الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
منة الله على الأمة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة
فإن مما منَّ الله به على هذه الأمة: أن جعل مع نبيها أئمة هدى، ووزراء صدق، يأخذون بسنته، ويهتدون بهديه، وهم أهل القرآن، وأهل الفقه والإيمان، حفظ الله بهم الكتاب، وصان بهم العلم، ونشر بهم السنة، وأحيا بهم قلوب الناس؛ إنهم أصحاب محمد ﷺ الذي قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره [رواه مسلم: 50].
ونبينا ﷺ له أوفر الحظ والنصيب من أصحاب الأنبياء، فلا يوجد أصحاب نبي أفصل من أصحاب نبينا ﷺ؛ لأن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد ﷺ خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ﷺ فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، طبعًا هذا بعد كل الأنبياء، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فهم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، واختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، فهم خير الناس للناس نصحًا ومحبة للخير ودعوة وتعليمًا وإرشادًا، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر.
وهم فوقنا كما قال الشافعي -رحمه الله- في كل علم واجتهاد وورع وعقل وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا لأنفسنا.
والصحابة خير القرون.
وتلاميذ محمد ﷺ بعدهم في الأفضلية يأتي التابعون؛ لأنهم تلاميذ الصحابة وطلاب الصحابة الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله، لكن ليس كل الصحابة كانوا علماء، فإن الصحابة تفاوتوا في العلم والعمل، فمنهم من كان من أهل العلم، ومنهم من كان من أهل الجهاد، ومنهم من كان من أهل الإمرة والسياسة، ومنهم من كان من أهل النجدات وإغاثة الملهوفين، ومنهم من كان من أهل التجارة والصدقات، وهكذا..
فكان منهم الشاعر الذي سخر شعره لخدمة الدين، وكان منهم القضاة العادلون، وكان منهم أهل النجابة، والذين ينفعون الناس حتى بالحرفة.
كبار علماء الصحابة
لكن الصحابة العلماء الذين أيضًا تفاوتوا في العلم كان منهم رؤوس، يعني لو قلت من هم علماء الصحابة؟ فسيأتيك في طليعتهم عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو الدرداء، وسلمان، وهكذا من رؤوس الصحابة في العلم معاذ كان أعلمهم بالحلال والحرام، كما أن أقضاهم كان عليًا، كما أن أعلمهم بالفرائض كان زيدًا، كما أن أقرأهم كان أبيًا، وهكذا حتى في فروع العلم فاق بعضهم في جانب دون جانب، معاذ مات وهو ابن ثمان وعشرين سنة وهو إمام العلماء كما أخبر النبي ﷺ إن العلماء إذا حضروا ربهم كان معاذ بين أيديهم رتوة بحجر، يعني رمية بحجر.
ومن العلماء كان فيه صحابة مكثرون من الفتيا، كان هناك عمر وابنه، وعبد الله بن مسعود وعلي وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت.
فإذن، كان منهم مفتون، من أشهر من نشر العلم من الصحابة وكان لهم تلاميذ: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
إذا نظرنا إلى الصحابة الذين لهم تلاميذ من العلماء سنجد أن من أكثرهم تلاميذ وهم علماء، هؤلاء العبادلة، عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، عبد الله بن مسعود أكبرهم، ثم عبد الله بن عمر، ثم عبد الله بن عباس.
ابن مسعود وسعة علمه
أما ابن مسعود فهو من السابقين الأولين ومن أشد الناس ملازمة للنبي ﷺ، حتى أنه كان يحسب، يظن أنه من آل بيته ﷺ من كثرة دخوله وملازمته للنبي ﷺ، ومن أقربهم هديًا وسمتًا وشبهًا بالنبي ﷺ في هيئته وأفعاله، و من سره أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل فليقرأه من ابن أم عبد [رواه أحمد: 265، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
وكان من أوسع الصحابة علمًا، حتى قال أبو مسعود: "ما أعلم رسول الله ﷺ ترك بعده أعلم بما أنزل الله عليه من هذا القائم" يعني ابن مسعود.
وشهد له أبو موسى وقال: "كان -يعني ابن مسعود- يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا حجبنا".
والصحابة في القدرة على التعليم، في القدرة على العطاء، كانوا يتفاوتون، فيقول مسروق -رحمه الله: "لقد جالست أصحاب محمد ﷺ فوجدتهم كالإخاذ، مجامع الماء، فالإخاذ يروي الرجل، الإخاذ الذي هو مجتمع الماء، لكن الإخاذ هذا أحجام متفاوتة، قال: "فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله من ذلك الإخاذ".
عبد الله بن مسعود من المقاس والحجم الذي لو نزل أهل الأرض به علمهم كلهم، يعني من غزارة علمه وسعة علمه ممكن يصدر أهل الأرض عنه في علمه.
ابن عباس وسعة علمه
عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أصغرهم، كان شغوفًا بالعلم وطلبه والحرص عليه، فجمع ما أخذه كبار الصحابة، فأخذ علم عمر وعلم علي وعلم معاذ وعلم ابن مسعود وعلم أبي بن كعب، وغيرهم، فيقول ابن أبي نجيح: "كان أصحاب ابن عباس يقولون إن ابن عباس أعلم من عمر ومن علي ومن عبد الله ويعدون ناسًا فيثب الناس عليهم" يعني الذي يتكلم هذا الكلام يستفز الناس، فيقول المتكلم: لا تعجلوا علينا، إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا عنده من العلم ما ليس عند صاحبه، وقد كان ابن عباس قد جمعه كله.
إذن، ابن عباس تميز أنه أخذ علم كبار الصحابة جمعه، وأخذ عن علي من التفسير رضي الله عنهما، وضم إلى ذلك ما أخذه عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي بن كعب وكبار الصحابة مع دعاء النبي ﷺ له أن يفقهه، ويقول ليث بن أبي سليم: قلت لطاووس: لزمت هذا الغلام -يعني ابن عباس- وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ، فقال: "إني رأيت سبعين من أصحاب رسول الله ﷺ إذا تدارءوا في شيء صاروا إلى قول ابن عباس" يعني إذا صار بينهم خلاف في مسألة ذهبوا لابن عباس.
وقيل لابن عباس -رضي الله عنهما-: كيف أصبت هذا؟" هذا العلم كيف جمعته كله؟ قال: "بلسان سؤول، وقلب عقول" [فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل: 2/ 970].
وصح عن ابن مسعود أنه قال: "لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل" [مصنف ابن أبي شيبة: / 383]، يعني ما يمكن واحد يصل إلى قامته، لكن عبد الله بن مسعود كبير متقدم جدًا بالنسبة لابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- الذي كان يطوف على الصحابة ولا يبالي بالمثبطين الذين يقولون له: ترى الناس يحتاجون إليك الآن؟ يعني عمر موجود وعثمان موجود وعلي موجود، والناس يحتاجون إليك؟ ما كان يسمع، كمل في طلب العلم، فلما مات الكبار نظر الناس إلى ابن عباس، هو أعلم الموجودين.
