الخميس 11 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 12 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

05- قصة زكريا عليه السلام


عناصر المادة
المعنى الإجمالي للقصة
الفوائد المستفادة من القصة
أنواع التوسل

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

المعنى الإجمالي للقصة

00:00:15

فلما ذكرت قصة امرأة عمران مع ابنتها مريم، وكيف أن الله كان يرزق مريم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء كرامة من الله لهذه المرأة العابدة، الزاهدة، الورعة، التقية، النقية، التي كانت تسجد وتركع وتقوم لله رب العالمين، لما رأى زكريا حالها طمع حينئذ في الولد، طمع أن يكون له ولد صالح، لما رأى صلاح هذه البنت طمع أن يكون له ولد، وكان شيخًا كبيرًا قد وهن عظمه، واشتعل رأسه شيبًا، وكانت امرأته عاقرًا لا تلد، ومع كل هذه الأسباب المانعة من الولد فإنه لم ييئس .
وكان قوي اليقين بالله  إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3]، ودعا ربه، وقال: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً[آل عمران:38] من لدنك من عندك، وإذا وهب الله من عنده شخصًا ذرية طيبة، وولدًا صالحًا، فأنعم وأكرم به، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38].
وهذه يدل على ثقته بالله، وبالرغم من ضعف الأسباب أنه شيخ كبير في السن، وبالرغم من أن زوجته عاقر لا تلد، وبالرغم من أن رأسه قد اشتعل شيبًا، ولكنه مع ذلك دعا ربه دعاء الموقن بالله.
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 3-4]، وَهَنَ الْعَظْمُ وضعف، هذا ضعف الباطن العظم من الداخل، وأما الظاهر قال: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، فهذا ضعف الظاهر؛ لأن الشيب دليل الكبر والضعف، وهو رسول الموت ورائده ونذيره، ولذلك قال عدد من المفسرين في قوله تعالى: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37]، يعني الشيب، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا.
وهذا السؤال من زكريا لله تعالى بهذه الطريقة إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ۝ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم: 4-5].
هذه سؤال الله بضعف الحال، والله يحب هذا، يحب أن العبد يسأله بضعف، يعني: لو واحد قال: اللهم إني أسألك بقوتك، وأشكو إليك ضعفي، قال: أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي [رواه البخاري: 6306].
اعترف بالذنب، قال: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: 83]، فيسأل الله يشكو إليه حاله، الله يحب من العبد أن يشكو إليه حاله، أثناء الدعاء يقول: هذه حالي، وهذا ضعفي، وهذا فقري، موسى قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]، أنا محتاج إلى خيرك يا رب، أنا محتاج إلى رحمتك، أنا محتاج إليك، فإذا يسأل غنى ربه ويشكو ضعفه إليه، فإن الله يحب هذه الحال من العبد الله، يحب من العبد أن يتبرأ من حوله وقوته، وأن يثق بحول الله وقوته، فيقول: أبرأ إليك من حولي وقوتي، لا أتكل إلا عليك، أعوذ بك من أن تكلني إلى نفسي، فإنه يحب أن يتوسل إليه عبده بضعفه وعجزه وافتقاره إليه، ولذلك قال موسى: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]، وقال زكريا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا المعنى متقارب، لم تكن يا رب تردني خائبًا، ولا محرومًا من الإجابة، بل لم تزل بي حفيًا، ولدعائي مجيبًا، وألطافك تتوالى علي، وإحسانك يصل إليّ، وهذا توسل إلى الله بإنعامه علي، وإجابة دعواته السابقة، فسأل الذي أحسن إليه سابقًا أن يتمم إحسانه عليه لاحقًا، وجمع بين نوعين من التوسل: التوسل إلى الله ببيان حال الضعف والعجز، والتوسل إلى الله بأفعال الله وصفاته سبحانه وتفضله، وإنعامه، وشكى حاله، وقال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [مريم: 5].
خفت من يتولى بعدي على بني إسرائيل، ألا يقوم بدينك حق القيام، وألا يدعو عبادك إليك، زكريا نظر فيمن ترك من حوله فما رأى رجلاً يقوم بالأمر قيامًا قويًا، ما رأى شخصية تحمل الدين حملاً يتم به المقصود، فقال: رب إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [مريم: 5] الذين أتركهم من بعدي ضعاف، أريد وليًا، أريد قويًا، أريد ولدًا، أريد ذرية تقوم بعدي بالدين.


