الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
العمل للإسلام واجب مستمر
فإن الله قد أمرنا بالعمل، وكذلك أمرنا النبي ﷺ بالعمل، والعمل للدين يا عباد هو حياة الإنسان المسلم الذي يعبد الله على بصيرة، العمل وترك البطالة والكسل، هو منهج حياتنا، العمل للإسلام واغتنام الفرص لأجل ذلك، العمل لإعزاز دين الله، العمل لرفع راية لا إله إلا الله.
إن العمل -أيها المسلمون- هو ما ينبغي علينا أن نقوم به؛ لأن من حق الله علينا أن نعمل لدينه، وأن نقوم بما يريده منا ولذلك خلقنا، خلقنا لأجل أن نعمل.
أيها المسلمون: إن العمل للإسلام واجب لا مفر منه، وإن المعوقات عن هذا الواجب لا بد من إزالتها والتغلب عليها، والعمل للإسلام في جميع مراحل العمر، فإن من نعم الله علينا في هذا الدين أن العمل له صالح في كل الأعمار، للصغير والكبير، والذين يقولون: إن السن قد تقدم ولا مجال للعمل، وقد رق العظم وظهر الشيب، فلنتركه للشباب، إن هؤلاء ما فقهوا دين الله تعالى، وقد قال : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُسورة الحجر:99.
قال الحسن البصري رحمه الله: لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت، فالنهاية التي نقف عندها هي الموت، ألم تر أن ورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه قال للنبي ﷺ: وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، هذا مع كِبَر سنه، وذهاب بصره، وتمنى أن يكون فيها جذعاً قوياً عندما يظهر أمر الدعوة ليقوم بالواجب، إن مثل هذه الأمنية تنفع صاحبها عند الله؛ لأن نيته حسنة.
وقال أبو طلحة الأنصاري لما قرأ سورة براءة، وأتى على هذه الآية: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاًسورة التوبة:41، قال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني أي بَنِيَّ، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله ﷺ حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فجهزوه، فركب البحر، فمات غازياً في البحر في سبيل الله، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه فيها.
أيها المسلمون: إن العبد لا يجوز له أن يطعم طعم الراحة التامة والنهائية من العمل، ولا يستريح إلا بالموت، بل قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.
وهؤلاء الأنبياء بُعثوا بعد الأربعين، وعملوا إلى الموت، وهذا عمر يعمل في مصالح المسلمين، وهو مطعون، وجرحه يثعب دماً.
الانهماك في الدنيا يعيق العمل للإسلام
أيها المسلمون: إن الدنيا تشغلنا عن العمل للإسلام كثيراً، وإن أوقات الكثيرين لتذهب في قضايا الدنيا، وبعضهم يعمل مع أنه يكسب أكثر من حاجته، لكن الطمع في الدنيا يجعله يعمل زيادة: لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن له وادياً آخر [رواه مسلم (1048)]، وهكذا، فإذا قنعك الله -يا عبد الله- بما رزقك، فاستعمل بقية وقتك في خدمة دينك، وقد قال النبي ﷺ: فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب[رواه ابن ماجه (2144)].
وإن الانهماك التام في الأعمال الدنيوية يضيِّع على العبد فرصاً عظيمة لنيل الأجر والثواب، فكيف بمن ينشغل بالدنيا عن عمل الآخرة، وقد مدح الله المؤمنين الذين يتركون عمل الدنيا عند حضور عمل الآخرة: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُسورة النور:36-37.