ابن عمر وسعة علمه
أما عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقد رزق علمًا وفهمًا وحفظًا، وعاش بعد النبي ﷺ عمرًا طويلًا، فقد توفي سنة ثلاث وسبعين للهجرة عن عمر يناهز ستًا وثمانين سنة.
ومعنى ذلك أن عبد الله بن عمر عاش بعد النبي ﷺ أكثر من ستين سنة بعد الوفاة النبوية.
الله فسح له في عمره ستين سنة، يعلم الناس بعد وفاة النبي ﷺ، فاحتاج الناس إليه.
طبعًا الصحابة تفرقوا في البلدان، إذا كان ابن عباس في مكة، وابن عمر في المدينة، فابن مسعود كان في الكوفة، ومن سياسة عمر المحنكة أن يوزع الصحابة، وزع الصحابة في البلدان، ولذلك انتشر العلم في العالم الإسلامي في ذلك الوقت.
سالم بن عبد الله بن عمر لازم أباه، وكان أحب أولاده إليه، وألصق أولاده به لدرجة أنه قال مرة بأنه سمع بعض الأشياء مائة مرة وأكثر من مائة مرة من أبيه.
فمن أسباب ثبات العلم في نفوسهم: كثرة السماع للمسألة الواحدة، وتعدد السماع للمسألة الواحدة، يسمعونها مراراً وتكرارًا.
وابن عمر من أشد الصحابة اتباعًا للنبي ﷺ، وكان يفتي في الموسم وغيره، ومن شدة اتباعه أنه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته يثنيها لتتخذ مسارًا معينًا، ويقول: "لعل خفًا يقع على خف" [مصنف ابن أبي شيبة: 7/ 119]، لعل خف راحلته يقع على خف راحلة النبي ﷺ يعني من شدة اتباعه.
إذن، علماء الصحابة الذين أخذ عنهم العلم كما قال ابن القيم -رحمه الله- والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبد الله بن عمر وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم الناس عامتهم من هؤلاء الأربعة، فأهل المدينة علمهم مِن مَن؟ من عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، وأهل مكة علمهم من من؟ من عبد الله بن عباس، وأهل العراق علمهم من من؟ من عبد الله بن مسعود.
فإذن، هؤلاء العبادلة الأكابر الذين أخذ العلم عنهم ودارت الفتيا عليهم.
وتلاميذ هؤلاء إذن قد حملوا علمًا كثيرًا جدًا، فإذا أردنا أن نتتبع السلالات العلمية في الأمة، سنجدها سترجع في النهاية إلى الأربعة الذين منهم الثلاثة الذين نتكلم عنهم، وهؤلاء وفقهم الله بتلاميذ، يعني ميزة هؤلاء الصحابة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت الرابع أنه كان لهم تلاميذ كثر حملوا علمهم، فكثير من الأسانيد تنتهي بهؤلاء.
مدرسة ابن مسعود بالكوفة
وكان كثير من تلاميذ هؤلاء أيضًا قد عمروا مع شيوخهم، فلازموهم حضرًا وسفرًا، صيفًا وشتاء، حتى ما كان واحد يفارق شيخه إلا لضرورة، فروى أبو داود عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "قدم علينا معاذ بن جبل اليمن رسول رسول اللهﷺ" طبعًا عمرو بن ميمون الأودي بأعمار الصحابة، لكن ما كتب له أن يصبح صحابيًا، ما جاء إلا بعد وفاة النبي ﷺ لكن هو بأعمار كبار الصحابة، فيقول عمرو بن ميمون الأودي: "قدم علينا معاذ بن جبل اليمن ... ألقيت عليه محبتي فما فارقته حتى دفنته بالشام ميتًا"[رواه أبو داود: 432، وابن حبان في صحيحه: 1481] لازمته حتى لما راح معاذ إلى الشام راح معه عمرو بن ميمون الأودي إلى الشام، قال: ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده فأتيت ابن مسعود فلزمته حتى مات، فإذا لاحظ إذًا التلاميذ هؤلاء لهؤلاء الصحابة طالت ملازمتهم لهم، وقال ميمون بن مهران: صحبت ابن عباس عشرين سنة، وقال عبيد بن جريج: كنت أجلس بمكة إلى ابن عمر يومًا وإلى ابن عباس يومًا، وقال عمرو بن سلمة بن الحارث: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فإذًا الحضر والسفر هذه واحدة، طبعًا ملازمة إلى الموت واحدة، والحضر والسفر هذه واحدة، وقضية أنهم ينتهزون كل فرصة حتى لو خرج الشيخ من بيته للمسجد معه، وقضية الخدمة أنه يعمل عنده خادم يخدمه، اجعلني خادماً عندك؛ لأن هذه الشيخ يحتاج إلى خدمة، أكيد له حوائج، فمن هذه الخدمة يكون التتلمذ، فيقول أبو الجوزاء: كنت أخدم ابن عباس تسع سنين، وقال النزال بن سبرة: ما خطب عبد الله خطبة بالكوفة إلا شهدتها، وصح عن علقمة أنه قال: أتيت ابن مسعود فيما بين رمضان إلى رمضان، ما مر يوم إلا آتيه فيه، فهذه نعمة كبيرة على الطالب أن يلازم الشيخ، وعلى الشيخ أن يوجد له طلاب ينشرون علمه، وقد أخذ عن ابن مسعود تلاميذ نجباء، وربما لا يكون في تلاميذ الصحابة أنجب من تلاميذ ابن مسعود.
ابن مسعود هذا مدرسة عجيبة، هذا رجل عظيم في تخريج التلاميذ.
رجل عظيم في تخريج الطلاب.
رجل عظيم في اختيار الأشخاص.
رجل عظيم في زرع العلم في نفوسهم.
رجل عظيم في تربيتهم.
رجل عظيم في تصديرهم وتسليط الأضواء عليهم وجعل الناس يسألونهم.
عجيب، عبد الله بن مسعود هذا أدى للأمة خدمة جليلة جدًا جدًا، أنت لو تتأمل فعلًا أبرز تلاميذ الصحابة تلاميذ ابن مسعود، يعني الأفقه والأعلم والأحفظ والأكثر يعني عبادة ودينًا وعملًا، تلاميذ ابن مسعود، فيهم كذا ميزة خاصة فيهم، ختم معين فيهم، كأن فيهم صفات وراثية علمية فائقة، فائقة الجودة، يعني فائقة الجودة حقيقة، حتى قال علي بن أبي طالب: "أصحاب عبد الله" علي كان أمير الكوفة "أصحاب عبد الله سرج هذه القرية" [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: 4/ 170] يقول: هذه مصابيح القرية البلد هذه كلها تلاميذ عبد الله.
