الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة
فإن نبينا ﷺ هو القدوة ، وهو الأسوة، لسائر المسلمين عرباً وعجماً، كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً كما قال الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21].
والأُسوة بضم الهمزة وكسرها اسم لما يؤتسى به، أي يقتدى به، ويعمل بمثل عمله.
والاقتداء بالنبي ﷺ في سائر الأمور، في العبادات، في المعاملات، في التصرفات، هذه من الأشياء التي يحرص عليها أي مؤمن يحب نبيه ﷺ، فهو يريد أن يقتدي به، في حركاته، في تصرفاته، في أعماله، فيما كان يريد أن يعمله، فيما نوى أن يعمله ولم يقدر له ذلك كصيام تاسوعاء، كل قول أو فعل أو هم بفعل، وحتى السكوت عن الشي سكوته إذا سكت، وكلامه إذا تكلم، فعله إذا فعل، كل هذا مما يتأسى به النبي ﷺ.
وطبعاً هذا جانب كبير لأنه يشمل الدين كله، السنة ما هي؟
كل قول أو فعل أو هم بفعل.
احتياط النبي -صلى الله عليه وسلم
من ضمن الأمور التي كان نبينا ﷺ يعملها ويقوم بها: الاحتياط، عمل الحساب للشيء، كان النبي ﷺ له تحسبات، وله احتياطات، وهذا باب مهم من الأبواب؛ لأنه يقوم على النظرة البعيدة، يقوم على مراعاة الأشياء، يقوم على حساب المآلات، ما يمكن أن تؤول إليها الأمور.
وكذلك فإنه ﷺ كان يحتاط لنفسه، يحتاط لعرضه، يحتاط لدينه، كذلك كان يحتاط للمسلمين، هذا الاحتياط جانب مهم، وربما لا نجد الكثير من الكلام عنه رغم أنه من الأمور النبوية الواضحة، كيف كان يتحسب للأشياء، ويعمل لها حساباً ويحتاط لها، ويفعل شيئاً حتى لا يقال كذا، ويفعل شيئاً حتى لا يفهم كذا، ويقوله تعليقاً حتى لا يظن كذا.
وهذا ما نحن بصدده في هذا الدرس إن شاء الله، يعني: ماهي الاحتياطات النبوية والحسابات النبوية؟ النبي ﷺ كيف كان يتحسب للأمور؟
بدون تكلف، بدون وسوسة، بدون تحميل الأمر أكثر مما يحتمل.
وهذا الفرق بين الاحتياطات الشرعية، والاحتياطات الوساوسية.
دفع الريبة عن النفس ونقاء السمعة
الاحتياطات الشرعية نفهمها واضحة من أفعال النبي ﷺ وأقواله ومواقفه، فمثلاً: كان ﷺ يحتاط في موضوع دفع الريبة عن النفس، ودفع التهمة، ويبقى جانب العرض سليماً.
ونقاء السمعة مطلوب، ينبغي على كل واحد منا أن يحرص على سمعته، وسمعة أهله، وسمعة عائلته، حتى سمعة مدرسته، سمعة شركته، سمعة جيرانه، سمعة الحي.
السمعة هذه من العرض، ومن استبرأ لدينه وعرضه هذا من أمور الإيمان؛ لأن هذه القضية فيها سلامة النفس، سلامة العرض أمام الناس، وبالذات لما يكون الإنسان قدوة.
فلا بد من إيضاح أمور كثيرة، ممكن ما يحرص عليها كما يحرص لو كان شخصاً من الأشخاص الذين ربما لا توجه إليهم كثير من الأنظار.
فإذًا، حتى قضية الاحتياطات هذه تتفاوت بحسب حال الشخص، إمام المسجد، المدرس للطلاب، مدير الدائرة ينبغي عليه أن يحتاط في السمعة المالية، في أشياء أكبر من بقية الموظفين، حتى يكون جانب العرض سليماً ما يتهم باختلاسات، سرقات.
كذلك ما يتهم الإنسان بالفحش ويتهم بريبة، فمثلا: حديث صفية بنت حيي -رضي الله عنها- قالت: كان النبي ﷺ معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب، يعني: لأرجع إلى بيتي، فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا، فقال النبي ﷺ: على رسلكما إنها صفية بنت حيي يعني: حتى نسبها لأبيها تأكيداً، فقال: سبحان الله يا رسول الله ما في داعي توضح، نحن ما يمكن أن نشك فيك، ما في داعي حتى تخبرنا من هي، فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو قال: شيئاً [رواه البخاري: 3281، ومسلم: 2175].
قال المهلب -هذا من شراح الحديث، من شراح البخاري-: في هذا الحديث من الفقه تجنب مواضع التهم.
[ينظر: فتح الباري ، لابن حجر: 2/336].
إذًا، لا تضع نفسك في موضع تهمة، لا تضع نفسك في موضع يظن فيك السوء، لا تضع نفسك في موضع ريبة، لا تضع نفسك في موضع يمكن أن يقول الناس عنك شراً بسببه.
هذه من الاحتياطات المهمة لعرض الإنسان، وبعض الناس الذين لا يحسنون التصرف يقعون في مطبات، ويقعون في ورطات بسبب عدم حساب مثل هذه الأمور.
وفي قول النبي ﷺ: إنها صفية السنة الحسنة لأمته أن يتمثلوا فعله في البعد عن التهم، ومواقف الريب.
وكذلك قال الإمام الخطابي -رحمه الله: فيه من العلم: استحباب أن يتحرز الإنسان من أمر من المكروه مما تجري به الظنون ويخطر بالقلوب، وأن يطلب الإنسان السلامة من الناس بإظهار البراءة من الريب.[ينظر: معالم السنن: 4/134].
ومن المعلوم: أن النبي ﷺ كان أبعد الناس عن التهمة؛ لأنه معصوم، ومع ذلك قال: إنها صفية فغيره مما ليس بمعصوم أولى بخوف التهمة، وأولى بتوضيح موقفه.
والنبي ﷺ قال هذا الكلام ليسن للأمة من بعده هذا.
وعن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: كنا في مجلس ابن عيينة، -والشافعي حاضر-، فحدث ابن عيينة بحديث: إنها صفية ، فقال ابن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ سفيان بن عيينة، يروي يقول: أنا ألجأ إلى من هو أفقه مني، الشافعي، ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ قال الشافعي رحمه الله:" إن كان القوم اتهموا النبي ﷺ كانوا بتهمتهم إياه كفاراً ، -وهذا يفعله المنافقون نفاقاً أكبر-، لكن النبي ﷺ أدب من بعده، بالتأكيد ما كان عندهم تهمة للنبي ﷺ، أصلاً لو كان في تهمة كان كفروا.
لماذا وضح مع أنه ليس عندهما أي تهمة؟
ليسن لمن بعده توضيح المواقف.
قال: لكن النبي ﷺ أدب من بعده، فقال: إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، هذا كلام الشافعي، حتى لا يظن بكم أحد السوء لا أن النبي ﷺ يتهم وهو أمين الله في أرضه.
