الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن الله قد أمرنا بسؤال أهل الذِّكر فقال في كتابه العزيز: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43].
وأهل الذّكر اختصهم الله فهداهم للإيمان، وعلّمهم الكتاب والحكمة، وتفضّل عليهم، ففقههم في الدين ورفعهم بالعلم، فبهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، وهؤلاء العلماء الربانيون هم صفوة الله من أهل الأرض، وهم خيرتهم بعد الأنبياء؛ لأنهم ورثتهم ففضلهم عظيم، والحيتان في البحر تستغفر لهم، والنمل في الجحر، والملائكة من فوق ذلك، فهم أفضل العباد بعد الأنبياء، وحياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، والحاجة إليهم باقية إلى قيام الساعة، والمسائل التي يحتاجها الناس للسؤال عنها ليست سواء، فهناك مسائل منصوص عليها بنصوص شرعية واضحة، كأحكام وجوب الصلاة، ووجوب الزكاة، ووجوب الحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب الحجاب، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وتحريم الربا والزنا والخمر والميسر، وهناك مسائل مجمع عليها بين العلماء، هناك مسائل مجمع عليها بين العوام عند كل المسلمين، كوجوب الصلاة وتحريم الخمر، وهناك مسائل مُجمع عليها بين العلماء، كتحريم زواج المسلمة من غير المسلم، وأن كل قرض جرّ نفعًا فهو ربا، وتحريم الإجهاض بعد نفخ الروح وهكذا.
أسباب وقوع الخلاف بين العلماء
وهناك مسائل وقع الخلاف فيها عند أهل العلم قديمًا وحديثًا منه ما كان معتبرًا ومنه ما هو غير معتبر، وغير المعتبر هو المصادم للنصوص الشرعية والمخالف للإجماع، أما المعتبر وهو السائغ المعتد به فهذا له أسباب، فإن بعض الناس ربما يسأل ويقول: بعض المسائل نسمع اختلف العلماء، لماذا اختلف العلماء؟
نقول: يختلفون لأسباب فمنها: اختلافهم في ثبوت النص هل ثبت هذا الحديث أو ما ثبت؟
ثانيًا: اختلافهم في فهم النص.
فقد يفهمه واحد على جهة، والثاني على جهة أخرى.
فمثلًا: لا طلاق في إغلاق، هل الإغلاق المقصود به الغضب أو المقصود به الإكراه؟ فبعضهم فهم: لا طلاق في إغلاق [رواه أحمد: 26360، وابن ماجة: 2046، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7525]، يعني: في الإكراه، لكن الغضب يقع، وفهم بعضهم لا طلاق في الغضب، ثم قسّموا الغضب إلى غضب لا يدري معه ماذا يقول، وإلى غضب يدري معه ما يخرج منه.
مثال آخر في اختلاف العلماء في فهم النص: كاختلافهم في المراد بالملامسة في قوله تعالى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء: 43]، متى يجب على الرجل أن يعيد الطهارة في مس المرأة؟ فقال بعضهم: لَامَسْتُمُ يعني: لمستم، مطلق اللمس بشهوة أو بغير شهوة، يجب عليه أن يعيد الوضوء، قال بعضهم: لا، لَامَسْتُمُ تعني: لمس بشهوة، فإذا لمس بشهوة يعيد، ما لمس بشهوة لا يعيد، بعضهم قال: لا، لَامَسْتُمُ يعني: جامعتم.
وكذلك اختلفوا في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء: 43]، هل المراد بالصعيد التراب الخالص أم أي جزء من الأرض يصلح للتيمم؟ يعني لو كان وجه الأرض حصى، لو كان صخراً، لو كانت مزروعة، لو قلت: يجب أن يكون ترابًا، فمعنى ذلك أنه لابد أن تقلع الزرع، وتُحفر هذه، تدق الأرض حتى يخرج لك تراب تتيمم عليه، ولو قلت: المقصود الصعيد ظاهر الأرض أيًا ما كان حالها فتضرب على ظاهر الأرض وتتيمم، قلنا: قد يختلفون في فهم النص، وقد يختلفون في ثبوت النص، مثل اختلافهم في زكاة الحلي، هل حلي المرأة فيه زكاة أو لا؟ اختلف العلماء في المسألة فبعضهم قال: تجب فيه الزكاة، وبعضهم قال لا تجب فيه الزكاة، لماذا؟ الذين قالوا: لا تجب الزكاة، قالوا: هذه مستعملات، والمستعملات ما فيها زكاة، ما استخدمه الإنسان لحاجته، وبالتالي لا دليل على الوجوب، الذين قالوا بوجوب الزكاة في الحلي قالوا: لا، ورد حديث عند أبي داود والترمذي أن امرأة جاءت النبي ﷺ وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب يعني سواران قال: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرُّك أن يسورك الله بهما سوارين من نار [رواه النسائي: 2479، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: 2479] قالوا: هذا يدل على الوجوب، وقال الأولون: الحديث ضعيف، وقالت الطائفة الأخرى: بل هو حديث حسن من روايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو حديث حسن لا ينزل عن الحسن.
كفارة إتيان الحائض، من أتى حائضًا هل عليه شيء غير التوبة؟ قال بعضهم: نعم عليه، ورد في حديث عند الترمذي: عليه دينار أو نصف دينار، فقالوا: الحديث يصح، الذين قالوا ما عليه إلا التوبة، قالوا: الحديث لا يصح، وهكذا.
هل هناك سبب آخر للاختلاف؟ حتى نفهم لماذا يقال: هذه مسألة اختلف فيها العلماء، لماذا اختلفوا؟
قد يختلفون لوجود عدة نصوص في المسألة لها نتائج مختلفة، ويختلفون في الجمع بينها، يعني ظاهرها التعارض فيختلفون في الجمع بينها، فمثلًا: هل إذا مسّ ذكره ينقض الوضوء أو لا؟ وردت أحاديث أنه ينقض الوضوء، ووردت أحاديث أنه لا ينقض الوضوء، ثم اختلفوا ما الذي ثبت منها وما الذي لم يثبت؟ قال بعضهم: كلاهما ثابت، لكن هذا متأخر وهذا متقدم، فالمتقدم منسوخ والمتأخر ناسخ، وقال بعضهم: كلها صحيحة، لكن هذا يُحمل على حال وهذا يُحمل على حال، فحديث: إنما هو بضعة منك [رواه أحمد: 16295، والنسائي: 165، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: 165]، يُحمل على ما إذا لمسه بغير شهوة، وحديث: من مسّ ذكره فليتوضأ [رواه أبو داود: 181، وصححه الألباني في الإرواء: 116]، يُحمل على ما إذا لمسه بشهوة.