وقال الشعبي: "ما رأيت أحدًا كان أعظم حلمًا ولا أكثر علمًا ولا أكف عن الدنيا من أصحاب عبد الله"، يعني عندهم حتى الزهد إلا ما كان من أصحاب رسول الله ﷺ، وهؤلاء يتفوقون.
وقال العجلي: "ليس أحد من أصحاب النبي ﷺ أنبل صاحبًا من ابن مسعود"، ما في أنبل من أصحابه.
من هم أشهر تلاميذ ابن مسعود؟
علقمة بن قيس النخعي، علقمة هذا الذي تخرج به، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن الأجدع، وأبو عبد الرحمن السلمي المقرئ المعروف، وعبيدة السلماني، وشريح القاضي، وقيس بن أبي حازم، وزر بن حبيش، وشقيق بن سلمة، وغيرهم كثير، لكن هؤلاء أكابر تلاميذ ابن مسعود، وفيه غيرهم، افتح أي كتاب من كتب الستة تجد في الأسانيد هؤلاء مزروعين زرعاً في الأسانيد -سبحان الله- ومر على أكثر الأسانيد تمر عن طريقهم، معناها كم أخذ عنهم من العلم؟ وكم رووا؟ وكم علموا؟ وكم تلاميذهم؟
يقول إبراهيم النخعي: انتهى علم أهل الكوفة إلى ستة من أصحاب عبد الله بن مسعود" النهاية إلى ستة، السلالات العلمية تنتهي بالستة "فهم الذين كانوا يفتون الناس ويعلمونهم: علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وعبيدة السلماني، والحارث بن قيس الجعفي، وعمرو بن شرحبيل الهمداني".
والعجيب اللافت للنظر أن خاصة أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا من أصحاب العاهات، هذا شيء عجيب، فقال ابن سيرين: "كان أصحاب عبد الله بن مسعود خمسة كلهم فيه عيب، عبيدة السلماني أعور، ومسروق بن الأجدع أحدب، وعلقمة بن قيس أعرج، وشريح كوسج، ما تنبت له لحية، والحارث أعور، وكان الربيع بن خثيم من أقرب أصحاب ابن مسعود إليه، أصابه الفالج، الشلل النصفي -نسأل الله السلامة والعافية-، اللي يفوز، الذي يقبل على العلم، أيش شكله؟ أيش لونه؟ ما في، تدور الجمال، أو تدور القوة البدنية الخارقة، أو تدور كمال أجسام، الحريص سيفوز، هو أعرج، هو أحدب، هو مشلول، هو أعور، هو ... وكان إبراهيم النخعي أحد أنجب تلاميذ هذه المدرسة أعور.
وكان سليمان بن مهران، من أنجب تلاميذ إبراهيم، أعمش، ضعيف البصر، وعبد الله بن مسعود شيخهم كان قصيرًا جدًا، يكاد الجالس يوازيه، ولما طلع الشجرة، ونظروا إلى دقة ساقي ابن مسعود، وضحكوا، وأخبرهم النبي ﷺ: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد [رواه أحمد: 3991، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن"].
فهو نفسه عبد الله بن مسعود كان نحيلًا قصيرًا.
وهؤلاء انتشر عنهم العلم -سبحان الله- يعني أعور، وأحدب، وأعرج، وكوسج وأعمش، وشيخ قصير تكفأه الريح لضعف بدنه، وحموشة ساقيه، هذه المدرسة، لكن كم طلع منها من العلم؟ ملأ الدنيا.
عندنا مجاهد بن جبر المكي، سعيد بن جبير، عكرمة ... من 00:23:30 إلى 00:32:51... ما في صوت ...
فتنة التابع والمتبوع في مواقع التواصل الاجتماعي
الآن الفتنة بين التابع والمتبوع في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأن القضية تحتاج الآن إلى نية حسنة، ومقاومة النفس، ومقاومة الغرور، بعضهم يقول: هذه أشياء، بعضها حقيقي، وبعضها وهمي، وبعضها أسماء أعداد، لكن حتى يقرأ كلامه، ويمكن ما يقرأه إلا في الأسبوع مرة، وإلا من كثرة المشتركين في التويتر، يشترك مع مائة مائتين ستمائة ألف أحيانًا، أيش يقرأ؟ لمن؟ وهذاك المسكين يظن أنه معه أمم، وهو يمكن لما تجي على العدد الحقيقي، الذين يقرءون، ما هو مثل المسجل في العداد، والذي جاء وصار عدد المشتركين عنده عشرين ألف يقول: أنت يا أبو مليون، يا فلان أنا جايك في الطريق، يا أخي من الذي يتحداك؟ لذلك ترى كلمة ابن مسعود يقول: "ارجعوا فإنه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع".
تلطف علماء الصحابة مع الطلاب
كانوا يتلطفون مع تلاميذهم: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] ويكرمونهم، فعن إبراهيم قال: "كنى عبد الله بن مسعود علقمة أبا شبل".
وكان علقمة عقيمًا لا يولد له، فالتكنية تكريم، والتلقيب أحيانًا يكون إساءة، ولهذا قال الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه | ولا ألقبه والسوءة اللقب |
وعن علقمة قال: "أتي عبد الله بشيء يشرب، قال: اعط علقمة، يقول للذي أتى بهذا: اعط علقمة، ثم قال: اعط مسروقًا، كل واحد يقول: إني صائم، إني صائم، فقال عبد الله بن مسعود: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 37].
وقال مجاهد: "ربما أخذ لي ابن عمر بالركاب" [حلية الأولياء: 3/ 285] يعني ابن عمر الآن هو الشيخ فيأخذ بالركاب لمجاهد تلميذه، لكن هذا لا يعني أنه لم يكن هناك مثلًا شدة أحيانًا، يقول عكرمة: "كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يضع في رجلي الكبل، ويعلمني القرآن والسنن" [سنن الدارمي: 1/ 460].
وعن عكرمة قال: "صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، قال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم ﷺ" [رواه البخاري: 788]، فهي فعلًا ثنتين وعشرين تكبيرة، لا تستعجل وتتهمه بالحمق، هذا يتبع السنة.
وعن عكرمة: أن ابن عباس وعمارًا والزبير أخذوا سارقًا فخلوا سبيله، فقلت لابن عباس، الآن عكرمة يقول لابن عباس: "بئسما صنعتم حين خليتم سبيله" يعني الآن أمسكتم السارق ثم أطلقتموه، قال ابن عباس لمولاه: "لا أم لك، أما لو كنت أنت لسرك أن يخلى سبيلك" [مصنف ابن أبي شيبة: 5/ 474]
ليش خلوا سبيله؟ لأنه لو وصل إلى السلطان لابد من القطع، فربما أخذوه ووعظوه وأدبوه، لكن ما رفعوه، لأنهم لو رفعوه لقطع.
