صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
معاناة موسى -عليه السلام- وصبره
لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه.
وموسى من أولي العزم من الرسل، وهو ثالث أفضل رسول في البشرية بعد محمد ﷺ، وإبراهيم.
وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو منهم من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى عاش حياتين: عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى وبنو إسرائيل في التيه.
لقد عانى موسى معاناة شديدة جداً، وصبر، وكان ذا شخصية عظيمة، وجاهد في سبيل الله وقدم أشياء كثيرة، وهيأه الله واصطنعه لأجل القيام بهذا الدور العظيم في جهاد فرعون وقومه، ثم في قيادة بني إسرائيل.
إغراق الله لفرعون وجنده
وجاهد موسى وقال كلمة الحق عند الملك الظالم الذي ادعى الربوبية والإلهية، وخلص ببني إسرائيل إلى البحر وأتبعه فرعون بجنوده، فلما نظر بنو إسرائيل إلى فرعون وجنوده: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] لا محالة، وسيقضى علينا، ولكن موسى قال: كلا، لا يمكن أن يحصل ذلك ولو كانوا وراءنا بمسافة بسيطة: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62].
وأوحى الله إلى موسى فضرب بعصاه البحر: فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، كان جبلاً كبيراً عن اليمين والشمال، وفي الوسط درب أيبسه الله؛ لأن الماء إذا انفرق طين، قاع البحر طين، لكن الله أيبسه، وأمره أن يسلك طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طـه: 77].
ودخل موسى ومن معه في هذا الطريق، وعبروا إلى الجانب الآخر، ولما وصل فرعون وجنوده إلى المكان فوجئوا بهذه القضية، فضرب فرس فرعون فمشى فتشجع فرعون وأظهر الجلد، ومشى في ذلك الطريق، ولما استكمل دخول فرعون وجنوده في هذا الدرب أطبق الله عليهم البحر، فعاد كما كان، وكان كل فرق كالجبل العظيم، فصار الماء فوقهم بمسافة، فعلاهم فأغرقهم، وقضى الله على ذلك الطاغية وجنوده جميعاً.
عبر موسى البحر ومعه بنو إسرائيل الذين نجاهم الله وامتن عليهم بإنجائهم من فرعون وجنوده.
ثم إن الله واعد موسى ؛ كما قال سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طـه: 80].
لما نجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه، واعد الله موسى وبني إسرائيل على جانب الطور الأيمن، عند الجانب الأيمن من الطور.
ولكن موسى استبق قومه للقاء الله ، وسأله ربه عم أعجله؟ فقال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طـه: 84] لتزداد عني رضا.
ولما سأله ربه: لماذا سبق قومه؟ قال: هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي [طـه: 84] قادمون سينزلون قريباً من الطور.
فأوحى الله إليه أنه قد فتن قومه بعبادة العجل في أثناء غيبته.
فتنة السامري لبني إسرائيل وعبادتهم للعجل
سبقهم في هذه الفترة عبدوا العجل، قال الله في سورة الأعراف: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ [الأعراف: 148] كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط، وهم سكان مصر الفرعونيين، استعاروا منهم حلياً، ولما هرب بنو إسرائيل أخذوا معهم الحلي؛ لأن هذه أموال محاربين فهي جائزة للمسلمين أخذوها معهم وعبروا بها، وكان هناك رجل، قيل إنه ليس من قوم موسى، لكنه من طائفة تعبد البقر، يقال له: السامري دخل معهم.
ولما ألقى بنو إسرائيل هذا الذهب في الحفرة تحرجاً منه، وقالوا: كيف نأخذه معنا وهي أموال مسروقة؟ لما وضعوها في الحفرة كان السامري قد رأى أثر فرس جبريل فأخذ منه قبضة من وطأة الفرس على التراب، فألقاها في الحفيرة التي فيها الذهب، فشكل لهم منه عجلاً، شكل من الحلي عجلاً، ثم ألقى هذه القبضة من التراب من أثر فرس جبريل، فصار العجل له صوت، وهو الخوار صوت البقر، قال الله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ وبخهم ربهم فقال: أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ هذا العجل وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ [الأعراف: 148].
وأخبر الله -سبحانه وتعالى- موسى أنه قد فتن قومه من بعده وأضلهم السامري.
قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم.
وقال بعضهم: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج، فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان.
وقالوا لبعضهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طـه: 88].
وبخهم الله على ذلك، وحبك الشيء يعمي ويصم، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود: "لما افتتنوا به أحبوه وتغلغل فيهم"، فلم يكونوا على استعداد لتركه.
قصة العجل كما في سورة الأعراف
اختصرت القصة في سورة الأعراف، فقال الله -تعالى-: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 149] فاعترفوا بالذنب بعدما تبين لهم.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ، والأسف: هو أشد الغضب، قال موبخاً لهم: بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ بئسما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن تركتكم أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله وَأَلْقَى الألْوَاحَ التي أعطاه الله إياها وأنزلها عليه في جبل الطور أعطاه الله التوراة مكتوبة في الألواح، لما رأى موسى ما حل بقومه ألقى الألواح غضباً على قومه، وليس إهانة للألواح، وهذا هو قول جمهور أهل العلم: وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ؛ لأنه كان قد استخلفه على قومه خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، وقال: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا [طـه: 92].
أخذ برأس أخيه يجره إليه، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: يَا ابْنَ أُمَّ ابْنَ أُمَّ يعني يا ابن أمي، أنا وإياك من بطن واحد لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ولا تشدني شداً إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أنا لست قوياً مثلك، القوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي وصل الأمر بهم إلى مقاربة قتل هارون، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم، فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف: 150] تخلطني معهم وتسوقني مساقهم.
وقال له: ابن أم لتكون أرأف وأنجع عنده، مع أنه شقيقه من أبيه وأمه، لكن لما ناداه بالأمومة لأجل أن يكون هناك عاطفة يستجر العاطفة من موسى .
وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- هذه النقطة في كتابه العظيم: "البداية والنهاية" وفي "التفسير"، قال: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هنا أرق وأبلغ" أي: في الحنو والعطف.
لما تحقق موسى من براءة ساحة هارون، وأخبره هارون بما صنع في غيابه من مجاهدة هؤلاء القوم، فإن موسى في هذه الحالة: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف: 151].
ثم قال الله : إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 152 - 154].
وابتدأ في السير مع بني إسرائيل من جديد.
والصحيح أن الألواح لم تتكسر، لم يكن هناك دليل على أنها تكسرت، وإنما مجرد الإلقاء، ثم جمعها موسى مرة أخرى وأخذها ليقود بني إسرائيل بمقتضاها.
قصة العجل كما في سورة طه
وجاءت هذه القصة أيضاً في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [طـه: 80 - 81] الآية..
ثم إن الله قال لموسى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طـه: 83 - 86]، وذكرنا معنى كلمة: أَسِفًا يعني: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد فتن القوم في غيابه فرجع إليهم، يقول: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ في انتظار ما وعدكم الله أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ أَمْ هنا بمعنى: بل، يعني: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي [طـه: 86].
لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر بارد سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا [طـه: 87] يعني قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم يعني مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر، فَقَذَفْنَاهَا وألقيناها عنا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [طـه: 87- 88] صنعه لهم فقالوا الضلال منهم: فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طـه: 88].
فَنَسِيَ قيل: فيها ثلاثة أقوال: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل -والعياذ بالله-.
وقيل: فَنَسِيَ يعني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم.
وقيل: إن الذي نسي هو السامري، أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر.
السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل إلى الآن ويعلقون في رقابهم بقرة صغيرة إلى الآن، قد يراهم الواحد يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة.
وقيل: إنهم لا زالوا يقولون عبارة لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعبدون بها.
قال الله : أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [طـه: 89] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً في دنياهم ولا في أخراهم.
فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة، نحن ما قصدنا، إنما الذي حصل أنها المسألة كانت ورع من هذا الذهب فألقيناها وعبدنا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم.
وقد أثبت الله -تعالى- أن هارون كان في غيبة موسى حريصاً جداً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله : وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ليس البيان حصل من موسى فقط، حصل من قبل من هارون: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي فيما آمركم به وأنهاكم وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طـه: 90].
ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ [طـه: 91]، وكانوا هم الأغلبية.
ثبت مع هارون ناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل لم يستطيعوا أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون .
قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طـه: 91] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ما نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وخالفوا هارون وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.
توجه موسى إلى أخيه هارون بالخطاب في قصة في سورة طه: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طـه: 92 - 93]، وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما وقع؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ لأن موسى قال لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طـه: 94].
لحية هارون وافرة، هذا رد على الذين يحلقون اللحى، توفير اللحى من سنة المرسلين، ولقد كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها، وأن يقبض عليها: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ، وأنها أقل ما فيها: أنها قبضة يمكن أن تقبض.
قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى؟ ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم، قال هارون: إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل كنت أخشى أن تقول لي: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طـه: : 94] أخشى إن تبعتك لأخبرك أن تقول لي: لما تركتهم وحدهم أنا ما خلفتك عليهم؟ لماذا تركتهم وحدهم وجئتني وفرقت بينهم ولم ترقب قولي؟ لأني استخلفتك، والخليفة يبقى مع المستخلف عليهم.
وكان هارون مهيباً يهاب موسى ويطيعه.
وموسى هو صاحب المنة على أخيه، ما يعرف واحد، ما يعرف واحد في البشرية أعظم منة على أخيه من منة موسى على هارون؛ لأنه هو السبب في جعله نبياً.
موسى هو الذي قال لربه وطلب منه ودعا: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [سورة طـه: 29 - 32] اجعله نبياً مثلي، ما قال موسى: أنا أكون النبي الوحيد في العائلة! وإنما طلب من الله أن يكون هارون معه نبياً، ولذلك قال العلماء: "لا يعرف أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون".
فالله استجاب دعاءه وجعل هارون نبياً بدعاء موسى، وصار ينزل عليه الوحي مثل موسى، لكن موسى بالمنزلة الأعلى.
قال موسى ملتفتاً إلى السامري: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طـه: 95]؟ انتقل الحساب الآن إلى السامري.
موسى كان ينتقد بسرعة وبحزم للقضاء على هذه الفتنة: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ؟ ما حملك على ما صنعت؟ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ رأيت شيئاً لم يره القوم، رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرسه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ من أثر الفرس، وهذا هو المشهور عند أكثر من المفسرين كما يقول ابن كثير -رحمه الله-.
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ من تحت حافر فرس جبريل، والقبضة ملء الكف، فأخذتها وخبأتها عندي، من ذلك الوقت خبأها معه، والشيطان يسول للسامري ويخطط له ويلهمه الأشياء، وألقى الشيطان في روع السامري أنك إذا ألقيت القبضة على هذا الحلي بعدما تصنعه عجلاً سيكون له صوت ويفتن به القوم، فألقى هذه القبضة فعلاً عليه، وكان عجلاً له خوار، قال: فَنَبَذْتُهَا يعني ألقيتها؛ لأن بنو إسرائيل جمعوا الحلي جعلوا يلقونه في الحفرة كل واحد يلقي، كل واحد يلقي، فجاء هذا وألقى معهم: وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طـه: 96] حسنت نفسي هذا الشيء وأعجبها.
قال موسى للسامري: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ [طـه: 97] كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه من أثر الرسول لتفتن به الخلق، فعقوبتك من جنس فعلك أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ لا تمس الناس ولا يمسونك، لا تستطيع ذلك، فتكون مقبوحاً منبوذاً طريداً، لا أحد يريدك ولا أنت تستطيع أن تقترب من أحد.
وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا يوم القيامة لَّنْ تُخْلَفَهُ لن تغيب عنه وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ ومعبودك هذا الذي فتنت به الناس الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ومقيماً على عبادته لَّنُحَرِّقَنَّهُ قيل: أنه سحله بالمبارد لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طـه: 97] حرقه في النار إذا كان من لحم ودم، أو برده بالمبارد حتى صار ذرات إذا كان من ذهب، ثم أذرى الرماد هذا أو الذرات في هواء في البحر ليفرقه الهواء في ماء البحر فيتلاشى تماماً ثم لننسفنه في اليم نسفاً .
ثم قال موسى لقومه: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طـه: 98].
وقد جاء تفصيل لهذه القصة في حديث الفتون الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
لكن الراجح: أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فلذلك نبقى على ما جاء في الكتاب العزيز.
عقوبة الله لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل
لكن ماذا حصل بعد هذه المسألة؟ الآن هذه عقوبة السامري لكن ما هي عقوبة الذين عبدوا العجل؟ ما هي عقوبة الذين سكتوا؟ ما هي عقوبة الذين لم ينكروا المنكر؟
فقال الله ﷺ في سورة البقرة: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة: 51] لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً، وهي المذكورة في الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف: 142] بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر، وآتى الله موسى الكتاب، وأنزل عليه التوراة.
وهذا أيضاً بعد خروجهم من البحر، واتخذوا العجل، فماذا قال موسى لقومه عن قضية توبتهم من عبادة العجل؟
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [البقرة: 54] هذه هي التوبة، الطريق الوحيد للتوبة من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم عبادة العجل والشرك والكفر بالله يقولون: الله هو هذا العجل! ما أسفه عقولهم.
وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا [الأعراف: 149] الآية، فعند ذلك قال موسى: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ الذي خلقكم، لعظم جرمكم فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ لا بد أن تقتلوا أنفسكم، لا بد أن يقتل بعضكم بعضاً.
وفي هذا وردت عدة آثار عن السلف -رحمهم الله تعالى-، فمما ورد عن ابن عباس: "فقال الله تبارك وتعالى: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد أو ولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن" [تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم: 1/110].