أنا قمت في بني إسرائيل لكن إذا مت ما أرى بعدي أحد مؤهل، وأسألك ولدًا مؤهل، أن يقوم بالدين من بعدي، يرثني ليس يرث المال، وإنما يرث العلم والنبوة، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: 6]، ميراث العلم والعمل، يلي أمر الدين، ويقوم به فسأل الله ولدًا ذكرًا صالحًا باقيًا، يبقى بعد موته، يكون وليًا من بعده نبيًا، مرضيًا، صالحًا، فقال: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء: 89]، رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وحيدًا ليس لي عقب، رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا عقيمًا أبتر لا ولد له، ومع أن النبي يكفيه أن يتبعه من تبعه من الناس، وعلم الخير، ونشر الدين، لكنه أيضاً يريد أن يكون له ذرية تستمر على نفس الطريق، وتقوم بالأمر من بعده، لأنه رأى إبراهيم وبعده إسماعيل، رأى إسحاق ووراءه يعقوب، رأى يعقوب وراءه يوسف، رأى داود ووراءه سليمان، رأى أنبياء لهم أولاد قاموا بالأمر من بعده، فيريد زكريا مثل هذا، لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء: 89].
يريد من يعينه على الدعوة والدين، إذًا زكريا طلب الولد كما قلنا سابقًا طلب الولد ليس للدنيا، ما قال: أريد ولدًا يعطف عليّ إذا كبرت، وينفق عليّ إذا عجزت عن الكسب، واستعين به في أمور دنياني، ويخدمني إذا مرضت، يريد ولد يقوم بأمر الدين معه، ميراث النبوة والعلم، لم يطلبه لينال به حظًا من الدنيا، وهذه علو الهمة في  طلب الولد، أنه يريد ولدًا عالمًا داعيًا مجاهدًا، كما ذكرنا في قصة سليمان، أراد أن يطوف على نسائه، لكي تأتي كل امرأة بمجاهد في سبيل الله، هذا هو علو الهمة في طلب الأولاد، مجاهدين.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: إنا معشر الأنبياء لا نورث [رواه أحمد: 9972، وقال محققو المسند: إسناده صحيح]، وقال: لا نورث ما تركنا فهو صدقة[رواه مسلم: 1758]، أي شيء تركناه لبيت المال، لا يأخذ أولادنا شيئاً منه، إذًا الأنبياء لا يورثون، كيف تكون الوراثة إذًا، لأنه في الآية قال: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 6].
فما هو التوفيق بين هذه الآية وبين قوله ﷺ: إنا معشر الأنبياء لا نورث؟ في الحديث لا نورث، وزكريا يقول: يَرِثُنِي، فكيف التوفيق بينهما؟
 الجواب: إنا معشر الأنبياء لا نورث من جهة المال، ما لنا ميراث، لو مات نبي وله مال لا تقسم تركته على أولاده وزوجاته، ماله للمسلمين، لبيت المال، وقول زكريا: يَرِثُنِييعني: يرث العلم من بعدي، يرث النبوة من بعدي، يرث قيادة بني إسرائيل من بعدي، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وكذلك قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ [النمل: 16]، ليس معناه ورث عنه المال، وإنما وراثة النبوة، يحيى جاء بعد زكريا، وورث النبوة.
لماذا لا يورث الأنبياء؟