وروى مالك في الموطأ عن الطفيل بن أبي بن كعب: أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله بن عمر على بائع ولا مسكين ولا أحد إلا سلم عليه، قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يومًا فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: وما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ فقال لي عبد الله بن عمر: يا أبا بطن، وكان الطفيل ذا بطن: إنما نغدو من أجل السلام" [حلية الأولياء: 1/ 311] نسلم على من لقينا، كأنه يعاتبه، ما فقهت أنا ليش أروح للسوق؟ أنا صح لا أبيع ولا أشتري، ولكن نلقى إخواننا في الله ونسلم عليهم، ويردون السلام، كم من الأجر فيها؟
تربية علماء الصحابة الطلاب على التواضع
وكانوا يربونهم على التواضع، وهضم النفس: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215].
عن أبي الوازع قال: قلت لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم؟ فغضب ثم قال: وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه" [المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، ص: 334].
وقال عبد الله بن مسعود: "لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي رجلان" [المستدرك على الصحيحين للحاكم: 3/ 357]، فهذا لما يرى من الشيخ هذا التواضع سيؤثر في تلاميذه حتمًا، فلما يقول مجاهد: "صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني، وكان يمسك ركابي، وإذا ركبت سوى ثيابي، بعدما أركب الدابة يسوي علي ثيابي.
ويقول: "كنت أسافر مع عبد الله بن عمر فلم يكن يطيق شيئًا من العمل إلا عمله لا يكله إلينا، ولقد رأيته يطأ على ذراع ناقتي حتى أركبها".
تربية علماء الصحابة الطلاب على الجمع بين العلم والعبادة
وكان التربية فيها جمع بين العلم والعبادة، ما كانت القضية فقط أسانيد أسانيد، أحاديث متون متون، علوم الآلة، لا، كانت المسألة ممزوجة بالعبادة، ممزوجة بالتطبيق، ممزوجة بالعمل، يقول ابن مسعود لتلاميذه: "كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض" [سنن الدارمي: 1/ 317].
هذه الوصية فيها الجمع بين العلم والعمل، بين العلم والزهد، بين العلم والإخلاص؛ لأنه قال: "كونوا ينابيع العلم" هذا من جهة، "مصابيح الهدى" في الدعوة، "أحلاس البيوت" حتى ما تكثر سقطات الواحد من البيت للمسجد، يعني يقلل من الخلطة غير المرغوبة شرعًا، "سرج الليل" في قيام الليل، "جدد القلوب" في حياة القلب والاتعاظ، "خلقان الثياب" في الزهد في الدنيا، "تعرفون في السماء" ولا تعرفون "وتخفون على أهل الأرض" إخفاء الأعمال والإخلاص.
تربية علماء الصحابة الطلاب على مراقبة الله والخوف منه
تربية على الإحسان، التربية على الخشية، على خوف الله -تعالى-.
عبد الله بن دينار م ن تلاميذ ابن عمر، كان مع ابن عمر يمشي، ومر ابن عمر براعي غنم، قال عبد الله بن دينار: خرجت مع ابن عمر إلى مكة فعرسنا نومة في الليل فانحدر علينا راع من جبل، فقال له ابن عمر: أراع؟ قال: نعم، قال بعني شاة من هذه الغنم، قال: إني مملوك، أنا عبد أرعاها لسيدي، ما أملكها، قال: قل لسيدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله عز وجل؟ ثم بكى عبد الله بن عمر، ثم اشتراه بعد فأعتقه.
زيد بن أسلم تلميذ ابن عمر حكى موقفًا مشابهًا، قال مر ابن عمر براعي غنم فقال: يا راعي هل من جزرة، شاة صالحة للذبح تجزر سنًا يعني سنها؟ قال الراعي: ليس هاهنا ربها، يعني مالكها، قال ابن عمر: تقول أكلها الذئب، فرفع الراعي رأسه إلى السماء، ثم قال: فأين الله؟ فاشترى ابن عمر الراعي والغنم، وأعتق الراعي، ووهب له الغنم.
قال: كلمتك نفعتك في الدنيا، أرجو أن تنفعك عند الله، طبعًا هذه لما يكون على مرأى من عبد الله بن دينار وإلا مرأى من زيد بن أسلم، ماذا سيكون أثر هذه المواقف في نفوس التلاميذ؟ التلميذ لن يبقى تلميذًا طيلة عمره، لأن الشيخ هذا لما ينميه ويكبر وهو يغرس فيه العلم والقواعد ويبدأ بصغار العلم قبل كباره، والأساسيات والأصول قبل الفروع، ثم سيعطيه بعد ذلك ويعطيه، الإنجاز الحقيقي في النهاية أن العالم يطلع الطالب يسويه عالم هذا هو الإنجاز، فإذا رأوا أنه نبغ وفهم وفقه وصار أهلًا لأن يسأل ويستفتى ويدرس لفتوا أنظار الناس إليه، ليس من البداية، يقول الراوي: سأل رجل من أهل البصرة ابن عباس عن شيء فقال: "تسألوني وفيكم جابر بن زيد"[حلية الأولياء: 3/ 86].
تدريب علماء الصحابة الطلاب على العطاء
وأم عمر بن سعيد بن أبي حسين أرسلت لابن عباس تسأله عن شيء فقال: يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء، انظر إلى التزكية هذه، هذا التوجيه، توجيه الناس أن يسألوا فلاناً، كان أهل الكوفة إذا جاءوه يسألونه بعدما عمي ؛ لأن ابن عباس في آخر حياته ذهب بصره، فيقول: "تسألوني وفيكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير" [موطأ مالك: 6/ 53].
وكان عبد الله بن مسعود وعلقمة يصفان الناس صفين عند أبواب كندة في موسم الحج فيقرئ عبد الله رجلًا، ويقرئ علقمة رجلًا، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام.
وجاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة من علم المواريث فقال: ائت سعيد بن جبير.
سعيد بن جبير من تلاميذه، فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض منها ما أفرض، يعني في العلم بالمواريث بالفرائض يفرض ما أفرض، ولكن في الحساب هو أعلم مني.
وكان تدريب الشيخ لتلميذه على هذا العطاء وتهيئته، وكانت تهيئته له بمكان، قال ابن عباس لسعيد بن جبير: حدث، قال: أحدث وأنت هاهنا ؟" أنت الشيخ موجود أنا أحدث، قال: "أوليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد" أوليس من نعمة الله عليك أن شيخك جالس ويقول لك: حدث، "فإن أصبت فذاك، وأن أخطأت علمتك" [المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، ص: 373] ماذا تخشى؟
وعن عكرمة أن ابن عباس قال: "انطلق فأفت الناس" طبعًا هذه بعد كم سنة من التعليم، "فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته" [حلية الأولياء: 3/ 327].
