجعل الواحد تبدأ بمنكر أقل من غيره لعلة، لو واحد مثلا مانع زكاة، وهو الآن سيذهب ليزني ويش نبدأ فيه الآن؟ بإنكار الزنا؛ لأنه الآن سيحصل، فاذا هذا المنكر مباشر وسيحدث نبدأ به بهذا الاعتبار، في اعتبارات معينة في قرائن في أحوال ممكن نبدأ بالمنكر الأقل، يعني ليست هذه المسألة هكذا جامدة لا يمكن تتغير هذه القاعدة، لا، بحسب الأحوال والقرائن، لكن الأصل نبدأ بالمنكر الأكبر والأعظم والأشد ضررًا.
لو ما كان هناك تعارض بينك إنك تنكر المنكر الذي أكبر والذي أقل، يعني أنت الآن جالس مع واحد في طائرة هذا الرجل حليق ويدخن ولا يصلي مع الجماعة أو لا يصلي.
أو نجيب مثالاً آخر: يفعل منكراً من المنكرات أعظم من التدخين وحلق اللحية، أنت الآن جالس معه في هذه الطائرة بعد قليل ستصلون البلد ويمكن خلاص لا تراه تتفرقون ويروح كل واحد في شأنه، فممكن أقول له: يا أخي أبدأ معك بنصحك بالشيء الفلاني كذا كذا، أبدأ بالمهم، بعد فترة قال: جزاك الله خيراً، أو قال: إن شاء الله، ممكن ننكر عليه المنكر الأقل، ما في مانع لأنه ما يتعارض أني أقول له الآن الأشياء لأني قد لا أراه بعد ذلك حتى أتدرج معه، التدرج مهم ومطلوب، لكن لو أنك في فرصة من الفرص ما عندك وقت تدرج لأن هذا الرجل أمامك بعد قليل لن تراه، فممكن تقول له الأشياء تقول: يا أخي أنصحك عدة نصائح، الأولى تبدأ بالأهم الثانية كذا وكذا الثالثة كذا وكذا، وأنا إنسان ما أعرفك وقد لا ألقاك بعد هذا، والسلام عليكم ورحمة الله وتمشي، شيء طيب، ما في إشكال.
ما الضوابط اللي نعرف فيها المنكر الأكبر من المنكر الأقل أهمية؟
فهناك تقسيمات عند العلماء، العلماء يقولون: أعظم شيء في المنكرات: الشرك بالله، ثم البدعة، ثم قتل الناس، تبدأ الفواحش الكبائر بالتدريج.
وبعضها أشد ضرراً من بعض، السحر هذا شرك أعظم من قضية عقوق الوالدين ، هذا اعتبار، الشرك، البدعة، الكبائر تبدأ مرتبة.
أقسام المنكرات
فيه تقسيم آخر ممكن تستعين به، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: المنكرات ثلاثة أقسام: منها ما فيه ظلم للناس مثل غصب الأموال، ومنها ما فيه ظلم للنفس فقط مثل شرب الخمر، ومنها ما يجتمع فيه الأمران؛ كرجل يسرق أموال الناس ليزني بها ويسكر.
فأي واحد أعظم الآن؟
آخر واحد هذا يسرق أموال الناس ليزني فنبدأ به، لاحظ هنا صار الضرر الأكبر أو الأعظم، اشترك فيه ظلم النفس مع ظلم الآخرين.
إذاً، هذا اعتبار آخر.
المسألة إذاً تحتاج إلى فقه في الدين، ونحتاج نعرف ما هو الأعظم وما هو الأخطر وما هو الأكبر.
بعض الناس لو رأى شخصاً يريد الزنى، وآخر يطوف حول القبر، يقول: خل هذا يطوف بالقبر، وإنكار الزنى أهم.
-يا أخي- أنت تعلم قضية الطواف بالقبر هذه تؤدي إلى ماذا ؟ إنها شرك أكبر وأنها تخرج عن الملة، وأنها أعظم من الزنى.