فإذن، قد يكون السبب أيضًا في الخلاف: اختلافهم في الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، هل هي تُحمل على الناسخ والمنسوخ أو هذه على حال وهذه على حال، أو بعضها صح وبعضها ما صح؟
وأحيانًا يكون سبب الاختلاف أنه لا يوجد نص في المسألة صريح، فيلجئون إلى الاجتهاد والقياس، فلماذا اختلفوا في توريث الجد مع الإخوة؟ لأنه ما ورد نص قاطع في المسألة، ولذلك ورد الخلاف فيها عن الصحابة، هل الجد يحجب الإخوة أو يرثون معه؟ زوجة المفقود؛ واحد سافر واختفى وما ظهر له خبر، هل نقسِّم ماله ميراثًا؟ هل تعتدّ زوجته؟ هناك أحكام ستترتب، نصلي عليه صلاة الغائب مثلًا، هل نحكم بوفاته؟ متى نحكم بوفاته؟ فلذلك حصل الخلاف فقال بعضهم: تتربص زوجته سنة ثم تعتد، وقال بعضهم: تتربص أربع سنين، وقيل: تبقى في عصمته حتى يأتيها خبره بيقين، وقيل: يرجع إلى اجتهاد القاضي، واختار مجمع الفقه الإسلامي في جلسته الأخيرة المنعقدة في محرم الماضي، سنة ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثين، أن القاضي يجتهد بما لا يقل عن سنة ولا يزيد عن أربع، وهذه مسألة وسائل الاتصال فيها مؤثرة، من زمان ما كان هناك جوالات ووسائل الاتصال، فيمكن الواحد يذهب ما يظهر خبره إلا بعد مدة طويلة، الآن يوجد وسائل اتصال، فلو مات سيظهر خبره بسرعة، ليس مثل أيام التاريخ مما مضى.
الخلاف الواقع بين العلماء هذا كما قلنا ليس في كل المسائل؛ لأن هناك مسائل أجمعوا عليها، وهناك مسائل الخلاف فيها غير معتبر، فالقول الآخر يعتبر قول ساقط غير لا وزن له، والذي اختلفوا فيه مسائل فيها خلاف معتبر لابد يعرف العامي ماذا يفعل في هذه المسائل.
التفاوت بين أفهام العباد
الله فاوت بين أفهام العباد، وبالتالي ستكون أنظار الناظرين في الأدلة وأنظار المجتهدين متفاوتة، فإذن، لابد أن يقع اختلاف؛ لأن الله فاوت بين العلماء في إراداتهم وأفهامهم وإدراكاتهم، ولذلك ليس وقوع الاختلاف بحد ذاته شيئًا مذمومًا بحيث نأتي ونقول: لماذا اختلفوا؟ وما هذا الفوضى؟
نقول: لا، هذا شيء اقتضته حكمة الله، كان الله خلق العقول كلها مثل بعضها، وتفكّر مثل بعض ونتائج التفكير مثل بعض وانتهينا، لكن الله له حكم؛ فاوت بين عقول العلماء، والله جعل الحق واحدًا، فيتبين فضل من يصيبه، فتتفاوت درجاتهم عنده، هذا أصاب له أجران، هذا اجتهد ما أصاب له أجر، له أجر الاجتهاد، الأول له أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، فإذن، ليس الخلاف السائغ بمذموم، والقصد عندهم واحد؛ طاعة الله ورسوله، والنظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل شيء، لكن عقولهم مختلفة وإدراكاتهم مختلفة وأنظارهم متفاوتة، ولذلك وقع التفاوت في النتائج، إذن، الاختلاف بحد ذاته في الأحكام وليس في العقيدة، في الأحكام، هذا شيء طبيعي، ونحن نرضى به ونسلّم، والمذموم ليس الاختلاف، المذموم التفرُّق، فالتفرُّق هو المذموم، ولذلك الشريعة ذمّت التفرُّق ولم تذم الاختلاف إلا إذا فرّق، تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران: 105]، اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا [الجاثية: 17]، ما هو اختلفوا اجتهادًا، قال ابن القيم - رحمه الله -: "وهذا النوع من الاختلاف - يعني الاختلاف السائغ - لا يوجب معاداة ولا افتراقًا في الكلمة ولا تبديدًا للشمل، فإن الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع، كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي بعض المسائل المتعلقة بالربا، وفي بعض نواقض الوضوء وموجبات الغسل، وفي بعض مسائل الفرائض، فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كان كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الأُلفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يُضمر بعضهم لبعض ضِغنًا ولا ينطوي له على معتبة ولا ذنب" [الصواعق المرسلة: 2/518].
قال يونس الصدفي - رحمه الله -: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة، علّق الذهبي - رحمه الله- : هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون" [سير أعلام النبلاء: 10/16].
لكن السؤال الآن العملي: ما هو موقف العامي أمام هذا الاختلاف؟ ما هو واجبه ماذا يلزمه بقول من يأخذ؟
هل يأخذ بالأسهل؟ هل يأخذ بما وافق هواه؟ هل يأخذ بالقُرعة؟ هل يأخذ بما وافق تفكيره هو؟ هل يستفتي قلبه أم ماذا؟ نقول: أولًا ما المراد بالعامي؟ ومنهم أهل الذكر؟ وهذه مسألة تحريرها مهم للغاية:
العلماء يقسّمون الناس إلى قسمين: القسم الأول: القادرون على النظر في القرآن والسنة، ولديهم القدرة على الاستنباط من الأدلة مباشرة بما آتاهم الله من العلم والفهم والملكة، وبما عندهم من الأدوات، العلم باللغة العربية، العلم بأصول الفقه، العلم بمصطلح الحديث وهكذا، فهؤلاء واجبهم النظر، لماذا جعلهم الله علماء؟ لماذا؟ هي ميزتهم إذن، ما هي وظيفتهم؟ رجل آتاه الله علمًا ما هي وظيفته، لما آتاه الله العلم؟ وظيفته النظر في الأدلة في الكتاب والسنة، يستخرج الأحكام، هؤلاء أهل الذكر الذين أمرنا بالرجوع إليهم.
الصنف الثاني من الناس: أكثر الناس الذين ليس لديهم قدرة على الاستقلال للنظر في القرآن والسنة، يعني ما يستطيع أن ينظر وحده، وإنما سيعتمد في الفهم على أهل العلم، كل من سوى العلماء هم عامة عند أهل العلم لكنهم درجات، فالعامي إذن الذي ليس عنده أهلية لاستخراج الأحكام من النصوص مباشرة، لأنه قد لا يكون عنده علم باللغة العربية، قد يأتي إلى آية فلا يعرف معنى الكلمة أصلًا، وقد يعرف معنى الكلمة، لكن لا يستطيع أن يستخرج من الآية حُكمًا، قد يعرف المعنى الإجمالي لكن لا يستطيع أن يستخرج، إذن كل من سوى أهل الذّكر عامة، ومعنى ذلك أن أي واحد ليس من أهل الذكر ولو كان متخصصًا في علم آخر فهو بالنسبة لاستخراج الأحكام عامي، فقد يكون عنده دكتوراه في الطب، ودكتوراه في الهندسة، ودكتوراه في الجيولوجيا ودكتوراه في الفلك، ويعتبر أستاذ بروفيسور في جراحة القلب، لكن بالنسبة لقضية استخراج الأحكام من الآيات لابد له من أهل الذكر ليدلوه عليها، وهذه مسألة تحتاج إلى تواضع؛ لأن الإنسان قد تغره شهادته العلمية فيقول: أنا الآن الناس يسألوني في الأدوية والأمراض، وأنا ما أستطيع إن أفهم آية آخذ منها أحكام، لماذا؟ العلماء عندهم عقول ونحن عندنا عقول، المسألة ليست قضية عقول فقط، لو كانت عقول فقط كان قسمنا الناس إلى عقلاء ومجانين وقلنا للعقلاء: استخرجوا الأحكام، ليست المسألة هكذا، المسألة تحتاج إلى علم باللغة العربية وعلوم القرآن وأصول التفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه، حتى يستطيع الواحد يستخرج؛ لأنه ممكن يفهم حكماً بعد ذلك يكون منسوخاً، ربما يكون حكمًا ثم يظهر هذا عام، لكن هناك شيء خصصه، هذا مطلق لكن هناك شيء قيده وهكذا، والمراد إذن بكل من ليس بمجتهد عامي، وجعل بعض العلماء رتبة بين العامي والمجتهد وهي مرتبة الاتباع الذين يأخذون بقول العالم مع معرفة دليله، ويقولون: العامي الذي يأخذ قول العالم ولا يعرف دليله، وطالب العلم وسط بين المجتهد والمقلّد، لكن لا يستطيع أن يجتهد ويستخرج أحكامًا من الأدلة مباشرة ويعمل بها هو أو يفتي بها غيره، ولكن يفهم كيف أخرجها العلماء ما دليل العالم عندما قال بهذا الكلام؟ وهذا الفرق بينه وبين المقلّد، ويلزم عامة المسلمين الرجوع إلى أهل العلم في كل نازلة، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] ، فلابد إذن للعامة أن يقلدوا العلماء، وإذا نزلت نازلة أن يرجعوا إليهم، لأن الله أمر بالرجوع، ولا يحق للعامي في أي حال من الأحوال أن يفتي نفسه ولا غيره، قال ابن عبد البر - رحمه الله -: "لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفُتيا، وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم، ولذلك حرّم الله الفواحش وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" [جامع بيان العلم وفضله: 2/989].