وبعض الناس الآن يسألون عن فرضيات وأشياء عجيبة.
تفقد علماء الصحابة للطلاب
والاهتمام ما كان بالطلاب فقط في الأشياء العلمية، بل كان حتى في الأشياء الاجتماعية، فسعيد بن جبير يقول: "لقيني ابن عباس فقال: تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج، ثم لقيني بعد ذلك، فقال: تزوجت؟ فقلت: لا، فقال: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء [رواه أحمد: 2179].
ولذلك كان للصحابي كذا زوجة، طبعًا ومن الزوجة كذا أولاد.
طريقة ومنهجية علماء الصحابة في تعليم الطلاب
الطريقة في التعليم بالتأكيد أنها كانت تركز على القرآن أولًا، لأنه هو المنهاج، قال ابن مسعود: "إذا أردتم العلم فانثروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين".
وعن الأسود بن يزيد النخعي قال: "أصبت أنا وعلقمة صحيفة" يعني لعل فيها مثلًا أشياء من كلام أهل الكتاب مكتوب من روايات أهل الكتاب، عثرنا على مخطوطة، فانطلق معه إلى ابن مسعود، وقد زالت الشمس أو كادت تزول، فجلسنا بالباب ثم قلنا للجارية: انظري من بالباب؟ قالت: علقمة والأسود، ابن مسعود يقول للخادم: من بالباب قالت: علقمة والأسود، فقال: ائذني لهما، فدخلنا فقال: أنكما قد أطلتما الجلوس، قلنا: أجل، قال: فما منعكما أن تستأذنا؟ قلنا: خشينا أن تكون نائمًا، قال: ما أحب أن تظنوا بي هذا" [جامع بيان العلم وفضله: 1/ 283] حتى التلاميذ كانوا يراعون الشيخ، الآن مشكلة بعض الناس يبغى يتصل يبغى يرد عليه الشيخ فورًا الآن، وإذا ما رد يا ويله من الكلام، يا أخي هو ما يبغى يدخل الخلاء، ما يبغى يستحم، ما يبغى يأكل، ما يبغى يكون مع أهله، وهذا واحد جاي المشايخ في خيمة الحج يفتون من الصباح إلى الظهر، ثم يأخذون راحة، يمكن نصف ساعة، هذا الأعرابي جاي قبل الظهر، جاء وقت ما قام الشيخ راح يرتاح، يتغدى، انتظر، أين الشيخ؟ يتغدى، أين الشيخ؟ يتغدى راح نزل أرواق الخيمة، أنتم ما تشبعون، أنتم ما تشبعون، أعراب -سبحان الله- جفاة، ولذلك بعضهم فعلًا يستحق أن يعزر، مثل واحد جاء لشيخ في منى قال: يا شيخ أنا وطئت زوجتي في مزدلفة، قال: أين؟ قال: في مزدلفة قال: أين؟ قال في مزدلفة، في مزدلفة يا شيخ، قال: أين؟ فقال: خلاص خلاص يا شيخ، فقال الشيخ: أين في مزدلفة؟ أنا لم أجد مكانًا أقضي فيه حاجتي في مزدلفة، فالشيخ يقول له: أين؟ هو عارف أنه في مزدلفة، لكن أين في مزدلفة؟ فيه ناس متخصصون في إفساد الحج، يأتون الأشياء التي فيها البدع، التي فيها أعظم كفارة، وأعظم فدية، متخصصون في كذا، يجيبك واحد ويقول: شيخ أيش رأيك في حج اليوم الواحد سفري، حج إكسبرس، نجي من جدة، نروح عرفة، مزدلفة، نطوف ونسعى، نرمي الجمرات، نطوف ونسعى ونقصر، نرجع جدة، والباقي دم، يعني غاية الاستهان، طيب، وأتموا الحج والعمرة لله، يعني إما أن تحج كما أمر الله واللا لا تحج، هذه إساءة، هذه إهانة، واحد عنده مشاعر الحج هذه أي كلام، لو كانت رحلة سياحية، المتحف الوقت الفلاني، ثم الملعب الوقت الفلاني، ثم التسوق الوقت الفلاني، الحريص على كل الفعاليات، والحج عندهم صار هيناً، أربع وعشرون ساعة، والباقي دم، ما لكم لا ترجون لله وقارًا.
فنعود إلى القصة، علقمة والأسود: "ما منعكما أن تستأذنا؟ قالا: خشينا أن تكون نائمًا، قال: ما أحب أن تظنوا بي هذا، إن هذه ساعة كنا نقيسها بصلاة الليل، فقلنا: هذه صحيفة فيها حديث حسن" فيها كلام جميل، فقال: يا جارية، هاتي الطست واسكبي فيه ماء، فجعل يمحوها بيده"؛ لأن هذه مكتوبة بحبر، فجعل يمحوها، مثل مكتوبة على جلد، جعل يمحوها بيده ويقول: "إن هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره" [جامع بيان العلم وفضله: 1/ 283].
فما أراد ابن مسعود أن يلتفت إلى كلام أهل الكتاب، تلاميذ في الطلب، الآن في مرحلة الطلب، الانشغال بالكتاب والسنة، ما هي المصادر الأجنبية، الذي يقول: نأخذ عن أهل الكتاب، وجدنا مخطوطة إنجيل، مخطوطة كذا، بعض الناس الآن مغرمون، يقول: أيش فيها؟ خلينا نطلع، حب الاطلاع، وقد يغرس في قلبه شبهة، وقد يصطدم بشيء لا يجد له جوابًا، ويتحير ويحصل في قلبه أشياء، كان الصحابة يحثون تلاميذهم على تدبر القرآن، يقول أبو جمرة: قلت لابن عباس: إني لأقرأ القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ بسورة واحدة أحب إلي من أن أصنع ذلك، فإن كنت لابد فاعلًا فاقرأ قراءة تسمع أذنيك وتعيه قلبك" [شعب الإيمان: 3/ 475].
وفي رواية قال: لأن أقرأ البقرة أرتلها، يعني بتؤدة وتأنِ وتدبر وتفكر أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله.
فإذن، كان فيه تركيز مع التلاميذ على قضية فهم القرآن، تدبر القرآن، "ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق" [جامع بيان العلم وفضله: 2/ 1202] الفهم الأول فهم كبار الصحابة.
ونحن بالنسبة لنا الفهم، السلف، فهم العتيق.