جنس فعل الواجبات أعلى من جنس ترك المحرمات
من الضوابط التي تبين لنا الأولويات التي نبدأ بها: ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- فقال: إن جنس فعل الواجبات في الشريعة أعلى من جنس ترك المحرمات، وإن المسلم يؤجر على فعل الواجب أكثر مما يؤجر على ترك المحرم، ويأثم على ترك الواجب أكثر مما يأثم على فعل المحرم، فلو استوى عندك واجب ومحرم، واحد تارك لواجب مرتكب لمحرم، والواجب والمحرم في مرتبة واحدة، أحدهما ليس بأعظم من الثاني فتبدأ معه بماذا؟ بأمره بفعل الواجب، ثم بعد ذلك تنهاه عن فعل المحرم، لكن لو كان الواجب والمحرم بينهما تفاوت، واحد تارك لواجب صلاة الجماعة في المسجد، وواحد يريد أن يقتل، صلاة الجماعة في المسجد واجبة، والقتل محرم أيهما أعظم؟
أبدأ بأن أمنعه عن القتل وأعظه أو أمنعه بطريقة من الطرق، لكن لو استويا فنبدأ بأمره بالفعل الواجب.
ويختلف حكم الأمر والنهي باختلاف حكم المأمور به، والمنهي عنه، فلو كان المأمور به واجباً فيكون حكم الأمر واجباً، وإذا كان المأمور به مستحباً فيكون الأمر به مستحباً، وإذا كان الأمر المنهي عنه محرماً فيكون النهي عنه واجباً، وإذا كان الأمر المنهي عنه مكروهاً فيكون النهي عنه مستحباً.
أحياناً يكون الشخص يجمع بين أمرين في نفس الوقت لا بد يفعل واحداً منهم، واحد عنده معروف ومنكر بحيث لا يمكن أن يفرق بينهما إما أن يفعلهما جميعاً أو يتركهما جميعاً، فيقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: لم يجز أن يؤمر بمعروف ولا أن ينهى عن منكر، بل ينظر أولاً قبل كل شيء فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف.
درجات إنكار المنكر
تفصيل هذا الكلام في أربع حالات، وانتبهوا معي في هذه الحالات، فيها صعوبة قيلاً، لكن إن شاء الله تزول بالأمثلة.
عندنا أربع حالات: أن يكون النهي عن منكر يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، أو يكون النهي عن منكر يؤدي إلى حصول منكر أكبر منه أو يكون الأمر بمعروف يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه أو أن الأمر بمعروف يؤدي إلى حصول منكر أكبر منه، أربع حالات، نأتي بمثال لكل حالة حتى يتبين الأمر.
النهي عن منكر قد يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، لو جلست مع شخص مدخن وجلست الآن تعظه بالتدخين وتبين له الحجج، وحان وقت صلاة الجماعة في المسجد وأنت ما زلت تشرح له وتكمل إقامة الحجة عليه وإقناعه بالموضوع، أيهما تقدم نهيك له عن المنكر الذي يؤدي إلى فوات المعروف هذا، وإلا تقدم المعروف؟
تقدم المعروف، لأن نهيك عن المنكر في هذه الحالة يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه.
وإذا كان النهي عن منكر يؤدي إلى حصول منكر أكبر منه، مثال مشهور ومعروف، حادثة شيخ الإسلام مع التتار لما رأى هو وبعض تلاميذه التتر يشربون الخمر خارج دمشق، فأراد بعض تلاميذ شيخ الإسلام أن ينهاهم عن شرب المسكر، فماذا قال شيخ الإسلام؟
دعوهم يشربون المسكر، لا تنكروا عليهم، لا تمنعوهم، لماذا؟
لأنهم لو نهوهم عن المنكر ومنعوهم من شرب الخمر فإنهم سيقومون من السكر، فيدخلون دمشق فيعيثون فيها فساداً، قد يقتلون وينهبون، ويؤذون المسلمين.