وكذلك جاء: أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة" يعني أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى بعضهم بعضاً عند القتل "فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل" [جامع البيان: 1/74]، وتاب الله على الجميع على القاتل والمقتول؛ كان القتل هو التوبة، التوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، كل واحد يرفع السيف على الآخرين ويقتل من يلقاه، كل واحد يقتل من يلقاه، في هذه الظلمة لم يعد الواحد يرى من أمامه فيقتل من يلقاه من ولد ووالد وقريب وصاحب، وغيره، لا يدري من أمامه فيقتله، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وربما قتل الولد أباه، وربما قتل الأب ولده أو عمه وخاله، وهكذا..
وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل.
وقال قتادة: "أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار، فقتل بعضهم بعضاً حتى بلغ الله فيهم نقمته وسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل. فجعله لحيهم توبة، وللمقتول شهادة" [تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم: 1/110]
وقال الحسن البصري: "أصابتهم ظلمة الحُندس" أي: شديدة، فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك.
وجاء أيضاً في كلام بعض السلف: كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة، فقال الله : فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 54]، ورفع عنهم القتل وإلا كانوا هلكوا.
أصاب موسى حزناً على قومه، لكن الله أخبره أنه تاب عليهم، وأن المقتول شهيد، والباقي قد تيب عليهم، فانتقلوا بعد ذلك إلى المرحلة التي تليها في قصة موسى الطويلة مع بني إسرائيل.
هذه خلاصة قصة العجل، وكيف انتهت هذه النهاية المأساوية التي كان يجب عليهم للتوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يفني بعضاً!
بعص الدروس المستفادة من قصة السامري
وعند هذه القصة العظيمة التي أخبرنا الله عنها لنا وقفات نقفها، ودروس نأخذها.
هؤلاء القوم بنو إسرائيل ألفوا الاستعباد الطويل، فرعون استعبدهم سنين طويلة جداً، ومع هذا الاستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية طبيعة القوم قد فسدت، وهذا شيء متوقع، وصار في كيانهم النفسي خلخلة، والاستعداد للانقياد لكل ناعق، فما كاد موسى يتركهم في رعاية هارون ويبتعد عنهم قليلاً حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار، إنهم لما عبروا البحر وجدوا ناس عاكفين على أصنام لهم: يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] أنتم الآن طلعتم من البحر، الآن أنجاكم الله قبل قليل، الآن النعمة عليكم واضحة جداً، تقولون: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة، ما رأيتم بأعينكم صنيع الله وفضله عليكم حتى تطلبوا أن يكون لكم آلهة.
فما أعجب التواء تلك النفوس! فما من عجب أن الله يضرب عليهم الذل والضعف! وأن يغلبهم الناس ويقهرونهم ويستحقرونهم إلى قيام الساعة إلا فترات يسيرة جداً في التاريخ! منها: الفترة التي نعيشها الآن التي بلغت الذروة الآن في قضية تسلط اليهود! وإلا فاليهود على مر التاريخ محقورين منبوذين حتى إذا أراد الواحد أن يسب واحد قال: يا يهودي!
فطبيعة بني إسرائيل ما كانت تستقيم وإنما تلتوي دائماً.
وما كان موسى ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] وعبدوا العجل!
وقالوا: المن والسلوى ما نريده! هات لنا بصلا وثوماً وقثاء! حتى في الأكل مزاجهم منحرف! واحد يترك المن والسلوى يقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاءً وكراثاً.
ثم بعد ذلك يقولون: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55].
وبعد ذلك: ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ [المائدة: 21]، قالوا: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24]، إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا [المائدة: 22] أجبن من هذا!
ثم ما أشد وقاحتهم لما يقولون لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24] نحن ننتظر الفتح إذا فتحتوها ادعونا لدخولها!
ثم هؤلاء نتق الله الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ [الأعراف: 171].
يرون الآيات الواحدة تلو الأخرى وما في فائدة!
في النهاية لما امتنعوا عن دخول القرية، الله حكم عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يخرجون من الصباح للبحث عن منفذ ما يأتي عليهم المغرب إلا ويجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي ذهبوا منه في الصباح!
من الصباح يخرجون للبحث عن منفذ إلى المغرب بعد التعب الشديد يجدون أنفسهم في المكان الذي بدأوا منه البحث!
ومات موسى وفي نفسه أشياء على بني إسرائيل! مات موسى وبنو إسرائيل في التيه: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26].
وسأل موسى ربه أن يدفن في الأرض المقدسة، فجعله الله يقبض هناك ويموت في الأرض التي كان يتمنى أن يدخلها مع بني إسرائيل، قال النبي ﷺ: لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر [رواه البخاري: 1339، ومسلم: 2372] في داخل أرض فلسطين.
طبيعة بني إسرائيل الملتوية
ومن هذه القصة نأخذ عدداً من الفوائد؛ منها: هذه الطبيعة الملتوية لبني إسرائيل، ومنها: كيف أن هذا النبي الكريم صابر وجاهد بهذه النفوس الملتوية، وأراهم الله آيات على يديه ومعجزات، ومع ذلك ما استجابوا ولا انقادوا، كان فيهم صلحاء، كان فيهم مستقيمون لا شك، كان فيهم أناس رفضوا عبادة العجل مع هارون، لكن ليس هم الأكثرية، هم الأقلية، وحتى الصفوة الذين أخذهم للقاء الله، الذين قالوا: أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] طلبوا رؤية الله .
الاستعباد يخرب النفوس
من الدروس التي نأخذها من هذه القصة العظيمة: أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرق وناعق.
والاستعباد من أشنع الأشياء، استعباد الشعوب وتربية الناس تربية العبيد.
ولا شك أن هذا النوع من التربية يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، يمكن أن يضحك عليهم أي واحد ويقودهم، ولذلك ترى الناس أحياناً رعاعاً همجاً إلا من رحم الله، أتباع كل ناعق، لو جاء واحد نعق بهم يميناً ذهبوا معه، شمالاً ذهبوا معه.
هذه نتيجة تربية الناس، تربية العبيد! وليس تربية الأحرار! نتيجة الإذلال! نتيجة الكبت! نتيجة الضغط! نتيجة التخويف! نتيجة التجويع!
وهذه الأشياء كلها يمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله هذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة، وتربية الأحرار لا تربية العبيد!
كان ذلك من أسباب نقلهم من عالم الضلال إلى عالم الهدى، ومن عالم الكفر إلى عالم الإيمان، ومن عالم الذل إلى عالم الحرية، ولذلك لما ذهب ربعي يخاطب رستم: "إن الله ابتعث هذا النبي لينقذنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
مواجهة موسى –عليه السلام- للسامري وعبدة العجل
ومن الدروس أيضاً المهمة في هذه القصة: كيف واجه موسى ﷺ هذا الموقف العظيم؟
أولاً: غضب لله ، ثار موسى وبلغ من غضبه لم يتمالك نفسه أنه ألقى الألواح، لو واحد ألقى الألواح إهانة كفر، أما موسى ألقاها غضباً لله، ما تمالك نفسه ألقى الألواح لما رأى أمامه ما حصل، وذهب يقرع قومه ويوبخهم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف: 150]؟ لماذا فعلتم هذا؟ ما ترون أنه لا يكلمكم؟
ونزل توبيخاً في قومه، ويستاهلون -بالطبع- هذا التوبيخ لما فعلوا من هذا الظلم.