والله قرن القول عليه بغير علم بالإشراك.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكان شيخنا شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلتَ محتسبًا على الفتوى؟" [إعلام الموقعين: 4/167].
يعني أنت جعلت من وظائف المحتسبين منع ومعاقبة من يفتي بغير أهلية، فقال: "يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ ولا يكون على الفتوى محتسب"، لأن الاحتساب الذي يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما كان عندهم فقط أن يقال للناس: صلّوا، ومنع المعاكسات، والمنكرات الظاهرة التي في الشارع، الاحتساب كان دقيقًا وعميقًا؛ بمعنى أن صاحب الذهب الذي يغش هناك عليه احتساب، والخباز الذي ينقص في الوزن، هناك عليه احتساب، والطباخ الذي يغش اللحم هناك عليه احتساب، فالاحتساب كان شاملاً للمهن والمحلات، والاحتساب شامل على الرقابة المالية، يعنيمثلًا: هل طُرحت هذه المناقصة بشكل نزيه وأخذ فعلًا صاحب أقل سعر بكامل المواصفات؟ كان هناك احتساب على المقاولين، هل هذا المقاول غش، هل نسبة الحديد كاملة؟ وهكذا، فالاحتساب هذا باب شرعي واسع جدًا، فشيخ الإسلام جعل احتسابًا في الفتوى، بمعنى هناك من يؤدّب الذي يفتي وهو ليس بأهل، انظر الآن هذا الباب العظيم من أبواب الدين، من يحتسب عليه؟ من الذي يعاقب اليوم من يفتي بغير علم؟ كثيرون يفتون بغير علم في الشوارع وفي الفضائيات، ولا أحد يحاسبهم، فإذن، الاحتساب، قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قضية ضخمة كبيرة جدًا، واسعة، ليست محصورة في قضية فقط أمر الناس بالصلاة، لا، ولما تخلّفت الأمة في الاحتساب كثُر الغش في المقاولات، كثُر الغش في الصناعات، كثُر الغش في البيع والشراء في المحلات، غش في أشياء كثيرة.
الإنكار على المخالف، ليس من حق العامي إذا أخذ غيره قول شخص مجتهد أن ينكر عليه؛ لأن الآخر هو قد يكون سأل شخصًا وذاك سأل شخصًا آخر، كما قال شيخ الإسلام: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه" [مجموع الفتاوى: 20/207]، ولذلك العامي قد يسأل عالماً: ما حكم الصلاة بعد العصر؟ فيقول له: لا توجد صلاة، فيقول حتى لو دخلت المسجد؟ يقول: حتى لو دخلتَ المسجد، فيدخل المسجد ويجلس فيأتي عامي آخر يدخل ويصلي ركعتين بعد العصر، فيجي العامي الأول ينتظره حتى إذا انتهى أمسك بتلابيبه: كيف تصلي بعد العصر؟ فقال: أنا سألت العالم الفلاني، وقال: إذا دخلت المسجد بعد العصر أصلي ركعتين، قال:لا، ما يحق لك، وكيف؟ هذا خطأ من العامي الآخر، خطأ واضح جدًا، فإنه لا يجوز للعامي أن ينكر على العامي الآخر إذا سأل أحدًا من أهل العلم المعتبرين؛ لأنه سأل عالماً مذهبه أو اجتهاده أن ذوات الأسباب تُفعل في وقت النهي، وتحية المسجد من ذوات الأسباب فتُفعل في وقت النهي، والأول سأل عالماً يرى أن بعد العصر، أو الصلاة في أوقات النهي ممنوعة، حتى التي لها سبب، إذا دخل المسجد يجلس بلا صلاة، فلا يجوز لهذا أن ينكر على هذا، ولا يجوز لهذا أن ينكر على هذا، إذا سأل كل واحد منهما معتبرًا من أهل العلم.
قال سفيان الثوري - رحمه الله -: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه"
[حلية الأولياء: 6/368]. قال إسماعيل بن سعيد الشارنجي: سألت أحمد هل ترى بأسًا أن يصلي الرجل تطوعًا بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة - يعني لا زالت متوهجة قوية - قال: "لا نفعله ولا نعيب فاعله"، لا نفعله، نحن ما نصلي، لكن لو جاء واحد وصلى، والشمس قوية حية، لا نعيب فاعله.
قال ابن رجب: "وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه، بل رأى أن من فعله متأولًا أو مقلدًا لمن تأوله لا يُنكر عليه، ولا يعاب قوله؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ"
[فتح الباري لابن رجب: 5/49].
مما يجب على العامي أن لا يتابع الشذوذات وأخطاء العلماء إذا عرف أنها أخطاء وشذوذات، فإذا كان شخص ولو كان عنده علم، ولو كان صاحب علم، شذ في مسألة، خرج عن إجماع، خالف القواعد، خالف النصوص الصحيحة، وخالف القياس الجلي عند العلماء الآخرين، فلا يجوز لمقلّده أن ينقله للناس؛ لأن هذا القول يعتبر زلة ويعتبر شاذ، فإذا عرف العامي أن هذا القول شاذ، فلا يجوز له الأخذ به ولا نقله، وسبب هذه الشذوذات أنه أحيانًا يذهب واحد من أهل العلم مذهبًا مخالف لبقية أهل العلم بسبب طريقة تفكير معينة، رأي، وهذه الزلات لا يجوز العمل بها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مسألة -والعياذ بالله- نكاح الرجل بنته من الزنا، قال: "ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين، لا على وجه القدح ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضرب من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة" [الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3/201].