هذا اسمه فقه، هنا صار النهي عن منكر يؤدي إلى وقوع منكر أكبر منه، فلذلك هل يجوز النهي في هذه الحالة؟
لا.
إذا كان الأمر بمعروف يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، شخص وحيد والديه، ووالداه كبيران في السن ويحتاجان إليه، هذا الرجل في سفر طاعة مثل سفر طلب علم يبغى يسافر إلى عالم من العلماء في بلد أخرى ويقيم عنده ليتعلم، هل تأمره بالسفر في هذه الحالة ليتعلم العلم عند ذلك العالم في البلد الأخرى وإلا لا؟
لا، لماذا؟ لأننا لو أمرناه بهذا المعروف لأدى إلى فوات معروف أكبر منه، وهو بر والديه المحتاجين إليه.
الحالة الأخيرة: إذا كان الأمر بمعروف يؤدي إلى حصول منكر أكبر منه، علم يحتاج إليه المسلمون لا يوجد إلا في بلاد الكفار، وهذا شخص متفوق ممكن يذهب إلى هناك ويحصل لنا هذا العلم ويأتي به إلى بلاد المسلمين، هذا معروف، لكن هذا الشخص غير محصن ضد الشبهات ولا ضد الشهوات، يمكن إذا راح إلى هناك يفعل الفاحشة وينحرف، ويمكن يأتون له بشبهات ويرتد عن الدين، أو يترك، هل نأمره بالمعروف وهو الذهاب لتحصيل العلم الذي ينفع المسلمين والذي لا يوجد في بلاد المسلمين؟ لا، لماذا لأنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه، وهو انحراف الشخص، ولذلك لو أنت الآن لا تأمن على نفسك إذا وقفت في السوق وقعدت تنهى، أنك أنت نفسك تتأثر وربما أنك تنحرف معهم، فلا تفعل هذا.
شاب يقول: أنا سأدخل بيوت الدعارة وأنكر، قد يكون هذا الشخص ضعيفاً، لكن لو أن إنساناً عنده تحكم في نفسه ويعرف نفسه أنه إن شاء الله ما هو منحرف ولا مستجيب ولا سيحدث منه هذا الشيء، فعند ذلك يقدم وينكر.
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] هذا المثال على أية حالة؟
سب آلهة المشركين نهي عن منكر؛ لأنك إذا سبيت آلهتهم، أنت تنهاهم عن هذا المنكر، لكن سب الآلهة الذي هو نهي عن منكر يؤدي إلى منكر أكبر منه وهو سب الله إذا كان أولئك لا يرعون حرمة، ولا شيء، لو قلت له وهو غضبان في غاية الغضب قلت له: اذكر الله يا أخي، ماذا يؤدي، روح وأنت و.. و... إلى آخره من كلمات الكفر، فهل يجوز لك أن تقول: اذكر الله وهو غضبان؟ لا، لأنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه.
إذاً، هذه حالة إلى أمر بمعروف يؤدي إلى منكر أكبر منه.