ثم إنه حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة، السبب وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفاً بحيث لا يعود أبداً كما كان.
فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيباً فيه حزم وسرعة.
تحقيق مع قومه، وتحقيق مع السامري، ومحاصرة السامري وجعله بمعزل عن الناس، هذا مبتدع! هذا رأس بدعة أضل الناس! لا بد من جعله بمعزل عن الناس! وهكذا لا بد أن يعامل المبتدع! يعزل لا يكلم أحداً! ولا يكلمه أحد، ولذلك قال بعض المبتدعة لأيوب -رحمه الله-: أريد أن أكلمك كلمة؟ قال: ولا نصف كلمة! ما يسمع.
يرفضون فضول السماع من أهل البدع.
الذين شقوا عصا طاعة النبي ﷺ، الذين ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به.
وينبغي على الدعاة إلى الله إذا رأوا مبتدعاً من مثل الصوفية أو غيرهم من المشركين أن يحاصروهم، ولا يجعلوا له مجالاً ليتنفس! ولا لينفث سمومه في الناس!
وهذا الشيء لا بد منه.
وينبغي أن يدقق جيداً في هذه المسألة حتى لا تستغل من أعداء الإسلام فيرمون العلماء بالبدعة والصالحين بالبدعة؛ لأن هذا سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه أعداء الله في رمي أهل الصلاح بالبدعة حتى ينفر منهم الناس!
ولذلك ينبغي أن يعرف من هو المبتدع؟ وما تعريفه؟ وما هي البدعة؟ وما هي أنواعها؟ والفرق بين البدعة المكفرة وغير المكفرة؟ والفرق بين المسائل الاجتهادية، ما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يقبل فيه الكلام بين المسائل الخلافية الاجتهادية المقبولة والخلافية التي ليس فيها الاجتهاد مقبولاً؟
لا بد من الوعي بجميع هذه الأشياء حتى يعرف من هو المبتدع، فقد يكون الذي يرمي الناس بالبدعة هو المبتدع.
وكذلك فإنه لا بد من عزل المسلمين عن أسباب الفتنة.
كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يعزل.
كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يحاصر.
كل شيء يثير فتنة، مصدر فتنة يحذر منه، مصدر الفتنة في الدين.
وكذلك فلا يجوز تسمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة بين الناس؛ لأن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن قال عن آمر بمعروف ناه عن منكر: إنه يفتن أو يبذر بذور الفتنة فهو المفتون، وإلا الآمر الناهي بمنزلة عند الله، و رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله .
هذا أعظم الناس منزلة عند رب العالمين: أعظم الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله .
ضوابط كرامات الأولياء
كذلك من الدروس العظيمة: أنه ليس أي واحد أتى بأي خارقة من الخوارق تبعناه؛ لأنه خرق لنا العادة! وأرانا شيئاً عجيباً ما رأينا مثله!
ومن قواعد أهل السنة والجماعة في الفرق بين الكرامة والخارقة التي تكون للمشعوذ والساحر، من أهم الفروق.
لو واحد قال لك: كيف نفرق بين الساحر الذي يطير في الهواء ويمشي على الماء وبين واحد من عباد الله الصالحين الذين ربما مشى على الماء، الغلام الآن في قصة أصحاب الأخدود، لما أرسله الملك مع جنوده إلى عرض البحر في سفينة "قرقور" قارب، قال: إن رجع عن دينه وإلا فألقوه، الغلام دعا الله قال: "اللهم اكفنيهم بما شئت" انقلبت السفينة فغرقوا كلهم إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك، فالآن أين مشى الغلام؟! على الماء ما غرق! جاء إلى الملك!
إذاً، كيف نفرق بين واحد أعطاه الله كرامة بأن يمشي على الماء، وبين ساحر ومشعوذ يسير على الماء أو يطير في الهواء؟
الفرق في حال الشخص، لا بد أن نبحث في حال الشخص، لو واحد أخذ كفاً من حصى فتحها وجدناها ذهباً! كيف نعرف أن هذه كرامة، هذا تقي أعطاه الله كرامة! فقلب الحصى في يده ذهباً، أو أنه مشعوذ دجال! الجن أو الشياطين هم الذين اشتركوا معه في هذه الفتنة! وجعلوا مكان الحصى ذهباً! أو أروا الناس قلبوا أعينهم فجعلهم يرون الحصى ذهباً؟
الفرق في حال الشخص، فإذا كان إنساناً على منهج السلف، على عقيدة أهل السنة والجماعة، يقوم بأمر الله، طائع لله، قائم بالواجبات، منته عن المحرمات، ملتزم بالدين، ما يقول: أنا ولي!
من صفات الأولياء أنهم لا يقول الواحد منهم: أنا ولي! فنعرف أن هذه كرامة.
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء.
المعتزلة نفوها بالكلية.
والأشاعرة قالوا: كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي.
هذه قاعدة باطلة عند الأشاعرة.
وأهل السنة والجماعة وسط يقولون: بإثبات كرامات الأولياء التي نفاها المعتزلة، ولكن الكرامة مهما كانت للولي لا يمكن أن ترقى إلى معجزة النبي كما يقول الأشاعرة.
فإذاً الفرق بين كرامة الولي وبين دجل المشعوذ وما يعينه به الشياطين حال هذا وحال هذا، لابد من النظر في الأحوال.
هذه مسألة مهمة.
الحذر من الشخصيات المخادعة
وكذلك من الدروس المهمة في هذه القصة: الحذر من شخصيات كشخصيات السامري عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب بالقلوب، وتحير الألباب، فهؤلاء الأشخاص لا بد من الحذر منهم، ومن عذوبة منطقهم وحلاوة ألسنتهم، أو دقة صنعتهم، فإن هناك كثير من يقوم بدور السامري بين المسلمين.
الحذر من الإصابة بخيبة الأمل
ومن الدروس المهمة في هذه القصة: أن الداعية إلى الله يجب ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاساً خطيراً قد حصل في قومه، ولو كان قد مشى معهم فترة طويلة، هب أنك دعوت شخصاً إلى الله، فاستجاب لك وتأثر ومشى معك، وأعطاك القيادة، فجعلت تعلمه وتذهب وتجيء معه، وتذهب من خطبة إلى درس، إلى موعظة، إلى حلقة علم، إلى مجتمع طيب، ثم ذهب عنك في إجازة من الإجازات وفوجئت بأنه قد وقع في فاحشة -والعياذ بالله- فهل يسقط في يدك، وتقول: ما في فائدة؟! بعد كل هذا التعب وقع في الفاحشة؟! خلاص لا أكمل معه المشوار؟!