لأن الله  بعثهم مبلغين، وأمرهم ألا يأخذوا أجرًا، قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام:90]، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء: 109]، فلئلا يظن الناس أن الأنبياء يجمعون المال لأولادهم، قطع الطريق على من يظن أن الأنبياء يجمعون الأموال، أو يريدون أولادهم بها.
لما حصل هذا النداء من زكريا  فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 39]، وفي سورة الأنبياء: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء :90]، أصلحها الله بعد أن كانت عاقرًا، فصارت ولودًا، أصلحها للحمل والولادة، كانت الإجابة عن طريق الملائكة، نادت زكريا بصوت يسمعه، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران: 39]، خاطبته مشافهة، وهو في محل خلوته وعبادته، وفي  مجلس مناجاته وصلاته، وبشرته من الله، ما هي البشارة؟ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39]، اسم جديد على البشرية،لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم: 7] ما سبق أحد في البشرية سمى يحيى قبلك، والاسم من الله نزلت البشارة به، جاء قبل أن يولد، يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39].
يعني: زكريا عرف أنه سيولد له ولد، وأنه سيكون ذكرًا، والاسم موجود جاهز من الملائكة، لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا[مريم:7] قال قتادة: سماه يحيى لأن الله أحياه بالإيمان، وبشره على يد الملائكة باسم موافق للمسمى، يحيى حياة حسية فتتم به المنة، يعني: لا يموت صغيرًا، أو يسقط جنينًا، يحيى حياة حقيقية، وحياة القلب والروح بالوحي والعلم والدين، لم يسمى أحد قبله بهذا الاسم، وهذا من تمام البشارة، ومن الاتصاف بالصفات الجميلة، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ[آل عمران:39] إذًا يحيى سيأتي ويصدق ويخبر بكلمة من الله، ما هي الكلمة؟ عيسى، هو الكلمة، يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله، فإذًا يحيى سيبشر بعيسى، ويصدق بعيسى، الدليل على ذلك قوله تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[آل عمران: 45].
إذًا عيسى الكلمة؛ لأنه خلق بالكلمة، ولذلك قيل: كلمة الله لأنه خلق بكلمة الله كن، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59]، فيحيى أول من صدق بعيسى ابن مريم، وكانت البشارة بيحيى متضمنة للبشارة بعيسى، ومصدقًا بكلمة من الله، كان يحيى وعيسى ابني خالة، حتى قيل: إن أم يحيى كانت تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، لعلها رؤيا رأتها، يعني: حتى أن تصديق يحيى بعيسى وهو جنين، و يحيى سيد قال تعالى: وَسَيِّدًا حكيمًا تقيًا، سيدًا في العلم والعبادة، سيدًا في الفقه والعلم، كريمًا على الله ، من فضلاء الرسل، وكرامهم، وَسَيِّدًا وَحَصُورًا[آل عمران: 39]، معصوم من الذنوب والشهوات، وليس معناه أن فيه نقص وعيب، كما قال بعضهم: أنه لا آلة له، وهذا كلام لا يليق، ونقص وعيب، وإنما المقصود بقوله: وَحَصُورًا ليس به شهوة للنساء، ولا يأتيه الحرام من هذه الجهة، وهو بعيد عن آثام الشهوات، ومطهر ومبرأ من آثار الشهوات، فهو حصور لا تشغله شهوات النساء عن الآخرة، ولا عن العبادة، وهو مكفي من هذه الجهة، وليس له ميل إليها، طبعًا حال نبينا ﷺ أكمل: حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء [رواه أحمد: 12315، وصححه الألباني صحيح الجامع: 3124].