لو وجدت رجلاً يخل بالعبادة لكن لو نهيته عن هذا الإخلال لترك العبادة بالكلية، هل تنهاه عن هذا الخلل؟ لا، لكن هذه المسألة مسألة اجتهادات، هنا تكمن المشكلة وهي من الذي يقدر الأمور؟
لماذا ترك الرسول ﷺ عبد الله بن أبي رأس المنافقين يعيث فساداً، يفعل مؤامرات، لماذا لم يقتله؟
قتله إزالة للمنكر، وهذا منكر ولا يزال إلا بقتله، أو أنه ينفى خارج المدينة، لكن لو أنه عليه السلام أزال هذا المنكر بقتله أو نفيه لأدى إلى أي شيء؟
منكر أكبر منه، وهو أن الناس يقولون: محمد يقتل أصحابه، فيكون عائقاً لهم عن الدخول في الإسلام، أو أن قوم عبد الله بن أبي يثورون حمية له فتحدث الانشقاقات داخل المجتمع المسلم، وقد حدث هذا فعلاً في حادثة الإفك، فعندما قام عليه السلام على المنبر يقول: من يعذرني في رجل بلغ أذاه في أهل بيتي؟ ماذا حصل بين الأنصار؟ حصلت مشكلة عظيمة، قاموا وترادوا على بعض واتهم واحد الآخر بالنفاق، وقاموا، فخفضهم الرسول ﷺ وهدأهم. وهذا عبد الله بن أبي في غزوة المريسيع التي هي غزوة بني المصطلق التي حدثت فيها حادثتان مهمتان قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولا تنفقوا على من عند رسول الله، واتهم عائشة بالإفك مع صفوان بن المعطل السلمي -رضي الله عنهما- وهما من هذا الشيء بريئان، ومع ذلك الرسول ﷺ ما فعل شيئاً وترك الرجل، مع أن سورة المنافقين نزلت في فضح عبد الله بن أبي، واضح أنه هو الذي افترى، وهو الذي قال، لأن الله يقول: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8]، إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] واضح الآن فضح عبد الله بن أبي صار معروف أن التهمة عليه، ولكن الرسول ﷺ مع ذلك ما قتله، لذلك عمر لما قال للرسول ﷺ: اقتل المنافق، مر فلانا يقتله، بعد فترة من الفترات لما سكت عنه ﷺ صار قوم عبد الله بن أبي، لما وضح لهم الأمر وأن الرسول ﷺ سكت مع أن الرجل كفر وقال كلمة الكفر وهو سكت صار عندهم نوع من الحياء، صار إذا قام عبد الله بن أبي بشيء صاروا هم الذين يقومون عليه، ما يحتاج الرسول والصحابة من المهاجرين يقومون عليه، صار قومه هم الذين يقومون عليه، فقال ﷺ لعمر: أرأيت يا عمر لو أمرت بقتله في السابق لأرْعَدَتْ له آنُفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
انظر إلى الحكمة، لو قتلته في ذلك الوقت كان هؤلاء الناس باقي فيهم نوع من العصبية، قالوا: ليش يقتله ونحن قومه؟ ونحن كذا؟ لكن لما سكت عليه قال لو أمرتها اليوم تلك النفوس التي كان سيحدث فيها شيء لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
لو واحد قال: أنا سأسلم لكن أريد أن أشرب الخمر؟
فهل نقول له: يا تسلم بدون شرب خمر وإلا ما في إسلام، هل صحيح أن نقول له هذا الكلام؟
ليس صحيحاً؛ لأنه يا أخي إسلامه مع شربه للخمر أحسن من أن يبقى على كفره، ويشرب الخمر.
الآن أنا أريد أكرر وأضرب الأمثلة حتى تتضح القضية.
واحد دخل في الإسلام حديثاً لو أمرناه بالختان، هذه عملية جراحية قد يحصل له مضاعفات، هل يجوز أن نأمره بالختان؟ الأصل نأمره لأنه مسلم وجب عليه، لكن لو توقعنا أن ذلك يؤدي إلى أنه يخاف يقول: عملية وأقعد ثلاثة أشهر في السرير وإلى آخره، لا، هل يجوز أن نأمره بالختان ونحن نتوقع أن تكون هذه سبب في ارتداده مرة أخرى ؟ لا.