قال ابن عيينة -رحمه الله-: جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه. [أدب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم ص 51].
فينبغي للإنسان المسلم أن لا يعرض نفسه إلى أي شيء يظن به شراً، وأن يجنب نفسه مواقف التهم، لو قال واحد: أنا أمارس رياضة المشي في الليل، وأنا أحياناً أمشي مع زوجتي وأحياناً في مكان مهجور؟ نقول: لا تذهب إليه، لا تمش في ذلك المكان مع هذه المرأة وهي زوجتك لئلا تعرض نفسك للتهمة، وأن يظن بك ظن السوء.
في بعض الأماكن ما يدخلها إلا الفساق فيأتي واحد يقول: أريد الدخول من باب حب الاستطلاع، نقول: لو دخلت ورآك أي أحد، ماذا سيظنون بك؟
هذه ما يدخلها إلا أهل الحسبة للإنكار، ويدخلون جماعة لا واحداً، حتى لو أراد واحد أن يدخل على بيت جاره ربما يكون الجار غائباً، وما في إلا نساء لأجل حريق فينادي: يا أيها الناس: حريق، حتى لو جاء واحد رآه ما ينقل، رأيت فلاناً يدخل بيت جاره وهو غائب.
وربما يحتاج الإنسان يسعف في موقف إسعاف ونحو ذلك يوضح حتى لا يظن به ظن سوء.
ورحم الله امرءاً كف الغيبة عن نفسه.
قال عمر من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن.
وقال ابن دقيق العيد: هذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لو كان هو عن نفسه معذور، لكن ترى الناس ربما لا يعرفون عذرك، قال: لأن ذلك سبباً إلى إبطال الانتفاع بعلمهم [فتح الباري، لابن حجر: 4/280].
وبعض الناس يقول: أليس هذا رياء أني أراعي الناس، وأفسر مواقفي؟
نقول: لا، هذا من الدين، استبرأ لدينه وعرضه، بل هو عمل صالح، بل النبي -عليه الصلاة والسلام- فعله.
فبعض الناس لو قال: أنا ما يهمني كلام الناس، ما دام أن بيني وبين نفسي أن هذه صح، لا، الشرع ليس هكذا، الشرع يراعي كلام الناس، ويراعي سمعة الإنسان، وأن تكون الصفحة بيضاء ناصعة.
وسد ذريعة الشر مطلوبة، لماذا الواحد يضع نفسه في موضع تهمة؟
وقد وصل الجهل ببعض المنحرفين الذين عندهم بعض الطرق المنحرفة البدعية، أنهم يقولون: نحن نتقرب إلى الله بوضع أنفسنا في التهمة حتى يتكلم الناس في عرضنا حتى نأخذ أجراً.
هذه لفة منحرفة ، هذا خلاف الدين، هذا خلاف الشرع.
ما عندك باب أجر ثان غير توريط البشر، وتضع نفسك موضع التهمة، وتخالف الشرع؟!
سبح أحسن لك من الأفكار هذه الرديئة.
إغلاق منافذ الشر ووأد الفتنة
وكذلك النبي ﷺ كان يراعي إغلاق منافذ الشر، وإماتة الشر، ووأد الشر قدر المستطاع، ووأد الفتنة، ولذلك كان ﷺ في تصرفاته حريصاً إذا استطاع أن يغلق الباب في وجه شر، أو إثارة موضوع إثارة مؤذية أغلقه، فلما سحره اليهودي لبيد بن الأعصم، سحر النبي ﷺ، وأخبره الملكان بالسحر، وأرسل علياً ليستخرج السحر، وسئل: أين هو؟ قال: في بئر ذروان وخرج النبي ﷺ إليها، ثم رجع قال لعائشة حين رجع: نخلها كأنه رؤوس الشياطين، يعني: من قبح المنظر، تقول عائشة: استخرجته؟ أهم شيء خلاص، السحر كان له تأثير على أهله أيضاً، فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً ثم دفنت البئر [رواه البخاري: 3268].
ولمسلم قال: قالت عائشة: يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً فأمرت بها فدفنت [رواه مسلم: 2189].
لو أحد قال: اكتشفنا أن فلاناً مسحور، واكتشفنا السحر، ماذا نفعل؟!
نقول: استخرجوه وأحرقوه، استخرجوه تحصنوا بالمعوذات، وهذه عائشة قالت: استخرجته؟ أحرقته؟ فمعنىاه أن هذا هو التصرف مع السحر، لكن هو ﷺ ما استخرجه ولا أحرقه، لكن الله عافاه وشافاه، وما احتاج في شفائه إلى إحراق السحر، ولا لاستخراجه.
حصل المقصود، لماذا ما استخرجه؟ لا يفتح على الناس باباً، كره أن يثير على الناس شراً، هو قال: وكرهت أن أثير على الناس شراً .
كيف أثير على الناس شرا؟
يعلق ابن القيم -رحمه الله- على الحديث يقول: أي تقول عائشة: هلا أخرجته للناس حتى يروه يعاينوه[ينظر: بدائع الفوائد: 2/223]، ويعرفوا سبب هذه المصيبة التي حصلت، فأخبرها أني لو فعلت ذلك، واستخرجت السحر وأريته للمسلمين ماذا كانوا سيفعلون؟
يثيرون على المتهم، وربما ذبحوه، فيقوم قومه فينتصرون له، ويقتلون القتلة، وتقع بين المسلمين مصيبة، اشتباك، يصير فيها مقتلة، فقال: كرهت أن أثير على الناس شراً، المهم الله شفاني، والبئر دفنت، وانتهينا.
إذًا، إذا استطعنا أن نصل إلى المقصود بدون إثارة، وبدون ما نسبب فتنة بين الناس، فنكتفي بذلك.
قارنوا بين هذا التصرف النبوي وبين بعض الناس الذين يذهبون إلى بعض الرقاة المزيفين، لا علم ولا فقه، ولا نظر للعواقب، فيجيء هذا يقرأ عليه يقول له: مسحور، يمكن هو ما هو مسحور، يمكن عين، يمكن مرض نفسي، يمكن مرض جسدي، والذي سحرك واحد من الذي حوليك، هذه تمهيد، وهذا الواحد امرأة، اشتغل الرادار الآن، وهذه أم زوجتك. هؤلاء الآن لا يثيرون على الناس شراً هؤلاء يخترعون الشر، وهذه مصيبة، بينما النبي ﷺ لما وصل وحصل المقصود، خلاص انتهينا.
وقد قال القرطبي -رحمه الله- كما نقل عنه ابن حجر: ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة [فتح الباري، لابن حجر: 10/231]؛ لأن الأوس والخزرج، خرجوا قريباً من مقتلة بينهم عنيفة، وإذا اتهمت واحداً من الخزرج قاموا فردوا، وقد فعل المنافقون ذلك، يعني: استطاعوا الإثارة.