لكن مع أنه ﷺ تزوج عدة زوجات، وكان أحيانًا يطوف عليهن بغسل واحد كلهن في ليلة واحدة، من قوة رجولته ﷺ، ومع ذلك هو أكمل من يحيى ، ولم تشغله نساؤه ﷺ عن الدرجة العليا، ولم يشغلنه عن كثرة العبادة، بل زاده ذلك أجرًا بتحصينهن، وقيامه عليهن، والإنفاق عليهن، وهدايتهن، وتعليمهن، وكان لزكريا ذرية، ونسل.
وعقب لقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38]، واستجاب الله له، وقال عن يحيى: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 39]، هذه بشارة ثانية لأن يحيى نبي، وأنها أعلى من الولادة، لم يبشر بالولادة فقط، كما أن الله قال لأم موسى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ[القصص: 7].
هذه بشارة، والبشارة الأعظم منها، وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]، وهذه البشارة العظيمة، أن يبشر بأنه سيصبح نبيًا رسولاً، استغرب زكريا بعدما سمع البشارة، قال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران: 40]، هذان سببان مانعان لحصول الولد، أنا كبير في السن، وزوجتي ما تلد، قال الملك: كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 40]، إذا قضى أمرًا لا بدّ أن يكون، قال: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران: 41]، علامة استدل على أن الولد سيأتي ليحصل لي سرور، واستبشار، قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا[آل عمران: 41].
إشارة، يعني: لن تستطيع النطق في ثلاثة أيام مع أنك سليم، وما عندك مرض، ولا فيك عيب، ولا في لسانك شيء، ومع ذلك لم تتكلم إلا بالإشارة ثلاث ليال سويًا هذا مع الناس، أما مع الله وَاذْكُرْ رَبَّكَ [آل عمران: 41]، يعني: سيستطيع أن يذكر الله باستمرار، لكن الكلام مع الناس لا يستطيع إلا بالإشارة، هذه الآية هذه العلامة، آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران: 41]، لكن مع الله، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا [آل عمران: 41].
فإذًا مع الله ستتكلم وتذكر وتدعو كما تشاء، مع الناس لن تستطيع أن تتكلم إلا بالإشارة، هذه آية عجيبة أن الواحد ما يستطيع أن يتكلم مع الناس مع أنه ليس بأخرس، ولا في لسانه آفة، وهو سوي ولا نقص فيه، ويهلل ويسبح ويكبر، ويدعو ربه، ويتلو، ويذكر لسانه سليم، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ [مريم: 11] فعلاً غير مستطيع لكلامهم، فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ [مريم: 11]،بالإشارة والرمز، أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا[مريم: 11].

الفوائد المستفادة من القصة

00:22:16

هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة:
ومنها: آداب للدعاء مثل إخفاء الدعاء، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[الأعراف: 55]، كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت ما كانت إلا همسًا بينهم وبين ربهم للدعاء، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55].