وترى بعض الطلاب ينهمكون في دراسات قد لا تعود عليهم بفائدة في أمتهم ودينهم، ويعملون أكثر من المطلوب، ويستهلكون وقت اليوم كله في أمور الدنيا كما يستهلكه أولئك التجار وغيرهم من العاملين للدنيا، من عمل إلى عمل، ومن قضية إلى قضية إلى آخر اليوم، فماذا بقي للآخرة إذن؟
يا أخا الإسلام: أين العمل للآخرة في برنامجك اليومي، هذه الصلوات تؤديها لكن العمل لإعزاز الدين، ونشره والدعوة إليه أين هو في حياتك؟ أين إقامة الإسلام؟ أين الأمر بالمعروف؟ أين النهي عن المنكر؟ أين تعليم الشرع؟ أين نصح الناس في حياتك؟ لما تخاذل أكثر المسلمين عن نشر الدين صرنا في هذه المنزلة الوضيعة بين الخلق، وكثير من الموظفين لا يغتنمون حتى مجالات الدعوة في وظائفهم لنشر الإسلام، والدعوة إليه، ونصح الخلق، خذ على سبيل المثال هؤلاء الأطباء الذين يحتكُّون يومياً، ويتعاملون مع المرضى، ومن أسهل شيء عليهم أن يقوموا بدعوة المرضى للتمسك بالدين من خلال المعالجة التي يقومون بها، فماذا قدم هؤلاء وغيرهم من أصحاب المكاتب لأجل الدين حتى في وسط العمل، وفي وسط الموظفين الذين يعملون معهم، كم أمروا من شخص بإقامة الصلاة، وكم نهوا من شخص عن منكر ومعصية، وكم نصحوا للدين، وأخلصوا لله؟
أيها المسلمون: إنها مسؤولية سوف نحاسب عليها: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(سورة الزخرف:44).
عباد الله: إن بعض الناس أُتوا من فساد تصورهم، فتركوا العمل للدين، فقالوا: إن القضية ليست قضيتنا، ونحن نتركها للدعاة العاملين، لكن أنا مقصر لست ملتزماً بكثير من الأحكام فليست الدعوة من شأني ولا من وظيفتي، وليس إقامة الدين والنصح من أمري! كيف -أيها الأخ المسلم- تقول ذلك؟ إن الدين نشره ليس مقتصراً على طبقة دون طبقة، ولا على مستوى دون مستوى، ولا على نوعية من المسلمين دون أخرى، بل كلنا دعاة، وكلنا ناصحون، وكلنا يجب أن نقوم بأمر الدين: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَسورة المطففين:26، وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَسورة آل عمران:133، أين المسارعة في الخيرات؟ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَسورة المؤمنون:61، كل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإذن لا بد لكل إنسان أن يقوم بذلك ليس نهياً عن المنكر فقط، وإنما أمر بالمعروف أيضاً، وإنما هو تعليم للدين، وإرشاد ونصح.
أيها الإخوة، أيها المسلمون، يا عباد الله: كم من الخلل والعيب يكون عندما ينشغل الإنسان عن العمل بنقد الآخرين! فيكون شأنه أن يلمز هذا، ويسخر من هذا، وينتقص هذا من الدعاة العاملين، وهو لا يعمل شيئاً!
أيها الإخوة: إن الذي يعمل هو الذي يخطئ، والذي لا يعمل قد لا يرى منه خطأ، فلا يغرنك أن لا يُنتقد شخص، فربما يكون سبب عدم انتقاده أنه لا يعمل أصلاً.
ترك العمل للإسلام لأجل الناس
أيها الإخوة: إن حساسية بعض الناس من النقد تجعله يترك العمل، ويقول في نفسه: لماذا أصبر على لوم الناس، وما الذي يجبرني على تحمل هذه الانتقادات، فيترك العمل، وهل الدين إلا مناصحة، ودل على العيوب، كما قال عمر داعياً ربه: رحم الله امرئ أهدى إلينا عيوبنا، وكذلك كان الصالحون يطلبون النقد لأعمالهم والتصحيح، ولذلك قال ميمون بن مهران رحمه الله: قولوا لي ما أكره في وجهي؛ لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره، وليس المقصود إساءة الأدب، ولا التطاول والتعدي، ولكن يكون النصح في بعض الأحيان ثقيلاً على النفس؛ لأن فيه نوع انتقاد، ألا فلا ينبغي أن يُمنع هذا، أو أن يترك الإنسان العمل لأجل خوف نقد الآخرين، فإن شخصية المسلم ليست شخصية هزيلة، إن مراضاة الناس لا تقدم عنده على مراضاة الله ، ثم بعض هؤلاء يقولون: إن الآخرين لا يقدرون جهودنا، سبحان الله! وهل نحن نعمل لأجل أن يقدر الآخرون جهودنا، إننا نعمل لوجه الله، هكذا المفترض: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًاسورة الإنسان:9، كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل، ويذهب.