إذن، لو ورد قول شاذ مثل هذه أو مثل أكل البرد في نهار رمضان، ورد عن بعضهم واحد أو اثنين لكنه قول شاذ، مثلًا جواز الأكل في رمضان بين الفجر وطلوع الشمس، ورد، لكن ما له قيمة، قول شاذ، مخالف للكتاب والسنة وكلام العلماء والإجماع، فلذلك ما يجوز نقلها، ولا العمل بها إطلاقًا.
مثلًا إعارة الجارية للوطء، هل يجوز إذا واحد عنده جارية وجاءه ضيف يقول له: خذها بت معها الليلة، هذا قول شاذ، وقول سخيف، لا يجوز نقله ولا العمل به وهكذا، يوجد من ضمن هذه الأقوال كثير، المشكلة أنه من قبل قد يروى قول شاذ عن واحد عالم فعلًا، ومع ذلك العلماء يحذرون من هذا القول ولا يجيزون العمل به ولا نقله، لكن في زمننا الأقوال الشاذة عن الجهال، مشكلة زماننا هذا تأني تفتح قناة ربما تجد واحداً من أجهل خلق الله، وإذا ارتفعت أسعار الخراف جازت التضحية بالدجاج، من يقول من أهل العلم بأن الدجاج يُضحّى به؟ لكن هذا واحد جاهل من أجهل خلق الله، فالمشكلة الآن في هذا الزمن يوجد أقوال شاذة من الجهال، وكثيرة، ومعممة، وفضائيات، وتُنقل وينقلها المنافقون في صحفهم وفي قنواتهم، لكن لو ورد قول شاذ عن عالم وليس عن جاهل، الجاهل يسقط هو والشذوذ تبعه، لو ورد قول شاذ عن عالم ما موقفنا نحن؟ هل نشنّع عليه؟ لا، هل نسقطه بالكلية لأجل هذا القول الذي قاله، قول ومسألة قال بها؟ لا، قال الذهبي - رحمه الله -: "ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثُر صوابه وعُلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعُرف صلاحه وورعه واتباعه يُغفر له زلَلُه ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه"
نعم، لا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك، هذا الموقف إذن.
قال شيخ الإسلام: "إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالحة وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عُليا قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل مأجور" يعني مجتهد مخطئ، "لا يجوز أن يُتبّع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين" [الفتاوى الكبرى: 6/93]، هذا موقفنا في هذه الحالة.
هناك مسألة فيها عدة أقوال ما هو موقف العامي؟ وهل يجوز له الانتقال بين العلماء؟ مثلًا يسأل هذا ما أعجبه يسأل آخر ما عجبه يسأل ثالثاً، أحيانًا تأتي مجلس إدارة شركة يريدون المعاملة الفلانية فيسألون شيخًا فيقول: لا يجوز، الثاني: لا يجوز، فيسألون ثالثًا ورابعًا وخامسًا حتى يخرجوا بواحد يقول: يجوز، هل هؤلاء يريدون العمل بالكتاب والسنة؟ لا، هل هؤلاء يريدون الحق؟ لا، هؤلاء يريدون أن يعملوا بهذه، توصلوا إلى واحد بزعمهم يأخذ عنهم الإثم، وإلا فهم سيفعلونها، فقط يبحثون عن واحد يضعونها في رقبته، علمًا أن هذا لا ينجيهم من الإثم، ولو وجدوا واحدًا ما ينجيهم من الإثم، وإنما يكونون هم وإياه شركاء في الإثم، بل قد يكون هو مجتهد، لا يأثم، وهم يأثمون؛ لأنهم يتتبعون الرخص، هو يريد من يجوّز، هو يريد من يحللها، كل هذا اللف والدوران، وكل هذه الاتصالات على المشايخ، وكل هذا الجريان حتى يخرج بواحد في النهاية يقول له: يجوز، ولذلك لو وجد الذي يقول له: يجوز، ما يسأل الذي بعده؛ لأنه وجد المطلوب، وهو أن يجد واحداً يفتيه بالجواز، فمثل هذا غير معذور عند رب العالمين، وهو آثم على فعله، ولا يقال: أنه رجع لأهل العلم، لا، بل هو متبّع لهواه، يريد القول الذي يهواه، وسوف يظل يسأل حتى يجد من يتابعه في هواه.
وبعض الناس إذا علم أن المسألة فيها خلاف يتخير الأقرب لهواه، يقول: ماهي الأقوال؟ فيقولون: هناك قول يجوز، وقول ما يجوز، أنا مع الذي يجوز، ما هذا؟ قال الشاطبي - رحمه الله - : "ليس للمقلّد أن يتخير في الخلاف" [الموافقات: 5/435]، وبعض الناس اليوم عندهم هذه الآفة - سبحان الله - متأصّلة، عنده المسألة إذا كان فيها قولان يعتبر نفسه مخير، وهذا من الضلال العظيم، فإن ذلك يفضي إلى تتبع الرخص ومخالفة الأدلة.
قال سليمان التيمي - رحمه الله -: "لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله" [جامع بيان العلم وفضله: 2/927].
وقال الذهبي: "من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رقّ دينه" [سير أعلام النبلاء: 7/176].
وقال إسماعيل القاضي: "دخلتُ مرة على المعتضد فدفع إليّ كتابًا فنظرتُ فيه فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء: يعني واحد يريد يتقرب إلى السلطان ذهب جمع له كل الرُّخص في كتاب، أّلف كتابًا فيه كل شيء: جائز، جمعها كلها، التزلُّف إلى السلطان يؤدي إلى هذا، إسماعيل القاضي - رحمه الله - لما دخل على الخليفة ورأى الكتاب عنده قال له: مصنّف هذا الكتاب زنديق" [سير أعلام النبلاء: 13/465].
والأوزاعي - رحمه الله - قال: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام" [سير أعلام النبلاء: 6/552].
والنوادر: الشذوذات.
بعض الناس يطلق زوجته ثم يذهب يسأل واحدًا بعد واحد، هذا يقول: الطلاق واقع، وهذا: الطلاق واقع، وهذا يقول: الطلاق واقع، حتى يصل إلى واحد يقول له: الطلاق لا يقع فيأخذ برأيه، وربما يجد واحداً يقول له: ممكن ترتد ثم تسلم حتى يسقط، وإذا قضى الله عليه بالموت بعد الردة وقبل ما يسلم، بعض الناس فعلًا لأجل أن يوافقوا الأهواء يأتون بالعجائب.
الموقف الشرعي من مسألة: الخروج من الخلاف
مسألة الخروج من الخلاف، ما هو موقفنا منها؟
نصّ العلماء على مشروعية الخروج من الخلاف، لكن ما معنى الخروج من الخلاف؟ يعني: بفعل ما اختُلف في وجوبه وترك ما اختلف في تحريمه، لو قال لك واحد: أنا أريد أخرج من الخلاف، كيف أخرج من الخلاف؟ نقول: بفعل ما اختُلف في وجوبه، وترك ما اختُلف في تحريمه، فإذا كنت تريد أن تخرج من الخلاف، تكون أنت في جانب الاحتياط دائمًا، الشيء المختَلف في وجوبه اعمله، والشيء المختلف في تحريمه: لا تقع فيه.