إذًا الناس في القنوت إذا دعا الإمام قال: آمين، هذا ليس دعاء خفيًا، كذلك الأئمة الذين يصرخون في الدعاء، يكون في التلاوة يمشي الهوينة، وإذا جاء الدعاء صراخ في المسجد، وزعيق هو والمأمومين كلهم صياح، هذا ليس من آداب الدعاء، لذلك قال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ [الأعراف: 55]، وزكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا[مريم:3 ]، وبعض المأمومين في صلاة القنوت يتحمس، ويصيح بآمين، وربما يزيد من عنده أدعية، فيمكن الإمام يدعو على الكفار، ولكن بعض الناس فعلاً لا يملكون أمرهم، ولا يتفطن لآداب الدعاء، ويحولها إلى خطبة، ولذلك ينبغي خفض الصوت بالدعاء؛ لأنه أعظم في الأدب والتعظيم عند الملوك ألا ترفع الأصوات عندهم، ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي، فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به، وهو أبلغ في الخشوع، وهو روح الدعاء، ولبه، ومقصوده، والخاشع الذليل يسأل مسألة المسكين الذي انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إن لسانه لا يكاد يطاوعه بالنطق، وقلبه يسأل مبتهلاً، وصوته خفيض، وكذلك فإنه أبلغ في الإخلاص، وليس معنى هذا طبعاً أن الإمام لا يسمع المأمومين، يسمع المأمومين لكن لا يصيح، لا هو ولا المأمومون، والإنسان إذا دعا في نفسه أيضاً يدعو دعاء خفيًا، يدعو دعاء لا يكاد يسمع إلا همسًا، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ [الأعراف: 55]، وأقرب إلى الإخلاص، وكذلك في فائدة جيدة للغاية في الدعاء بالصوت الخفيض، وهو يقين العبد أن الرب يسمع مع أن الله على عرشه، وهذا في الأرض يدعو، فإذا دعا بصوت خفيض هذا زيادة وأبلغ في إيمانه، أن الله يسمعه مع أنه على عرشه في السماء، ولكنه قريب منه يسمعه، ولو كان يهمس همسًا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] فلم استحضر القلب قرب الرب همس، وصار النداء خفيًا.
وقال النبي ﷺ للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير في السفر: اربعوا على أنفسكم، يعني: خفضوا الصوت، هونوا هونًا أما إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا [رواه البخاري: 4206، ومسلم: 2704]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186]، الأصل أنه إذا سألك عبادي قل، لماذا حذفت قل؟ للدلالة على زيادة القرب، حتى قل حذفت، يعني أنه قريب جداً، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته [رواه أحمد: 19614، وصححه الألباني مشكاة المصابيح: 2303].
وهذا القرب قرب خاص من الصالحين المخلصين، وكذلك فإن الصوت الخفيض بالدعاء أعون على الاستمرار، لأنه إذا رفع بح وما استطاع أن يتكلم كثيرًا، ولا يسأل كثيرًا لأنه يتعب مع الصوت المرتفع، ولذلك تجد بعض الناس الذين يدعون حول الكعبة بعد فترة يبدأ السكوت يطول والدعاء يقل، مثل هؤلاء المطوفين بالقطارة، فإذا كان الدعاء بصوت خفيض كان ذلك أدعى للمزيد من الاستمرار، ومزيد من الدعاء، وأبعد عن التعب، ثم إنه أبعد عن القواطع، والمشوشات؛ لأنه ربما إذا رفع صوته شوش على غيره، فإذا الواحد صار يدعو بالطواف بدعاء مرتفع شوش على من حوله، ومع ذلك هؤلاء يأتون كأنهم يفتحون البلد بالتكبير، ويرفعون الصوت، ولذلك ينبغي نصحهم، يقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186].