لو قلنا له عندما يسلم: يجب أن تفارق زوجتك في الفلبين لأنها كافرة، ولا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، وما يجوز يكون تحتك امرأة بوذية وثنية، ونحن نتوقع أن يؤدي هذا إلى يقول: زوجتي أم عيالي أتركها، إلى الآن ما وقر الإيمان في صدره، فيكون هذا سبب في عدم إسلامه هل يجوز أن نأمره بفراق أهله؟
لا يصح؛ لأنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه، أمرناه بمعروف سيؤدي إلى منكر أكبر منه، أمرناه بالختان سيؤدي إلى منكر أكبر منه، لكن لو وقر الإيمان في قلبه وفي صدره وانشرح صدره للإسلام، ولمسنا منه الطاعة والإقدام على التنفيذ عند ذلك نأمره الآن.
من هذه الأمثلة أيضاً لو ترتب على الأمر والنهي أن هذا الشخص "الآمر الناهي" سيؤذى أذى شديداً بحيث يقول في النهاية: أتوب من هذا الأمر والنهي، أو إذا أمر ونهى سيشتد عليه الأمر بحيث لو قام وتكلم في موضوع قال: هذا حرام كذا كذا، في موضوع فيه حساسية معينة، فتوقع هذا الشخص أنه بعد ذلك لو قال هذا الكلام سيجاء به ويرغم على الاعتذار أمام الناس عما قاله، والتراجع عنه علناً، فهل يتكلم؟
لا، لأن التراجع عن الأمر والنهي الذي نهى عنه أكبر من قضية الأمر والنهي أصلًا؛ لأنها مصيبة هذه أكبر، لو الآن قلت هذا: لا يجوز.
طالب في مدرسة قال: هذا لا يجوز، قام أمام الطلاب، وهو يعلم ويتوقع أن المدير سيأتي به ويشد عليه ويرغمه ويجبره على أن يقوم أمام التلاميذ مرة أخرى ليقول: يا أيها الطلاب أنا أعتذر مما بدر مني من الخطأ، ومن الكلام الفاضي، وأنا أرجع عن كلامي، والشيء اللي أنا قلته ترى ما هو جائز؟ لا هو جائز وستين حلال.
هل هذا الموقف أشد وإلا سكوته أصلاً أشد؟
الموقف هذا أشد، لذلك لا ينبغي له أن يقوم أساساً ويتكلم.
درجات إنكار المنكر
وبالخلاصة: يقول ابن القيم -رحمه الله-: إنكار المنكر أربع درجات:
أن يزول ويخلفه ضده، يزول المنكر ويجي وراءه معروف.
ثانياً: أن يقل وإن لم يزل من جملته، يعني يقل المنكر لكن لا يزول نهائياً.
ثالثاً: أن يخلفه ما هو مثله، يروح المنكر ويجي منكر مثله.
رابعاً: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالحالة الأولى مشروعة واجبة.
والحالة الثانية: أن يخلفه ما هو أقل منه، يقل المنكر فهي أيضاً مشروعة.
والحالة الثالثة أن يخلف ما هو مثله موضوع اجتهاد.
والحالة الرابعة حرام ما يجوز أن ننهى عن منكر يؤدي إلى أن يخلفه شر منه.
تقدير المصالح والمفاسد المترتبة على إنكار المنكر
لكن الآن نرجع إلى المسألة التي توقفت عندها قبل قليل، من الذي يقدر المصالح والمفاسد ومن الذي يقول بأن المنكر سيترتب عليه منكر أكبر ومن الذي سيقول إن مفسدة النهي أعظم من مفسدة السكوت؟ من الذي سيقدر هذه الأمور؟
هذه هي المشكلة الكبرى في هذا الموضوع.
صحيح أن المسألة مسألة مصالح ومفاسد، والمصالح والمفاسد معتبرة شرعاً، والشريعة بنيت على هذه القضية، على جلب المصالح ودرء المفاسد، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، يعني لو وجدت الحالة هذه في نص انتهينا، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام، وهذا يبين لنا أهمية العلم الشرعي:
أولًا: الذي يجعلك تشعر من سيرة الرسول ﷺ، ومن الأحكام ما المصالح وما المفاسد وما هو الأعظم وما هو الأقل، وماذا فعل في مكة، وماذا فعل في المدينة، وتلاحظ من الأحوال والقرائن ما يجعلك تخلص إلى الجواب الصحيح.