رفع الحرج والعنت عن المسلمين
النبي ﷺ كان من الاحتياطات والتحسبات التي يحسبها ويتحسب لها قضية: أن لا يفعل فعلاً يفهم منه الفرض والواجب، والشيء ما هو فرض أو واجب، أو أن الله يفرضه على المسلمين بسبب مواظبته عليه، فكان عنده قضية رفع الحرج والمشقة على المسلمين بالمؤمنين رؤوف رحيم، هذه كانت قضية أساسية.
والله سبحانه وتعالى قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحـج: 78]، يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185].
والدين يسر كما قال ﷺ: بعثت بالحنفية السمحة .
وهو حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم.
فتقول عائشة -رضي الله عنها-: "إن كان رسول الله ﷺ ليدع العمل وهو يحب أن يعمل، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" متفق عليه [رواه البخاري: 1128، ومسلم: 718].
كان هو يحب المستحبات يواظب عليها، لكن أحياناً كان يترك المستحب، لماذا؟
خشية أن يفرض على الناس، لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة [رواه البخاري: 887، ومسلم: 252] لكن يمكن يفهم الأمر الوجوب، ثم إن الناس ليس دائما تجد مساويك، فيقعوا في الحرج ويأثموا، وتحصيلها قد يشق عليهم.
وكذلك كان النبي ﷺ من شفقته على أمته: يصلي العشاء في أول الوقت غالباً، لكن مرة أخر لبيان الأفضلية، ذات ليلة أخر الصلاة حتى اشتد الظلام، حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد من الانتظار، ثم خرج فصلى، وقال: إنه لوقتها يعني الوقت الأفضل إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي [رواه البخاري: ومسلم: 638].
إذًا، كان يراعي هذه المسألة.
وقال ﷺ معللاً سبب عدم خروجه في كل السرايا والغزوات والبعوث والجيوش، ما كان يطلع فيها كلها، قال: والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم يعني: إذا خرجت الناس كلها ستخرج، وما عندنا قدرة نحمل كل الناس، ولا عندنا دواب وعتاد يسع كل المسلمين، قال: ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني [رواه مسلم: 1876].
لو كل مرة، خرجت، هم ما عندهم قدرة على الخروج، ماذا راح يصير فيهم؟ يصير عندهم حرج، ألم نفسي، يحبون نبيهم ولا يستطيعون الخروج معه دائماً.
ترك صلاة التراويح مع فضلها جماعة لماذا؟
قال ﷺ لما صلى ثلاث ليال في المسجد وكل مرة الناس يزيدون، وفي المرة الرابعة عجز المسجد عن أهله، وما طلع إلى صلاة الصبح، وهم ينتظرون، فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم أنا عارف أنكم تنتظرون لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها [رواه البخاري: 924، ومسلم: 761].
فهذا في مراعاة الرفق بالمسلمين، والسعي في زوال المكروه والمشقة عنهم.
فكل واحد تبوأ مكاناً فيه نوع سلطة: أب، مدير، ينبغي عليه أن يراعي هذه المسألة.
والنبي ﷺ كان يقاوم نزعات التشديد، فمثلاً: قال ﷺ: أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله ﷺ: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتم وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] ما دام سكت عن أشياء معناه السكوت مقصود ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم [رواه مسلم: 1337].
كان ﷺ يحب ما خف على الناس. [رواه أحمد: 25350، ٍوقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"].
الإبراد في صلاة الظهر في الصيف لماذا؟
يحب ما خف على الناس.
وقال: إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً [رواه مسلم: 1478].
وما خير ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما [رواه البخاري: 3560، ومسلم: 3560].
وكان يحب التخفيف واليسر على الناس ما لم يكن إثماً.
بعض الناس اليوم إما أنه يلزم التشديد، ويوجب على الناس ما لم يوجبه الله عليهم، أو يفرط ويقول: الدين يسر، ويفعل المحرم ويقول: الدين يسر، ويترك الواجب ويقول: الدين يسر.
لكن ليس هذا فعل النبي ﷺ.
ﷺ قال عن أشياء معينة سئل عنها في يوم معين، في مناسبة معينة: افعل ولا حرج [رواه البخاري: 83، ومسلم: 1306] فيجيء واحد يطردها على الكل.
لو جاءك واحد وقال: تركت طواف الوداع، لا حرج. ما رميت، لا حرج، ما وقفت بمزدلفة، لا حرج.
ماذا يقول: ما في طواف، ولا سعي، ضاع الدين. لأن بعض الناس ما يعرف أن هذه: افعل ولا حرج قيلت في أي مناسبة.
وأيضاً ما قال: اترك ولا حرج.
والآن بعض الناس يقول: اترك ولا حرج، وقال: افعل، في تقديم وتأخير، في أعمال معينة، ما واحد قال: والله أنا سأقدم مزدلفة على عرفة، سأقدم طواف الوداع على مزدلفة، فيه ترتيب معين لازم تمشي عليه، لكن في أمور معينة.
وهذا اليوم العاشر أعماله يوم زحام أشد يوم، وفيه أعمال الحج الأساسية: الرمي، والطواف، والسعي، والحلق، والنحر، فهذه قال فيها: افعل ولا حرج ما قال: افعل ولا حرج في كل شيء.
إذا أم أحدكم الناس فليخفف [رواه مسلم: 467] قارن بينها وبين قضية «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب، فيحطب، ثم آمر بالصلاة، فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم [رواه البخاري: 644 ومسلم: 651] هل هو رخص في ترك صلاة الجماعة بدون سبب؟
لا.
لكن لما صلى بهم الجماعة والمرأة صاح ولدها اختصر الصلاة، وأمر معاذاً أن يخفف.
لكن كلمة: "يخفف" بعض الناس يصر على أن لا يفهما، كان معاذ يقرأ فيهم بالبقرة، وكان يصلي مع النبي ﷺ ويرجع إلى قومه ويصلي بهم، ويطول.
فالناس ما تتحمل، وقدموا من أعمال ومزارع ، كان شغلهم زراعة من الصباح إلى المغرب، يصل الواحد تعبان، فقال: من صلى في نفسه أخف.
لا بد أن تراعي من خلفك، شباب كبار صغار، من مواقف سكن طلاب الجامعة، مسجد سكن طلاب الجامعة، خاص بالطلاب، قام الإمام وقرأ في صلاة العشاء في الركعة الأولى: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات: 34] إلى آخر السورةـ.
الركعة الثانية: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى: 1 - 3] جاء اثنان بعد الصلاة: من أم بالناس فليخفف أنت تطول علينا، أنت لماذا تطول؟ أين التخفيف؟ لماذا؟
أولاً: أنتم شباب، ما أنتم كبار في السن أو مرضى أو عجزة؟
ثانياً: أنا ماذا قرأت عليكم؟ قرأت البقرة أو آل عمران؟ ق والحجرات؟ ماذا؟ الإسراء والكهف؟ ماذا قرأت عليكم؟ تبارك وسورة نون؟ المرسلات وعم؟ ماذا قرأت عليكم؟
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات: 34] طولت علينا؟ خالفت السنة أنت؟
فالناس -سبحان الله- بعضهم عندهم ولع بالكسل، وهو ممكن يحضر فيلماً ساعة ونصف، هذه عادي،
ولو قدر أنه لازم يقف في طابور خبز ساعة عادي، على الضحى والليل إذا سجى، يسوي طامة.