قال الزركشي - رحمه الله -: "يُستحب الخروج منه - يعني من الخلاف -، باجتناب ما اختلف في تحريمه وفعل ما اختُلف في وجوبه"، قال الملا على القاري - رحمه الله -: "الخروج من الخلاف مستحب بالإجماع" [مرقاة المفاتيح: 5/1757]، مثال: واحد يريد أن يبني بيتًا، المكتب الهندسي -هدى الله أصحاب المكاتب الهندسية وروادها وغيرهم من المسلمين إلى الحق- ما يفكر عندما يصمم بيتاً فيه حمامات ويرسم مقعد الحمام؛ لأنها تأتي في رسمة الخريطة، ما يفكر في قضية كراسي الحمامات هذه إلى القبلة عند الاستقبال أو الاستدبار، القبلة تكون أمام الكرسي أو خلف الكرسي ما يفكر، هذا هو الفرق بين المعماري الذي يتقي ربه أو الذي عنده فقه، وغيره، المعماري الذي عنده فقه إذا رأى القبلة شمال جنوب، ما يجعل الكرسي شرق غرب، حتى لا يقع في مسألة استقبال واستدبار القبلة، وهذه المسألة خلافية، في بعض العلماء قالوا: الحرام في الفضاء، أما في البنيان ليس حرام، وبعض العلماء قالوا: ما يجوز الاستقبال والاستدبار حتى في البنيان، لو أنت تريد أن تخرج من الخلاف ماذا تفعل؟ توصي المهندس الذي صمم لك البيت أن ما يضع كرسي الحمام مستقبلًا أو مستدبرًا القبلة.
لو كان هناك قول من أقوال أهل العلم أنه يجوز صلاة الجمعة قبل الزوال، وأنت إمام مسجد وتريد أن تخرج من الخلاف ماذا تفعل؟ ما تصلي الجمعة ولا تخطب إلا بعد الزوال.
لو أهل العلم اختلفوا في إرجاع الزوجة، واحد طلّق زوجته طلقة أو طلقتين ويريد يرجعها، قال بعض العلماء: يجب الإشهاد على الرجعة، لا بد أن تأتي باثنين من المسلمين تقول: أشهدكما أنني راجعت زوجتي فلانة، وقال آخرون: هذا مستحب وليس بواجب، لو أردت أن تخرج من الخلاف ماذا ستفعل إذا أردت مراجعة الزوجة؟ تشهد اثنين من المسلمين، لو كانت المضمضة والاستنشاق مستحبة عند بعض العلماء، وواجبة عند غيرهم كالحنفية والحنابلة تتمضمض وتستنشق، ولو كانت التسمية قبل الوضوء واجبة عند الحنابلة، مستحبة عند غيرهم تسمّي قبل الوضوء، الآن عندما تصير المسألة فيها خلاف، هل كلا القولين صحيح عند رب العالمين، أو الصحيح واحد؟ السؤال مرة أخرى: لو كانت المسألة فيها خلاف وفيها أقوال، هل الحق عند الله واحد أو ممكن تكون كلها عند الله صحيحة؟ الحق عند الله واحد، ولذلك فإن التحري هنا تظهر أهميته للذي يميز بين الأقوال، طالب العلم يتحرى، ما معنى عبارة: كل مجتهد مصيب؟ نقول: يعني أدى واجبه، اجتهد وعنده قدرة على الاجتهاد، عنده آلات الاجتهاد، لا أن قول كل مجتهد صحيح، فلا شك أن الحق واحد في المسائل الخلافية، قال ابن قدامة - رحمه الله -: " الحق في قول واحد من المجتهدين، ومن عداه مخطئ، سواء كان في فروع الدين أو أصوله، والدليل من القرآن قال تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 78، 79] ، فلو استويا في إصابة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى، إذن داود حكم وسليمان حكم، وحكمهما مختلف، قال تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ، فإذن، ليس واحدًا ليسوا كلهم صح، الآن يوجد أختان كل واحدة عندها رضيع خرجتا إلى البر، وضعتا ولديهما بجانبيهما فعدا الذئب على ولد إحداهما فأخذه، فاختصمتا في الولد الباقي، كل واحدة تقول: إنه لي، فالكبرى حملته مع الصغرى جاءتا إلى داود فسمع منهما فقضى به للكبرى، ممكن يكون قضى به؛ لأنه رآه بيدها، والأصل أن الشيء لمن هو بيده، إذا لم يكن هناك شيء آخر، هناك قاعدة فقهية: الأصل أن الشيء لمن هو بيده، فقضى به للكبرى، لما خرجتا على سليمان سألهما ما الأمر؟ قالتا: كذا كذا كذا كذا، قال: هات السكين أشقُّه بينكما، فقالت الصغرى مباشرة: هو ولدها يرحمك الله، فقضى به للصغرى؛ لأن هذه عندما رأت أن المسألة ستصل إلى السكين، تأخذه أختي ولا يموت الولد، فاستخرج العاطفة من الأم الحقيقية، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء: 79]، فإذن، هو أكيد الولد لواحدة إما لهذه أو لهذه، ليس الحكم هذا صح، والحكم هذا صح، لا، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ، إذن، قوله ﷺ: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر [رواه البخاري: 7352، ومسلم: 1716]، يدل على أن المجتهدين أحدهما مصيب والآخر مخطئ أكيد بالتأكيد.
قال ابن القاسم: "سمعت مالكًا والليث وابن سعد يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ: إنما هو خطأ وصواب"، وهناك كلام لإسماعيل القاضي مهم للغاية يقول: "إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن تكون توسعة لئن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، هذا يجيب على سؤال ماذا يعني اختلاف أمتي رحمة، ما معناها؟ أين الرحمة؟ وأنا ما أتكلم عن كونه حديثاً أو لا، هذه عبارة مشهورة، ماذا يعني اختلاف الأمة رحمة؟ الرحمة في الاجتهاد، يعني أن الله أباح للمجتهدين أن ينظروا ويتكلموا ويستخرجوا، وليس معناه أن كل أقوال المختلفين صح، أبدًا بأي حال، مثل لمس المرأة ينقض الوضوء أو لا؟ فيها أقوال: أولًا: أنه ينقض الوضوء بكل حال إذا لمس، ثانيًا: إذا لمس بشهوة ينقض، ثالثًا: إذا خرج منه شيء ينقض وإذا ما خرج ما ينقض.
ما المقصود؟ واحد الصحيح منها، الباقي خطأ بالتأكيد، لكن علمه من علمه وجهله من جهله، والرحمة في الموضوع: أن الله أباح للعلماء النظر والاجتهاد، وهناك عامة سيأخذون بقول هؤلاء، وعامة سيأخذون بقول هذا، وعامة سيأخذون بقول هذا؛ لأنهم كلهم أئمة مجتهدون وليس المقصود أن كلها صح أبدًا، ومنهم أهل الذكر، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43]، يشترط في الإنسان حتى يكون من أهل الذكر شرطان:
أولًا: العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها؛ لأن المفتي سيخبر عن الله، يقول: إن الله أحلّ كذا، وإن الله حرم كذا، ولا يمكن أن يخبر عن حكم الله وهو جاهل، فهذا العالم له شروط، حتى يجوز له أن ينظر ويجتهد ويستخرج، وحاصل ما ذكروه في هذا الباب خمسة، خمسة شروط: أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة والصحيح والضعيف منها، يعني من الأحاديث.
وأن يكون عارفًا بمسائل الإجماع، حتى ما يخالف الإجماع، لا بد أن يكون يعرف مسائل الإجماع.