أيها الإخوة: إن القصد إذا كان أن يثني الناس على أعمالنا فقد هلكنا والله، فينبغي أن نعمل سواء قدَّر الآخرون جهدنا، وأثنوا علينا، أو لم يثنوا علينا، ذكرونا بخير، أو ذكرونا بغيره، فإننا ينبغي أن نعمل؛ لأن الثناء من الله هو مقصودنا، وكذلك ينبغي أن يكون الثواب من الله هو الباعث لنا على العمل لا ثناء الناس، ولا مدحهم.
إن القصد إذا كان أن يثني الناس على أعمالنا فقد هلكنا والله، فينبغي أن نعمل سواء قدَّر الآخرون جهدنا، وأثنوا علينا، أو لم يثنوا علينا، ذكرونا بخير، أو ذكرونا بغيره، فإننا ينبغي أن نعمل؛ لأن الثناء من الله هو مقصودنا، وكذلك ينبغي أن يكون الثواب من الله هو الباعث لنا على العمل لا ثناء الناس، ولا مدحهم.
أيها المسلمون، أيها الإخوة: إننا في حال نحتاج فيه إلى أن نصابر في أنفسنا مع العمل للإسلام، وأن لا نتغير مزاجياً مع الأمور والأودية، والأنواع والمجالات، فلا نتم هذا، ولا نتم هذا، بل إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه، فإذا أمسكت بعمل -يا عبد الله- فأتمه، وأتقنه.
ولم أر في عيوب الناس عيباً | كنقص القادرين على التمام |
فاثبت عليه، وأتمه وأتقنه، وعند ذلك تكون منجزات تحسب لك عند الله ، أما الانقطاع في منتصف الطريق، والتغير من مكان إلى مكان دون أن يكون في ذلك مصلحة شرعية، فهي من خدع إبليس يريدك أن لا تتم هذا، ولا تكمل هذا حتى لا تظهر الثمرة، ولا ينتفع بالعمل.
الحياة الكريمة
عباد الله: إن بعض الناس يريد الحياة أن تكون سهلة مريحة خالية من كل ما يكدر الخاطر، ويتعب البال، وهذه حياة ليست -والله- بحياة كريمة، فإن المسلم ينبغي أن يسعى في طاعة ربه ولو كان ذلك متعباً، ولو كان ذلك قاسياً، ولو كان ذلك شاقاً؛ لأنه يريد الحياة المريحة في الجنة.
قالوا السعادة في السكون | وفي الخمول وفي الجمود |
في العيش بين الأهل | لا عيش المهاجر والطريد |
في المشي خلف الركب | في دعة وفي خطو وئيد |
في أن تقال كما يقال | فلا اعتراض ولا ردود |
قلت: الحياة هي التحرك | لا السكون ولا الهمود |
وهي التلذذ بالمتاعب | لا التلذذ بالرقود |
هي أنت تذود عن الحياض | وأي حر لا يذود |
هي أن تحس بأن كأس الذل | من ماء صديد |
فإذا أحس الإنسان بأن ما يتجرعه المسلمون من الذل اليوم هو من ماء صديد، فإنه يرفض أن يتجرع الكأس مع الآخرين، فينهض للعمل، وينفض عنه غبار النوم والكسل، ويقوم لله تعالى بالواجب والمطلوب.