ولذلك لازم يكون التيسير، ولا حرج في مكان صحيح.
والنبي ﷺ كان يختار أيسر الأمور.
وكان الأئمة بعد النبي ﷺ يشاورون من معهم من العلماء للأخذ بأسهل الأمور، فإذا وجدت سنة لزموها، فمثلاً ابن عباس -رضي الله عنهما- لما رأى المطر متواصلاً وغزيراً يوم الجمعة، وخشي على الناس الانزلاق في الطين، والوضع صار وضعاً مأساوياً، قال للمؤذن: إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، صلوا في رحالكم، فكأن الناس استنكروا ذلك، قال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض" [رواه البخاري: 901، ومسلم: 901].
يعني: لو شئت تركت المؤذن يقول: حي على الصلاة، وأنتم عليكم أن تبادروا بالمجيء، فتقعون في المشقة؛ لأنه مالكم طريق إلى المسجد إلا طين تغوصون فيه، هذا الواقع.
لكن لو كانت الطرق مسفلتة والناس عندها سيارات، وما حول المسجد لا طين، ولو كان فيه شيء بسيط وقد وضعوا له خشباً، ومشت الأمور، ووضعوا له جسراً ومشت الأمور.
لكن لو كان في بعض الأحوال يصير المطر غزيراً جداً، وما في لا رصيف ولا طريق ممهد، ولا ... ولا...، وكل ما حول المسجد محاصر بالطين والزلق، وهذا يسقط، وهذا يقع، فخلاص.
ومثل الآن نسأل الله أن يفرج عن إخواننا في الشام، المساجد يوم الجمعة تحت القصف.
أنتم الآن ترون حتى أثناء صلاة الجمعة يقصفون، يقتل الخطيب على المنبر، ويقتل الناس، مثل الحالة هذه إذا صار فيه قصف يقول المؤذن: صلوا في بيوتكم.
وإذا ما في شيء الوضع آمن: حي على الصلاة.
الفقه أنك تأتي بالرخصة في الموضع الصحيح، والتشديد أنه يكون في رخصة صحيحة، وما تأتي بها، والانفلات أنه يكون ما في رخصة، وتترخص، طرفان ووسط.
وأبو حمزة قال: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن الصوم في السفر؟ فقال: يسر وعسر، يعني: الإفطار يسر والصيام عسر، فخذ بيسر الله.
مراعاة طبائع الناس
النبي ﷺ من الأشياء التي كان يراعيها ويعمل حسابها: مراعاة طبائع الناس ما يصلح لشخص قد لا يصلح لآخر، وهذه الصفات البشرية متفاوتة عند الناس، قال أبو هريرة: بينما نحن عند رسول الله ﷺ جلوس فقال رسول الله ﷺ: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر من ذهب فقلت: لمن هذا؟ قالوا: ((لعمر)) هذا لعمر، فذكرت غيرتك فوليت مدبراً ما دخلته، وفي امرأة عنده ما جيت ولا اقتربت ولا دخلت، فذكرت غيرتك، فوليت مدبراً فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال: أو عليك يا رسول الله أغار"؟ [رواه البخاري: 5227].
ما نظر لجاريته مع أنها رؤية منامية، والمنام غير الحقيقة، وأحكام الجنة غير أحكام الدنيا، واليوم الآخر وضعه مختلف، ألا ترى أن الناس يوم القيامة يأتون عراة، لكن في أحد يستطيع ويتجرأ وعنده أصلاً فرصة أن ينظر إلى عورة الآخر، الأمر أدهى من أن يستطيع ذلك، قال المهلب -رحمه الله- في التعليق على الحديث: "فيه دليل على الحكم بكل رجل بما يعلم من خلقه" [فتح الباري، لابن حجر: 7/ 45] إلا ترى أن النبي ﷺ لم يدخل القصر حين ذكر غيرة عمر وقد علم ﷺ أنه لا يغار عليه، لكن أراد أن يأتي ما يعلم أنه يوافق عمر أدباً منه ﷺ.
وقال العراقي -رحمه الله- في تعليقه على الحديث: فيه معاملة الناس على قدر أخلاقهم، وما فطنوا عليه، فإن النبي ﷺ لما عرف غيرة عمر لم يدخل منزله في غيبته، وإن علم منه أنه يأمنه على الدين والدنيا والآخرة، ولذلك قال عمر: "ما كنت لأغار عليك" [طرح التثريب في شرح التقريب: 2/61] يعني: لو فيه غيرة كان على غيرك أما أنت أنا ما أغار، لا يمكن أن تريد شراً، ولا ريبة، ولا...
وفي موقف آخر نجد النبي ﷺ راعى نفسية واحد أحياناً مثل: حديث العهد بالإسلام، قد يكون فيه شيء من الألفة.
وأحياناً قد يكون سيد قومه ويحتاج إلى مداراة.
وأحياناً قد يكون في خلقه شيء من العسارة والشدة والنفرة، فعن عبد الله بن أبي مليكة: أن النبي ﷺ أهديت له أقبية، جمع قباء، من ديباج مزررة بالذهب.
لو واحد قال: هذه قضية ذهب واللباس كيف؟
نقول: إما أن تكون القصة قبل التحريم، أو أعطاه إياها لينتفع بها لا ليلبسها، أو ليعطيها بعض النساء من أهل بيته، حتى ما يرد علينا موضوع لباس، فجاءت للنبي ﷺ هذه الهدية، وبعض الذين كانوا يهدون من الكفار يهدون النبي ﷺ، وما عندهم مراعاة لهذه الأحكام: الذهب واللباس، فجاءته أقبية من ديباج، يعني: حرير مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدة لرجل اسمه: مخرمة بن نوفل، فجاء هذا الرجل ومعه ابنه المسور، فقام على الباب، على باب النبي ﷺ: من الراوي الآن؟ عبد الله بن أبي مليكة، ماذا قال مخرمة بن نوفل؟ ادعه لي، فأعظمت ذلك، ماذا أدعه لي؟ أين الأدب؟ لكن حديث العهد في الإسلام، والذي في خلقه شيء يحصل منه، فأعظمت ذلك، فقلت: أدعو لك رسول الله ﷺ؟ قال: يا بني إنه ليس بجبار" ما عنده برتوكولات، فسمع النبي ﷺ صوته وهو داخل، فأخذ قباءً، هذه الذي كان أصلاً معمول حسابه، مجهز سلفاً فتلقاه به.
طلع وهذا بيده، واستقبله بأزراره تلمع، تشع، فقال: يا أبا المسور خبأت هذا لك، يا أبا المسور خبأت هذا لك فأعطاه إياه، قال الراوي: وكان في خلقه شدة [رواه البخاري: 3127].