ثانياً: الاستشارة، نعلم هنا بأن المسألة صعبة، وبأنه ما يمكن في كثير من الأحيان ما يمكن الواحد يتخذ في المسألة قراراً فردياً في قضية النهي عن منكر ما، ولا بد أن يكون الرأي فيها جماعياً، وأن يستخير ويستشير أهل العلم وأهل الفضل وأهل الرأي وأهل الخبرة، يقول: يا فلان عندنا كذا، هذه المسائل التي فيها يمكن يترتب عليها منكر أكبر يمكن لا، هذه ينبغي أن يذهب ويستشير ويسأل فيها حتى يصل إلى جواب، ما هو يندفع للإنكار ثم تحدث الطامة عليه وعلى غيره من الناس، لا تفعل يا أخي تتهور لوحدك تقول: هذا منكر كسر حطم، تريث، فكر تدبر تعلم، اسأل، شاور أهل الأمر.
لكن في نفس الوقت ما نقول لك: لو شفت واحداً يدخن لا تنكر عليه لأنه يمكن يترتب عليه مفسدة أنه يقول لك: الدخان في الدكاكين، لا، هذه المسألة يحتاج لها لا، يعني المسائل العادية، يعني أقصد يا جماعة اقول لا تعني هذه الضوابط الآن أنه إيه لا تنه عن أي منكر انتظر تريث لا تستعجل، لا، فتفوت الأوقات وتفوت المنكرات وأنت الآن جالس تفكر، لا.
توجد أشياء واضحة، أليس كذلك؟ يعني ما يحتاج أنك تستفتي فيها، وتسأل، لكن فيه أشياء فعلاً صعبة، فيه أشياء حساسة، فيه أشياء مستواها رفيع، فيه أشياء خطيرة مهمة عامة ليست قضية خاصة فردية بشخص معين وإلا كذا، الجواب غير واضح هذه ينبغي أن تسأل أهل العلم والخبرة.
أحياناً فيه مفاسد متوهمة، بنفس النقطة هذه بعض الناس يقول: يمكن يترتب عليها مفسدة، يفكر يطلع له مفسدة فتكون المفسدة متوهمة، ولا تحصل، المفروض أنه ينكر، وأن هذه المفسدة هو كبرها.
مثال: واحد من المنافقين في غزوة تبوك لما أمر الرسول ﷺ المسلمين بالخروج رفض أن يخرج ما هي حجته؟ قال: ائذن لي ولا تفتني، يقول: أنا إذا رحت معك يا رسول الله إلى قتال الروم أخاف على نفسي من نساء الروم الجميلات الحسان أني أقع فيهن، فلذلك ما أخرج معك للجهاد في سبيل الله، لأني لو خرجت معك في هذا المعروف لترتب عليه منكر أكبر منه أو مفسدة أكبر وهي أني أقع في نساء بني الأصفر، ما رأيكم بهذه المفسدة؟ خيالية، واحد مع الجيش، ولو كل واحد قال نخشى ونخشى ما راح يتغير شيء.
فإذاً، المسألة حق بين باطلين ووسط بين طرفين، فانتبهوا يا عباد الله، قدر المصالح على المفاسد، وفي نفس الوقت لا تجيب مفاسد متوهمة وتتخوف يمكن يصير ويمكن يحصل، ويمكن كذا، ما أبغى أنكر، وفي نفس الوقت ما تتهور تقول: لا بد أقدم، أفعل، كسر، غير باليد، ثم في النهاية تكون العاقبة ليست لك، بل هو ارتفاع لعلم الشيطان بالزيادة ونكسة لأهل الإيمان.