حرص الصحابة على اقتران العلم بالعمل
وكذلك كانوا يحرصون على اقتران العلم بالعمل، فمثلًا يعظ أحدهم تلاميذه بقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2- 3]؟
كان بعضهم يعظ تلاميذه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة: 44]؟
كان بعضهم يعظ تلاميذه بقول شعيب : وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود: 88].
وكذلك التربية على العمل بالعلم، على العمل بالعلم، ولذلك خرجت كذا سبحان الله كأنها نسخ يعني هذا نسخة من الشيخ، وهذا نسخة من تلميذ الشيخ، وهذا نسخة من تلميذ تلميذ الشيخ، ويقول رباح أبو المثنى: "إذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله" يعني عبد الله بن مسعود، إذا رأيت التلميذ وفاتك الشيخ ما فاتك كثيراً، "وإذا رأيت إبراهيم النخعي فلا يضرك أن لا ترى علقمة، أشبه الناس به سمتًا وهديًا"، كما أن علقمة أشبه بالناس بمسعود سمتًا وهديًا.
وهكذا تتواصل الأجيال حتى قال الذهبي -رحمه الله- معلقًا: "تفقه أبو داود بأحمد بن حنبل، وتفقه أحمد بن حنبل بمن؟ بشيخه من؟ وكيع، وكان وكيع يشبه بشيخه من؟ سفيان يعني الثوري، وكان سفيان يشبه شيخه من؟ سفيان يشبه منصور بن المعتمر، وكان منصور يشبه بشيخه إبراهيم النخعي، وكان إبراهيم النخعي يشبه بشيخه علقمة، وكان علقمة أشبه الناس بابن مسعود، وكان ابن مسعود أشبه الناس بالنبي ﷺ في سمته وهديه، عبر عنها يحيى بن يمان.
هذه قضية السلاسل مهمة جدًا، هذه تربية، هذا واحد وراء واحد وراء واحد، وهكذا الأمة يصير فيها خير؛ لأنه ما تنقطع هذه السلاسل، وإذا انقطعت كبر على الأمة أربعًا، فلابد تبقى هذه السلاسل موجودة في المسلمين، يقول يحيى بن يمان: "قام عبد الله فقعد علقمة، ثم قام علقمة فقعد إبراهيم، ثم قام إبراهيم فقعد منصور، ثم قام منصور فقعد سفيان، ثم قام سفيان فقعد وكيع، ووكيع شيخ من؟ أحمد، وأحمد شيخ أبي داود" معناها فيه تربية بالمعايشة، ما هي تربية كذا بالإيميل، بالواتسآب، خذ رسالة من بعيد وحل عنا، لا، لأنه هذه معلومة، إلقاء المعلومة، ليس توصيل المعلومة، لكن لما يأخذها من الشيخ كذا غضة طرية من لسانه، من المجلس، من القلب، بخشوع الشيخ، وبكاء الشيخ، ويرى مداومته وحرصه وتبكيره واقتران العلم بالعمل، ولما انتشرت البدع لما صار الواحد يتلقى من المبتدع، أو يتلقى من صاحب دنيا، أو يتلقى من كلام بلا عمل، أو ما في شيخ، يتلقون من الكتب صارت المصايب.
لابد من إعادة هذه النفس على مستوى الآباء مع الأبناء، لازم يكون فيه قدوة، ملازمة، معايشة، توريث العلم، توريث العبادة، توريث حسن الخلق، ورث ولدك حسن الخلق، ورثه عبادة، ورثه مصحفاً، يقرأ بطريقة سليمة، انظر كيف يقرأ، كلما قلنا سابقًا والله مآسي مآسي، فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء: 129] مآسي.
أنا أقول للمحفظين: أيش مر عليك؟ قيل يا نوح اهبط بسلم منا، ليش؟ قالوا: السفينة فوق كيف ينزل؟ مشكلة بعض الناس يقرأ بالخطأ وبالباطل، ويفلسف الخطأ، ويبرره، ويشرحه، يقول: السفينة فوق، كيف ينزل؟ قيل: يا نوح اهبط بسلام، بسلام منا، كانوا يستخدمون الأدوات، أساليب في التوضيح، سعيد بن جبير يروي عن ابن عباس في قول الله -تعالى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] قال: كان النبي ﷺ يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيهن، يعني كثيرًا ما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركها لكم كما كان رسول الله ﷺ يحركهما، قال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه.
لما النبي ﷺ كان يخشى يتلفت منه، ويحرك شفتيه، وتصير وهو يقرأ عليه صعبة، فيها مشقة، فأنزل الله: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ يعني في صدرك، وَقُرْآنَه * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 16- 18] استمع وأنصت: لا تحرك شفتيك، لا تقلق، لا تخف، لن يذهب منك، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 19]، تفسيره وتوضيحه، وليس فقط أن يحفظ في صدرك، سنعلمك ونفهمك معانيه، فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي ﷺ كما قرأه يعني كما قرأه جبريل [رواه البخاري: 5، ومسلم: 448].
استخدام علماء الصحابة للوسائل المتنوعة في التعليم
كنا نتحدث أن هؤلاء الصحابة، وقد كنا نتكلم تحديدًا عن عبد الله بن مسعود، عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس كيف كانوا يربون تلاميذهم، وأنهم كانوا في التعليم يستخدمون الوسائل المتنوعة، فسعيد بن جبير جلس إلى ابن عمر وهو يشرح أو يتلو حديث مبلغ العرق من ابن آدم أنه يلجمه إلجامًا ويبلغ شحمة الأذن، فخط بين شحمة أذنه بالسبابة، خط بين شحمة أذنه بالسبابة ليبين، يقول: يصل المستوى مستوى العرق، وخط بالسبابة.
وكذلك كان هناك تدرج في التعليم، مثلًا مع عبد الله بن مسعود يقول لتلاميذه: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
كان يربيهم على قضية العشرة عشرة ويقول لهم: كنا نتعلم القرآن والعمل به، ما كانت الدراسة فقط نظرية، نظري وعملي يقول: وسيرث القرآن بعدنا قومًا يشربونه شرب الماء، يعني لو جيت على الحفظ يهدر عليك، قال: "لا يجاوز تراقيهم" لا فهم ولا عمل.
وكان أبو عبد الرحمن السلمي يعلمنا القرآن خمس آيات خمس آيات.
وأبو عبد الرحمن السلمي من تلاميذ من؟ ابن مسعود، خريج مدرسة الكوفة.
من إخلاص هؤلاء الصحابة أنهم كانوا يوجهون الطالب إلى أكثر من شيخ، يعني لا يقصر الطالب على نفسه، ويرفض أن الطالب يجلس إلى شيخ آخر، وإذا جلست إلى شيخ آخر أنا بريء منك، والغيرة، قال عكرمة: قال لي ابن عباس ولابنه علي -علي بن عبد الله بن عباس-: اذهبا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، يمكن عنده أحاديث ما هي عندي، اذهبا إليه اسمعا من حديثه.