لا داعي للصياح، لا ترفع صوتك، هذه ليست بحرب ترفع الصوت بالتكبير. وكذلك فإنه أعظم في جمع النفس على الله، والإقبال عليه، وقطع التشويش، وكلما اجتمع قلبه على الله كان أكثر تأثرًا، وكان الدعاء أقرب إلى الله، وأرجى للإجابة.
وكذلك فإن الدعاء ينبغي أن يتضمن طلبًا، وثناء على الله بأوصافه، وأن يحمد ، وأن يكون هذا الدعاء خارج من قلب خاشع، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا [الأعراف: 55]، وألحوا بالدعاء، واشتغلوا بالوسيلة إلى الله.

أنواع التوسل

00:29:57

والتوسل إما أن يكون بأسماء الله الحسنى، فتقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا توب تب علي،  يا ستير استرني، ونحو ذلك.
أو يكون بسؤال الله بأعمال صالحة قد قمت بها، مثل قصة أصحاب الغار، توسلوا إلى الله بأعمال صالحة، الثلاثة الذين دخلوا الغار، وانطبقت الصخرة عليهم، فسألوا الله بأعمال صالحة، أحدهم سأل الله ببره والديه، والثاني سأل الله بترك الزنا وإعطاء المرأة المال في وقت الشدة، والثالث سأل الله بأمانته بحفظ المال، وتنمية المال لصاحب المال، وأنه رجع وأخذ ماله، وما أعطاه شيء لا جزاء ولا شكورًا، واستاقه ولم يترك منه شيئًا، وأن الله أجاب الدعاء لما سألوه بأعمال صالحة.
ولذلك ممكن الواحد يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك، اللهم إني أسألك بصدقتي، يجوز أن يسأل الله بأعمال صالحة عملها لله، يتوسل إلى الله بأعمال صالحة عملها، رجعت مرة من المرات امرأة في إحدى المدن هنا من العرس متأخرة في الليل، يمكن بعد الساعة الواحدة ليلاً إلى العمارة التي تسكن فيها، في مصعد العمارة دخلت المصعد، وضغطت الزر 7 على الطابق الذي تسكن فيه، ولما انتصف المصعد في الطريق وقف تعطل، معلق المصعد لا فوق ولا تحت، كررت ضغط الزر ما استجاب المصعد، جوال، ضرب على الباب، صياح ما أحد سمع، والمصعد داخل هذه الكبينة المغلقة، وبدأ يقل الأكسجين، وبدأت هذه المرأة تعاني في التنفس، فقعدت تفكر، وتذكرت قصة أصحاب الغار، وكيف أنهم سألوا ربهم لما انطبقت عليهم الصخرة، سألوا ربهم بأعمال صالحة فأنقذهم، فجلست تفكر بعمل صالح تدعو به، وهي محبوسة في المصعد، تقول: لم أجد ما وجدت عمل خالص، فكرت صلاتي عادية، وصيامي عادي، وهي قاعدة توشك على الاختناق تذكرت عملاً، فسألت ربها به، قالت في لحظة الشدة هذه اللهم إنه جاءتني فلانة من صديقاتتي فقالت: أريد العمرة والحج فضعي أولادي عندك حتى أتمكن من الذهاب للعمرة والحج، وإني قبلت، ووضعت أولادها عندي، وحافظت عليهم، ورعايتهم حتى رجعت، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عني ما أنا فيه، فانطلق المصعد مباشرة، بدون أي شيء، قالت: بمجرد ما انتهيت من الدعاء، انطلق المصعد، وقف عند الدور السابع، وانفتح الباب وطلعت، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62]، فإذًا من الأشياء سؤال الله بالأعمال الصالحة. 
التوسل إلى الله بأسمائه، التوسل إلى الله بضعف العبد، التوسل إلى الله بصفاته، التوسل إلى الله بالإيمان به، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران: 193] توسلوا بالإيمان، رابعًا التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة.
خامسًا: التوسل إلى الله بذكر الحال، رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]، رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4]، هذه من أنواع التوسل الجائزة.
التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابته: كما فعل عمر مع العباس، وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا" يعني: في حياته، "فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فسقوا". [رواه البخاري: 1010].


أما طلب الدعاء من الآخرين، فقد شدد فيه شيخ الإسلام، وقال كلامًا يكاد يمنع أن الواحد يطلب الدعاء من أحد، قال: لأن فيه حاجة للمخلوق، لماذا تسأل المخلوق؟ وتقول: ادع لي، لماذا تعلق قلبك، ادع أنت، وحمل شيخ الإسلام النصوص اللي فيها طلب الدعاء من الآخرين، مثل حديث عمر إن صح  لا تنسنا يا أخي من دعائك  [رواه أبو داود: 1500، وضعفه الألباني ضعيف الجامع: 6278]، وحديث أويس القرني حمله على محامل:
منها: أن السائل يريد نفع أخيه حتى لا يتمحض السؤال لنفسه خاصة، ويريد الإحسان إلى أخيه من باب أن الملك يقول: آمين، ولك بمثله". [مجموع الفتاوى لابن تيمية: 1/192].
فإذًا شيخ الإسلام رحمه الله كان لا يرى أن الواحد يقول للآخر: ادع لي، ولا تنساني من دعائك لأن فيه ذلاً للمخلوق، وطلب من المخلوق، وترجي المخلوق.
ولذلك يقال أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله جاءه واحد وهو في المسعى قال: يا شيخ ادع لي، قال: تعال أوقفه، قال: توجه للكعبة، قال: ارفع يديك، قال: ادع أنت هذه الكعبة أمامك، ارفع يديك وادع، الله يعلم حالتك، واضطرارك، وفقرك، يعني: أحيانًا بعض الناس يكون في ضائقة، فيقول: يا شيخ ادع لي، طيب أنت صاحب الضرورة لو دعوت الله دعاءك عند الله يمكن يقع في موقع أعظم من هذا الذي لا يشعر بكربتك، ولا يشعر بحاجتك، ولا يشعر بظرفك غير أن فيه حاجة للمخلوق، وسؤال المخلوق. فهذا ما يتعلق بقضية التوسل بالأعمال الصالحة، وطلب الدعاء من الآخرين.
وأما طلب الدعاء من الأموات، والتوسل إلى الأموات، والتوسل إلى الغائبين، والتوسل إلى البعيدين، وطلب الدعاء من البعيد، والميت، والغائب، فهذا شرك ولا شك، وهو حرام، ولا يجوز. والله الموفق