هذا يدل على أن النبي ﷺ كان يراعي أحوال الناس، وكان يتحسب للمواقف، وكان يجهز أشياء سلفاً لما في ذلك من الأثر الحسن على نفوس بعض الناس في تأليف قلوبهم.
موقف آخر في مراعاة أحوال الأشخاص: النبي ﷺ كان مضطجعاً في بيت عائشة -رضي الله عنها- كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، ولذلك الحديث ما هو صريح، هو صحيح لكن ما هو صريح في أن الفخذ ليس بعورة، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، ما غطى ساقيه، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له، وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله ﷺ وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة [رواه مسلم: 2401].
وفي رواية إن عثمان: رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته [رواه مسلم: 2402] يعني: يجيء يشوفه، وخلاص يرجع.
وموقفه مع أبي سفيان لما قالوا: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن [رواه مسلم: 1780].
وهكذا النبي ﷺ كان يراعي عواطف ومشاعر الأمومة -كما قلنا- فيتجاوز في صلاته مخافة أن تفتن أمه، إذا سمعت بكاء الصبي، مع أنه كان يريد إطالة الصلاة.
لما أمر بصناعة الطعام لأهل الميت؛ لأنهم أتاهم ما يحزنهم، ما عندهم وقت، يمكن يكون في البيت أطفال، ما في وقت يطبخون لهم، المصيبة أشغلتهم، فيُصنع طعام من أجلهم.
وهكذا كان ﷺ يحتاط ويراعي.
المحافظ على الصورة الحسنة للمجتمع المسلم
من الجوانب التي كان ﷺ يحتاط لها: مراعاة المحافظة على الصورة الحسنة للمجتمع المسلم، يعني: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143]، ولذلك حث على ستر المسلمين، يعني لما الواحد يقع في شيء يستر، من ستر مسلما ستره الله لا يفضح.
لو كان فاجراً منافقاً مجاهراً هذا يمكن من ردعه فضحه، لكن في الأحوال العادية، المسلم العادي الذي يفعل المعصية إذا فعلها وهو ماذا؟ في ستر يخفيها، هذا لو واحد اكتشفه أو كشفه وقع عليه فجأة ماذا يفعل؟ يطلع الجوال يصوره على طول؟ يروح على تويتر رأيته قبل قليل؟
هذه مشكلة مواقع التواصل الاجتماعي أنها ما فيها ستر عورات المسلمين، فيها كشف عورات المسلمين، وعلى طول صور انشر، انشر تأثم.
هل هذا منافق من المصلحة الشرعية فضحه؟ هل هذا مجاهر يراد أن تقوم عليه الألسن، وتردعه؟
هذا مسلم مستور أصلاً، ما هو معروف بالمعصية زل زلة، وخصوصاً إذا كان صاحب هيئة، أب عمل معصية سراً تفضحه بين أولاده!
إمام مسجد عمل معصية سراً تفضحه بين المصلين!
اجتهد أن تستر المسلمين؛ لأن ستر المسلمين، سمعة المسلمين.
لما تنشر الأشياء من يستغلها؟
أعداؤنا من اليهود والنصارى وغيرهم، ويقولون: شوف أنتم المسلمين تفعلون كذا وكذا وكذا، هذا الإسلام، هذا الدين، تبغونا ندخل في الدين هذا وضع أهله.
لماذا؟ لأنه طلعت الأشياء.
مع الأسف بعض الأشياء تطلع من المجاهرين، ولا بد تقول: والله هذا يتحمله الشخص وليس الإسلام، في فرق بين الإسلام والمسلم العاصي، لا تحمل معصيته على دينه، دينه يحرم عليه هذا وينهاه، لكن هو عصى، لا بد توضح القضية.
لكن أساساً ما هو موقفنا من معصية فعلت سراً؟
أن نسترها ما نفضحه، من ستر مسلماً ستره الله.
والله قال: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ [النــور: 19]، يدخل فيهم الذين يعطون صفات الفاحشة، بالتفصيل وتفصيلات الفاحشة ويكتبونها اليوم، وخرجوا منها، وفعلوا منها، وأخذها، وبعدين سوى كذا، سوى وفعل.
هذا من سلبياته: يهون المعصية في النفوس، ويصير الناس ما يكترثون بالمعاصي، وأنه فلان فعل، وفلان فعل، وأنا واحد منهم، وأنا واحد مثلهم، فخلاص هدمنا الحواجز النفسية، ما عادت القضية ذات أثر كبير، خلاص شاعت.
من الذي أشاعها.
ممكن يكون ناس ما هم من الكفار والمنافقين، لكن واحد سيء تصرف، ما عنده حكمة، ما يفقه الدين في قضية ستر عورات المسلمين؛ لأنه هذه الأخبار لو انتشرت وكثرت حطمنا الحواجز النفسية بين الناس والمعصية.
وخلاص يقتحمون، ويقول: أنا واحد من هؤلاء واحد من هؤلاء، قال ابن عاشور -رحمه الله-: لشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو الكذب مفسدة أخلاقية، فإنه مما يمنع الناس عن المفاسد كراهتها سوء سمعتها.
فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش دب إلى النفوس التهاون بها، فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تُقدم على اقترافها، وبمقدار تكررها، وتكرر الحديث عنها تصير متداولة[التحرير والتنوير: 18/ 185].
هذا الكلام قاله الطاهر ابن عاشور في كتاب التحرير والتنوير تعليقاً على قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النــور: 19].
وحتى قصة ماعز وحتى قضية الستر، الستر الذي كيف هو الأولى.
يحسب للمسلمين حساب في قوتهم
النبي ﷺ كان حريصاً أيضاً من جانب آخر على أن يحسب للمسلمين حساب في قوتهم، فلماذا حث على التبختر بين الصفين أن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذين الموطنين؟
لماذا أمر أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط؟
حتى لا تقول قريش: وهنتهم حمى يثرب، وغداً نغير عليهم، وهؤلاء أمرهم صار أمراً سهلاً.
ولذلك لما صار فيه رمل، قريش طلعت للجبل حتى لا تخالطهم حمية، وأنفة مذمومة، لكن لما رأوهم يرملون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟!
فإذًا، بالإضافة إلى ستر الصورة السلبية، ما هو المقابل؟ إشاعة السمعة الحسنة، وعكس الصورة الإيجابية للخارج، صورة إيجابية حسنة، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النــور: 19] بينما أمر هناك بالرمل، والتبختر بين الصفين حث عليه، وكذلك فإن هذا الإظهار لقوة المؤمنين هيبة، يصير فيه هيبة في نفوس الكفار، وفكرة الاستعراضات العسكرية أصلاً هذه، هي أن يرى العدو هيبة للمسلمين، ولذلك قال ابن حجر: ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهاب لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم [فتح الباري، لابن حجر: 3/470].