حث علماء الصحابة الطلاب على التضلع في العلم وإتقانه
كان هناك حث على تضلع الطلاب للعلم حتى يكون الواحد على مستوى العلم الذي يحمله ويعده للمستقبل، يقول ابن مسعود لتلاميذه: "عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه" يعني الناس يحتاجونه وإذا ما عنده، هو ما بنى نفسه بشكل صحيح، كيف سيكون الحال؟ ويقول أحدهم: "يا بني إنكم صغار قوم، يوشك أن تكونوا كبارًا، الزمن يمشي أنتم ستكبرون، فمن لم يستطع منكم أن يرويه فليكتبه وليضعه في بيته ستحتاجه بعد ذلك، أنت الآن لا تستطيع أن تحفظ، إذا احتجته وجدته مكتوبًا مضبوطًا، وما أقبح على شيخ يسأل ليس عنده علم.
أيضًا قضية التدقيق والإتقان، الأسود بن يزيد تلميذ ابن مسعود قال: "كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القرآن، يأخذ علينا الألف والواو، كيف يعني يأخذ علينا الألف والواو؟ الصلوات الطيبات، الصلوات فيها واو، الطيبات ما فيها واو ألف، يجي واحد يقول: الصلاة بدل الصلوات، لا، يأخذ علينا الألف والواو، كان عبد الله يأخذ علينا الواو في التشهد، وحتى لو الصلوات والطيبات بينهم واو، الصلوات والطيبات من ألفاظ التشهد الواردة الثابتة التحيات لله، والصلوات أو الصلوات والطيبات، فهناك ألفاظ على أية حال فيها بالواو وفيها بدون الواو، فيعلمهم بالنص.
وكانوا حريصين على هذا الإتقان، ويتحفظون التشهد، تشهد عبد الله بن مسعود، ويتبعونه حرفًا حرفًا، قال الأسود: "رأيت علقمة يتعلم التشهد من ابن مسعود كما يتعلم السورة من القرآن".
وفي أحاديث نقلت: "علمني النبي ﷺ التشهد وكفي بين كفيه" فيروح يعلم اللي بعده، يعلمه هات كفك، ضع كفك، يعلمه الحديث اللي بعده، مسلسل الحديث، فيه أحاديث مسلسلة حتى بالضحك، مسلسلة حتى والله إني لأحبك حديث معاذ هذا مسلسل، ومن أواخرهم في زمننا الشيخ عبد الله بن عقيل -رحمه الله- يروي حديث معاذ مسلسل بالمحبة، فإذا علمه يقول: والله إني لأحبك لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة ، ويلقى الحديث لمن يستحق، مو يجي واحد من الشارع يقول: والله إني لأحبك، وهو لا يعرفه أصلًا، لكن هذا بعد المراس، وكذلك كان تعليم ما يحتاج إليه، فعن عبد الرحمن بن يزيد: دخلنا على عبد الله، ومعنا علقمة والأسود وجماعة فحدث بحديث ما رأيته حدث به القوم إلا من أجلي، لأني كنت أحدثهم سنًا، ما هو الحديث؟ قال رسول الله ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج [رواه البخاري: 5066].
تنبيه علماء الصحابة الطلاب على مواضع الإشكال
وكان هناك تنبيه الطلاب إلى مواضع الإشكال، فمثلًا لما أثيرت شبهة أن النبي ﷺ قال: يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير [رواه أحمد: 2918، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"] فماذا قالت قريش المجادلة في البداية قبل أن يسلموا؟ قالوا: "هذا عيسى يعبد من دون الله" على كلامك، يعني ما فيه خير، معنى هذا جدال بالباطل، لذلك: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] ويضجون مع أن المقصود بحديث: يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير يعني يعبد من دون الله وهو راضي، أما عيسى عبد من دون الله وهو راضي؟ لا، فلذلك ما ينطبق عليه، ما ينطبق عليه.
تنبيه علماء الصحابة الطلاب على علة الحكم
وكانوا ينبهون الطلاب على علة الحكم، فلما علم ابن عباس طاووس حديث: نهى أن يبيع الرجل طعامًا حتى يستوفيه، حتى لا يصبح بدراهم والطعام مرجأ، فشرحها له يعني لو أنا اشتريت من أسامة طعامًا، رزاً مثلاً، وما استلمته منك، الرز عندك يا أسامة، رحت بعته على عماد، اشتريته منك مثلًا بمائة وعشرين، رحت بعته على عماد بمائة، وقلت: أنت يا عماد روح استلم من أسامة، فالحقيقة صار كأن ذاك هو البائع وهذا هو المشتري، أيش صار؟ مائة وعشرون بمائة، دراهم بدراهم مع التفاوت تصير ربا، حيلة، فلذلك نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى، حتى ما تصير حيلة على الربا، يروح يشتري سيارة، أو يشتري مواد بناء، أو يشتري معادن على هذا التورق، اللعب هذا اللي موجود، البنوك اللي يسموها تورق، أين المعادن؟ في ألمانيا، طيب أنا أيش شغلتي معكم؟ قالوا: نبيعك المعدن، ونبيعك بمائة ألف معدن بالأقساط، وبعدين توكلنا في بيعها، وبعدين نضعها بحسابك، وصارت الشغلة كلها المائة بمائة وعشرين، والمعادن ما في، وانتهت العملية إلى دراهم بدراهم، ربا، حيلة.
مراعاة علماء الصحابة لأحوال الطلاب
كذلك كان عند هؤلاء الصحابة الاهتمام بمراعاة النشاط، فلذلك كان أبو وائل من تلاميذ من؟ عبد الله بن مسعود، يقول: كان عبد الله يذكرنا كل خميس فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال أما إنه ما يمنعني من ذلك إني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان النبي ﷺ يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
ولذلك قال ابن مسعود : حدث القوم ما أقبلت عليك قلوبهم، حدث القوم ما أقبلت عليك قلوبهم، قال: فإذا انصرفت قلوبهم فلا تحدثهم، قالوا: وما آية ذلك؟ إيش لون نعرف؟ أنا أدرس ناساً أمامي، كيف أعرف أن قلوبهم معي أو لا؟ قال: إذا حدقوك بأبصارهم، واصل، فإذا تثاءبوا واتكأ بعضهم على بعض خلاص، وكان هنالك حث على المذاكرة حتى لا ينسى العلم، فيقول ابن مسعود لطلابه: تذاكروا الحديث فإنه يهيج بعضه بعضًا، يعني هذا يذكرك بهذا، وهذا الإسناد يذكرك بهذا، وهذا الإسناد، وهذا المتن، وذاك الإسناد، وهذا يهيج بعضه بعضًا، يعني يصير عندك تربيطات وتوصيلات تعينك كثيرًا جدًا.