فنقول: لا، هذا موسى كم جاهد قومه لما وقعوا في الشرك الذي هو أكبر معصية على الإطلاق في الدنيا؟
التوحيد أعظم معروف، والشرك أعظم منكر، ما أسقط في يده ويئس، وقال: هؤلاء لا فائدة منهم، رب خذهم وزلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء، وأرحنا منهم، سنوات يجاهد فيهم ثم لا فائدة، يرجعون إلى الشرك بكل سهولة، خذهم أخذ عزيز مقتدر.
والنبي ﷺ لما ضربوه وحاربوه وأخرجوه من مكة وأدموا قدميه، وأرسل الله إليه ملك الجبال، النبي ﷺ أخبر عائشة، قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت ومن أعظم ما لقي منهم لما خرج إلى الطائف يرجو فرجاً من أهل الطائف، أهل الطائف طردوه، هام على وجهه، لم يعد يدري أين يسير، قال: فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب موضع قريب من مكة، من الغم لم يعد يدري أين يتجه، وجد نفسه وانتبه لنفسه أنه في ذلك المكان، فأرسل الله إليه ملك الجبال يقول له: ما تأمرني به أنفذ؟ الله أرسلني إليك أنتظر أمرك؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قيقعان وأبو قبيس، أطبق عليهم الجبلين بمكة، وينتظر، قال: إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله [رواه البخاري: 3231، ومسلم: 1795].
فإذاً، عدم يأس الداعية مهما حصل من الانحراف في قومه أو في الشخص الذي يدعوه.
هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الداعية.
فلا بد من العودة للعلاج، والعودة نبدأ، الله المستعان، نرجع ونبدأ معهم من البداية، الله المستعان، فلا بد يوطن الداعية نفسه على المفاجآت، وأن لا ييأس مهما حصل.
عدم التعلق الشخصي بشخصية الداعية
كذلك من الدروس: أنه يجب التأكيد على عدم التعلق الشخصي بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، لو كان التعلق بشخصية الداعية معناها متى ما غاب الداعية فترة، إجازة، مرض، دخل مستشفى، حصل له أي ظرف، غاب عن المدعو، المدعو ينتكس؛ لأنه متعلق بشخصية الداعية.
ينبغي أن نربط الناس بالمنهج لا بالأشخاص، بالكتاب والسنة لا بزيد وعمرو، نربط الناس بدين الله ، حتى إذا غاب الداعية بقي المنهج موجوداً حياً في قلب المدعو، فيستمر هو على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله ، والالتزام بهذا الدين.
وهذه من الدروس البالغة الأهمية.
وهذا الأمر قد يخطئ فيه عدد من الدعاة إلى الله يجعلون ارتباط الشخص بشخصيته هو، وأنه ينبغي هو الذي يكون موجوداً دائماً، فلذلك إذا غاب فترة لأي ظرف تغيروا من بعده.
مراعاة أدنى المفسدتين
ومن دروس هذه القصة: مراعاة أدنى المفسدتين، بقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه منهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ودرءًا لها.
كان بإمكانه أن يتخذ إجراء حاسماً ويخرج منهم ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة لعل الله أن يهديهم، يحاول فيهم حتى يرجع موسى، يبقى على الخط الأصلي حتى يرجع موسى، يبقى على توحيد الله والدعوة إليه حتى يرجع موسى.
عدم غيبة المربي عمن يربيهم
وفي هذه القصة أيضاً: أنه لا بد للمربي أن لا يغيب عمن يربيه، ولا ينبغي للداعية أن يغيب عمن يدعوهم، فإن الغياب في هذه الحالة يؤدي إلى وقوع القوم في الانتكاسات، ومهما حاول أن لا يربطهم بشخصه لكن وجوده سيبقى مهماً؛ لأنه هو مصدر الخير والإشعاع بالنسبة لهؤلاء القوم، ولذلك يحرص الداعية والمربي أن لا يغيب عمن هو معهم حتى لا يحصل لهم الانتكاس والانحدار.
ومن الدروس المتعلقة بهذه النقطة أيضاً: أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون.
ومن أبسط الأشياء أن إمام المسجد لو غاب عن المسجد ينبغي أن يستخلف رجلاً ثقة يصلح للإمامة يؤم بالناس.
أما يترك المسجد مفلوتاً ويمشي خطأ.
وهذا بعض ما يفعله الأئمة في رمضان، من الأخطاء يتركون مساجدهم ويذهبون عشرة أيام من نصف رمضان، من أول الشهر يصلي بهم كم ليلة ويمشي، ولم يوكل ثقة يقوم بهم ويؤمهم، فتحدث الفوضى في أوقات إقامة الصلوات، ويتقدم من ليس بأهل، ويخطئ ويردون، ولا يعرفون كيف سيفعلون.
والناس فيهم من قلة الفقه مما يجعل زعزعة الموقف في الصلاة وارد جداً، وربما صلوا ظهراً بدلاً من الجمعة قالوا: تأخر الخطيب، ما جاء الخطيب، ماذا نفعل، ما في واحد يخطب، صلينا ظهراً.
فمن أبسط الأشياء أن الثغرة التي يكون فيها الداعية إلى الله موجوداً لا ينبغي له أن يتركها، ولو تركها ما يطيل الغياب.
ولو غاب لا بد أن يستخلف بدلاً منه من يقوم بدوره.
طريقة موسى في عتاب هارون -عليه السلام-
ومن دروس هذه القصة أيضاً: طريقة موسى في عتابه لهارون ، كان موسى فيه غضب وفيه حدة، لكن كانت لله ما كان يغضب لشخصه لأنه ما أعطي، كان يغضب لله، لكن كان فيه شيء من الحدة.
ولعل في شخصية عمر بن الخطاب مشابهة من شخصية موسى في بعض الجوانب، فموسى عاتب هارون بشدة لكن لما اعتذر هارون واسترحم موسى، قبل موسى عذره، وقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي [الأعراف: 151]، ولم يصر على وضع الخطأ كله على هارون، وقال له: أنت السبب.
شخصية هارون ليست كشخصية موسى، يمكن أن يستجيبوا لموسى لكن قد لا يستجيبوا لهارون.
يمكن أن يسمعوا كلام موسى لكن قد لا يسمعوا كلام هارون، وقوة الشخصية فضل يؤتيه الله من يشاء، فإذا أنعم الله به على شخص لا يلوم الآخر الذي هو أقل منه ويضع كل الخطأ عليه؛ لأنه قد يكون معذوراً، ويكون سبب الانحراف ليس منه إنما هناك أشياء أخرى أقوى.
فقبل موسى اعتذار هارون، وكان اعتذار هارون أيضاً فيه عاطفة، مشوب بالعواطف بالاسترحام، وهارون كان رجلاً رقيقاً رحيماً رفيقاً؛ ولذلك فإنه آثر أن يجمع شمل القوم، الآن لا يفرقهم حتى يرجع موسى، وعندما رجع موسى مع إنكاره للشرك ما كان موافقاً.