وأن يكون عارفًا بلسان العرب، حتى يستطيع يفهم، لما نقول مثلًا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة: 222] يطهرن هذا الفعل أصله طهُر ثلاثي يطهر يطهرن، " تَطَهَّرْنَ " هذا فعل خماسي، تطهّر، تطهّرن، ما الفرق بين يطهُرن وتطهرن؟، يمكن يأتي واحد يقول: لا يوجد فرق ما يعرف، "يطهُرن" بدون سبب منهن بدون فعل منهن ، هذه خارجة عنها، شيء يقع بدون فعل منها، وهو انقطاع الدم، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ تطهرن يعني: بفعل منها، وهو الغسل، فرتب الله إتيان الحائض على أمرين: انقطاع الدم " يَطْهُرْنَ "، والاغتسال " تَطَهَّرْنَ "، فلا يجوز إتيانه إلا بعدهما، فإذا انقطع الدم لا يجوز إتيانها ولو اغتسلت، وإذا اغتسلت ما يجوز إتيانها حتى ينقطع الدم، فإذن، لابد ينقطع الدم ولابد تغتسل، لازم يحصل الشرطان يطهرن ويتطهرن، فلو انقطع الدم وما اغتسلت ما يجوز أن يأتيها، وإذا اغتسلت وما انقطع الدم ما يجوز أن يأتيها، قالوا: العلم بمسائل الإجماع، العلم بلسان العرب، العلم بأصول الفقه، والناسخ والمنسوخ، وهذا داخل في أصول الفقه، فمن توفرت فيه هذه الشروط فهو العالم الذي يجوز له أن يجتهد.
الشرط الأول: العلم، العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها وقلنا أن فيه هذه الشروط الخمسة.
الشرط الثاني: العدالة، يعني لا بد أن يخاف الله، لابد أن يكون ورعًا، قال النووي - رحمه الله -: "واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه"، فلو واحد عبقري بالفقه، في الذكاء والفهم والحفظ شيء، لكنه فاسق ممكن يبيع دينه بعرض من الدنيا، فلا يجوز استفتاؤه، فما هو فقط لازم يكون عنده فقه وفهم وعلم و... لا، ولازم يكون أيضًا يخاف الله، فمن توافر فيه الشرطان جاز استفتاؤه"، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، الخشية، تقوى الله لابد منها.
وظيفة العامي أن يبحث عن الشخص الذي يتوفر فيه هذان الشرطان ليستفتيه، أنت تأتيك مسائل مالية، مسائل في الطهارة، في الصلاة، في الزكاة، في الحج، في الصيام، في الطلاق، في البيع، تأتيك مسائل ستسأل، ستسأل من؟ العالم الرباني، قال شيخ الإسلام: ولا يجوز الاستفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل، علم وتقى، لابد علم وتقى، ومن هنا لابد أن يحذر الناس من الاستفتاء أو استفتاء من ليس بأهل لذلك، والنبي ﷺ قال: إن من أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين [رواه ابو داود: 4252، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2316]، يهدمون الدين بزلاتهم وجدالهم وبيعهم لدينهم بعرض من الدنيا.
أنواع العلماء في الفتوى
"المفتون ثلاثة": مفت يبتغي رضا عامة الناس، كل همه أن يقول للناس، خذوا حلالاً، ومع الأسف في هذا الزمان كثروا، ناس يريد أن يعمل شعبية لنفسه، كيف يعمل شعبية لنفسه؟ كيف يكسب رضا أكبر قدر من الناس؟ كيف يكسب أكبر أتباع؟ أن يكثر من قول: ما فيها شيء، يجوز، مباح، حلال، مع الأسف أن بعض الناس اليوم لأجل كسب الشعبية وكثرة الأتباع يفتي بالإباحة، ما دليلك؟ الدين يسر، الدليل صحيح والفتوى باطلة، "ومفت يبتغي رضا السلطان" وهذا في الحقيقة ليس ممن يخاف الله، وليس بعدل، لأنه لا يبتغي رضا الله، ولذلك ممكن يحلل الربا في بلد، ويحلل التمسح بالأضرحة في بلد، ويحلل الاختلاط في بلد، لأن هدفه رضا السلطان، الثالث: مفتي يبتغي وجه الله، رضا الله، قال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [الأحزاب: 39]، تأمل الآية عظيمة جدًا جدًا، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ينشر العلم ينشر العلم وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا .
كيف يعرف العامي أهل الذكر؟ لو جاء واحد قال: أنا عامي ما عندي علم، كيف أعرفهم؟ أنتم تقولون شروطًا، أنا كيف أعرف هذا؟ فنقول: لازم تحتاط لدينك على قدر طاقتك، أنت عليك تسعى تسأل الثقة، قد تخطئ ممكن ما تصل وربك يعذرك؛ لأنك حاولت، ممكن ما وصلت لنتيجة صحيحة، لكن على الأقل أنت معذور عند رب العالمين أنك بذلت قدرتك وجهدك في الوصول إلى عالم ثقة ولو ما نجحت، لكن لابد أن تسعى، العامي ما يعرف في العلماء، لا يعرف في أصول الفقه، كيف يعرف؟ هو لا يحفظ الأدلة ما يدريه أن هذا عالم أو ليس عالماً، طالب علم أو بلغ رتبة الاجتهاد أو ما بلغ، نقول: هناك قرائن تفيد العامي في هذا:
أولًا: أن يشتهر الشخص بالعلم والفتوى عند أهل الدين، لاحظ؛ أن يشتهر أن هذا عالم عند أهل الدين، فكلما جاء إلى واحد يخاف الله يقول له: مثل العلماء من؟ يقول: فلان من العلماء فيجد أنه مستفيضًا عند أهل الدين أن فلاناً من العلماء.
ثانيًا: أن يثني العلماء عليه.
لو واحد قال: مثلًا الشيخ ابن باز، ابن عثيمين، أي واحد من العلماء المعاصرين كيف عرفنا أنهم علماء؟ نحن ما عندنا علم كيف عرفنا أنهم علماء؟ نقول: استفاض واشتهر عند أهل الدين، هؤلاء العلماء زكوا شخصًا قالوا: ارجعوا إلى فلان فتزكيتهم وثناؤهم، هذا طريق آخر لمعرفة من الذين نستفتيهم، قال الإمام مالك: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون إني أهل لذلك" [حلية الأولياء: 6/316].
فإذن، الاشتهار والاستفاضة عند أهل الدين أن فلاناً عالم هذه طريقة نعرف فيها، ثانيًا: ثناء العلماء على شخص وتزكيتهم له.
سؤال: هل الخروج في الفضائيات دليل على أن فلاناً عالم؟ أبدًا والله الذي لا إله إلا هو، وأقسم بالله العظيم، أن الخروج في الفضائيات ليس دليلًا على أن فلاناً عالم، حتى لو سئل فيها، الكاميرا لا تؤهّل الشخص للفتيا، الأضواء لا تؤهّل الشخص للفتيا، مجرد الشُّهرة لا تؤهّل الشخص للفتيا، مجرد الشهرة، هل لبس البشت يؤهّل واحد أن يكون عالماً؟، لا والله ليس كذلك، ابتلينا بناس يقول: أنا لا أفتي، لكن رأيي إن هذا جائز، أنت ماذا فعلت؟ أنت الآن أفتيت بالصريح تقول: أنا لا أفتي لكن هي جائزة، وكذلك نقول: هل المنصب دليل على إباحة الاستفتاء وأن فلانًا مؤهل للفتيا؟ الجواب: كذلك لا، ليس مجرد المنصب الديني دليلًا على أنه مجتهد.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وهذا الضرب - يعني ممن يتزيا بزي العلماء وليس منهم - إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية، فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل من فتيا أو قضاء استحق اسم الذم، ولم يحل قبول فتياه ولا قضاؤه" [إعلام الموقعين عن رب العالمين: 4/160].