وكان فيه صبر على التلاميذ.
أخي لن تنال العلم إلا بستة * | سأنبيك عن مكونها ببيان |
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة | وإرشاد أستاذ وطول زمان |
يقول مجاهد: "قرأت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ ".
ست آلاف ومائتين وست وثلاثين، في ثلاث عرضات، كل آية، العلم ما هو جرعة، يجي واحد يأخذ جرعة ويمشي، هذا شيء سيؤخذ بالتدريج على مدة طويلة تأسيسًا وتقعيدًا وتأصيلًا.
تربية علماء الصحابة الطلاب على مراعاة حال المستفتي
وكذلك كانوا يربونهم، وأنت تعد هؤلاء ليكونوا في الغد من المفتين، حتى في قضية مراعاة حال المستفتي مثلًا، يجي واحد يسأل ابن عباس، وهو أمام التلاميذ، يسأله فيقول: هل لمن قتل مؤمنًا توبة؟
فيقول ابن عباس أمام التلاميذ: لا إلا النار، فلما ذهب الرجل، قالوا لابن عباس، التلاميذ يقولون: ما هكذا كنت تفتينا، أنت كنت تفتينا، ما في ذنب إلا له توبة.
الآن لما جاء هذا يقول: القاتل له توبة، تقول له: لا إلا النار، قال: إني أحسبه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا، هذا السائل من كلامه ومن هيئته، وفراستي فيه، أنه هو الآن يسأل قبل الجريمة، له نية على واحد وجاء يسأل قبل اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف: 9] يا شيخ القاتل له توبة؟ لا، إلا النار، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك، تلاميذ ابن عباس بحثوا في السائل، طلع فعلًا بينه وبين واحد مشكلة وناوي عليه.
ما كان على جلالة قدرهم يستنكفون أن يتعلموا من تلاميذهم، صار مرة نقاش بين ابن عباس رضي الله عنه وعكرمة في قوله تعالى: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا
[الأعراف: 64] ، هؤلاء نجوا أو ما نجوا، يقول عكرمة: ما زلت أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا.
أما الالتزام بالسنة والحرص عليها، فهذا سالم مع عبد الله بن عمر لما يروي أنه جاء رجل سأله عن التمتع، قال: حسن جميل، قال: فإن أباك كان ينهى عن ذلك، قال: ويلك، فإن كان أبي قد نهى عن ذلك، وقد فعله رسول الله ﷺ، فبقول أبي تأخذ أم بأمر رسول الله ﷺ. مع أنه أبوه. وهكذا أبو الجوزاء يقول: سألت ابن عباس عن الصرف يدًا بيد، قال: لا بأس بذلك، اثنين بواحد، أكثر من ذلك وأقل، قال: ثم حججت مرة أخرى والشيخ حي، فسألته عن الصرف، فقال: وزنًا بوزن، قال: فقلت: إنك قد أفتيتني اثنين بواحد، فلم أزل أفتي به منذ أفتيتني، فقال: إن ذلك كان عن رأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدث عن رسول الله ﷺ، فتركت رأيي إلى حديث رسول الله ﷺ
القصة الخلاصة فيها: أن الرد إلى الدليل، الرد إلى كلام الله وكلام رسوله ﷺ.
تحذير علماء الصحابة الطلاب من البدع وأهلها
ثم كان فيه تربية على التحذير من البدع، أحيانًا عمليًا، يأتي المسيب بن نجبة إلى عبد الله بن مسعود يقول: أنا تركت بالمسجد قومًا حلقًا حلقًا، كل حلقة واقف عليها واحد يقول: سبحوا مائة، فيسبحون، سبحان الله سبحان الله، كبروا مائة فيكبرون، قائد على الحلقة، قال: ماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً حتى أنتظر أمرك، وتروى القصة عن أبي موسى، حتى قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وأنا ضامن أن لا ينقص من حسناتهم شيء، أيش هذا الأسلوب الجديد في الذكر؟ أيش المخترع هذا في الذكر؟ ما هذه البدعة في الذكر؟ وغطى وجهه، وتلثم بلثام، ودخل عليهم، سلم، كشف اللثام وفعلًا تأكد أن الرواية التي جاءته صحيحة فعلًا، مسجد وحلق، وكل واحد يقود حلقاً، كبروا مائة، سبحوا مائة، فقال: أنا عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم، ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد، هذه آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبل، ما أسرع هلكتكم، الآن ثيابه ما بليت، ما مضى على موته وقت طويل، على طول انحرفتم واخترعتم في الذكر، وأنكر عليهم إنكارًا عظيمًا، قال: إنكم لمتمسكون بذنب ضلالة، أو إنكم أهدى من أصحاب محمد ﷺ، يعني واحدة من ثنتين، يا إنكم تعرفون أكثر من الصحابة يا إنكم مبتدعة.
وكذلك وجدنا القصة في قضية تحذير ابن عمر من القدرية والتحذير من الفتن، وهكذا كان عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، سيرهم في الحقيقة مع تلاميذهم سير عطرة، تستحق الاهتمام والمتابعة والقراءة، ويستحق أن يسلط المربون عليها الأضواء، وأن المشتغلين بالعلم الشرعي يهتمون بسير هؤلاء، النخبة هذه، المجموعة من الصحابة، كيف ورثت العلم حتى أخرجت هذه؟ والله يا أخي لو أنت تخرج واحداً أو اثنين فقط، كل واحد فينا، يجعل من رسالته في الحياة أن يخرج واحداً أو اثنين للأمة، حتى لو من أبنائك، تخرج للأمة واحداً أو اثنين من العقليات النجيبة، فيها تعليم، وفيها تربية وإحسان وإتقان وعلم وعمل على هذا المنهاج، والله يتغير مستوى الأمة، أصلًا مستوى الأمة ما تراجع إلا لما تراجعت التربية، لما تراجع المنهج، فلا بد من العودة إليه، وأن نسلك هذا المسلك، ونستفيد من الصحابة هذه الاستفادة، كل على قدر ما يستطيع، نحن نعرف أنه ليس كل الناس علماء، ولا كلهم فقهاء، ولا كلهم حفاظ، لكن بلغوا عني ولو آية، ممكن تأخذ جزءاً من هذا الهدي وتقتدي به، شيء من هذا تخرج به من تستطيع أن تخرجه من طالب أو ابن أو بنت لك، إمام بعض المأمومين، مدرس بعض الطلاب، أب بعض الأولاد، خرج لك أحداً لهذه الأمة، ازرع فيهم شيئًا ينبت في المستقبل، هذا والله المكسب الحقيقي، هذه السلالات البشرية في العلم والتعليم والتربية والدين والعمل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يحيينا على سنة سيد المرسلين، ويميتنا عليها، إنه سميع عليم..