أثر الصلة بالله في العمل للإسلام
عباد الله: إن العمل لا يعظم، ولا يندفع الإنسان له، ونتحدث عن عمل الآخرة بالذات، إلا إذا كان للمرء صلة قوية بربه، ولذلك كان العابدون من أعظم المندفعين للعمل؛ لأن صلتهم القوية بالله كانت تجعلهم تغتنمون أوقاتهم في هذا العمل للدين.
قال الوليد بن مسلم رحمه الله تعالى: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس.
وأخبروا عن بعض السلف أنهم كان هذا هديهم في ذكر الله إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض بعد الخلوة والعبادة الفردية، يقوم بعضهم إلى بعض، يفيضون في ذكر الله تعالى، والتفقه في دينه.
قال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضجعاً في المحمل، كان يصلي فإذا غلبه النوم استند إلى القتب، وكان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاءً حتى أن أمه كانت تدخل منزله، وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطباً من دموعه في الليل.
قال ابن جريج: صحبت عطاء ثماني عشرة سنة، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة وهو قائم، لا يزول منه شيء ولا يتحرك، فكيف إذن كان لما كان قوياً؟!
وكان ربيع بن خثيم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه، ثم يقول: أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً، أي: إذا نسبنا أنفسنا إليهم، وأعمالنا إلى أعمالهم كنا في جنبهم لصوصاً، وهكذا يقول مع شدة عمله.
أيها الإخوة: العمل في النهار يحتاج إلى عبادة بالليل، العمل في الضحى يحتاج إلى ذكر بعد الفجر، وهكذا إذا كان الإنسان حسن الصلة بالله، قوي العبادة كان ذلك زاداً له في طريق الدعوة وتحصيل العلم، ونشر الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم إن من أكثر ما ذبح أولئك الذين يريدون العمل زوجات غير صالحات، أشغلنهم في أمور الدنيا، وأركبنهم مطاياها، وذهبن بهم في أوديتها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ينطلق أحدهم فيتزوج امرأة قد سمنها أبواها، وترفوها حتى كأنها زبدة، يتزوجها، فتأخذ بقلبه، فيقول لها: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا، فيأتي به، ثم يقول: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا، فيأتي به، فتمرط والله دينه وتمزق، لو أنه تزوج يتيمة ضعيفة كساها أُجِر على ذلك.
إذًا: ينبغي أن يكون إرضاء الله مقدماً على إرضاء الزوجات والأولاد، ولكلٍ حق يجب القيام به، وإن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً؛ فأعط كل ذي حق حقه.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من العاملين لدينك يا رب العالمين، اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم إنا نسألك الرشد في الأمر، والعزيمة على الرشد، نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أثر صحبة الصالحين في العمل للإسلام
عباد الله: إن من أعظم الأسباب الداعية إلى مواصلة العمل للإسلام وعدم تركه أن يكون الإنسان مع العاملين المخلصين، أن يؤاخيهم، وأن يرافقهم، وأن لا ينفصل عنهم، المحيا محياهم، والممات مماتهم، وهكذا يكون معهم أخاً صادقاً: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌسورة الحجرات:10، يكونون كالبنيان المرصوص في مواجهة كيد الأعداء، ويكونون كالجسد الواحد في التآخي في ما بينهم، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
إن الانفصال عن الأخيار العاملين وتركهم هو الداء الوبيل، وهو الشر الكبير، ولذلك قال النبي ﷺ: إنما يأكل الذئب القاصية[رواه أبو داود (547)]، وذكَّرنا بـ أن يد الله مع الجماعة [رواه الترمذي (2166)]، وذكرنا بأن البركة في ثلاث: في الجماعة والثريد والسحور[رواه الطبراني في الكبير (6127)]، فإذن هؤلاء الجماعة المجتمعون على الخير بركة، فإذا كنت مع الأخيار عملت، وأججوك وأزوك للعمل ودفعوك، واقتديت بهم، ونلت نصيحة، أو حافزاً وحماساً، أو تسديداً وستراً على عيب، وتكميلاً لشخصية، واقتباس خلق وعلم، ونحو ذلك من الفوائد العظيمة.