إذًا، لأن هذه ما هي مفاخرة مسلم على مسلم، لا، هذا تباهي أمام العدو ليكون للمسلمين هيبة، وعند اللقاء الفعلي يكون المسلمون صابرين صادقين، لكن نجد أن الصور الحسنة هذه مهمة في الدعوة، لأن هذه سمعة، والآن الذين يسمعون عن المسلمين سماعاً حسناً، كثير من الناس لماذا أسلموا؟ لأنهم سمعوا كلاماً حسناً أو شيئاً حسناً عن الإسلام أو النبي ﷺ، ونحو ذلك.
قضية السمعة هذه قد تكون أحياناً مزيفة، ومع الأسف تظهر وتنكشف، وإذا انكشفت ماذا يحدث؟ انهيار للصورة، ولذلك قالوا: إن رجلاً من الكرد كان له شأن، قصة ذكرها أحمد شوقي في الهمشري، قال: يحكون أن رجلاً كردياً كان عظيم الجسم همشرياً
وكان يلقي الرعب في القلوب | بكثرة السلاح في الجيوب |
ويفزع اليهود والنصارى ويرعب الكبار والصغار
وكلما مر هناك وهنا | يصيح بالناس أنا أنا أنا |
نمى حديثه إلى صبي صغير جسم بطل قوي
لا يعرف الناس له الفتوة وليس ممن يدعون القوة
فقال للقوم سأدريكم به فتعلمون صدقه من كذبه
وسار نحو الهمشري في عجل والناس مما سيكون في وجل
ومد نحوه يميناً قاسية بضربة كادت تكون القاضية
فلم يحرك ساكناً ولا ارتبك ولا انتهى عن زعمه ولا ترك
بل قال للغالب قولاً ليناً الآن صرنا اثنين أنت وأنا
مراعاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ماذا سيقول الناس عن الإسلام
ومن الأشياء التي كان النبي ﷺ يراعيها: قضية ماذا سيقول الناس عن الإسلام، في مسألة قتل عبد الله بن أبي لما رفض قتله: حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؛ لأن عبد الله بن أبي محسوب في الظاهر على المسلمين.
القبائل في خارج المدينة وفي الأماكن الأخرى من جزيرة العرب تظن أن عبد الله بن أبي واحد من المسلمين، بدون أي سبب ظاهر يفاجؤون بخبر قتله، ماذا ستكون النتيجة؟
يقولون: لو ما دخلنا في الدين ما خلصنا، وإذا دخلنا ما خلصنا، خلاص خلينا في مكاننا أحسن.
وما هو فقط عبد الله بن أبي، حتى الذي قال: اعدل يا محمد، فوالله هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ماذا يعني؟ اتهام، هذه ردة وكفر ما فيها نقاش، قال عمر: دعني أقتل هذا المنافق، قال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي [رواه مسلم: 1063]؛ لأن هذا الرجل في الظاهر محسوب على المسلمين.
وبعدين هذا من أين جاء؟
جاء من منصرف النبي ﷺ من حنين هذا في معركة محسوب على الجيش المسلم.
وكذلك وسع النبي ﷺ بحلمه هؤلاء.
لماذا ما هدم الكعبة ونزل مستواها للأرض، وجعل الباب على الأرض؟ يدخل أي واحد بدون سلم، وما أدخل الحجر مع أنه من الكعبة، لماذا لم يفعل ذلك؟ ما كان الناس مهيئين لهذا، وقريش ماذا ستقول؟
لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية [رواه البخاري: 1586].
إذًا، قضية الاهتمام بالرأي العام مهمة، قال شيخ الإسلام: فترك النبي ﷺ هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين -الذي هو إعادة الكعبة على أساس إبراهيم تكميل البناء، لماذا؟ -
للمعارض الراجح، وهو: حدثان عهد قريش بالإسلام، لما في ذلك من التنفير لهم [مجموع الفتاوى: 24/ 195] يعني هذا هو البيت هكذا وضعه عندهم، هكذا لما بنوه ما وجدوا نفقة كاملة، ووضعوا حجراً، هذا حدود لبقية الكعبة.
ولذلك لو واحد قال: هل الأمنية النبوية أنه جعلت كذا وكذا، جعلت لها بابين باب يدخل منها، وباب منه يخرجون، وأنه من شاء أن يصلي فيها دخل وصلى؟ هل تحققت هذه الأمنية النبوية؟
قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين: وهذه الأمنية النبوية لعلها تحققت بوجود المسافة اليوم في الحجر بينه وبين الكعبة، فهناك باب يدخل منه الناس وباب منه يخرجون، ومن صلى في الحجر صلى في الكعبة.
مراعاة الأعراف ما لم تكن حراما
وكذلك مراعاة الأعراف، أقوام عندهم عرف معين، طريقة معينة، وما هي حرام، يراعيها حتى لو كانوا كفاراً، فمثلاً: جاء في حديث أنس بن مالك قال: لما أراد رسول الله ﷺ أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ رسول الله ﷺ خاتماً من فضة كأني أنظر إلى بياضه في يدي رسول الله ﷺ نقشه محمد رسول الله.
محمد في سطر ورسول سطر، ولفظ الجلالة في سطر رواه البخاري: 65 ومسلم: 2092].
لم يكن لبس الخاتم من عادة العرب، فلما أراد النبي ﷺ أن يكتب إلى الملوك اتخذ الخاتم.
انتشر فصار بعده ختم كتب السلطان والقضاة والحكام سنة متبعة.
فإذًا، راعى النبي ﷺ مسألة الختم، لما جاء رسول مسيلمة الكذاب هذا على دين مسيلمة، وصرح المبعوثان بأنهما على دين مسيلمة، قال: أما والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما [رواه أبو داود: 2761، وأحمد/: 15989، وقال محققو المسند: "حديث صحيح بطرقه وشاهده"].
إذًا، راعى العرف هذا.
مراعاة العوائد الاجتماعية
النبي ﷺ قال: يا عائشة ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو [رواه البخاري: 5162] لكن أي لهو؟ اللهو المباح، ما هو؟ الإنشاد في العرس.
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة | فاغفر للأنصار المهاجرة |
هو يقول، وهم يجيبونه:
نحن الذين بايعوا محمدا | على الجهاد ما بقينا أبدا |
[رواه البخاري: 2961]
إنشاد الشعر في العمل.
كان ﷺ أيضاً يراعي الكفء في تولية المنصب، ولذلك أمر أسامة بن زيد، وكان قد أمر زيداً في جيش مؤتة، وقال: وأيم الله إن لكان لخليقاً للأمارة [رواه البخاري: 3730، ومسلم: 2426] يعني مؤهل للأمرة.
فإذًا، مضت السنة أن يولى الأنفع للمسلمين.
اعتبار المآلات والعواقب
اعتبار المآلات والعواقب نجدها واضحة في بيعة العقبة الثانية لما استأذن بعض المسلمين النبي ﷺ قالوا: ماذا رأيكم نغير على أهل مكة بأسيافنا؟ فلم يأذن لهم ﷺ؛ لأنه لا يوجد قوة للمسلمين تحسم، ولو أغاروا ماذا سيحدث؟ لو أنشب المسلمون معركة ولا يستطيعون حسمها، ماذا سيحدث؟
استئصال، ممكن كل واحد يقتل عشرة، ثم يقتل، لكن ينتهي عدد المسلمين، وما انتهى الكفار، فما الفائدة؟
هذه مراعاة عواقب، هذه مراعاة ما سيؤول إليه الأمر.