ولذلك بعض الناس قد يقول: لماذا لا نحتج بهذه القصة على بقاء الشخص في الصف ولو كان فيه شرك؟
نقول: أبداً، غير مقبول على الإطلاق، لا يمكن.
فبعض الناس قد يبقى في صف فيه شرك ويتعلق بقصة هارون مع قومه مع الفوارق العظيمة:
أولاً: هارون تبرأ من الشرك وواصل في دعوة قومه للعدول عن الشرك، فهل يفعله هذا ويعلن البراءة من الشرك وأهل الشرك الموجودين في الصف؟ أم أنه يقول: أنشغل بأشياء أخرى وأدعهم وشركهم؟
فيجب التبرؤ إذاً البراءة من الشرك وأهل الشرك واجبة يجب أن يتبرأ، يجب أن يتبرأ من الشرك وأهله.
ثانياً: هل الباقي هذا في الصف منصبه مثل منصب هارون خليفة؟ أو أنه شخص عادي لا يؤبه له؟ على الأقل هارون كان يرفع راية التوحيد، الثابتون على التوحيد معهم هارون حامل راية وحامل لواء الشرعية، وعنده أمل أن يعود من يعود من هؤلاء الضلال ليلتحقوا به، فبقي.
ثم هناك أمر من موسى، وموسى نبي أن يبقى، فأين أمر الوحي بالنسبة لهذا الشخص؟
ثم هل هذا الشخص ينتظر شخصية مثل شخصية موسى لترجع بعد حين يسيرة وتعالج الأوضاع؟
ثم هل يوجد جماعة لأهل الحق كما كان على عهد هارون يكون معهم أو أنه واحد في هذا الخضم؟
ولذلك لا يجوز البقاء في صف أهل الشرك مطلقاً، يجب على المسلم أن ينحاز لأهل التوحيد، ولا يبرر لنفسه البقاء في صف فيه شرك محتجاً بقصة هارون لهذه الفوارق التي بيناها.
عدم الخلط بين المسؤوليات والعاطفة عند المحاسبة
ومن دروس هذه القصة العظيمة: عدم الخلط بين المسؤوليات والعاطفة عند المحاسبة، ما قال: هذا أخي، أدعه، لأنه أخي لن أحاسبه، بل إنه حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة يقول: هذا أخي، ولا أفشله أمام الناس.
فينبغي في مسألة المحاسبة في موقع المسؤولية محاسبة أهل المسؤولية، عدم الخلط بين ما ينبغي أن يفعل هنا، وبين مسألة العواطف والقرابات والصحبة، ونحو ذلك: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152].
بقاء السامري معذباً ليكون عبرة
وكذلك من دروس هذه القصة: بقاء السامري معذباً، ليكون عبرة حتى لا تسول لأي واحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً، لا أحد يقترب منه.
وكذلك فإن في التعامل الأخوي بين موسى وهارون: قدوة للآخرين.
عدم خروج الخلاف بين المربين إلى الناس
ومن الأشياء المهمة: أن الخلاف بين المربين ينبغي أن لا يخرج ٍإلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس ما دام ضمن الدائرة الشرعية، يعني في مسائل الاجتهاد، تبعاً للقاعدة الشرعية العظيمة: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد" لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، هذا يرى أن النزول في الصلاة على الركبتين، وهذا يرى في اليدين، لا مشاحة ولا تعليق ولا لوم ولا توبيخ ولا إنكار وإنما مباحثة علمية.
هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون الجهاد فيعمل في حقل الجهاد.
هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون تعليم العلم الشرعي فيعمل في حقل تعليم العلم الشرعي.
هذا يرى أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة فهو يعمل في العمل الإغاثي، والأدوار كلها تكمل بعضها بعضاً، ولا داعي للإنكار ما دام الجميع على معتقد سليم ومنهج صحيح، فكل واحد يؤدي ما يستطيعه، لأن الثغرات المفتوحة على المسلمين كثيرة، فيه جهل، فيه هجوم من الأعداء، فيه فقر، فيه مرض، فيه موت، فيه منكرات، فيفرغ جهده لإنكار المنكر.
إذاً، لا بد أن تتكامل الجهود مع المعتقد السليم العام للجميع الذين يسيرون ضمن دائرة أهل السنة والجماعة.
أقول -أيها الإخوة- في مسألة النقد بين الإخوان: موسى انتقد هارون وحاسبه، وهارون كان يرجو من موسى أن لا يشمت به الأعداء.
فينبغي أن نفرق بين قضية المحاسبة والنقد المفيد، وبين قضية التخطئة العلنية التي يكون مبعثها التشهير والتشفي.
التخطئة العلنية أحياناً يكون لا بد منها؛ لإحقاق الحق لبيان الحق لابد من التخطئة العلنية، والنبي ﷺ خطأ أشخاص، لكن متى تكون التخطئة سلبية ومتى تكون التخطئة العلنية إيجابية؟
إذا كانت لإحقاق الحق وبيانه، وأنه لابد منه لبيان الحق فلا بأس أن نخطئ.
مثال: لو أخطأ الإمام في الصلاة، هل تقول: لا أرد عليه حتى ما أفشله عند الجماعة أو أظهر أنه ما يحفظ؟
لا، أنت ترد تفتح على الإمام.
ولكن إذا كان مبعث التخطئة التشفي والتشهير، وليس بيان الحق، فهذه التخطئة حرام وهي مما يثير الصدور ويوغرها.
فينبغي إذاً معرفة الفارق بين هذا وهذا.
ستر العيوب
ثم من النقاط المهمة في هذه المسألة: قضية ستر جميع العيوب، المهم أنه ما يطلع عيب للناس مهما حصل بحجة عدم نشر الغسيل، هذه مسألة غير صحيحة بإطلاقها.
لكن نعم الأخطاء التي لا يفهمها ولا يدركها العامة، ما تخطئ أمام العامة فيها على جنب ينبغي أن يكون هذا هو الأدب.
والأشياء التي ليس من المصلحة إشهارها لا تشهر، لكن أن الإنسان يرفض أي نقد حتى يبقى في الظاهر للناس سليم من أي نقد بأي صورة، فهذا أيضاً خطأ، كل بني آدم خطاء.
وينبغي أن نفرق أيضاً بين الخطأ الذي يتعدى إلى الناس وخطأ الشخص في نفسه.
لو كان الشخص يخطئ في نفسه نبهناه في نفسه.
لكن لو صار خطأ متعدياً للناس لا بد أن نبين للناس ولو عرفوا أن فلاناً هو مصدر الخطأ.
لو واحد قام وتكلم بكلام باطل على الناس، فقام واحد ورد عليه الرد الحق هذه تخطئة علنية، لكن لا بد منها؛ لأنه نشر خطأه على الناس.
لكن لو هو بينه وبين نفسه عمل منكراً، هل يجوز التشهير به؟ هل يجوز أن يأتي واحد يقوم أمام الناس يقول: فلان فعل كذا، ما يخاف الله، ارتكب المنكر الفلاني؟!
لا يجوز، التشهير هنا حرام.