إذن مجرد المنصب ليس دليلًا قد يكون مؤهلًا وقد لا يكون مؤهلًا.
كون الشخص إماماً أو خطيب جمعة هل هذا بحد ذاته يدل على أهليته للإفتاء؟ ، لا، ليس كذلك.
الشهادة، لو واحد مثلًا عنده دكتوراه في الشريعة هل معناها أنه بلغ رُتبة الاجتهاد وأنه يستفتى؛ لأن عنده دكتوراه؟ لا، قد يكون وقد لا يكون،قد لا يكون عنده شهادة شرعية مؤهل للفتيا، وقد يكون عنده شهادة وغير مؤهّل، بعض الناس يظن أن حملة الشهادات العليا مؤهّلون حتى لو كان في الطب والهندسة، نقول: هذا من أغرب الغرائب، فليس كذلك يا جماعة، الاستفتاء في الحلال والحرام، غير أن تستفتي في الدواء والعلاج، ذاك من أهل الذكر في الطب، لا من أهل الذكر في الفقه، ممكن واحد يكون من أهل الذكر في الهندسة، لكن ليس من أهل الذكر في الفُتيا والفقه.
لو واحد يلازم المسجد دائمًا، صاحب قيام ليل، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكثرة الختمات والاعتكاف والأذكار، هل هذا دليل على أنه هو مؤهل للفتيا؟ لا، ليس العابد مؤهلًا للفُتيا بالضرورة.
يسأل بعض الناس يقول: هل الأخذ بفتوى العالم واجب؟ أنا ذهبت وسألت، هل يجب علي أن آخذ بفتواه؟
قال ابن الصلاح - رحمه الله -: "والذي تقتضيه القواعد أن نفصّل فنقول إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يجد مفتيًا آخر لزمه الأخذ بفتياه، ولا يتوقف أيضًا على سكون نفسه إلى صحته في نفس الأمر، فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به، وإن لم يتبين ذلك له لم يلزمه ما أفتاه به بمجرد إفتائه" [أدب المفتي والمستفتي: 166].
فإذن يلزم الإنسان أن يعمل بالفتيا: إذا تبين له أن الذي أفتاه هو الأعلم والأوثق يلزمه لزومًا ولا يجوز أن يسأل غيره. وإذا كان وجد أن غيره أعلم وأوثق فهل يلزمه أن يأخذ بفتوى الأول؟ لا، له أن يسأل الثاني، لو سأل مفتياً ثقة لكن قلب المستفتي ما ارتاح، هل يجب عليه أن يسأل ويسأل ويسأل حتى يرتاح قلبه؟ لا، نقول: قلبك ليس معياراً، هذا إذا أفتاك انتهينا، إذا كان ثقة تعمل بفتواه، وما تنتظر تقول: حتى أرتاح؛ لأنه قد يكون نفسك فيها شيء، قد يكون القلب فيه خلط، متى يستفتي الواحد قلبه؟ إذا ما وجد أحدًا يفتيه، كان في بادية ما عنده وسيلة اتصال، فبعض الناس يفهم أن: استفتِ قلبك يعني اسأل وانظر قلبك؛ إذا ارتاح اعمل إذا ما ارتاح لا، معناها حكّمنا قلب العامّي في الموضوع وصار الميزان قلب العامّي، وقلب العامّي هو الفيصل، وهذا لا يصح، إذا وجد المستفتي أكثر من عالم، وكلهم عدول فيستفتي من شاء، إذا كان كلهم سواء، لا يوجد واحد أعلم، كلهم سواء يستفتي من شاء ويعمل بفتياه، وورد عن الصحابة ما يدل على استفتاء من تيسر استفتاؤه، وعدم لزوم الذهاب والسفر إلى واحد أعلم في مكان آخر، ما دام هذا مؤهل يستفتى.
هل للعامي أن يستفتي أكثر من عالم؟
الأصل أنه لا يستفتي أكثر من عالم إلا لسبب، مثلًا قدّر أنه لم يفهم السؤال، كان الشيخ مستعجلاً، قال: كان مستعجلاً، أخاف ما فهم سؤالي هذا سبب، لكن لو قال الواحد: أنا هواي أنه يجوز، والشيخ قال: ما يجوز، أنا أريد استفتي آخر، نقول: لا يجوز لك ذلك؛ لأنك تتبع الهوى، لو واحد موسوس، الشيخ فهم سؤاله، يقول: يمكن هناك احتمال في كلمة، يمكن لو قلت، هناك ناس عندهم وسوسة، فهؤلاء يقال لهم: لا تكرر؛ لأن بعض العامة ممكن يقول: لازم أسأل عشرين واحداً؟ نقول: لا، ما يلزم تسأل عشرين واحداً.
وبعض من يسأل يمتحن العلماء يقول: أسأل حتى أصنّفهم، ما شاء الله، يعني أنت شيخهم وأنت الآن مسئول عنهم، سئل الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: هل يجوز استفتاء أكثر من عالم؟
قال: لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالماً واثقًا بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص بحيث يسأل فلانًا فإن لم يناسبه سأل الثاني وإن لم يناسبه سأل الثالث، وهكذا وقد قال العلماء: "من تتبع الرخص فسق"، وينبغي أن نفهم أن هناك أناس من المغرضين، حتى الذين يتصلون على المشايخ في برامج الإفتاء، قد يكون بعضهم لهم مآرب، خبثاء زنادقة منافقون، يريدون تخريب الدين، يريدون الاستهزاء بالعلماء يريدون تزهيد الناس بالعلماء، فيسألون أسئلة فيها محاولة إحراج الشيخ، محاولة إسقاط الشيخ، محاولة تشويه سمعة الشيخ، هذا موجود، لماذا ننكر؟ هذا موجود، ما رأيكم بواحد يقول: يا شيخ رجل تسحّر مكرونة عيدان، وبينما العود في منتصف الحلق أذّن الفجر فإذا بلعه أفطر؛ لأنه أكل، وإذا أخرجه أفطر؛ لأنه تقيأ، كيف تقول يا شيخ؟ واضح هذا ليس سؤال واحد يريد الحق، وأن المسألة حصلت، وأنه فعلًا عنده مشكلة في الواقع، فلما جاءت إلى واحد من أهل العلم الذين يفهمون هذه الحركات قال: يُضرب بالحذاء على رأسه فيخرج العود من حلقه دون أن يأكل، ودون أن يتقيأ.
إذا أحال العالم المسئول إلى عالم آخر، أحيانًا تسأل عالماً فيقول لك: هذه قضية في الاقتصاد، أنا غير متخصص، يوجد غيري أعلم مني، اسأل فلانًا، يحيله على عالم آخر، كما صار في قصة هزيل بن شرحبيل قال: "سئل أبو موسى عن بنت وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي ﷺ للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم" [رواه البخاري: 6736].