سؤال: لو كنت في مجلس طرحت قضية من القضايا وأنت غير ملم فيها إلماماً كافياً، لكنك تعلم أنها حرام، وأن موقف الشرع أنه لا يجوز، وواحد من الحاضرين رجل لسن عنده حجة وقدرة على النقاش والإقناع، وأنت مسكين بضاعتك في العلم قليلة وما عندك منطق وحجة، لو فتحت الموضوع الآن وطرحته، لرد عليك رداً أسكتك وأقنع الموجودين كلهم بخطأ كلامك، فهل تطرح المسألة أساساً؟
لا، ليش؟
لأنك إذا طرحتها فسيتسبب هذا في منكر أكبر، وهي أن الشبهات تزداد على الناس، وأن من أول ما سمعوا الحكم، الآن سمعوا الحكم والرد عليه.
لكن لو كان هذا الشخص المجادل المفحم قوي الحجة لوحده، يعني في المجلس لوحده ما عنده أحد ولا شيء أو عنده صغار، ولو أنك أنكرت عليه لأفحمك ورد عليك وأسكتك تنكر عليه، وإلا لا؟
نعم، تنكر عليه، وتقول له: بكل صراحة أنا أعلم أنك أكثر جدالاً مني وأنك تستطيع تجيب لي من الحجج الكثير، لكني أنا أقسم لك بالله أن هذا هو الحكم الصحيح ومهما حاولت تجيب لي حجج وأشياء وتسكتني أنا أجزم لك بأن هذا هو الصحيح، وأن هذا الذي أعرفه من الحرام، وهذا دليله، لو جبت لي عشرين دليلاً ولو جادلتني فهذا هو الحكم، والسلام عليكم، وتمشي.
أحياناً يجوز للإنسان يرتكب منكراً لتحصيل مصلحة أكبر منه، عبد الله بن حذافة السهمي قبل رأس ملك عظيم الروم. ما حكم تقبيل رأس المشرك؟
حرام، حرام جداً، فيه رفع لأعداء الله، وتنزيل لشأن الإسلام، وخضوع للكافر، وإذلال للإسلام.
لكن عبد الله بن حذافة ماذا اشترط على ذلك الشخص قبل أن يقبل رأسه؟
أن يفك أسرى المسلمين الذين عنده كلهم، وغلب على ظنه أن هذا عظيم الروم سيفي بكلامه، قال: "إن قبلت رأسك تطلق أسارى المسلمين؟" قال: "نعم"، فقبل عبد الله بن حذافة رأسه وأطلق أسارى المسلمين، وحصل الخير العظيم، فقال عمر: ويجب على كل واحد من المسلمين أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وبدأ به هو.
التفريق بين السكوت عن النهي عن المنكر وبين الإذن بفعل المنكر
لكن هذا ضابط مهم جداً وهو يجب التفريق بين السكوت عن المنكر لمفسدة راجحة، وبين الإذن بفعل المنكر، أحياناً يصير منكر يقدر لو أنه أنكر الآن ستحدث مفسدة أكبر، فيه فرق بين السكوت وبين أن يأذن هو شخصياً للرجل أن يفعل المنكر.
لو قدرت الآن أن إنكاري على شخص في مسألة من المسائل شرب شيء محرم سيؤدي إلى منكر أكبر منه فسكت، سكت؛ لأن في منكر أكبر منه هل هذا يساوي أن أقول له، أقول في نفسي: ما دام سيحدث منكر أكبر أقول له: تفضل يا أخي اشرب، صحيح هذا؟
لا، فسكوتك وتأجيلك للإنكار إلى وقت آخر لا يساوي أبداً الإذن الشخصي منك والإقرار.
فلا يعني سكوتك عن النهي الآن وتأجيل الإنكار لا يعني أنك تأذن له شخصياً بلسانك وتقول له: اعمل وتفضل، لكن قد يفهم منه أنك ما عندك مانع قد يفهم منه، لكن غير لما أنت تتكلم بلسانك تقول: إيه نعم تفضل ما فيها شيء.