خطورة المعاصي والكسل والخمول
عباد الله، أيها المسلمون: إن المعاصي من شر ما يقطع الإنسان عن العمل للدين، إن الشيطان ليستثمر المعصية استثماراً، ويرابي فيها بحيث تكون قاطعة عن الله والدار الآخرة ولا يزال يقول لمن اتبع دربه ومشى في ركبه: أنت عاصٍ مقصر؛ لا يليق بك أن تدعو، ولا يليق بك أن تعمل، ولا يليق بك أن تنصح، ولا شك أن هذا في الحقيقة إضافة تقصير إلى تقصير، فلو أن المقصر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل هذه الحُجة الواهية التي ليست بحجة أصلاً، فماذا سيحدث أيها الإخوة؟ إنه سيضيف إلى معاصيه وتقصيره معصية وتقصيراً آخر، وهو ترك إنكار المنكر الواجب، وترك النصيحة الواجبة في الدين، وهكذا يتنقل الشيطان بالمرء من حفرة إلى حفرة، وينزل به سلم الدرج حتى يورده قاع الذل والهزيمة والمعصية، فإياكم -يا عباد الله- من الاستجابة لهذه الخدعة الإبليسية.
أيها المسلمون: إن الإنسان المسلم قد تعرض له عوارض، يعرض له ضعف، قد يعرض له شيء من الكسل والخمول، يزيله بالإقبال على الله، والانطراح بين يديه، والذل عنده، يقف بين يديه يناشد ربه أن يعيد إليه إيمانه جذوة مشتعلة، وحماسته حماسة متقدة، وأن يأخذ بيده إلى سبيل الطاعة والنهوض بنفسه مرة أخرى، وإنه ليطلب من إخوانه المسلمين أن يكونوا عوناً له ومدداً في تجاوز هذا الحال المؤقت فيما ينبغي أن يكون الذي مر به.
إن هذه المنعطفات الموجودة في طريق الطاعة عن كثير من الناس ينبغي أن يُتغلب عليها لا أن يستسلم لها، وأن نأخذ من كتاب ربنا ومن سيرة سلفنا ونبينا إمامهم وقدوتهم، أن نأخذ من إمامهم وقدوتهم العلاج في مواجهة مثل هذه الحالات التي تحدث لدينا في كسل أو خمول، أو تباطؤ أو فتور، بل حتى وانتكاس لنعود مرة أخرى متغذين بهذه المحفزات لأعمال الخيرات، وأن نرجع مرة أخرى إلى الطريق كما كنا، وأفضل مما كنا، والسعيد من عرف كيف يعالج نفسه، ولو أنك لم تهتد إلى علاج فسألت من إخوانك من يدلك عل الطريق والعلاج لكان ذلك من الحكمة العظيمة.
اصبروا وصابروا
أيها المسلمون، أيها الإخوة: إن القضية تحتاج إلى مكابدة، وإلى تعب نفس: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ سورة العنكبوت:14، فهكذا نوح يدعو قومه تسعمائة وخمسين عامة من غير كلل ولا ملل، هذه الهمة العالية من نبي الله الكريم في القيام بالواجب، وحتى التغلب على عيوب النفس يحتاج إلى مصابرة، قال ابن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، وكذلك قال ثابت البناني عن الصلاة: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة.
وهذه العبارة توضح لك -يا عبد الله- كيف تتم المصابرة في موضوع مثل قيام الليل الذي يكون شاقاً على النفس، ومراً عندما يحاول الإنسان أن يفعله، وأن يطيل فيه، ولكن الحل والعلاج هو الاستمرار حتى تأتي الحلاوة، فإن الحلاوة قد لا تأتي إلا بعد وقت من الزمن.
أيها الإخوة: إن الاستمرار في الأعمال يرزق الإنسان به حلاوة؛ حلاوة إيمان يستشعر طعمها حتى يفارق الدنيا.
ربيعة بن يزيد ما أذن المؤذن لصلاة الظهر أربعين سنة إلا وهو في المسجد إلا إذا كان مريضاً، أو مسافراً.