وكذلك ما ينصب من التخطئة على المناهج التي فيها أخطاء لا بد من بيانه؛ لأن الناس قد يتبعون هذا النهج الخاطئ، ويبقى لصاحب الفضل فضله، وخطئوه ينبغي أن يعلم إذا كان منشوراً.
عظم نعمة الله -سبحانه وتعالى- على هذه الأمة
ومن الفوائد كذلك في هذه القصة: عظم نعمة الله على هذه الأمة بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كان في القتل.
الواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: "من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله [رواه البخاري: 4860، ومسلم: 1647].
لو واحد قال لك: أنا أخطأت، وقلت: بذمتي، بأمانتي، برأس أولادي، بحياة أبي، وحياة أولادي، وشرفي، وأمانتي، ونحو ذلك، كيف أتوب؟
هذا حلف بغير الله: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك [رواه الترمذي: 1535، وقال: "حديث حسن"]، فلتقل له: أن كفارتها أن تقول: لا إله إلا الله: من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق [رواه البخاري: 4860، ومسلم: 1647] على عادة الجاهلية يقول: تعال نتقامر، نلعب القمار، فليتصدق.
فتأمل في عظم منة الله على هذه الأمة أن الإنسان لو وقع في الشرك كفارته أن يتوب إلى الله، كلمات يستغفر الله ويتوب إليه ويوحد الله ولو شرك.
لكن بنو إسرائيل لما وقعوا في هذا الشرك كانت عقوبتهم القتل، لا توبة إلا بالقتل.
ويمكن بعض الناس يقولون: هذا شيء عظيم، لماذا أوجب عليهم هذه الطريقة الشنيعة في التوبة؟
نقول: لأنهم يستحقون ذلك، من نظر في التواءات القوم وانحرافاتهم وعرفها لرأى أنهم يستحقون ذلك.
ثم إن فضل الله عليهم عظيم، فجعل المقتول شهيداً، والحي تيب عليه.
ليس الخبر كالمعاينة
وكذلك من دروس هذه القصة: أنه ليس الخبر كالمعاينة، وهذا حديث صحيح عن النبي ﷺ رواه أحمد والحاكم وغيرهما، عن ابن عباس مرفوعاً: ليس الخبر كالمعاينة [رواه أحمد: 1842، وقال محققو المسند: "حديث صحيح"] موسى أخبره الله لما استلم الألواح أنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، خبر الله صدق، لا شك فيه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيل [سورة النساء: 122].
إذاً موسى لما رجع وهو راجع إلى بني إسرائيل كان يعلم يقيناً أن قومه قد عبدوا العجل؛ لأن الله أخبره بذلك، لما قال: فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ [طـه: 85] ما ألقى الألواح، طبعاً صدمة، لكن ما ألقى الألواح، لما رجع إلى قومه فرآهم بعينيه يعبدون العجل ألقى الألواح.
الخبر ليس كالمعاينة، ممكن يقال لك: فلان حصل له حادث فظيع، وحصل له كذا وكذا وكذا، تتأثر، لكن إذا ذهبت إليه ونظرت إليه وأريت ما حل به فعلاً من الأشياء الفظيعة فإن الشفقة أو الشعور والألم سيكون أكثر، لماذا؟ لأن النظر ليس كالخبر ((الخبر لا كالمعاينة))، وهذه مسألة لا بد أن تراعى، ومن راعاها كان حكيماً في كثير من تصرفاته.
تقبل الوصية ولو كان فيها شدة
وكذلك من دروس هذه القصة: أنه ينبغي تقبل الوصية ولو كان فيها شدة، موسى يقول لهارون: وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] قد يرى الإنسان هذه الكلمة ثقيلة، لكن موسى يعرف طبيعة بني إسرائيل، خبرهم، عاش معهم منذ صغره، يعرف طبيعة قومه، ولذلك كان شديداً في وصيته لأخيه: وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] انتبه لا تتبع سبيل المفسدين.
فالوصية ولو كانت شديدة فالإنسان يتقبلها، فليس هناك غضاضة أن يقبل الوصية ولو كانت شديدة.
عدم التوقف عن إنكار المنكر
وكذلك من دروس هذه القصة: أن الحرام لا ينبغي التوقف فيه، ولذلك كان من سفاهة عقول هؤلاء عباد العجل أنهم قالوا: لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طـه: 91] ما نغير حتى يرجع إلينا موسى، جاء في حديث الفتون: أن بعضهم توقفوا.
وهؤلاء المتوقفين توقفهم غلط، التوقف ضلال، ولذلك الإمام أحمد -رحمه الله- لما ظهرت طائفة تقول: لا أقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق، هؤلاء الواقفة بدعهم الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، وقال: إن قولهم شر عظيم.
فمسألة التوقف في تخطئة المنكر أو الخطأ لا يجوز أن يقول إنسان: أتريث وهو يعلم أنه شرك، ما دمت علمت أنه شرك لا بد من الإنكار.
لكن لو واحد ما يدري هل هذا خطأ أو لا، يقول: أتوقف في الإنكار حتى أسأل عالماً، فإذا قال لي: هذا خطأ أنكرت وإلا سكت.
وكذلك لا بد من تبيان العقيدة الصحيحة عند محاربة الشرك، موسى لما تخلص من العجل وتخلص من السامري وقضى على الفتنة ماذا قال بعدها؟ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [طـه: 98].
فإذاً، بين لهم من هو إلههم : إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ ، قال: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ مبيناً لهم.
خطورة أصحاب الموروثات السابقة على الصف الإسلامي
ومن فوائد هذه القصة: خطورة أصحاب الموروثات السابقة عند انضمامهم للصف، فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قوم يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟ لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فقد يفسدون وقد يخربون؛ لأن خلفياتهم فيها هذه القضية.
سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه
ومن فوائدها كذلك: أن وجود سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه والتأثر به، والعلة التي لا تكون قادحة لا تجعل الإنسان بمعزل عن التأثير والإمساك بزمام الأمر؛ لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، لا بد أن يكون كل واحد فيه أخطاء وفيه سلبيات، ولذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من سيئاته أكثر من أخطائه، فهذا مرض يناصح بأخطائه.
لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن.
عدم التحمس الزائد في تخطئة المخالف
كذلك من فوائدها: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خاطئ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو واحد سمع أن فلانا أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه جام غضبه ويعنفه تعنيفاً شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القصة ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب صعباً، ولذلك نأخذ من قضية شدة موسى مع هارون في البداية أن الإنسان إذا أراد أن يخطئ غيره أن ينظر في ظرفه وعذره جيداً، وأن لا يشتد في التخطئة ما دام ما عرف كل ملابسات الموضوع، فقد يكون الانسحاب صعباً عليه.
خطر إضفاء الشرعية على الباطل
وكذلك فإن هناك فائدة مهمة للغاية في قولهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طـه: 88] لقد حاولت الفئة الضالة إضفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى حاولوا إضفاء الشرعية على هذا العجل على هذا الشرك على هذا الكفر، وأن يجعلوه مقراً هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ، وهذه الفائدة لا شك أن لها أثراً في نفوسنا عندما لا نغتر بأي شيء مكتوب عليه إسلامي، أو هذه القضية إسلامية، أو هذا الشيء إسلامي دون أن نعرف حقيقته.