صلح الحديبية بشروطه التي ظاهرها الإجحاف لكن في الحقيقة كانت ماذا؟
عواقبها كانت خيراً للمسلمين، وإذا كان في واحد من المسلمين ارتد ولحق بمكة ما يرجعوه، خلصوا منه، يعني: ما كانت شراً.
وكذلك فإنه ﷺ ترك الدعاء على من أذاه من المشركين طمعاً في إسلامهم، كان يراعي لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله.
وكان ﷺ أيضاً يشيع التفاؤل حتى تبقى روح العمل قائمة عند المسلمين، تبقى الإيجابية قائمة، وكان يقول: تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله [رواه أبو داود: 2501، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 5932].
وكان عنده التبشير وليس التنفير، لأجل هذا المعنى، وحتى تبقى روح التفاؤل قائمة، فيكون الإقدام.
والنفس إذا تشاءمت ما تقدم، وإذا الواحد كان يظن أنه سيهزم لا يقبل، فهذا من ضمن ما كان يفعله ﷺ.
وكان ﷺ يراعي ضمن ما يراعي مسألة: إقالة العثرات لمن كان له وجاهة أو مكانة.
وكذلك إكرامه في المنزلة، مثل: قوموا إلى سيدكم [رواه البخاري: 3043، ومسلم: 1768] أو خيركم فأنزلوه .
هذا قاله ابن حجر: فيه إكرام أهل الفضل.
كذلك لما دخل عدي بن حاتم فناوله وسادة، من أدم محشوة ليفاً.
وكان يأمر بإكرام الوفد؛ لأن الوفد إذا رجعوا ونقلوا الكرم تأثر من معهم من قومهم بذلك.
وقوله: أقيلوا ذوي العثرات عثراتهم إلا الحدود هؤلاء ذوو الأقدار بين الناس، فلا يؤاخذ بكل هفوة وزلة، لكن حدود الله ما في شفاعة ولا يقترب منها.
مراعاة البدائل الشرعية
كان ﷺ يراعي البدائل؛ لأنه لو ما راعيت البديل ما الذي سيحدث؟ الناس يحسون بالتضييق، نحن محرومون، لكن لما تأتيهم بالبديل خلاص أوجدت لهم الحل، رأوا المسألة فيها سعة، أحسوا بالفسحة، والنبي ﷺ في الكتاب الذي نزل عليه الله علمنا: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [البقرة: 104] هذه بدل هذه.
النبي ﷺ لما جاء ولهم يومان يلعبون فيهما، قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى .
فإذًا، الله جاء أهل المدينة بعيدين بدلاً من يومي اللعب، صار في يومين لكن فيهما عبادة وذكر وتكبير، وصلاة عيد، واجتماع المسلمين، والخير والبركة.
وبالإضافة إلى ذلك وسع على الأولاد.
وحتى أبيح ضرب الدف للنساء في العيد مع أن الدف من المعازف، والمعازف ممنوعة أصلاً، لكن أبيحت للنساء في الأعياد.
إذًا، صار هناك بدائل.
وكذلك لما قال: لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب ؛ لأنه كان عند الجاهلية اعتقاد في العلاقة بين الخمر وبين الكرم، أنه تجعله سخياً، فلا، الكرم هذا معدن قلب المؤمن.
لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان، لا يقل أحدكم: خبثت نفسي، وليقل: لقست هذه، عبارة ألطف.
لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، وليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خير لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي.
لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
وهكذا إذا حرمت الشريعة شيئاً عوضت بأشياء.
ما حرم علينا إلا كل خبيث وضار ربنا سبحانه، ولكن كم أباح لنا في المقابل؟
إذا حرم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، وكل ذي ناب من السباع، وكل مخلب من الطير، كم أباح لنا في الحبوب والثمار والخضار والفواكه والأشربة والأطعمة، كم أباح لنا.
من فقه المفتي: أنه إذا سأله المستفتي عن شيء محرم يرشده للبديل، يقول: هذه معاملة محرمة فيها ربا، هذه معاملة محرمة؛ لأن فيها غرر، هذه معاملة محرمة لأن فيها جهالة.
لكن يوجد بديل، اعمل الشيء التالي، ويدله عليه.
يكون أحياناً بيع السلم حلاً لمشكلة عند تاجر، فيقول له: أنت ما عندك السلعة وتبغى تبيع ويكون عندك حركة في تجارتك، والسلعة ما هي عندك، بدل ما يصير عندك بيع الكاليء بالكاليء، الشرع أباح بيع السلم، أن تستلم السلم كاملاً، في أشياء منضبطة موصوفة في الذمة، وموعد التسليم، إلى آخره، ترى هذا بديل شرعي.
بدل ما تقترض بالربا، أنت الآن عندك أرض وتريد تمويلاً لتعميرها، بدل ما تروح تأخذ قرضاً ربوياً من البنك، فيه صندوق عقاري عند الجهة الفلانية تشارك صاحب الأرض فيصير منه الأرض، ومنهم البناء، ويباع بعد ذلك، أو يؤجر وكل واحد يأخذ نصيبه، هذا بديل.
أنت عندك أرض وهم عندهم تمويل، ادخلوا شراكة، احسب قيمة الأرض كم، وقيمة المبنى كم، افرض الأرض نصف التكلفة، والبناء نصف التكلفة، الأرض منك، والبناء منهم وتبيعوها، وتأخذ خمسين في المائة من الأرباح، ويأخذون خمسين في المائة، الشراكة بدلاً من الربا.
فالمفتي الجيد هو الذي يعطي للناس بدائل عن المعاملات المحرمة التي يسألون عنها، يدله.
بعض العقود لو اختلفت الصيغة صار حلالاً، إيجار منتهي بالتمليك لا يجوز، إيجار مع وعد بالتمليك يجوز.
لما باع بلال تمراً رديئاً بتمر جيد، كان عنده صاعين رديئة، هو يريد إكرام النبي ﷺ هو خادم له أيضاً، يريد أن يأتيه بالتمر الجيد، فماذا فعل؟ راح السوق، ما كان يدري عن الحكم، أعطاهم صاعين تمر رديء وأخذ صاعاً من تمر جيد، ما حكم هذه المعاملة في الإسلام؟ محرمة، لماذا؟ للتفاوت؛ لأن الجنس واحد، تمر بتمر الواجب التماثل، صاع بصاع، لكن ما أحد الآن يعطينا صاعاً رديئاً بصاع جيد فما هو الحل؟
لما النبي ﷺ أظهر توجعه وتأسفه لما حصل، قال: أوه أوه عين الربا، لا تفعل، عين الربا ماذا قال له بعد ذلك؟
بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيباً .
أنت بع الرديء هذا، اللي مستواه نازل، واقبض الثمن فضة، ذهب، ثم اشتر بالدراهم النوع الجيد الذي تريده، خلاص ما وقعنا في الربا، وصلنا للمقصود.
نحن نريد تمراً من النوع الجيد الفلاني وصلنا للمقصود، ولكن بطريقة شرعية.
التدرج الصحيح الشرعي
كان ﷺ من الأشياء التي يحتاط لها ويقدر لها قدرها: التدرج الصحيح الشرعي، في الدعوة لما أوصى معاذا أول ما يأمرهم بالشهادتين، ثم الصلاة، ثم الزكاة، اشترط النبي ﷺ مراحل في الإنجاز، التدرج الصحيح.
مراعاة عقليات الناس
كذلك مما كان يراعيه ﷺ: مراعاة عقليات الناس، وأن الأفهام متفاوتة ومتنوعة، ولذلك قال ابن مسعود : "ما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
وقال علي : "حدثوا الناس بما يفهمون، حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله".
في قصة حصلت في العهد النبوي: أن النبي ﷺ قام على باب بيت فيه نفر من قريش فقال: وأخذ بعضادتي الباب، فقال: هل في البيت إلا قرشي؟ فقيل: يا رسول الله غير فلان ابن أختنا؟ ابن أختنا ما هو قرشي، أختنا قرشية زوجناها لواحد ما هو قرشي، الولد تبع أبيه، لكن ابن أختنا؟ فقال: ابن أخت القوم منهم ثم قال: إن هذا الأمر في قريش ما داموا إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)) لا فريضة ولا نافلة [رواه أحمد: وصححه العراقي: والألباني: وقال الهيثمي: "رجاله ثقات"].
لماذا سأل: هل فيه أحد غير قرشي في ذلك المكان؟
لأنه كان يبتغي أصحاب عقول راجحة؛ لأن الكلام ممكن يفهم على غير وجهه.
ممكن يفهم أنه تعصب.
فأراد أن يكون عندهم من أصحاب العقول الراجحة ليبلغهم خبراً من الأخبار الخاصة، التي لا تقال لعامة الناس، التي لو قيلت لعامة الناس لربما يفهم على غير وجهه.
وكذلك فإنه ﷺ ممكن يترك أحياناً إخباراً بشيء مراعاة وليس فقط يخبر ناس معينين، أحياناً يترك الإخبار كما جاء في حديث أحمد، وهو صحيح، أنه ﷺدخل على عائشة فقال: لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله ، فلماذا لم يخبرهم؟ حتى ما يتولد على ذلك غرور، كبر، ونحو ذلك.
أحياناً بعض الناس إذا عرضت عليهم كلاماً ما شرحته، ما فصلته، يكون عندهم أفهام عجيبة، قام أحد الدعاة في أول ما بدأ بالدعوة ذهب إلى مكان قرية، فيها مزارعون وفلاحون، وراح قرأ الآية: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح: 29] في آخرها ضرب الله مثلاً في الإنجيل للصحابة، ضرب لهم مثلاً في التوراة، ومثلاً في الإنجيل.
ما هو مثل الصحابة المضروب في الإنجيل؟
كزرع أخرج شطأه يعني: بدأ صغيراً، نبت ثم نمى، فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه.
إذًا، استغلظ هو الشيء الذي كان نحيلاً، ثم غلظ، ثم تراكب بعضه فوق بعض، والتف بعضه على بعض.
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ في آية أخرى قال: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد: 20]؟
هذه الآية: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29] الكفار، لكن الزارع يقال في اللغة عنه: كافر؛ لأن "كفر" غطى، وسمي الكافر كافراً لأنه يغطي حقيقة التوحيد وحقيقة الألوهية، والربوبية، يغطيها بجحوده وكفره، فسمي: كافراً.
في اللغة يقال للمزارع: كافر؛ لأنه يغطي البذرة بالتراب، لأنه يبذرها ويغطيها بتربة.
"كفر" يعني غطى.
"كافر" يطلق على الزارع كافر، ويطلق على جاحد الربوبية والألوهية كافر.
فقوله في الآية الأخرى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد: 20] يعني أعجب الزراع نباته.
فهو في الكلام يستشهد: إنه يقال في الخطبة: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد: 20] وهم الزراع، أعجبهم هذا الزرع لما نبت ونزل! وخلاص بعدين، استلموه: كفرتنا في الخطبة؟! جاي مشوار على شأن تكفرنا؟ يعني نحن كفار؟ نحن مزارعين مساكين يعني صرنا نحن الكفار؟!
حديث: أن النبي ﷺ جلد في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر، يعني أيضا جلد أربعين، وعمر جلد، وبعدين عمر جلد كم؟ لما شاف الناس عندهم نوع من التهاون في الفتوحات، ولما دخلوا ناس صاروا يتساهلون في الخمر كم جلد؟ ثمانين.
درس فقه، الشيخ يشرح الحدود والتعزيرات وحد الخمر، وطلع!
جاء واحد بعدين يتكلم مع الشيخ قال: يا شيخ جاءني بعض الطلاب الذين حضروا عندك وقالوا: إنك سبيت أبا بكر وعمر، واتهمتهم بشرب الخمر، وأن النبي ﷺ جلدهم قال: يا أخي طلع هذا الحديث، جلد رسول الله ﷺ في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين.
ما في لغة عربية تقول: يا جماعة لو كان الرسول جلد أبا بكر، كان صارت أبا بكر مفعول به؛ لأنه منصوب بالألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، إذا صارت جلد رسول الله ﷺ أربعين، وجلد أبا بكر، يعني لو كان أبو بكر اللي ..، كان جلد أبا بكر أربعين، وجلد عمر، طبعا هذه ممنوعة من الصرف ما راح تبين عليه أصلاً.
وجلد عمرُ، أي عمرُ يعني، ممكن إذا نصبها تبين.
المهم ما في عندك لغة عربية طبعاً، فطلعوا من المجلس وهم يقولون: إنه الشيخ يقول: الرسول..!
ولا ندري يمكن يستغلها بعض الباطنية هؤلاء، ويقولون لبعض جهلة المسلمين: الحديث هذا عندكم؟ هذا الحديث في كتبكم: الرسول جلد عمر! وجلد أبا بكر! ببساطة لماذا يضحك على الناس؟ لأنه ما في مراعاة للفهم، ما فصلها، ما بينها، ما في لغة عربية.
الفهم على السريع، على الماشي.
ولذلك -يا إخوان- هذه الفوائد النبوية كيف عليه الصلاة والسلام كان يتكلم، كان يفصل، يختار الكلام الذي يفهم على الوجه الصحيح.
هذه كلها دروس لنا في معاملة الناس، وفي الدعوة إلى الله، وفي تصرفاتنا الشخصية: أن نراعي المآلات، أن نراعي العواقب، أن نراعي الأحوال، هذه المراعاة في بعد النظر، في الاحتياطات، في التحسب للنتائج.
نسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يرزقنا ابتاع سنة نبينا محمد ﷺ.
والحمد لله أولا وآخرا وهو رب العالمين.