بشر بن حسن الصفي، لماذا سمي بالصفي؟ لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
وهكذا كانت الأعمال ترتقي بهم من مرحة إلى مرحلة حتى يحس المعاشر لهم أنهم يزدادون كل يوم، وهذه القضية العظيمة الازدياد كل يوم.
قال إبراهيم الحربي رحمه الله -وهو من أصحاب الإمام أحمد- عن شيخه: ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءاً، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فلما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس.
يا مطعوناً في العزم أين أنت والطريق؟ طريق تعب فيه آدم، وبكى لأجله نوح، ورُميَ في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وعالج الفقر، وأنواع الأذى محمد رسول الله ﷺ، فكيف نحن باللهو واللعب؟!
يا مطعوناً في العزم أين أنت والطريق؟ طريق تعب فيه آدم، وبكى لأجله نوح، ورُميَ في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وعالج الفقر، وأنواع الأذى محمد رسول الله ﷺ، فكيف نحن باللهو واللعب؟!
أيها المسلمون، عباد الله: ليكن شعارنا: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِسورة النحل:127، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ سورة آل عمران:200.
كيف يهنأ المسلم بعيش، ويرتاح له بال، وهو يرى أفراد أمته يجرون وراء اليهود والنصارى والكفار تشبهاً بهم وما الذي جرى في يوم عيد الحب ببعيد أيها الإخوة، عندما رأيت أنواع هذه الترهات يبيعها الناس في أسواقهم، الورود والبطاقات، وتُرسل التهاني عبر شبكة نسيج العنكبوت، وغير ذلك من أنواع التبادل وتتحدث القنوات عن قضية عيد الحب، وتنتهي الورود الحمراء من المحلات، وتتقاذف الأوراق وغيرها المقصوصة على هيئة القلوب، تتنقل في أيدي شبابنا وبناتنا، هذه الغيرة التي تأخذ بنفس الإنسان المسلم، والحسرة والغصة مما يتجرعه من هذا المرأى الشنيع لبنات وشباب من آباء وأمهات مسلمين، يعيشون مع المسلمين، ثم يصل بهم الانحدار إلى أن يركبوا مركب الكفار، ويسيروا في ركبهم، ثم تعمل الحفلات، وتسمع عن الدي جي وغير ذلك من أنواع الموسيقى والرقصات، ناس يهيمون في أودية إبليس، والشيطان يستجرُّهم، هذا مثل واحد، ثم تجد في المقابل مذابح الشيشان، وتجد الطعن في العيون، وبقر البطون، وأنواع الاغتصاب، والإذلال والمجاعة، مدن تهدم بأكملها على رؤوس قاطنيها، وعاصمتهم تُغلق، ومحصورون في الجبال، وفي الثلوج والجوع، ثم هؤلاء يهيمون في الأسواق، والمراكز التجارية، وعلى الشواطئ يلعبون بالكفر والتشبه بالكفرة، تُهدم العقيدة، ويزلزل الدين، ويتشبه بالكفرة الذين يقاتلوننا.
إذًا: -أيها الإخوة- القضية -والله- تؤجج للعمل وتدفع للمنازلة، والقدوم إلى ساحة الوغى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، كفى لعباً وكفى لهواً وكفى نوماً وكسلاً، انفضوا ذلك الغبار، وقوموا لله بالواجب، وإلا فإن السفينة ستغرق والله.
اللهم إنا نسألك الهداية لنا وللمسلمين جميعًا، اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، نعوذ بك من غضبك وعقابك، ونعوذ بك من همزات الشياطين، وأن يحضرون يا رب العالمين.
اللهم فقهنا في ديننا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، اللهم اجعل حياتنا على التوحيد، واجعل مماتنا على التوحيد، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً يا رب العالمين، من أراد بلدنا هذا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم ومن أراد المسلمين في هذا البلد وفي غيره من بلدان المسلمين بسوء اللهم فأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.