الإثم ما حاك في صدرك، واستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، ما معناه؟
لو استفتى شخصًا فأباح له شيئًا فوقع في نفسه حرج.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها لقوله ﷺ: استفتِ نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولًا، ولا تخلّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم"، هذه كلمة: "إذا كان يعلم" مهمة جدًا في بيان المعنى، "إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه"، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، "كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك"[إعلام الموقعين: 4/195]. لو أن واحداً غصب أرضًا من شخص، ولا توجد بينة، وذهب سورها ووضع قفلاً، ومعه مفاتيح وجاء هذاك يطالب ورفعت إلى القاضي، الآن هذا الغاصب يعلم أن الأرض ليست له، راحوا للقاضي فهذاك قال: يا شيخ هذه أرضي، فقال القاضي: عندك بينة؟ قال: لا، ما عندي، والثاني قال له: ماذا تقول؟ قال: يا شيخ هذه أرضي، وهذا سوري، وهذا المفتاح، أنا أصلحتها وأنا مسورها، فالقاضي حكم بما ظهر له أنها للثاني، هذا الثاني هل حُكم القاضي ينفعه في أي شيء؟ أبدًا؛ لأنه يعلم في قرارة نفسه أن كلام القاضي باطل، فلا ينفعه بشيء، لو واحد جاء وسأل على الاشتراك في الإنترنت، وهو يريد أن يستعمله في الحرام، فالشيخ قال له: الإنترنت فيه المفيد وفيه الضار، والأصل الإباحة، الأصل الجواز، فذهب واشترك وقال: الشيخ أفتاني، أرى أي شيء، فمثل هذا لا تنفعه أبدًا، وهكذا في مسائل يعلم بعض المستفتين سلفًا أن الحقيقة ليست كذلك، يأتي واحد يقول: يا شيخ أنا أخذت مال واحد أضارب فيه، فالمال تلف بغير تفريط مني، فقال الشيخ: ما دمتَ لم تفرّط ليس عليك شيء، وهو في قرارة نفسه يعلم أنه مفرّط، هل ينفعه فتوى الشيخ بشيء؟ أبدًا.
ماذا يفعل العامي إذا حصل اختلاف؟ سيأخذ بقول أوثق المفتيين، ليس له أن يختار ولا أن ينتقي، ولا أن يأخذ بالتشهّي، ألا ترى أن الناس إذا صار لهم علّة طبية ما يكتفي بالطبيب العام حتى يسأل الطبيب الاختصاصي، وما يكتفي بالاختصاصي إذا استطاع أن يصل إلى الاستشاري، لماذا؟ هذا لأجل الدنيا فكيف بالدين؟ ولذلك عليه أن يسأل أوثق من يصل إليه ويقلّده في ذلك، أما أن تأتي مسألة، والعامي عنده أكثر من قول من علماء كلهم في حدود اجتهاده، نفس المستوى، فعند ذلك يقال: هل يأخذ بالأيسر أو يأخذ بالأحوط أو ينظر هواه ويخالفه كما قال بعض العلماء؟
هل يلزم الإنسان أن يلتزم بمذهب من المذاهب الأربعة؟ الجواب لا يجب، قد يسلك مذهبًا من المذاهب للتفقُّه والتعلُّم ولكن لا يجب عليه، يجب أن يسأل أهل الذكر وأهل العلم، قد يكون من أصحاب المذاهب أو من المجتهدين، والمذهب بلا شك أحسن من الفوضى، المذهب على الأقل له كتب وعلماء وناس قد أمضوا حياتهم في خدمته وكتابة متونه وشرحها بلا ريب ولا شك، فنقول: إن اتباع المذهب خير من الفوضى، لكن التعصُّب للمذهب لا.
حكم أخذ الفتوى من البرامج والمواقع والتطبيقات
ما حكم أخذ الفتوى من البرامج والمواقع والتطبيقات في الإنترنت؟
صار الآن كثير من الناس يقول: اتصل على شيخ مشغول، اختصر الطرق وأفتح الإنترنت وأنظر نقول:
أولاً: لا يجوز استفتاء المجهول.
ثانيًا: قد تكون المسألة التي ظهرت لك في الإنترنت ليست هي مسألتك، أنت فقط تظن أنها هي وبينهما اختلاف.
ثالثاً: قد يكون المفتي الذي في الشبكة هذا الذي ظهر لك واحد من أهل البدع، لكن أنت ما عندك قدرة على التمييز أن هذا من السنة أو من أهل البدعة؟ فأول ما تقع على موقع فيه فتاوى وتفتحه وتأخذ الجواب، وقد يكون هذا من أهل البدعة، فإذن، عندما تذهب إلى العالم، عندما تلقاه، لما تسأله، لما تأخذ، غير قضية الأخذ من المواقع، والأخذ العشوائي، ولذلك العلماء لما تكلموا في أخذ فتوى المفتي، قالوا: يجوز العمل بخط المفتي، وإن لم يسمع الفتوى من لفظه إذا عرف أنه خطه، فالآن الفضائيات تشتغل، والمواقع شغالة، ومحركات البحث، فإذن، يجب أن يكون هناك ضوابط لأنه لا يقال للناس: لا تأخذوا من الفضائيات أبدًا، لا تأخذوا من المواقع أبدًا، وأيضًا لا يقال: خذوا بإطلاق، هذه مسألة مهمة جدًا، فإذن، لابد أن يكون المفتي في الشبكة أو في القناة ممن توفرت فيه شروط الإفتاء مثل ما تقدم، وكذلك أن تكون جهة البث معروفة موثوقة، لأن البرامج المسجلة قد يقع فيها تغييرات وتحريفات.
رابعاً: أن تكون الفتوى واضحة وصريحة وبينة لا لبس فيها، وأن لا تكون في قضايا الأعيان، قد تكون هذه الفتوى التي جاءت على الفضائيات خاصة بالذي سأل فقط لضرورة معينة، فما يجوز أن يعمل بها غيره، وهذه من الأشياء التي لا يفهمها أو يصل إليها كثير من العامة، يقول: أنا سمعت واحداً على الفضائيات سأل الشيخ، والشيخ قال له: يجوز، يا أخي يمكن قال له: يجوز؛ لأنه ضرورة، وأنت ما عندك الضرورة مثله، فإذن هذه مسألة مهمة أيضًا، وعندنا استفتاء من خلال الإذاعة، ومن خلال الهاتف الجوال، ومن خلال ما ينشر في الصحف والمجلات، ومن خلال المواقع الإسلامية، ومن خلال المنتديات، وساحات الحوار، ومن خلال تطبيقات الجوال، فلابد إذن أن نعرف عمن نأخذ الفتوى وأن لا نسأل بالتحايل، ولا يجوز الكذب في السؤال، ولا يجوز استفتاء المجهول، وبالتالي ما يجوز أن تفتح قوقل وتأخذ فتوى وتعمل فيها، وأنت لا تعلم هل هو سني أو بدعي، مؤهّل أو غير مؤهّل؟ فلابد من استيفاء الشروط المذكورة، نسأل الله أن يوفقنا للتفقه في الدين، وأن يجعلنا ممن يتبع شرعه المبين ونسأله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.