فمحاولة أعداء الإسلام لإضفاء الشرعية على كثير من المناهج المنحرفة وعلى كثير من الكيانات، وعلى كثير من الشخصيات، وعلى كثير من الكتب، محاولات لا شك القصد منها تضليل المسلمين.
على سبيل المثال: لو وجدت أي لحم مكتوب عليه مذبوح على الطريقة الإسلامية، هل مجرد أن عليه ختم مذبوح على الطريقة الإسلامية يعني أنه فعلاً مذبوح على الطريقة الإسلامية؟
محاولة إضفاء الشرعية على هذه اللحوم مثلاً من قبل أي تجار أو جهات مصدرة هل تجعل هذه القضية شرعية لمجرد أنه كتب عليها ذلك؟ إذا كانوا قد ذبحوا السمك على الطريقة الإسلامية فما بالكم ببقية الأشياء التي يصدرونها للمسلمين من الأفكار والمناهج غير مسألة السمك مما هو أخطر من السمك بكثير.
ويحاول اليوم عدد من أصحاب المناهج المنحرفة أن يضفوا الشرعية على اتجاهاتهم.
ومن أخطرهم في نظري في هذا الوقت: أصحاب الفكر العقلاني، أو الإسلام المستنير، كما يسمون أنفسهم، أو الإسلام الحضاري، كما يسمون أنفسهم.
وهؤلاء يقولون: لا بد من الموافقة بين الإسلام وبين واقع العالم الذي وصل إليه.
فإذا كان العالم اليوم يرفض مثلاً الرق، والإسلام فيه أشياء تفيد أنه يجيز الرق، فلا بد نجد لهذه الأدلة صرفة، وأن نخرجها.
إذا كان العالم لا يقبل فكرة أهل الذمة ولا يقبل فكرة دفع الجزية، فلا بد أن نجد صرفة للنصوص التي فيها للذمة والجزية.
وهكذا مسائل أفكارهم الخطيرة إذا كان العالم لا يقبل حديث: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة [رواه البخاري: 4425].
ولو قلنا بهذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في محفل من الناس وفيهم غربيون ومفكرون عالميون قلنا لهم: عند المسلمين لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة، سيقولون: ظلمتم المرأة، لماذا تجعلونها في مستوى ثان؟! لماذا لا تتولى الوزارة وتتولى القضاء وتتولى الرئاسة؟!
فيحاول بعض العقلانيين أن يضعف الحديث، ويستدل باستدلالات منحرفة، إذا كان العالم لا يقبل فكرة الجهاد اليوم ويقول: إن الجهاد هو اعتداء على مجتمع آخر، أو على كيان آخر.
والجهاد ماضٍ في شريعتنا، جهاد دفاعي هجومي، ويحاول العقلانيون اليوم أن يثبتوا أن الجهاد دفاعي فقط، وأنه ليس هناك شيء جهاد اسمه جهاد هجومي في الإسلام، والله يقول: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً [التوبة: 36]، قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .[التوبة: 29].
قال العلماء: لا تقبل منه إذا أرسل غلامه أو خادمه ليدفعها، لا بد يأتي بنفسه؛ لأن الله قال: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ [التوبة: 29] يعني يسلمها بنفسه هو عَن يَدٍ ثم قال: وينبغي على الإمام أن يطيل وقوفهم عند بيت المال إذلالاً لهم ثم يقبلها منهم، وما يأخذها منهم مباشرة؛ لأن الله قال: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .
نسأل الله أن يبلغنا هذا الوقت الذي يطبق فيه تطبق فيه هذه الآية.
فأقول: إن من أخطر الناس الذين يحاولون إضفاء الشرعية اليوم على مناهجهم المنحرفة هم العقلانيون المنحرفون أو أصحاب الفكر المستنير.
و-طبعاً- من مداخلهم: الموسيقى الإسلامية، والفن الإسلامي، والرقص الإسلامي، هذا ما طرحوه بوضوح وصراحة، وقالوا: أسلمة كل شيء، لا بد نؤسلم الفن، ونؤسلم التماثيل، فن النحت الإسلامي، التماثيل الإسلامية، الرقص الإسلامي، هذا هراء طبعاً، هذا ما يطرحونه ويجاهرون به في مقالاتهم.
التحرج من الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة
وكذلك من فوائد هذه القصة: كيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الطامة والشيء العظيم، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ما هي حلال علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ما هي حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل.
هؤلاء الذين قال في مثلهم ابن عمر في قضية أهل العراق لماذا ذبحوا الحسين أو قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي ﷺ وحبيبه، ثم جاءوا يسألون: هل دم البعوض قتل البعوض من محظورات الإحرام أو لا؟ قتلوا ابن بنت النبي ﷺ ويسألون عن دم البعوض.
وهذه المسألة قضية التحرج من الأشياء اليسيرة والوقوع في الأشياء العظيمة، هذا ديدن كثير من الناس، تجده اليوم وقع في الربا وقع في الزنا، وإذا جاء على عشر ذي الحجة في الأضحية قال: طاحت مني شعرة وأنا أحك ماذا أعمل؟! الأضحية بطلت؟! أنا قلق أعلموني؟!
الله أكبر! أنت الآن قلق على الشعرة التي طاحت بالحك! وما أنت قلق على الملايين الموجودة في البنك تأخذ عليها ربا وفوائد محرمة!
وكذلك في الإحرام: يجوز نمشط؟
أهم شيء التمشيط هذا عقدة! لكن هو يغتاب ويلعب الورق في الحج! ويعمل كل المحرمات! ويمكن يستمع أغاني! وإذا ذهب يطوف حول الكعبة نظر للنساء! وربما أبطل حجه وعمل شيئاً خطيراً! ثم يقول: طاحت شعرة ومعجون الأسنان والشاي بالنعناع؟!
يا أخي: التورع عن الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة هذا منهج بني إسرائيل.
ثم نلاحظ أيضاً درساً في الفتنة بالذهب الذي هو معبود اليهود الأصيل.
إن قضية العجل تبين لنا تغلغل الذهب في نفوس اليهود، وأنهم فتنوا بالعجل المصنوع من الذهب، وأن فتنتهم هي الذهب، وهم الذين يملكون أكثر الذهب في العالم اليوم لا شك، فيتبين لنا فتنة هؤلاء القوم بهذا الذهب في القديم والحديث.
لعل هذه من أهم الدروس والفوائد التي تؤخذ من هذه القصة، وهي قصة عظيمة جداً جديرة بالتأمل.
والله ما قص علينا هذه القصة ولا غيرها من القصص إلا ليتدبرها أولو الألباب، ويتعظ منها المتعظون، ويأخذ من فوائدها الذين ينهلون من حياض هذه الشريعة ويردون مواردها.
فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وإلى طريق الحق والصواب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.